الفصل الثامن عشر

التحرُّر، التعمُّق، الاستزادة

في نظام التدريب المهني في العصور الوسطى، كان متوقعًا من المتدرب أن يتعلم حرفته في غضون سبع سنوات. وبعدها يصنع قطعةً متقنة يُقيِّمها حرفيُّون بارعون، ثم إذا نجحت تلك القطعة، يصبح ذلك المتدرِّب مُعلِّمًا في الحِرفة التي اختارها. إنَّ واحدة من العلامات الدالة على إتقان حِرفتك هي أن الكفاءة والخطوات المادية الملموسة التي تدعم التعبير الفني تُصبح متأصِّلة في شخصية الفنان.

بالنسبة إلى مَن يستخدمون صوتهم باحتراف، مثل المُمثلين، فإن هذا يعني أن الإلقاء والحضور والجسم والتنفُّس والصوت والكلام هي مقوِّمات فنية معروفة، لكنها رغم ذلك قد تحتاج إلى اهتمامٍ مستمر متمثلًا في تمرينات الإحماء، وبذلك تدعم تلك المهارات الفنية الأسلوبَ الفني لسرد قصةٍ سردًا مشوِّقًا.

لا يمكن لمُمثل أن يقدم أداءً مؤثرًا أو يُثير مشاعرَ الجمهور حتى تصبح مهاراته الفنية مُقومًا متأصلًا في شخصيته. قد يصبح صوته مسموعًا وواضحًا، لكن الجمهور لا ينتقل إلى عالمٍ آخر إذا كان باستطاعته ملاحظة المهارات الفنية التي يُطبقها المُمثل. يسري المبدأ نفسه على الموسيقيين أو الراقصين أو الكُتَّاب أو القادة. ولأن المهارة الفنية لا تُصبح راسخةً ومتأصِّلة إلا عند إيلائها ما يكفي من التفاني والتطبيق والتكرار، لا يمكن تحقيق ذلك حتى يسعى الطالب إلى التميُّز ويجتهد في عمله من أجل تحسين مهاراته الفنية.

والمفارقة الدائمة هي أن الحِرفي الماهر يعمل باجتهادٍ بحثًا عن الكمال، وهو يُدرك استحالةَ بلوغه. ربما يصل إليه لفترة قصيرة، ولكن ليس على نحوٍ مستمر.

لقد استغرق إنهاء تدريبي المهني ما يزيد على ٢٠ عامًا. وقبل فترةٍ طويلة من إنهائي التدريبَ، خطر ببالي أني لم أكن قد أكملتُ مرحلةً واحدة من رحلتي المهنية. ولُقِّبتُ بلقب المُعلمة، لكني كنت أعرف أن ذلك ليس صحيحًا.

ربما كانت دراستي للأمور بطيئة، لكنني استغرقتُ وقتًا طويلًا حتى أعرف أن بمقدوري الحفاظَ على مساحةٍ آمنة، وكذلك لكي أُجسِّد عملي من خلال تمرينات موضَّحة بدقة وذات ترتيب فعال. وكذلك استغرقت وقتًا طويلًا حتى أُشخِّص عادةً لدى أحد الطلاب وأُحدِّد مصدرها في الجسم والتنفس. كنت أعرف أنه يتعين عليَّ أن أتحرَّر من الأنماط المُتعنِّتة والمتكررة في التدريس والتدريب. ورغم أني لم أعرف طبيعةَ العمل نفسه أو إلى أين سينتهي بي المطاف، كنت أعرف أن ثمة شيئًا لا بد من تعزيزه؛ شيئًا كان مطلوبًا منِّي ومن طريقة تدريسي.

واستقرَّ في أعماق قلبي شعورٌ بالإحباط والفشل.

لم تشهد أصوات النساء في تسعينيات القرن العشرين تحسُّنًا، بل كانت تزداد سوءًا. لقد كانت حبيسة أجسادهن بدرجةٍ أكبر، وكذلك كانت أكثر ضعفًا، أو أنها بدت أكثر اندفاعًا وعدوانيةً حتى بات الاستماع إليها صعبًا. كثيرٌ من النساء، وليس كلهن، لم يعتقدن أنها مشكلة كَوْن أن أصواتهن ضعيفة وغير مؤثرة. إنما مظهرهن هو ما كان يُمثل مشكلةً لهن، وليس كيف تبدو أصواتهن. بل تجدهن حريصاتٍ على مظهرهن وغير مُباليات بأصواتهن وقصصهن، وغير شغوفات بنَيْل حقوقهن. وأي إشارة إلى الحركة النسوية قد ترسُم على وجوههن ابتسامةً مُتكلَّفة مثل تلك التي كانت تظهر على وجه أبي. وتبيَّن أن تلك الخمسة والعشرين عامًا من المساواة أضرَّت بصوت المرأة ولم تُحرِّره.

