الفصل السادس عشر

التركيز على الصوت

كلُّ ما كان يشغل بالي في المنزل، في المدرسة، في الشارع، في أي مكان، كان مُتمحورًا حول الصوت.

تتجسَّد القوة ونغمة الصوت ولُغة النساء في أصواتهن الحقيقية، وجميع القصص التي أُغرمتُ بها كانت متعلقة بامرأةٍ تكتشف صوتها. أما جميع القصص التي تتناوَل فقدان الصوت، وإسكات النساء، فكانت تثير استيائي دائمًا. وكل القصص التي تحكي كيف اكتشفَ النساء أصواتهن وعبَّرن عن حكاياتهن بطريقةٍ كانت بالِغة التأثير في نفسي.

في المدرسة الملكية المركزية، كان لديَّ مُعلِّمون عظماء في الصوت، واللهجة، والنصوص، والخطابة، وكذلك مُعلِّمون رائعون في الحركة والتمثيل. عندما تسنح لي الفرصة، كنت أحضُر محاضرات في مادة معالجة اضطرابات التخاطب. أردتُ أن أفهم التركيبَ البنيوي للصوت واضطرابات الصوت.

لكن ثمَّة حلقة مفقودة.

كانت التدريبات على الصوت صحيحة، لكنها ليست ذات كفاءة.

قُدِّمت تدريباتٌ صوتية مُبتكرة ومرتجلة، لكن لم يكن هناك تطبيقٌ للمهارات الفنية أو للتكرار المطلوب حتى تُصبح ثمرة هذا التدريب القوي صوتًا طبيعيًّا. عندما سألت المُعلِّمين عن تلك النقطة، أبدوا تجاوبًا لكنهم لم يُقدِّموا أي توضيح يشفي مخاوفي. ولم أكتشف، إلا فيما بعدُ، سببَ الخوف من التركيز على المهارات الفنية في التدريب الصوتي.

قبل ١٠ سنوات من تدريبي هناك، ظهر انقسام حادٌّ في المدرسة الملكية المركزية. انشقَّ بعض المُعلمين والطلاب عن الطريقة التقليدية لتعليم المهارات الفنية، وبالأخص التدريب الصوتي الذي كانت تُقدِّمه مديرة المدرسة، جوينيث ثوربورن، التي اشتهرت بصفتها مُعلِّمة للصوت الكلاسيكي. كانت قد علَّمت جميع المُمثلين البارزين في الأربعينيات والخمسينيات، من بينهم أوليفييه، ريتشاردسون، ريدجريف، أشكروفت. اعتبرت المجموعة المُنشقة عام ١٩٦٣ أنَّ دروسها تُمثِّل مشكلة. طالت السخرية مدى صوتها القوي الرائع ووضوح تدريبها؛ إذ اعتُبِر أنهما لا يُنتِجان سوى صوت زائف. صوت «المُمثلين». اقتضت المسرحيات الجديدة العمل بأسلوبٍ أكثرَ رَويَّةً ودقةً بحيث لا يتضمن روتينًا إلزاميًّا أو حِرفية صعبة.

أحْزن جوينيث هذا الانقسامُ، وأخبرني كثيرون أننا حينما التقَينا — أنا وهي — في منتصف السبعينيات، صدمهم أنها قرَّرت الحديث معي عن تدريبات الصوت. طرحتُ أسئلة عليها من دون نيةٍ مبيَّتة وأجابت بإقبالٍ واستمتاع. دار بيننا حوار فعَّال وشائق عن كلِّ ما يتعلق بالصوت: بالنسبة لي، كان لقاءً ثريًّا ومبهجًا وباعثًا على التغيير.

واصلت سيسيلي بيري تدريبات الصوت في المدرسة الملكية المركزية بحيث أولت تركيزًا أقلَّ للمهارات الفنية وركَّزت على طريقةٍ أكثرَ واقعية. كان الشِّعر جزءًا جوهريًّا من التدريب، وكانت مارجوت براوند تُدرِّس فنَّ الخطابة الواضحة، لكن أُغْفِلت التحسينات المستمرة للإمكانات الصوتية وتحرير الصوت من قيوده.

