سكارلز
عام ١٩٧٦، التقيت جون سكارليت — أطلق عليه كلُّ مَن عرفه اسم سكارلز — من خلال جون. كان في منتصف الستينيات من عمره، وكنت حينها في سن الثالثة والعشرين. كان طويل القامة ذا طلَّة مُثيرة للإعجاب. يرتدي ملابسَ أنيقة. كان مثقفًا، جذابًا، لطيفًا، مدمنًا للكحوليات.
كان قد ارتبط عمله بدار الأوبرا الملكية، ومدرسة الباليه الملكية، ومسرح أولد فيك بصفته مدير جولات. جاء من عائلة ثرية كانت قد تبرَّأت منه: إذ حامت شكوك حول أنه كان مسجونًا بسبب مثليته الجنسية، لكني لم أتطفَّل عليه، ولهذا لم أعرف الحقيقة قط.
في الفترة التي التقيتُ به، كان يعيش في شقة قذرة بالطابق السفلي في شارع إنجليفيلد، بمنطقة إيسلينجتون، وكان بها حمَّام قديم ومرحاض في كوخٍ خارجي.
كان يعيش في أسوأ حالاته.
دفعته نوبات السُّكْر إلى خسارة معظم أصدقائه، لكن حينما يكون متماسكًا، تكون بديهته وحكمته استثنائيتَين. كان قد عمِل مع راقصين عظماء ومغنِّي أوبرا وممثلين أحبُّوه في فترةٍ ما، ومِن هنا عَرَفه جون.
في لقائي الأول به، شعرتُ أنه يعرف شيئًا عني، وكان بوسعي أن أشعر بِحُبِّه وفضوله. التقَينا قبل عام من تدهور حالته لدرجةٍ يصعُب السيطرة عليها. وأصبحتُ، بسهولة تامة، آخرَ مَن يعتني به.
كنت أدرِّس وأمثِّل في المسرح وأتعلَّم، وأنظِّف المنازل، لكن كنت أذهب إلى شقته مرةً واحدة في اليوم. كنت أُطعِمه وأُحمِّمَه وأبحث بلا جدوى عن زجاجاتِ الشيري الرخيصة المخبأة، لكني لم أعثر عليها قط، وأذهلني أنَّ بإمكانه أن يخرج إلى الشارع قاصدًا شارع إسكس ليحصل على كمية كبيرة من متجر بيع الخمور.
ثم يبدأ الدرس المُتخصِّص.
منذ طفولتي، كنت مغرمة بالصوت الرنان لكاثلين فيرير. كان إلى جانب مُشغِّل الأسطوانات المحطَّم لدي سكارلز، مجموعة متكدِّسة من الأسطوانات. وتبيَّن لي فيما بعدُ أنها كانت لأصواتٍ نسائية فحسب. أعربت عن سعادتي بكاثلين فيرير وأصبحت مُتحمِّسة.
«شغِّلي الأسطوانة!»
إنَّ صوتها في أوبرا «أورفيوس ويوريديس» لجلوك ملأ أرجاءَ الغرفة الكئيبة في الطابق السفلي ذات الأثاث المُتهالك والنافذة التي غطَّتها ألواح خشبية حتى النصف. جلس سكارلز مُستلقيًا على فراشه، بعد أن أُطعِم وحُمِّم، وعيناه مغلقتان في استرخاء. استمعنا. وفي النهاية، فتح عينَيه وتحدَّث عن كاثلين، فكان قد التقى بها، لكن أغلب حديثه كان يدور حول صوتها، وتحكُّمها في التنفس، والتشكيل الموسيقي، ووضع الصوت، وربط الكلمات. وكذلك العرض من خلال الأداء الموسيقي.
بهذا، كان لدينا روتين ثابت. عرفت بالإحساس وأدركت فيما بعدُ بعقلي أنه كان يقدِّم لي رؤًى بالِغة الأهمية لها علاقة بحياته في الأوبرا.
