مُساعِدات
بات متوقَّعًا لسنواتٍ أن تعرف النساء، في جميع مواقف العمل، كلَّ شيء عن عملها وأن تشاركه مع الرجال من دون أنانية. أن تدفع أداء الفرقة إلى الأمام، وأن تتقبَّل حقيقةَ أنها في أحسن الأحوال ستلقى حُبًّا وتقديرًا، حتى ولو طالها شيءٌّ من السخرية. سيسمح لهن بالاجتهاد في العمل ولا يُسمَح لهن بتحقيق نجاحٍ باهر. يمكنها مشاركةُ الرجال في الشرب، ما دام ولاؤها لمديرها بلا خوفٍ. تُخفي أخطاءه. وتُنظِّم شئونه. ولا تشتكي ولا تتوقَّع أبدًا الحصول على ترقية أو منصبٍ قيادي. من دون هؤلاء النساء، ستتوقف معظم المؤسسات عن العمل في غضون أسابيع، إن لم يكن في غضون أيام.
تشعر بعض النساء بالسعادة من أنهن مُفيدات ومهمَّات وراء الكواليس، لكن لم يكن أمامهن حقًّا اختيار آخر.
وبدأت تنكشف رويدًا رويدًا قائمة بالنساء البارعات الرائدات اللاتي سرق الرجال عملهن ونسبوه إلى أنفسهم.
هذا النمط كان واضحًا على مدار الخمسة والعشرين عامًا الأولى من مسيرتي المهنية. في المدرسة الملكية المركزية، تراجعتِ المُعلمات بسمَاحَة عندما تولَّى العمل معلمون رجال، حتى حينما أظهروا مستوًى أقل من الخبرة والمعرفة. رأيتُ مُعلمات يستغرقن وقتًا أطول لمسايرة الطلاب الذكور، ومن ثَم خدمتهم بشكلٍ مختلف وباحترام أكبر.
شاهدت هذا في بداياتي مع التدريس والتدريب.
لم أجد مشكلةً في العمل مُساعِدةً حينما كنتُ أتعلَّم وأعرف أنَّ الشخص الذي يقود الحضور يفُوقني في المعرفة والخبرة. لكن بات الأمر أكثرَ قسوةً حينما يؤخَذ عملي وأفكاري ويُنسبان إلى الغير دون أن أتلقَّى أيَّ درجة من درجات التقدير. فكان فِكري وخبرتي يُستخدمان من دون حتى تلميح بالشكرِ أو التقدير.
لا أزال أُدرِّب قائداتٍ لا يُعاملهن الرؤساء فحسب على أنهن مُساعِدات، إنما كذلك موظفون رجال لا يستطيعون تحمُّل أعباء عملهم ويتوقَّعون من هؤلاء النساء إنقاذهم. إنهن يُنهكن أنفسهن، بطريقةٍ أو بأخرى، بخدمة الرجال الذين يعملون معهن. وإنه لفي غاية الصعوبة أن تخالف عادةً دامت ممارستها قرونًا. وبهذا وجدَت تلك النساء أنفسهن يؤدِّين مسئوليتَين.
كنت قد قطعت ٢٥ عامًا من مسيرتي المهنية حينما شعرت أني قد خدمت الكثيرين الذين لم يعرفوا إلا القليل.
ذات يوم، قبل سنوات، كنت قد سألت شيلا: «لماذا تعتقدين أنَّ معظم مُدرِّسي الصوت هم من النساء؟»
«لأنَّ الرجال لن يُعملوا تابِعين. ولأنَّ النساء أكثرُ حساسية.» كانت هذه المرة الأولى التي سمِعت فيها الكلمة تُستخدَم بهذه الطريقة، ولم أشعر بارتياحٍ نحوها. لم أتخيل نفسي تابعةً لكني كنتُ أومن بالمساعدة في تقديمِ خدمةٍ. إنَّ خدمتك في التعليم موجهةٌ للتلميذ أو الطالب، لكني شعرتُ أنها لم تقصد ذلك. كنت أعرف أنَّ فلسفاتنا مختلفة وكان هذا جُرحًا شديدَ الألم حتى إنَّ فتْحَه بات غير مرغوبٍ فيه.
لا بد أنها لاحظت تردُّدي.