كنَّا نستلقي على الأرض، ساعاتٍ على ما يبدو، نتنفَّس ونُدندن بهدوء. حتى إننا كنا نغفو. وننام. كان هذا الأسلوب البسيط بمثابة إعادة توازن ضروري لتدريبات الصوت، بحيث يُوازِن التدريبات القوية للصوت والتنفُّس المُستمدة من «المدرسة القديمة».

كنتُ أدرك أنَّ ثمة حلقةً مفقودة.

استغرق فهْم تلك الحلقة المفقودة سنواتٍ حتى أستوعبها. واستنزفت إعادةُ التوازن إلى تدريبات الصوت الكثيرَ من التفكير والممارسة.

لم تكن صدفةً أن تزامن حدوثُ هذا الانقسام مع بداية التحاق مُمثلين من الطبقة العاملة بهذا التدريب. في الخمسينيات، شكَّل كُتَّاب المسرح من الطبقة العاملة مسرحًا جديدًا، واقتضى ذلك تقديمَ أصواتٍ ولهجاتٍ مختلفة، فكان ذلك بمثابة خطوةٍ رائعة. تمتَّع المُمثلون الكلاسيكيون العظماء في فترتي الأربعينيات والخمسينيات بصوتٍ أكثرَ انطلاقًا وأقلَّ كبتًا. أحد الأسباب تمثَّل في الطبقة الاجتماعية وتعليم الخطابة لطلاب المدارس الحكومية والطبقات العُليا والمتوسطة، وكان من ضمن ما تعلَّموه استخدامُ أصواتهم في أماكنَ كبيرة بصفةٍ منتظمة. وثمة سببٌ آخر وهو أنَّ الكثير من المُمثلين كانوا قد شهِدوا الحرب. والتحقوا بالخدمات العسكرية، فحاربوا، وقادوا طائراتٍ مقاتلة، وعمِلوا في المطافئ مثل أُمي، وعملوا على تمريض المُصابين، ثم جاءوا بعد ذلك إلى المسرح في فترةٍ متأخرة وهم أكبرُ عمرًا. لم تكن أصواتهم متلعثمة أو مقيدة. وبعد الذي كانوا قد مرُّوا به، لم يكن إطلاق صوتهم بحُريةٍ يشكِّل صعوبة. لقد أطلقت الأحداث القاسية من حولهم العِنانَ لأصواتهم. وعندما تعلموا المهارات الفنية من جوينيث ثوربورن، أسهم ذلك في تعزيز أصواتهم المُتحرِّرة بطبيعتها والتركيز عليها وليس كبْتها.

في الستينيات، بدأ الطلاب يُظهِرون اختلافًا في طبيعتهم ويحتاجون إلى نهجٍ مختلف. لم تكن أصواتهم حرة تمامًا. وحينما طُبِّقت المهارات الفنية على أصواتهم المُقيَّدة، بدت مستهجنة وغير طبيعية. كانوا شبابًا ولديهم منظور مختلف عن الطلاب الذين تدرَّبوا في الأربعينيات والخمسينيات. لم يكونوا مُستحقين للسلطة ولا يشعرون بالارتياح لها.

بينما كنت أُدرِّس على مدارِ فتراتِ تغييرٍ كبرى شهِدها التعليم، أدركت أنه يتعين عليَّ التدريس وفقًا لطريقة تدريس الزمن الذي أعيش فيه، وأنَّ تلك الطريقة يجِب أن تُعيد التوازنَ إلى العالَم الذي جاء منه الطلاب. فالحقيقة واحدة، لكن ما يختلف هو خطوات الوصول إليها. هناك أبوابٌ كثيرة تُفضي إلى الغرفة نفسِها. ترمز هذه الغرفة إلى الحقيقة والوضوح والأصالة، لكن الذي يُحدِّد الباب المُختَار هو الطالب والزمن الذي نعيش فيه.