كنا نستمع كلَّ يومٍ إلى الأوبرا أو عزفٍ موسيقي، وكان سكارلز يشرح لي بعدها الجانبَ الفني فيما سمِعناه وتأثيره السِّحري: وكان هذا التأثير الساحر يزداد جمالًا عندما يتناوله سكارلز عنه. «إنَّ صوت المرأة مصدرُ سعادتي. إنه يلمس قلبي.» إنَّ هذا التعليق شَرَحَ قلبي بطريقةٍ لم أعهدها من قبل: إنه صوت المرأة.
كانت مجموعة الأسطوانات لديه كبيرةً ومتنوِّعة. وكان كلُّ ما تبقى من حياته المُميزة هي الأسطوانات وبعض الملابس الأنيقة. إنَّ أفضل المُغنِّين لديه، من بين جميع المُغنِّين الذين كان قد عمِل معهم أو التقى بهم، هم ماريا كالاس، فيكتوريا دي لوس آنخليس، جيسي نورمان، وكذلك كاثلين فيرير.
استمرَّ هذا الدرس المُتخصِّص طوال خريف عام ١٩٧٦ وحتى صيف عام ١٩٧٧.
كان مشوقًا. فلم يسبق لي أن سمِعت أحدًا يتحدَّث عن الصوت مثلما تحدَّث سكارلز. لم أكن حتى تلك اللحظة قد عمِلت مع مُغنِّين أو مع مُغنِّي الأوبرا، لكني كنت أعلم أني أُلقَّن شيئًا وثيق الصلة وبالِغ الأهمية، وكان بمثابة هدية مميزة.
حينما أخبرت جون، لم يكن بوسعه أن يُصدِّق أنَّ سكارلز يعرف أيَّ شيءٍ عن الصوت، فكان حكرًا عليَّ أنا وحدي وليس لأحدٍ سواي: جميع ذكرياته عن صوت المرأة، وتأمُّلاته عن الاستخدام المتزايد للصوت وعلاقته بالموسيقى والكلمات.
وانتهت الدروس المُتخصِّصة فجأة.
وصلت متأخرةً قليلًا بعد تنظيف أحد المنازل في هامبستيد. كرهت أن أتأخَّر عن موعدي. دخلتُ وناديت «سكارلز!» لم يُجِب. ثم لم أجده. أكان قد ذهب إلى متجر بيع الخمور؟ لقد سبق أن تعرَّض للسرقة مرتَين، واضطررتُ لمسح الدم الذي نَزَف من رأسه الأصلع؛ إذ إنه لم يُرِد مطلقًا أن يستدعيَ سيارة الإسعاف أو الشرطة. كنت على وشْك الخروج إلى شارع إسكس حينما توقفتُ وهُرعتُ إلى الكوخ الذي كان في داخله حوض الاستحمام المُثبَّت على أرجل والمرحاضِ اللذين عجزت أن أبقيَهما نظيفَين.
كان هناك.
في الحمَّام، مُتشبثًا بحافة الحوض في حالةٍ حرجة.
«لقد تأخَّرتِ.»
«أعتذر إليك بشدة.»
«أخرجيني، أخرجيني!»
كان طول سكارلز يتجاوز ستَّ أقدام، لكنه في تلك اللحظة كان هزيلًا («صرتُ كنازحي معسكر بيلسن، يا عزيزتي، مثلهم تمامًا» هكذا كان يشكو من حال جسده). شمَّرت أكمامي وأملتُ جسدي فوق الحافة المرتفعة من الحوض العتيق. كان الماء باردًا بلونِ الدم، مما يدل على أنه ظلَّ فيه فترةً.
وصل ذراعاي إلى تحت ركبتَيه والجزء السفلي من ظهره. وسرعان ما أدركتُ أنني لا أستطيع رفعه.
شَعر سكارلز بفشلي في تلك اللحظة.
قال: «باتسي، عليكِ أن ترفعيني.»
أرخيتُ كتفيَّ، وثنيتُ ركبتيَّ، وشعرت بثِقل قدميَّ على الأرض تمامًا، لكني في الأغلب شعرتُ بأن نفَسي يصل بعمق إلى الجزء السفلي من بطني وشعرت بحبٍّ شديد لسكارلز وبحُبِّه لي.