«نعمل تابعاتٍ لمخرجٍ أو قائد أوركسترا. فننفِّذ ما يريده. لكنَّ قوَّتنا تظهر في الدروس التوجيهية. وفي تلك الدروس، بمنأًى عن وجهة نظرهم، يمكننا أن نفعل ما يرضينا.»
هكذا، بالطبع، تمكَّنت النساء من العيش لآلاف السنين.
ولكن، كان للخدمة وجهٌ آخر.
دفعت سيسلي بيري العملَ إلى قلب الفِرقة. لم تعمل وحدَها مع المُمثلين، إنما مع الفرقة بأكملها. أدخلتْ تغييرات على العمل وديناميكياته. وبعد مرور سنوات، سألتها السؤال نفسَه. «لماذا معظم مدرِّسي الصوت هم من النساء؟»
فأجابت قائلةً: «لأنَّ المُخرجين لا يريدون رجلًا في الغرفة. هذا أمرٌ مخيف جدًّا في نظرهم.»
«هل نحن تابعاتٌ إذن، نخدم المخرجين؟»
«لا، بل نحن نخدم النص.»
نعم، هذا صحيح. هذا ما يُريده شكسبير من مُمثِّليه ونحن نساعد المُمثلين.
١٩٨٠
كانت المدرسة الملَكية المركزية تنتقل إلى مركز الباربيكان لتتَّخذ منه قاعدةً لها في لندن، وكان من المفترض لها أن تمدَّ أواصر التعاون مع مَدرسة جيلدهول للموسيقى والدراما. كانت سيسلي بيري وتريفور نان يبحثان عن رئيسٍ لقسم الصوت في جيلدهول ليتولَّى الإشرافَ على التدريب الصوتي لفِرقة لندن. لم يسبق أن وُجِدَت وظيفة مثل هذه في مجال الصوت. لذا صار هذا الأمر محورَ الحديث الدائر بين جميع مدرِّسي الصوت.
شعرتُ يقينًا أني لستُ مؤهَّلة لهذه الوظيفة، ولهذا لم أتقدَّم لها. كنت في السابعة والعشرين من عمري. وثمَّة أمور كثيرة لم أستوعبها عن التدريب. وكنت أُدرك أني ما زلت في فترة التدريب. الصوت، النص، المسرح. لم أكن قد بدأت ربْطَ النقاط بعضها ببعض إلا في ذلك الحين. كنت أدرِّب مُمثلي المسرح في المقاطعات ولبعض العروض في ويست إند، ولكن ليس بنفس مستوى المدرسة الملَكية المركزية.
بعد مرور أسابيع من أولِ تنويهٍ عن الوظيفة، اتصلَت بي سيسلي بيري وطلبت مقابلتي. تقابلنا في مسرح الدويتش وتحدَّثنا. كنتُ قد عمِلتُ معها طالبةً، لكني لم أعتقد أنها تتذكَّرني.
تحدَّثنا عن جوينيث ثوربورن. أعتقد أنها فهمت احترامي وحُبي لثوربي، فابتسمت. تحدَّثت عن شيلا والتدريب الكلاسيكي الذي كنتُ أقدِّمه. أخبرتها عن قصدٍ أني تحت إشراف شيلا، كان عليَّ أن أدرِّس تقنيات التنفُّس القديمة التي كرهتها سيسلي.
ساد الصمت. وتحدَّثت صراحةً.
«لو مُنِحَت لي حرية التصرُّف، لما درَّست هكذا. كان عليَّ أن أُمارس تلك التمرينات حينما كنت طفلة، لهذا أعرف مدى صعوبتها، خاصةً بالنسبة إلى النساء.» إنَّ الكثير من الطُّرق التي كانت تُدرَّس صُمِّمت لتلائم جسدَ الرجال وأصواتهم.
نظرت سيسلي إليَّ نظرةَ ارتياب، غير أني واصلت.
«لقد عدَّلت في الطرق التي اتَّبعتها شيلا بما يناسِب النساء أيضًا. فهذا التدريب المُخصَّص للتنفس يُكسِب الصوت قوةً وطاقةً.» في تلك اللحظة، قلت ما قلتُه بصراحة. ربما لأني خسرتُ الوظيفة. لمعت عيناها بما يعكس نيةً ماكرة. دُعِيَ إلى الإحماء عبر مكبِّرات الصوت لفِرقة نيكولاس نيكلبي.