لا يمكنك بناءُ صوت قوي حتى يُكتَشف صوتك الطبيعي من جديد.

كان تعليم المهارات الفنية في الستينيات يُفرَض في الغالب على الأصوات غير الطبيعية المُفتقِرة إلى التناسُق. قد يبدو الصوت قويًّا لكنه غير مُتناسق. انحصر تعليم المهارات الفنية على ذلك العَقد، ثم حلَّ محلَّه روتين يستلزم جهدًا بدنيًّا أقل. إنَّ نهج الاسترخاء كان ولا يزال يُثمر خطابًا مترابطًا، لكنه يفتقر إلى القوة وقد يكون غير مسموع وغير واضح، لا سيما في المسارح.

في السبعينيات، اتضح لي أنَّ صوتي وأصوات النساء الأُخريات في ذلك العام كان أكثرَ افتقارًا إلى التناسُق مقارنةً بأصوات الرجال. لقد غُرست فينا الكثير من العادات السيئة والقيود الجسدية. وكما أشرتُ من قبل، يستلزم تحسين صوت المرأة وقتًا وجهدًا أكبر.

بعد ستِّ سنواتٍ من مغادرة المدرسة الملكية المركزية، أعلنتُ، في توترٍ شديد، عن أول جلسة إحماء صوتي لي أعددتُها لصالح شركة رويال شكسبير كومبني في مسرح الباربيكان.

أول مَن دخل الغرفة كانت السيدة بيجي أشكروفت. نظرَت مباشرةً في عيني ثم قالت بحزم: «آمل ألا تستلزم جلسات الإحماء أن نَستلقيَ على الأرض. نحن لا نُحب ذلك.»

بعد ذلك، لم يَعُد بوسعي أن أجعل المُمثلين يستلقون على الأرض، مثلما كنتُ أنوي فِعله؛ لأن ذلك هو الشكل الذي كنت أُدرَّب عليه، لكن تعليقها قدَّم لي فكرةً وسياقًا جديدَين.

يحتاج المُمثِّل لأن يكون مشاركًا بكل حواسِّه حتى يؤديَ أداءً جيدًا. إنَّ الاستلقاء على الأرض يُدخِله في حالة خمول ويخلُق حالةً من الاسترخاء أكثرَ مما ينبغي. احتاجت هذه الممثلة الرائعة أن يكون نَفَسُها وصوتها مُهيَّئين لمساحةٍ كبيرة. لقد قضت عقودًا على المسرح وكانت تعرف بالضبط ما تحتاج إليه. يُدرك المُمثلون الكبار في المسرح ما يحتاجون إليه.

خطر في بالي في تلك اللحظة أنني في ذلك المكان لخدمة المُمثلين: وليس لتسليتهم وتقديم التدريب وفقًا لشروطي، إنما لإعدادهم بطريقةٍ تُساعدهم على تقديم المسرحية وجذب الجمهور.

عندما تخرَّجتُ من المدرسة الملكية المركزية، طُلِب مني الانضمامُ إلى قسم الصوت هناك. شَرُفت بذلك لكني كنتُ متردِّدة أيضًا.