في تلك اللحظة، تجاوز حافةَ حوض الاستحمام، وكانت ذراعاه تُطوِّقان رقبتي وخرج، وأنا أحمِله في ذراعيَّ، خفيفًا كالريشة.
ظلَّت تلك اللحظة واحدةً من أقوى التجارب التي شعرتُ فيها بالقوة والحُب.
نقلته إلى السرير، وجفَّفتُه، ثم ألبسته وأعددتُ له كوبًا من الشاي المُحلَّى له نكهة قوية.
«سكارلز، لماذا اغتسلتَ من دوني؟»
«أتعرفين، ظننتُ أن ذلك قد يشفيني، ويزيل كل متاعبي يا عزيزتي.»
كنتُ على وشْك أن أدلي بملاحظةٍ طريفة عندما صارت عيناه جادتَين. ثم قال: «باتسي، اتصلي بالرقم ٩٩٩. حان الوقت لأن تأتيَ إليَّ سيارة الإسعاف.»
بينما كنا ننتظر، شغَّلتُ أغنية «بايليرو» لفيكتوريا دي لوس آنجليس. وأغاني أوفريني. وهي كانت آخر طلبٍ لسكارلز.
أغلق عينَيه واستمع. جاءت سيارة الإسعاف وذهب إلى مستشفى سانت بارثولوميو. تبِعته وعندما وجدت مكانه، طلبَت مني الممرضة مزيدًا من التفاصيل لكتابتها في نموذج تسجيل الدخول.
لم أكن أعرف إن كان لديه أقارب مُقرَّبون منه أم لا. لهذا دُوِّن اسمي. أما عن الديانة: فكنت أعرف أنه روماني كاثوليكي، لكني كنت أعرف أيضًا أنه كان يكره القساوسة الذين علَّموه في مدرسته الداخلية الكاثوليكية الرومانية. كان سَمْتُهم القسوة، وربما بعد التفكير في الأمر كان قد تعرَّض إلى معاملة مسيئة.
إنَّ خوفي واضطراري، النابع من طبيعة الطبقة المتوسطة، إلى الإجابة عن الأسئلة التي طرحتها السُّلطة دفعاني لأُخبرها بأنه روماني كاثوليكي.
مكث سكارلز ١٠ أيام حتى وافته المنية. كان يُغلق عينَيه عندما لم يرغب في التفاعل، لكني كنت أعرف حين يُغمض عينَيه دون أن يكون نائمًا. عندما يشعر بالقوة، يظل مفعمًا بالحيوية وحاضر البديهة، فيُرسلني لقضاء مهمَّات غريبة كان يعتقد حينها أنها ستشفيه. إحداها هي البحث عن أناناس طازج. و«ليس ذلك الأناناس المُقزز المعلَّب.» كاد أن يستحيل العثور عليه في لندن عام ١٩٧٧. أو لم أكن أعرف أين أبحث عنه ولم يكن لديَّ مال. في النهاية وجدت ثمرةً هزيلة وأحضرتها إلى الغرفة وأنا أشعر بالانتصار. كان نائمًا، لهذا تركتها على طاولةٍ بجانب الفراش. اختفت، في اليوم التالي، ولم يرَها سكارلز، لكنه كان مُضطربًا بشأن شيءٍ آخر.
«جاء قسيس حقير وحاول أن يُلقِّنني آخِرَ الشعائر أو أنه أراد اعترافًا باعثًا على التأنيب.»
شعرتُ بإحراجٍ شديد. لم أجرؤ أن أُخبره بأني قد دوَّنت ديانته في نموذج تسجيل الدخول.