أتاح لي الوقت أن أفكر في ذلك النمط المُزعج وأُحلله.

لا، ليس صحيحًا أن كل النساء كسولات وفاقدات للشغف. لكن هناك نساء يمكنهن تحمُّل تبِعات كسلهن وفقدانهن الشغف. هن اللاتي يعتقدن أنه يُستَمع إليهن، في حين كان واضحًا أن عكس ذلك هو ما يحدث. إنهن السيدات الغربِيَّات المثقفات ذوات البشرة البيضاء. إنهن اللاتي أنتمي إليهن. لم أصل إلى السيدات ذوات الامتيازات. أولئك اللاتي يشعرن بالأمان ولا يشعرن بضرورة التغيير، مثلهن مثل قطةٍ في منزلٍ بحي برايمروز هيل. بدأت أتذكر مرةً ثانية عينَي جَدَّتي الزرقاوَين الصافيتَين وهما مثبَّتتان عليَّ في أي وقت أُظهِر فيه أي علامة تعكس قدومي من الطبقة المتوسطة. لكنَّ ثمة أرواحًا أخرى تحوم حولي من عالم التدريس. إنها أشباح النساء اللاتي قابلتهن طوال ٢٥ عامًا من التدريب.

بدأت تطاردني.

بدأت مسرحية «هاملت» بمشهد انتظار الرجال ظهور شبح.

كان ذلك المشهد الافتتاحي للمسرحية الذي ترسَّخ في خيالي وأنا طفلة ذات تسعة أعوام. كانت الدنمارك تشهد فسادًا في جانبٍ ما.

إنَّ الأشباح التي كانت تنتظرني حينما كنت أجرؤ على انتظارها كانت أشباح نساءٍ لسنَ من ذوات البشرة البيضاء أو مُثقفات أو لهن جذور في الحضارة الغربية. فكانت معرفتهن ومطاردتهن أعمق وأكثر أهمية بما يفوق استيعابي. وكن أقوى تأثيرًا من آثار قدمَي أبي فوق كتفي. تلك الأشباح حاولت إيقاظي. ماذا كانت تقول؟ ولماذا كان ظهورها مُزعجًا وصعبًا فهمه؟

كانت تعطيني قطعًا من أحجيةٍ لأمعن النظر فيها.

مثلما كان الزجاج الملوَّن في نوافذ المتاجر يطارد توم في مسرحية «مجموعة الحيوانات الزجاجية» (ذا جلاس ميناجيري). فرَّ توم هاربًا من مسئوليته. إنَّ اللغز الذي أثار حيرتي في الطفولة كان عن العدالة والمسئولية التي يُمليها استخدام السُّلطة، وفي تلك اللحظة كانت تلك المواجهات التي أعيد تذكُّرها تنتقد ما لدى هذه المرأة الغربية المُثقفة من معرفة، أو ما تفتقر إليه من معرفة.

من اللافت للانتباه أن تلك الأشباح ظهرت من مواجهاتٍ خضتُها في بداية مسيرتي المهنية قبل أن تكون لي مكانة مرموقة، وكنتُ ربما أُعتبَر أكثر قابليةً للتحدي؛ فكانت تُذكِّرني بوضوح بسذاجة المرأة الغربية وهوسها بالمظهر السطحي وبالشباب. وكذلك كانت تُذكِّرني بأننا حسبنا الشرح النظري دون الخبرة هو ما قد يُغيِّرُنا، غير مدركاتٍ مدى خطورة العالَم بالنسبة إلى النساء. وكذلك بأننا كنا نفقد حَدسنا العميق ونتجاهل المِنح التي يحملها الخوف في باطنه. بإيجاز، كان السائد هو الحركةَ النسوية المُفتقرة إلى التنوير، وتسبَّب جهلنا في تعريض حياة المرأة غير الغربية إلى الخطر. استقرَّت قوَّتنا في الطبقة ذات الامتيازات وحادت بها نحو الانغماس في الملذات: وأصبحنا في أحسن أحوالنا حمقاوات.

إنَّ عزائي الوحيد حينما استحضرتُ تلك الذكريات الحيَّة كان أني قد تعلمتُ شيئًا من تلك النساء. لقد استغرق فهْم تلك الأمور مني وقتًا طويلًا. لكنها كانت مفيدة لي.