«هيَّا قدِّمي تمرينات الإحماء، يا عزيزتي، قدِّمي تمرينات الإحماء إلى الفِرقة.»
«اللعنة!» هكذا فكَّرت. انتهجتُ مسيرتي المهنية كلها مثل هذا المنوال، فكان يُلقى بي في وسط المعركة من دون سابق إنذار. لكني كنتُ أقتحم الصعابَ دائمًا. قدَّمت تمرينات الإحماء إلى الشركة. كانت سلسلةً من التمرينات الخاصة بالجسم، التنفُّس، الصوت، الكلام. وفي وقتٍ لاحق، أدركتُ أنَّ النجاح في إحماء أي شخصٍ هو أحد أصعب الأمور التي يمكن القيام بها.
شاهدت سيسلي لكنها لم تبدُ مكترثة. وعلَّقت في النهاية: «هذا جيد، يا عزيزتي.» افترقنا عند باب المسرح. ما ذاك الذي حدث؟ كنتُ مذهولة ومرتبكة.
دُعيت بعد ثلاثة أيام لحضور مقابلة لتلك الوظيفة في جيلدهول والمدرسة الملكية المركزية. أخبرت جون. فشرب في نَخبي. كان الشُّرب إحدى العادات المفضَّلة لديه.
في المساء الذي تلا معرفتي بإجراء المقابلة، التقيتُ به مع بقية المدرسين على طاولتهم المفضَّلة في حانة كوتاج سويس. انتشر النبيذ في مكانٍ على الطاولة، وكان الحديث يدور حول التعيين في تلك الوظيفة بالمدرسة الملكية المركزية وجيلدهول. ركلني جون من أسفل الطاولة، فكانت تلك هي طريقته غير المُهذَّبة ليُخبرني بأنَّ أُطبق فمي ولا أتحدَّث.
بعد ١٠ دقائق من المقابلة الأولى مع سيسلي والمدرسين الرئيسيين في جيلدهول، قلت في نفسي: «أنا أستطيع القيامَ بهذه الوظيفة. وثمة احتمالٌ بأن يقع الاختيار عليَّ.» في هذه المقابلة، التقيت بالقائمة بأعمال المدير، جِيل كاديل: كانت واحدةً من أكثر القادة روعةً وصراحةً وسَمَاحةً ولطفًا وقوةً وذكاءً الذين قابلتُهم على الإطلاق. كانت تدرك أنها لا تُجيد أمورًا، فتسمح لك بأن تفعل ما تعرفه. لم تكن تعرف كيف تُدرِّس، لكنها احترمَت أولئك الذين يعرفون، وهذه هي القيادة المثالية. كانت جِيل نوعًا نادرًا من البشر؛ لهذا أنا مُمتنَّة إلى الأبد لمقابلتها في مرحلةٍ مبكرة من مسيرتي المهنية بصفتها نموذجًا نسائيًّا بارعًا وواضحًا.
فهمت جيل أنه على المرء أن يعرف كيف يُدرِّس، أو يداوي، أو يبني صاروخًا، وليس مجرد أن يُطالع التعليمات ويحسب أنه يعرف. إنَّ القادة الذين لا يدركون الجانبَ العملي من العمل قد أضرُّوا بأكبر المنظَّمات في العالم.
خُضتُ مقابلةً ثانية، والتقيتُ في هذه المرة بتريفور نان. لم يتحدَّث كثيرًا، لكنه كان يستمع. تُرِكت غير متأكِّدة من شعوره تجاهي. لكن بعد فترةٍ وجيزة من هذه المقابلة وقبل أن أعرف ما إذا كنتُ سأحصل على الوظيفة في مسرح الباربيكان أم لا، أسند إليَّ عملًا حرًّا.
أحدُ الأمور التي عليك أن تتقبَّلها هو أنه، في بعض الأحيان، قد لا يُثنِي عليك صراحةً الأشخاصُ المؤثرون الذين يتمتَّعون بموهبةٍ قوية، لكنهم قد يُظهرون تقديرهم لك عن طريق إسنادِ عملٍ إليك.
قُدِّم إليَّ عرضُ العمل في المقابلة الثالثة.