ما إن قال ذلك، ظهر القسيس مرةً أخرى في الغرفة. همس سكارلز قائلًا: «تخلَّصي منه يا باتسي، تخلَّصي منه!» أغلق عينَيه وتظاهر بالنوم. تقدَّم القسيس نحو السرير. فوقفتُ وتحرَّكت لمقابلته ومنعتُه من الوصول. تصرفتُ بأدبٍ لكني أخبرته بوضوح أني أعرف أنَّ سكارلز لم يكن يحتاج إلى أي قسيس. لم يكن شخصًا من السهل إقناعه. فوقفت في حزمٍ. استشاط غضبًا مني. تذكَّرت حينها الموقَّر الذي قابلته في المكتبة. ذاك الذي أشار إلى أنَّ للمرأة سُلطةً مقدسة أيضًا.
«دعه وشأنه. أخطأتُ حينما أخبرتُ المستشفى بأنه كاثوليكي. لم يُرِد أن يكون ذلك معروفًا للناس. كان يكره القساوسة الذين علَّموه. كانوا قاسين. اذهب من فضلك.»
خرج القسيس. ولا تزال عينا سكارلز مُغلقتَين في تظاهرٍ بالنوم. جلست. فتح عينَيه ونظر إليَّ. كان قد سمِع أني مَن أوقعته في مأزق القسيس من البداية. ثم ساد صمت. بعده قال: «لقد أوصلتِ رسالة واضحة. أحسنتِ، يا باتسي. لقد أوصلتِ الرسالة.» لمعت عينا سكارلز. أكان ما سيُقال هو عقابي؟ «أحتاج إلى حلاقة رطبة. هل لكِ أن تُسدِي إليَّ معروفًا وتذهبي حتى تحضري شفرةً وفرشاة حلاقة وصابون الحلاقة؛ أحضريها من أدوات جون. وأنتِ تُحضرين هذه الأدوات، أحضري أغلى أنواع الكولونيا لديه. أعتقد أنها فتيفر. انطلقي وعودي سريعًا.»
كنت قد فُصِلت من وظيفةِ تنظيف المنازل في تلك الأيام الأخيرة بينما كنت أعكف على رعاية سكارلز، وأعدتُ ترتيب مواعيد دروسي حسبما يقتضي الموقف. عُدت إلى المنزل وأخذتُ شفرة جديدة وفرشاة، وصابونًا وكولونيا. كان سكارلز ينتظرني حينما عُدت إلى الغرفة.
«لقد استغرق ذلك منكِ وقتًا طويلًا.»
«كلَّا، بل كنت سريعة.»
«ابدئي بهذه الأدوات.»
لم يكن قد خطر ببالي أني التي سأتولَّى مهمةَ الحلاقة. «لا يُمكنني أن أحلق لك! لم أحلق لرجلٍ قط.»
«لا تكوني سخيفة هكذا، يا باتسي، أحضري ماء دافئًا واحلقي لي.»
ففعلتُ ذلك. نجحتُ في أن أصنع رغوةً وفيرة وأحسنت صنعًا في تنفيذ المهمة. جلس سكارلز ثابتًا وواثقًا فيَّ تمامًا. وعندما كنتُ قد انتهيت، بدا سعيدًا راضيًا، ثم قال: «حان وقت الكولونيا.»
وضعتُ بعضًا منها على وجهه وعنقه. «لا، لا، لا، أريد أن تضعِيها كلها عليَّ، في كل جزءٍ مني. أريد أن تبدوَ حلاقتي أنيقةً ورائحتي رائعة.»
استخدمتُ الزجاجة بأكملها.
حينما غمرته السعادة من أنه لم يتبقَّ أي قدْرٍ من عطر فتيفر، قال: «أشكركِ، هذا أفضل. شكرًا لك، يا باتسي.» ثم أغلق عينَيه، وتلك إشارة لي بأن أمضيَ، فغادرت الغرفة.
توفِّي سكارلز في تلك الليلة.
حليق الذقن ورائحته رائعة.
بعد انقضاء ثلاثة أشهر، طُلِب مني التدريسُ لأول مجموعة من مُغنِّي الأوبرا بالنسبة لي. وبفضل الدروس المُتخصِّصة التي أعطاني إياها سكارلز، استطعت القيامَ بذلك.