كنت قد بدأت العمل مدرِّسةً بديلةً في مدارسَ صارمةٍ بلندن وفي بعض السجون. كنت أقدِّم دروسًا خاصة في الصوت لغير المُمثلين. كانوا، في الغالِب، متحدِّثين لهم أسلوبٌ غير متناسِق بشدة، لكن ليس لديهم عيوب مَرَضِية ظاهرة في الكلام، إنما مشكلات عميقة انعكست على كلامهم. ثمَّة ظلم واقع عليهم، لكني غالبًا لم أكن أمتلك الخبرة الكافية. كنتُ أعمل مع نساء حياتهن مُهدَّدة في العمل، يتعرضنَ للتنمُّر وكن يأمُلن في أن يساعدهن تعلُّم الرد. كنت أُدرِّس تجسيد الصوت، من خلال تطبيق تمرينات الوقوف والتنفُّس والتحدُّث بصوتٍ عالٍ على جميع طلابي، قبل أن يُحاولوا ممارستها في صمت. إنه الإلقاء. فلاحظوا، مثلما لاحظتُ، أنه تَحَسَّن فهْمهم لما قالوه عندما تحدَّثوا به بصوتٍ عالٍ. كنا نكتشف الحكمة القديمة. هذا بالضبط ما عرفه المُعلِّمون اليونانيون والرومان القدماء. بهذا، أصبح التدريب فجأةً ذا جدوى، على خلاف تدريب الدندنة على الأرض.

كان العمل في المدرسة الملكية المركزية يستهويني. لكني تردَّدت. المال الذي كنت سأتقاضاه كان مُجزيًا. لكني كنت أعرف أنَّ جزءًا من تدريبي لم يكتمل بعدُ. كنت أُدرك أنه يتعيَّن عليَّ البحث عن شيءٍ آخر.

كنت قد بدأت أسمع عن تدريب الصوت الكلاسيكي الذي تُقدِّمه المُعلِّمة شيلا موريارتي في أكاديمية ويبر دوجلاس.

كتبت رسالة إلى أكاديمية ويبر دوجلاس أطلب فيها أن أعمل هناك، وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي فعلت فيها ذلك.

حصلت على وظيفة هناك مع شيلا.

هذه الرائعة المُبدعة والمُخيفة، شيلا موريارتي.

كانت شيلا مُعلِّمة كلاسيكية من «المدرسة القديمة!» كانت تكره التدريبَ الصوتي الحديث وكانت مرتبطةً ارتباطًا وثيقًا بمُغنِّي الأوبرا والكلاسيكيين. كان تدريبها يتناقض تمامًا مع تدريبات المدرسة الملكية المركزية. كان قويًّا، صارمًا، متسلسلًا، وكان الأساس الذي يعتمد عليه هو التكرار المُستمر. وقضاء ساعاتٍ وساعاتٍ من التكرار.

أصبحتُ مُتدرِّبة تحت إشرافها. كنتُ أُدرِّس ٢١ ساعة في الأسبوع تحت إشرافها. وكذلك أُدرِّس في ست مؤسساتٍ أخرى وأنظِّف البيوت أيضًا لكي أوفر ضرورات الحياة.

على غِرار الأسلوب التقليدي للمتدرِّبين، كنتُ أوصِلُها في سيارتي الصغيرة المتهالكة، وأُحضِر لها الغداء وكنتُ أُعلِّقُ على كل كلمةٍ تقولها. كانت شيلا تعرف الكثير، وكنتُ أعرف، حتى لو لم أتفق معها في كل الموضوعات، أنَّ ما تعرفه كان ضروريًّا ومفقودًا في عالم الصوت.

بينما كانت تزداد ثقتي وشجاعتي، بدأتُ في إعداد الأسئلة حول التدريب والخطوات التي تتَّبِعُها، والتي كانت ترجع إلى ١٥٠ سنة مضت حينما كانت في السبعينيات.

كان الاستفسار خطيرًا؛ إذ كانت تسخر من جهلي بطريقةٍ قاسية، خاصةً أني كنتُ قد تدرَّبت في المدرسة الملكية المركزية. كانت هذه أولَ مواجهة لي مع وجهة نظر قوية ومترسخة تتمثل في أنه لا تُوجَد إلا طريقة واحدة فقط.