كان شعوري بالحماسة لا يقلُّ عن شعوري بالخوف. لم يسبق لي أن توليت قيادةَ أي شيء سوى الصفوف الدراسية، لكني صرتُ أدرك الآن أنَّ قيادةَ قسمٍ تُشبه كثيرًا قيادةَ صفٍّ دراسي. المجازفة قد تختلف، لكن الخطوات المُتبَّعة تتشابَه على نحوٍ لافت. وتُصبح المهمة دائمًا هي أن تجعل الأشخاص تحت قيادتك يشعرون بالأمان.
لم أتولَّ تدريبَ طالبٍ لثلاثِ سنواتٍ مُتواصلة. إنما كنت أُدرِّس السنةَ الأولى والثانية في أكاديمية ويبر دوجلاس، ثم أنتقل إلى مدرسة آرتس إديوكيشن في السنة الثالثة. كنت أعمل على عرضٍ واحدٍ في كل مرة في القطاع التجاري للمسرح وفي الفِرق الصغيرة والمحدودة.
وأنا جالسةٌ ذلك المساء في هدوء، بعد أن شرب جون أنخابًا كثيرة وخلد إلى النوم، تأمَّلت ضخامةَ العمل والمسئولية التي كنت قد قبِلتها. كنت أدرك أنَّ الإلمام بما أفعله سيستغرق ما لا يقلُّ عن أربع سنوات. إنها تعادل رحلة الطالب من اليوم الأول حتى النهاية. لكن في الواقع تجاوزت الرحلة ١٢ عامًا تقريبًا!
أدركتُ أنَّ عليَّ أن أكوِّن مجموعة منسجمة. وأنه لا بد من وضعِ نظامٍ أخلاقيٍّ يعتمد عليه الطالب، وليس على أهواء كل مُعلمٍ يفعل ما يحلو له. يجب أن يُمنَح الطلاب وقتًا مع أنفسهم وأقرانهم ليتطوروا وينضجوا ويشعروا بالأمان.
انتشرت ممارسةٌ شائعة في جميع مدارس الدراما آنذاك، وهي أن تأخذ أكثرَ من الطلاب الذين تحتاج إليهم وتطرد ثُلثهم في نهاية السنة الأولى. والهدف هو جنْي مكاسب مالية. كنت قد تدرَّبت في ظل الخوف من مُلاقاة هذا المصير.
كنتُ أثق تمامَ الثقة أنَّ هذه الممارسة كانت لعنةً على تعليم الطلاب، تعيَّن عليهم في السنة الأولى من التدريب أن يتخلَّصوا من عاداتهم وأن يكونوا أحرارًا ومُبدعين، لكنَّ ذلك مُستحيل إذا كانت هناك فأس معلقة فوق رأسك. فكان لا بد من تغيير تلك الممارسة.
كان آخر رئيس لقسم الصوت لا يسمح بقبول الطلاب في المدرسة إلا إذا تحدثوا «بطريقة صحيحة»، أي «بنطقٍ مقبول». لكنَّ هذا خطأ وغيرُ منطقي. أدَّى ذلك إلى اختفاء أي شكلٍ من أشكال التنوُّع بين الطلاب. فصار جميعهم من ذوي البشرة البيضاء وأغلبهم من الطبقة المتوسطة. أما أكاديمية ويبر دوجلاس، فقد انتهجت سياسةً ثورية تتمثل في تدريب المُمثلين ذوي البشرة السمراء تدريبًا كاملًا على الأدوار الكلاسيكية، فكانت هذه سياسة نادرة.
عودةً إلى جيلدهول، كانت جيل كاديل واضحةً وداعمة، وكانت واثقة أنَّ الهدف من وظيفتي هو ترتيب حالة الفوضى التي تشهدها عملية التدريس، وتأسيس تدريبٍ منهجي على المهارات الفنية للصوت والجسد والتمثيل. «أنتِ أول عضوة في هيئة التدريس تتقاضى أجرًا، أنت على دراية بالتدريس؛ لذا ابدئي في العمل وانتبهي إلى الميزانية.» بأسلوبٍ آخر، أنتِ تتقاضَين أجرًا لتولِّي القيادة، فلتشرعي في عملك.