لاحظت ذلك للمرة الأولى حينما كنت أدرِّسُ عاهراتٍ في سجن هولواي، أو من خلال فرقة مسرحية اسمها «كلين بريك». حيث تعلمنَ في وقتٍ سريع، وبامتنان، مهاراتِ الصوت واللغة وكنَّ كثيرًا ما يقضين وقتًا ليشرحنَ لي حقائقَ قاتمة. كُنَّ صبورات ولطيفات، ولم تكن المعلومات التي شاركنها لتصدمني بل لتُنذرني. وكأنها تبعث لي برسالة: «لا تظنِّي أنكِ مُسيطِرة أو في وضعٍ آمن.» إنَّ ما تعرضت له العاهرات من عنفٍ غير متوقَّع دفعهن إلى التحمُّل وتعلُّم دروس مما لاقينَه. إن هذا العنف دائمًا وارد: «لا تظنِّي أنه لن يُصيبكِ!» في السبعينيات، لم يُعتبَر بيتر ساتكليف — سفَّاح مقاطعة يوركشاير — أنه خطير إلا حينما بدأ في قتل النساء اللاتي لم يعملنَ عاهراتٍ. تنقلتُ، في السبعينيات، بين دول أوروبا بسياراتٍ مجانية، وكانت لديَّ شجاعة لفعل ذلك لأني كنتُ غبيةً وساذجة. فتلك المُحادثات مع طالباتي من السجناء أثارت ذكرياتٍ عن أحداثٍ كان من المُمكن أن تُعرِّضني للموت. لكني نجوتُ منها بلطف الله.

كانت هناك ذكريات أخرى.

في إحدى ورش العمل عن الصوت في كندا، سمِع الحضورُ الغناءَ الحلقي المُقدَّس لشعب الإنويت. فكانت النساء تروي قصصًا عن طريق الغناء داخل حلوقهن؛ إذ إن البرد القارس الذي كنَّ يعِشنَ فيه حال دون الغناء عبْر أفواههن.

في نهاية الجلسة، أُمطِرت المُغنِّيات بالحلق بسيلٍ من أسئلةٍ تستفسر عن كيفية أداء بعض المهارات، «كيف تفعلين ذلك؟» «أين يكون لسانكِ حينما تفعلين ذلك؟» «هل تأخُذين نَفَسكِ من الفم بأي شكلٍ من الأشكال؟» أراد بعض الحاضرين شرحًا مبسطًا عن إحدى المهارات الفنية المقدسة التي تَطَلَّب تطويرها عملًا مكثفًا وكانت خارج إطار التجربة الصوتية الغربية.

كان بوسعي ملاحظة نساء الإنويت وغضبهنَّ يتزايد وهن يرفضن الإجابةَ عن بعض الأسئلة السخيفة، وبينما رفضن الإجابة، بدا الغضب على بعض معلمي الصوت الذين حضروا للاستمتاع بتجربةٍ ذات مستوًى رفيع. ذلك لأنهم كانوا قد دفعوا من أجل حضور هذا اللقاء، وبهذا اعتقدوا أنَّ من حقهم أن يعرفوا. نهص أحدهم وعبَّر صراحةً: «لقد دفعتُ مقابلَ حضور هذا اللقاء: لهذا عليكِ أن تُخبريني بالإجابة.»

لم أشعر بنفسي إلا أني وقفتُ وتحدَّثت. لا أذكر ما قلتُه، لكنه كان يدور حول أن تلك الأسئلة ليست مناسبة. في رأيي، من الحماقة أن تحاول التعبيرَ في بضع دقائق عن تقليدٍ مُقدَّس قديم، ولأنني كنتُ أعرف أن بعض هؤلاء المُعلمين كانوا مُغنِّين، طرحتُ عليهم سؤالًا من عندي. «هل لك أن تسأل بافاروتي كيف فعل ذلك؟»

انتهى اللقاء، وبينما كنا نتَّجه إلى الخروج، لمست ظهري إحدى كبيرات السن من الإنويت. استدرتُ فأمسكَتْ يديَّ بقوةٍ ونظرت في عينيَّ مباشرةً. كانت نظرتها تعكس تقديرًا، لكن عكست أيضًا تحدِّيًا: إن الأسئلة التي لا يمكن الإجابة عنها نابعةٌ من تقاليدكم. احرصي على معالجتها. إنها مشكلةٌ لدَيكم.

هل نحن مُستنيرون بالقدْر الكافي؟ هل نحن حُماة المعرفة؟ هل علينا أن نتولَّى دورَ التدريس؟ واحدة من المِنَح المُوفَّقة في حياتي هي أني، بينما كنتُ أدرِّس في دولٍ حول العالم، دعاني أفرادٌ من السكان الأصليين، الذين حضروا كثيرًا ورشَ العمل المُقررة لي، إلى العمل معهم في مجتمعاتهم. سبق أن كانت لي لقاءات مُماثلة مع كبريات السنِّ من شعوب النافاجو والهوبي والبويبلون. فتجد دائمًا الانفتاح نفسَه والتحدي نفسَه لا يتغيَّران: ماذا ستفعلين حيال هذه المسألة؟ في الوقت الذي يريد فيه الغربيون طريقًا مختصرًا للوصول إلى معارف السكان الأصليين.