كانت تعليقاتها على الطلاب قاسيةً ولكنها كانت تحمل الحقيقةَ في داخلها. كنتُ معتادة على تلك التعليقات، لأنني هكذا كنتُ قد تعلَّمت وجُرِحَت مشاعري. كان هذا الوقت الذي أدركت فيه أنني لا أريد أن أُدرِّس تحت سكين الإهانة الحادة. لاحظت أيضًا أنَّ الطالبات كنَّ يتعرضن للسخرية أكثرَ من الرجال. سواء من المُعلمين أو المعلمات.

هذا ما تعلَّمته وفعلتُه من أجل شيلا.

كنت أعمل مع سبع مجموعات، بواقع فصلَين دراسيَّين في الأسبوع؛ إذ يستغرق الفصل الدراسي الواحد ساعةً ونصف الساعة، ليصل مجموع الساعات إلى ٢١ ساعة.

في الساعة ونصف الساعة التي يستغرقها الفصل الدراسي، كان عليَّ أن أكرِّر بدقة سلسلةً من تمارين الجسم المفعمة بالحيوية، وكذلك التنفُّس، والصوت، والمدى، والصدى، والكلام. عندما أقول بدقة، أعني الكلمة بحذافيرها! لم يكن الأمر مجرَّد تمرينٍ يجب تنفيذه في شكله الدقيق، إنما يجب أن يستغرق كلُّ تمرينٍ وقتًا مُعينًا. إذا دخلت شيلا الاستوديو في الدقيقة العاشرة بعد الساعة ولم أكن في التمرين الصحيح — ربما بفارق ٣٠ ثانية — أو إذا كنت أُدرِّسُه بطريقة خاطئة، فإنها كانت تُوبِّخني أمام الطلاب.

كرهتُ هذا في السنة الأولى، ولكنَّ شيئًا ما في داخلي كان يُدرك أنني كنتُ أكتسب معرفةً. كانت طريقتها مختلفة كثيرًا عن طريقة المدرسة الملكية المركزية.

ثم، في السنة الثانية، شيءٌ ما بدأ يتغير في داخلي بينما كنتُ أُشرف على تكرار التمرينات.

حدث شيءٌ أكثر عمقًا واستطعتُ أن أربط ما حدث ليس فقط بالعمل الذي كنتُ أباشره، إنما كذلك بفهم شيءٍ عن العمل الذي لم أقُم به.

بدأتُ أشعر بالحب والراحة في التكرار. أعرف الآن أنه شعورٌ عاشه الكثير من الفنانين العظماء ونجوم الرياضة. فالتكرار يمنح شعورًا بالأمان، والفرصةَ لإطلاق العِنان للحضور والقوة من دون جُهدٍ يُذكر.

كنت أدرِّس في «جيلدهول» بعد أن تركتُ شيلا بسنواتٍ قليلة، واكتشفت هديةً رائعة منحتني إياها واكتشفت كذلك ما جعلتني أفعله: أدركتُ، في منتصف الفصل، أنني أستطيع أن أُمرِّن مجموعةً بِحُرية، وأغيِّر الترتيبَ لخدمتهم فيفعلون ما يحتاجون إليه، ولكني دائمًا أجد طريقي مرةً أخرى لأعود إلى التسلسل.

كان لديَّ إطارٌ للتدريس والتكرار منظم بما يكفي ليمنحني مجالًا للارتجال! كان ما يدور في ذهني أني «لا أعرف ما سأفعله في الخطوة التالية، ولكن إذا بقيتُ في حالة حضور مع الطلاب، فسأعرف ما المطلوب، ومِن ثَم سأعرف ماذا أفعل في الخطوة التالية.»

إنَّ العصا السحرية التي تمنحك إيَّاها المهارات الفنية هي المعرفة ثم المعرفة ثم المعرفة.

شكرتُ شيلا في ذلك اليوم ولا أزال أشكرها معظمَ أيام حياتي على أنها علَّمتني قوة التكرار والتواضع المطلوب لتقدير طريقة التدريب والشعور بالأمان الذي يمنحه تطبيق المهارات الفنية.