قال جون: «تذكَّري، أنَّ الصفقة، أي العَقد مع الطلاب، وعليهم أن يتعلموا كيفيةَ الدخول في عَقدٍ شرفي مع الجمهور. أنتِ مسئولة عن رفاهية الطالب وما يتعلَّمه وكيف يتعلم، وتحمِلين على عاتقك من خلال كل طالبٍ وضع المسرح البريطاني.»
-
كان أحد المُعلمين يغلق بابَ الاستوديو وجميع طلاب السنة الدراسية في الداخل. ويطفئ الأضواء. يطلب منهم خلع ملابسهم وقضاء ساعة ونصف الساعة يتدحرجون مع بعضهم البعض. كان هو كذلك عاريًا وفي السبعينيات من عمره. كان الطلاب يُطلقون على ذلك «المداعبة الجماعية»، لكن جيل لم تكن تعلم بأن هذا يحدث.
-
مُعلمة الشِّعر التي كانت فكرتها عن تدريس الشِّعر هي ارتداء ملابس على الطراز الفيكتوري أي قبعة، مشد، مئزر وهي تحمل مجرفةً في سلة. ثم كانت تُلقي قصائد توماس هاردي.
-
معلم الارتجال الذي كان يسرد قصصًا ويؤدي حركات أكروباتية تنتهي في الغالب بإثارة جنسية.
كان عليَّ أن أفصل كثيرين من العمل.
دعمتني جيل؛ وكذلك المدير، وجون هوزير؛ لكن من الصعب أن تفصل أشخاصًا من عملِهم. تصبح القيادة شائكة إذا أُضعِفت رؤيتك لتحقيق النزاهة التعليمية.
لم يرغب بعض الطلاب، بلا شك، في العمل. إنما أرادوا المداعبة، النوم في الفصل، ألا تُفرَض عليهم تحدِّيات، الضحك على امرأة تحمل سلةً وترتدي القبعة، تناول الكعك قبل حصة الرقص التي يُقدمها المُعلم، أي شيء لتجنُّب العمل. كان لا بد عليَّ أن أنتزعهم مما هم فيه. لكن الأمور لم تسِر دائمًا بطريقة صحيحة: فالمُدرب الصوتي/الإذاعي البارع الذي عيَّنته: كان صاحب سيرة ذاتية مذهلة، لكنه كان يشرب ويدخل في غيبوبة في فترةِ ما بعد الظهيرة. تبًّا له.
لكن بعدها، عيَّنتُ معلمةً مناسبة جدًّا.
كانت رئيسة قسم الحركات، سو ليفتون. سو هي واحدة من أعظم معلمات الحركة للمُمثلين في العالم. عمِلت قبلي في المدرسة الملكية المركزية، ودرَست على يد ليتز بيسك ومدرب الحركة الفرنسي الشهير، ليكوك. عندما رأيت سو تدرِّس لأول مرة، شعرت أنني عُدت إلى منطقة آمنة. ربما يكمُن أحد الأسباب في المبادئ الأخلاقية للمدرسة الملكية المركزية وليكوك، لكن الأمر تعدَّى ذلك بكثير. كانت توظِّف فهمها العميق لكيفية الربط بين الأشياء أثناء العمل من خلال جسدها وأجساد الطلاب. كانت قد سبقتني بشوطٍ طويل في هذا المجال، لكن كلينا كان يسعى من أجل التحرُّر من خلال تفانينا في العمل. حينما تفهم الأمور بعُمق، فلن تُضطر إلى استعراض فهمك علانيةً. بل يُصبح بإمكانك أن تربط بين الزمان والمكان والتاريخ والسياسة في حركةٍ واحدة أو صوتٍ واحد. وتصل إلى مستوًى من الفهم لم يكن لك أن تصل إليه أبدًا!
من اللحظة الأولى التي عمِلنا فيها معًا، توطَّدت العلاقة بيننا، وازدادت هذه العلاقة عُمقًا بمرور الوقت.
تعلَّمت سو على يد جون، وأدركت براعته وسط حالة الفوضى التي كان يعيشها. لقد كانت بالنسبة لي، ولا تزال، ملاذًا آمنًا. كنا نضحك ونتحدَّث عن المُساعِدات. وكيف يستغل المعلمون المخادعون مُساعِداتهم. وتحدَّثنا كذلك عن المُخرجين البارعين، وآخرين صاروا مُخرجين بمحض الصدفة. وعن آخرين ليس لديهم من التواضُع ما يجعلهم يقرُّون بجهلهم لأمورٍ أو بما قد تعلَّموه منك.
فيما يلي الأسلوب المعتاد للمُخادعين الذي تعرضنا له أنا وسو، وتوطَّدت علاقتنا بسبب الحديث عنه:
«عزيزتي سو، علِّميهم فحسب الرقصةَ الباروكية التي تعرفينها (تلك رقصة استغرقت من سو ١٠ سنواتٍ حتى تتعلمها بعمقٍ). كنت سأعلمهم بنفسي لكن الوقت لم يسنح لي.»
«عزيزتي باتسي، درِّبي المجموعة على أن يكون صوتُها واضحًا ومسموعًا، وددتُ لو أفعل ذلك بنفسي لو كان لديَّ الوقت.»
يسري الأسلوب نفسُه على كلِّ المُساعِدات في جميع المؤسسات.
وكذلك على المُساعِدة الشخصية التي أعدَّت جميع الأبحاث مقابل عُشْرَي المبلغ المُستحق: «أخبريني فحسب كيف سيسير الأمر في هذا الاستحواذ. عليَّ أن أخبر مجلس الإدارة.»
سيُقِر القادة المُخلصون على الأقل بمساهمتك!
أدركتُ مع سو أصلَ كلمة «العذراء». فمن المفترض أن نكون جميعًا عذارى. وحياتنا مكرَّسة بأكملها لأسيادنا. ضحِكنا على تلك السخافة، لكن الواقع مؤلِم. هؤلاء الأسياد هم المُخرجون الذين يريدون جُلَّ اهتمام المُمثلات بهم. ويغارون من الشريك الآخر في العلاقة أيًّا كان نوعه. يغضبون عندما تُوجَد علاقة غرامية في الفِرقة وليس معه. وهم كذلك المُعلمون الذين يغضبون ويغارون إذا أقام المُفضَّلون لديهم في المجموعة علاقةً مع آخرين غيره.
المسرح
في الفترة ما بين عام ١٩٨٠ و٢٠٠٦، كنت أعمل أغلبَ الأيام في المسرح.
عام ١٩٩٠، طلب مني ريتشارد إير تأسيسَ قسم الصوت في المسرح الملَكي الوطني. كان الانسحاب من العمل مع سيسلي صعبًا، لكنها تفهَّمت أنَّ عليَّ إنشاء فِرقةٍ في المسرح الملكي الوطني وأقودها. خلال مسيرتي التي امتدَّت مدة ٢٦ عامًا، عملت بنجاحٍ مع أغلب أكبر الفرق المسرحية في العالم. عزَّزت أداء المسرحيات ومكَّنت المُمثلين من تقديم المسرحية. كنت حلقةَ الوصل بين المسرحية والمُمثل، وحاولت الربط بينهما. وكنت كذلك حلقة الوصل بين المُمثل والمُخرج والمُصمِّم ومصمِّم الإضاءة ومصمِّم الصوت.
يختلف التدريب عن التدريس.
حاولت أن أُعزِّز من القدرات، وما تعلَّمته هو كيفية التفاوض. تعلَّمت الدبلوماسية. ومتى أصمت، ومتى أتكلَّم، وإذا تكلمت، يجب أن يكون لكلِّ ما تقوله أهمية. لا يُمكنك أن تُضيع الوقت.
تعلمت أنه في أي عملية إبداعية، يؤدي كل فردٍ دورًا مهمًّا. كل موظف بسيط يحتاج إلى الاهتمام والتقدير. كل شيء مُهم.
تعلمت أنَّ كل فردٍ ينتابه مشاعر الخوف في معظم الأوقات. الخوف من الفشل أمام الجمهور. الخوف من النجاح. الخوف من الإهانة. الخوف من الهُيام. فيطارد الجميعَ الإحساسُ بقيمة الذات وعدم جدواها.