قبل بضع سنوات، اقترب مني شخصٌ بينما كنت أقف على رصيف مترو الأنفاق في شارع ٩٦ بمدينة نيويورك. كان طالبًا كنتُ قد درَّسته في أكاديمية ويبر دوجلاس، وصار الآن مُمثلًا ناجحًا في مسرح برودواي. انتابني شعورٌ بالخجل من أنَّ صفوفي الدراسية كانت لا بد أنها تُشبه الإنسان الآلي في وتيرتها. لكنه عبَّر بلطفٍ أنها لم تكن كذلك، وأخبرني أنه كان يعرف أنَّ شيلا اعتادت أن تتحقَّق من أدائي. وكان قد لاحظ أنَّ ذلك ما لم تكن تفعله مع المُعلِّمين الرجال.

هل كانت تتحقق من أدائي لأنني امرأة، أو لأنني كنت أفتقر إلى الخبرة أو لستُ كفؤة؟ بينما كانت هذه الأسئلة تخطر على بالي، قدَّم لي طالبي السابق شِقًّا من الإجابة.

«كان المعلمون الرجال يتبعون نظامًا بائدًا ولم يُجيدوا التدريس، لا أزال أُطبِّق التمرين الذي علمتِني إيَّاه.»

هل كانت شيلا إحدى النساء اللاتي يضعن ثقتهن في الرجال، ويُوقِّرنهم ولا يُعارضنهم؟ على أي حال، كان لحرصها على تطوير مهاراتي الفنية دور بالِغ الأهمية في حياتي التعليمية.

درَّستُ كذلك الشِّعر في أكاديمية ويبر دوجلاس دون أي تدخُّل من شيلا، فكان ذلك أمرًا رائعًا، وبعد بضع سنوات أدركت أنَّ إطار تعليم حِرفيات الصوت ينطبق على تعليم بِنية الأشكال الشعرية. وتحوَّلت العناصر المكوِّنة لحرفيات الصوت إلى رابط حقيقي بالشكل والمحتوى اللذين يُشكِّلان علاقة سلسة.

وعلى غِرار «سكارلز»، قدَّمتني شيلا أيضًا إلى عالَم الأوبرا، وكنتُ مُساعِدَتها اليَقِظة في تمرينات الأداء بالأوبرا.

تعلمتُ، بفضل تعليماتها الصارمة، كيفيةَ إحماءِ صوتٍ غنائي، وكان شبح «سكارلز» السعيد يقف إلى جانبي.

كانت شيلا هي مَن تسيطر على غرفة المُعلمين في أكاديمية ويبر دوجلاس. وكانت هيئة التدريس إلى حدٍّ كبير من النساء، وأما المُخرِجون فكان أغلبهم من الرجال الذين كنا جميعًا نقدِّرهم ونعمل في الأكاديمية لخدمتهم. كان التدريس فوضويًّا، وغير مألوف، وكثيرًا ما كان يبدو رائعًا وخطيرًا بصفةٍ مستمرة.

كانت مؤهلات هيئة التدريس تشهد بخبرتهم الواسعة ومسيرتهم المهنية الطويلة، لكن ذلك لم ينطبق عليَّ، رغم ما كنتُ أحمله من المؤهلات! ورغم أنَّ جون درَّبني، كنت أجلس وأستمع وأتعلم.

كانت أجواء الغرفة يملؤها الكثير من الضحك، والتعليقات القاسية، والمزاح.

إنَّ النقاشات التي كانت تدور حول الطالبات أعتقد أنها كانت في الإطار الطبيعي لذلك الوقت، لكنها كانت مريعة.