كانت مهمَّتي هي أن أستوعب كلَّ ما أستطيع استيعابه، وأجتثَّ الفوضى المزعجة وأُبرز الأعمال الإبداعية الثرية. إنَّ أحد الأسباب التي تجعل المسرح رسميًّا للغاية هو أن الطابع الرسمي يضع حدًّا لكل هذه الفوضى. يحصل المُمثل على الموافقة أو الرفض من الجمهور؛ لذا فإنهم يقفون في الواجهة الأمامية ومِن ثَم فإن اهتمامي الأساسي موجَّه إليهم. يشعر كثيرون بأنَّ قوة مُخرج مشهور وتأثيره شيئان مُخيفان؛ لذا لا أزال الشخص الذي يجب أن يؤديَ دور الوسيط. ليس بالضرورة أن يعرف المخرجون عن التمثيل: وتبدو بعض ملاحظاتهم عن التمثيل مثيرةً للاهتمام، لكن لا يمكن أداؤها، ومِن ثمَّ تحتاج إلى التفسير. قد يُثير مخرجٌ شابٌّ مغمور غضبَ ممثلٍ متمرس. وتنفجر في النهاية، كل تلك السنوات التي عاشها في ظلمٍ، في وجه مُخرجٍ ساذج مهذَّب. ثم ينبغي لي أن أدافع عن المخرج! في الوقت نفسه، عليَّ أن أخبر المُصمِّمين بأن الزيَّ ضيق جدًّا مما يجعل المُمثل عاجزًا عن التنفس.
أُضطر أحيانًا إلى إخبار المنتج بأن تصميم موقع العرض رديء من الناحية السمعية؛ إذ لا يُوجَد شيء يمكن للمُمثل أن يفعله حتى يُسمع صوته، وإذا أراد أن يُسمَع عملهم، فلا بد من إجراء تغييرات على موقع العرض.
تحتاج الإضاءة إلى تركيزها بقدرٍ أكبر على وجه المُمثل؛ فإذا لم نتمكَّن من رؤية وجهه، فلن يمكن سماعه.
ثم أوجِّه حديثي إلى المُمثلين: «ألقيتُم شَعركم المستعار البارحة بعد العرض مما أدَّى إلى تلفه. ولهذا قضت مُصمِّمة الشَّعر المُستعار الليل كله في إصلاحه. هل تعلمون أن هؤلاء المُصمِّمات يستغرقن فترة تدريب أطول مقارنةً بالمُمثلين؟ إنَّ ما أتلفتَه في لحظة إحباطك هو حرفتُها وفنُّها.» أو، «لا يستطيع فنيُّو الصوت ضبطَ مستويات الصوت في تجارب الأداء الفنية إلى أن تتحدثوا بالقوة التي يحتاج إليها الأداء. تجنبوا الحديث بصوتٍ منخفض. لأنهم يُعِدُّون الصوت من أجل العرض.»
أحتاج إلى الاحتفاظ بعلاقةٍ جيدة مع مديري المسرح. ذلك حتى يفسحوا المجال لسماع تعليماتي ويُنسقوا المواعيد لتمرينات الإحماء الصوتي. هم عنصر بالغ الأهمية بالنسبة إلى المدرب.
أدركت أنه يجب عليَّ التواصل مع موظفي الاستقبال لأقف على حقيقة ما إذا كانت هناك شكاوى من إمكانية سماعهم، لهذا قدَّمت لهم دروسًا في الصوت. ذلك لأنهم قد يضطرون أحيانًا إلى الإعلان عن بعض التنبيهات.
كان الأمر صعبًا، لكن خلاصة القول هو أن عليك أن تقدِّم ملاحظات لا يرغب الناس في سماعها ومن ثم ستمتلك بعض المهارات التي تساعدك في تغيير ما أبديت ملاحظتك عليه. لا يمكنك أن تكون ناقدًا من دون أن تُقدِّم حلًّا. أضطر إلى أن أُعطي للمُمثلين ملاحظاتٍ غير مرحبٍ بها برأفةٍ ودعم. طُلب مني أن أُسدي ملاحظات يخاف المخرج بشدة من إسدائها. نجحت في ذلك، في أغلب المرَّات. كان عليَّ أن أُخرِج مُدربين آخرين من غرفة تجارب الأداء عند عدم مراعاتهم لطريقة المُمثل أو المخرج.
بفضل تدريب شيلا، أدرك المُمثلون المتمرِّسون أنني أفهم حرفتهم وكنا نتقدَّم معًا بخطوات متناغمة. وساد بيننا الاحترام المتبادل. كان المدربون الشباب هم الأهداف المفضلة لدى هؤلاء المُمثلين. فكانوا منهم بمنزلة حملان صغيرة داخل عرين الأسد!