«مَن سيُخبرها بأنها بدينة كثيرًا؟»

«بوجهٍ مثل وجهها هذا، كيف تظن أنها يمكن أن تلعب دورَ كليوباترا؟»

كانت مدرَسة الدراما تُطبِّق القواعد نفسَها على الطلاب والطالبات. وبينما كانت ثقتي تزداد، بدأتُ أبدي اعتراضًا. انتبه الجميع لذلك، لكن لم يعترِض أحدٌ، رغم أنَّ المحادثات كانت تتوقَّف عند دخولي الغرفة، وبعد أشهرٍ قليلة، لم أَعُد أجلس في غرفة المعلِّمين. كان لديَّ مهامُّ أخرى أذهب لإنجازها، وبذلك يُصبح الإعراض عنهم أكثرَ سهولة؛ ومع ذلك، في تلك الغرفة شهِدتُ واحدةً من لحظات النجاح في عملي.

سمِعتُ محادثةً بالصدفة وأنا أُحضِر كتبي للشِّعر، كانت أصواتًا ساخرة آتية من عُصبةٍ متآمِرة من المُعلمين وهم يناقشون طالبة خجولة لكنها موهوبة.

«ماذا تفعل هذه الفتاة السخيفة هنا؟» وتبِع ذلك أصوات ضحك.

«أعرف يا عزيزي: ليس لديها المَلَكة.»

«ولن تُصبح لديها … لقد سئمتُ من التدريس لها.»

تبِعتها لحظةُ توقُّف.

«لكن تشارلي لديه تلك المَلَكة.»

«بدرجة كبيرة لدَيه.»

وبأسلوبٍ ساخرٍ ومُبالَغ فيه قيل: «يمكنكِ أن تقولي ذلك مرةً أخرى!»

تعالى ضحكٌ صاخب.

كان الفصل بأكمله يُقيَّم بناءً على امتلاكه لذلك أو افتقاره له.

بينما كنت أسير إلى محطة مترو جلوسستر رود، كنتُ أتفكَّر في ذلك الشيء.

كان انطباعي الأول عن الفتاة التي قالوا إنها تفتقر إلى المَلَكة، أنها كانت لديها المَلَكة بالفعل. لقد رأيته فيها ومن خلاله رأيت موهبتها. كانوا مُخطئين. لا أزال أشعر بالخجل من نفسي لأني توانيتُ في الدفاع عنها. لكن لم أبلغ من العمر حينها سوى الخامسة والعشرين.

لكن ما هذا؟ كان افتراضهم أنَّ المَلَكة لا يمكن تعلُّمها. لكن أيمكن ذلك؟

ما العلامات الدالَّة على الملكة في الجسم والتنفُّس والصوت والكلام والعينَين والأذنَين والعقل والقلب؟ كيف يُمكنني مساعدتُها لتجسيدها واكتشافها في نفسها باستمرار؟

وضعتني تلك اللحظة في أواخر عام ١٩٧٨ على طريقٍ طويل لا أزال أسير عليه، ألا وهو الدوائر الثلاث للطاقة.

استغرق مني، ما لا يقلُّ عن ٢٠ عامًا، بناءُ مجموعة مترابطة من التمارين لتحرير المَلَكات فينا جميعًا. إنَّ أول ما استوعبته استيعابًا تامًّا هو أننا جميعًا، في الغالب، وُلِدنا بها. إنها حالتنا الطبيعية التي نتمتَّع فيها بالحضور ونتحلى فيها بالصمود وكذلك بالفضول. أن نكون أو لا نكون، تلك هي المسألة. لكي نتمتَّع بحضورٍ كامل، يجب أن نتواصل إلى أقصى حدٍّ، على سبيل المثال، مع العالَم خارجنا، أو نتواصل مع شخصٍ أو مكانٍ بعينه. وحينها سنحيا مُفعمين بالحيوية. وتُضفي تلك الحيوية تأثيرًا ساحرًا على جميع مَن حولنا. وتتجلى الطاقة بوضوح. ونُصبح في مكانٍ متوازن. وبهذا نتمتَّع بحضورٍ كامل وهو ما أطلق عليه الآن اسم الدائرة الثانية. التوازن بين الأخذ والعطاء. التحدُّث والاستماع.

أدركت، أثناء التدريس، أنه يُمكنك رؤيةُ هذا التوازن وتجسيده. سواء في الجسم وفي التنفس وفي الصوت.

إنَّ مَلَكة «الحضور» جزء لا ينفك عنَّا. اعتدتُ أن أُطلق عليها اسم حالة الاستعداد. لكني أطلق عليها الآن اسم الدائرة الثانية.

اعتدتُ أن أطلق على الدائرة الأولى اسم الإنكار. وهي حالةٌ تُصبح فيها الطاقة حبيسةً في أجسادنا. ويمكنك ملاحظتها في هيئة الجسم التي تبدو مُتهدِّلة ومنحنية ومتراخية، ويُصبح التنفس سطحيًّا، والصوت ضعيفًا، والعينان غير متواصلتَين. وينصبُّ الاهتمام على الأخذ دون العطاء.

أما الدائرة الثالثة، التي كنتُ أطلق عليها اسم «التظاهر»، فهي حالةٌ تخرج فيها الطاقة بالقوة وتُدفَع دفعًا. يُصبح حينها الصدر مرتفعًا، الجسم مُتيبسًا وثابتًا، والصوت عاليًا للغاية، والتنفس واضحًا للعِيان. وهنا ينصبُّ الاهتمام على العطاء دون الأخذ.

كنت معلِّمة ساذجة حينما بدأت رحلة البحث هذه، لكني أدركت، على الفور وبما يدعو إلى الأسف، أنَّ تمثيل طاقة الدائرة الأولى يزداد في النساء أكثرَ من الرجال. فتنكمش أجسادهن، وينحنين. ولا يفرضن وجودَهن. ربما يستمعن ولا يشاركن.

تبدو الدائرة الثالثة أكثرَ جلاءً في الرجال. ويتمثَّل ذلك في خروج الطاقة بالقوة والإجبار، والتظاهر، واللجوء إلى الصوت العالي، وتجنُّب الاستماع. كذلك يبدو الصدر منتفخًا. هم يحرصون على فرض وجودهم في المكان.

تتسبَّب الدائرتان الأولى والثالثة في إضعاف إحساسك بالعالم من حولك ويُعرضانك للخطر.

تتمثَّل الدائرة الثانية في القوة المُنبثقة من الوعي الكامل والصمود، والحاجة إلى الوعي بالآخرين، وبالأخلاق وبإنسانيتنا.

يزداد توجُّهنا أكثرَ فأكثر نحو الدائرة الأولى. فالتحضُّر والتكنولوجيا اللذان نعتقد أنهما يربطاننا بالعالم، يحبساننا في فقَّاعات أكثر عمقًا وعُزلةً.

يُساء فهْم الدائرة الثالثة الآن على أنها تُمثِّل الرجالَ المُسيطرين. فتخلق الضغوطاتُ التي تنطوي عليها الدائرة الثالثة حاجزًا واقيًا يفرض حالةً خاصة بها من العزلة والانزواء. وتفرز هذه الدائرة أشخاصًا سطحِيِّين ونرجسيِّين.

إنَّ الأمور التي لم أكن أفهمها بدأت تتَّضح وتكتسب معنًى. بدأت أفهم كيف تتجسَّد القوة وتنعكس في الجسم، التنفس، الصوت. وكذلك في اللغة، والدور الذي تلعبه الطاقة لدينا في التنبؤ بالطريقة التي سيُغيِّرنا بها العالم.

بدا آنذاك، ولا يزال يبدو الآن، أنه من دون العثور على قوَّتنا الجسدية والصوتية الطبيعيتَين، لا يمكن لأحد، أكان ذكرًا أو أنثى، أن يتحول تحولًا شاملًا أو يؤخَذ حديثه على مَحمل الجِد أو يُعتَرف بوجوده اعترافًا كاملًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