تعلمت كيف أعمل في شبكةٍ معقدة تضم أفرادًا موهوبين لديهم جميعًا شيء يخسرونه ويتقاضون أجورًا زهيدة. قلة قليلة منهم مَن يحققون من المسرح أي مكاسب مالية ذات قيمة. عندما لا يسير الموقف في الاتجاه الصحيح، يصرخ مديرٌ أو كاتب مسرحي أو مايسترو متوتر في شخصٍ ما.
أحيانًا يكون هذا الشخص هو أنا، وأحيانًا أرد بصراخ مماثل.
هذا ما تعلمته: بوجهٍ عام، سرعان ما سيكتشف الموهوبون ما إذا كنتَ قادرًا على إنجاز التدريب بكفاءة أم لا. وكلما زادت الموهبة لديهم، زادت ثقتهم، وقلَّ شعورهم بالارتياب في عالمٍ غاصٍّ بالشك والارتياب.
إن المشكلات التي واجهتها كانت مع الأقل موهبةً. يُمثل غالبًا الخوف من اكتشافهم قوةً مدمرة تهبط على أي خبيرٍ في الغرفة.
أما المُمثلون، العنصر الفاعل، فهم أكثر انفتاحًا على التفاوض مقارنةً بالمُخرجين.
ربطني بالكُتَّاب علاقة عمل رائعة. يريدون جميعهم أن يُسمع كلامهم ويسعدهم أن يسعى شخصٌ ما جاهدًا لتحقيقه.
لقد كانت لديَّ علاقات عمل رائعة مع معظم المُخرجين العظماء. أظهر الرجال صراحةً أكبر فيما يريدون وما لا يُحبُّون. يمكن لأي مشكلةٍ أن تُطرح للمناقشة ولكن قلَّما يمتدحون الآخرين. بات من الواضح الآن أن مثل هذا السلوك ينبع غالبًا من الامتيازات الممنوحة للرجال، لا سيما إذا كانوا رجالًا ذوي بشرة بيضاء.
أما المُخرجات العظيمات فكنَّ أكثر سخاءً في المدح والثناء والحديث عن مشكلاتهن قبل التوصُّل إلى استنتاج. غير أن هذا قد يزعج المُمثلين.
لا بد أن النساء هن الأفضل. فالنساء الشابَّات اللاتي عملت معهن عام ١٩٨٠ كن أفضل كثيرًا من الرجال، لكنهنَّ لم يُمنحن الفرصةَ التي يجب أن يحصلنَ عليها. ورغم ذلك يواصلن العمل، لكن ليس بالمستوى الذي يجب أن يعملنَ به، وليس بالتقدير والمكانة اللذين يجب أن يتمتعن بهما. إن الممثلات عادةً أفضل أداءً. يتوفر أمام الرجال الكثيرُ من الأدوار لممارستها مما يُحسِّن من أدائهم. في حين أن النساء يبذلنَ جهدًا مشهودًا من أجل الكثير من الأدوار الثانوية التي يتذمَّر منها الرجال.
خلال ٢٦ عامًا، افتتحتُ متوسط ٤٥ عرضًا في السنة، وتوليتُ قيادة ست جلسات إحماء في الأسبوع، وأحيانًا ثلاث في مساء واحد لثلاثة طواقم تمثيل مختلفة.
كنت مُساعِدة وعلى قدْرٍ من الكفاءة، لكن مثلي مثل جميع المُساعِدات، تحملت حقيقة أنهم لا يريدون دفع الكثير لكِ وأنهم بالتأكيد لا يريدون أن تعملي وفقًا لشروطك.
لكن، لم أُقلِّل البتة من قيمةِ ما تعلمته كمُساعِدة. تعلمت الدبلوماسية، كيفية التفاوض مع كل قسمٍ من أقسام المسرح وخارجه. تقومين بمهامَّ لن يفعلها القادة، أو بالأحرى، لا يستطيعون فِعلها. كلما أصبحتِ أفضل في هذا العمل، كان آخر شيء تسعى إليه المؤسسة هو ترقيتك. أنت محور العمل، الوسيط، الدبلوماسي. وعمومًا، كنت أعرف عن العمل أكثرَ من الذين خدمتهم.
انتهت فترة التدريب.