واحدة من أكثر التجارب المُثيرة والتعليمية التي خضتُها في حياتي كانت دعوتي إلى حضور الغناء التقليدي لسكان أستراليا الأصليين. وسبب دعوتي لهذا هو أني كنتُ أُدرِّس لمجموعة طلابٍ في أحد المراكز الاجتماعية، تحديدًا خارج مدينة برث. في البداية، بدا عليهم جميعًا الهدوءُ والانطواء، وكانوا عالِقين في الدائرة الأولى. وعلى مدار الأيام التي عملتُ فيها معهم، بدءوا يكشفون عن قوَّتهم الصوتية الطبيعية الكاملة. وعندما لاحظوا سعادتي وذهولي، سألوا كبراءهم إن كان بوسعهم دعوتي لحضور احتفال الكوربوري للرقص. حينما شاهدت ذلك فقط، فهمتُ الشرف الذي نلتُه؛ فكان ذلك دليلًا على أنهم وثقوا في وعيي وإدراكي. لكن مرة ثانية، أثقلني الشعور بالذنب: هذا ما تُدمِّره تقاليدكم.

ثم، في بولندا حيث كانت رَاوِية القصص الغجرية التي فقدَت أغلب أفراد عائلتها في معسكر أوشيفيتز. في حفل العشاء الذي أُقيم في الليلة الأولى، وبعد أن نهل الحضور من شرب النبيذ، وجَّهت حديثها إلى مُعلِّمي الصوت المُتحدثين بالإنجليزية. صرَّحت أننا متعجرفون ومعتدُّون بأنفسنا ولا نعرف أيَّ شيء عن الثَّمن المُتكبَّد لسرد القصة. كان تهجُّمًا لفظيًّا مذهلًا ومُخيفًا وانفعاليًّا. وكأني أشاهد مسرحية اليومنيدس. غادر معظم الحضور وبقيتُ أنا وصديقتي العزيزة ألاكناندا ساماراث من الهند، وشيئًا فشيئًا تراجعت حدةُ التهجُّم اللفظي قليلًا. شاهدتني فكنت أستمتع. وكانت في هذه المرحلة تتحدَّث عن هوسنا بالمِثالية، وإتقان العمل، والعبثية، والرفاهية. كان الهجوم قاسيًا لكنه صحيح.

ثم بدأت العروض التقديمية في اليوم التالي.

حضرتُ جميع العروض التقديمية، وكانت أسئلتها المُوجَّهة لكل مُقدِّمِ عرضٍ تقديمي قاسيةً. ألقيتُ عَرضي التقديمي في اليوم الأخير. دائمًا ما أجذب انتباهَ الحضور ببعض التمرينات وليس بالشرح النظري. ثم بعدئذٍ، اقتربَت منِّي.

عانقتني وقالت: «مذهلة! لديك معرفة حقيقية!» ولا تزال الابتسامة على وجهها، خلعت خاتمًا ذهبيًّا ثقيلًا من إصبعها ومنحتني إيَّاه. ولا يزال عندي.

أما جولة التدريس الطويلة والأولى لي في الهند عام ١٩٨٦ فقد غيَّرتني تغييرًا كليًّا.

طلب منِّي المجلس البريطاني والحكومة الهندية أن أُعلِّم المدرِّسين والمُمثلين في شبه القارة الهندية. فأُقيمت ورشة عمل في مُستعمرة ليبر التي كانت تقع بجانب مدرسة للخطابة.

على الرغم من ضَعف التدريس في مستعمرة مُخصَّصة للبرصاوات، بذلت قصارى جهدي! كنت أحاول التدريسَ لمن تعرَّضت أغلب وجوههن للتشويه، مما أفقدهنَّ قدرتهنَّ على التواصل. لقد انفطر قلبي عليهن. تجارب كثيرة باعثة على تغيير مجرى الحياة، ولم تكن الكثير من تلك التجارب جميلة وإنما كانت مزعجة للغاية.

وبعدما غادرت المستعمرة، وخلال ورشة عمل أخرى، أثرتُ غضب مجموعةٍ من النساء تجاه «سذاجتي الغربية». كان هدفي هو محاولة تعليمهن الاتزانَ والانفتاح والتعبير بقوة عن شخصيتهن الحقيقية. كانت سذاجتي لعنةً بالنسبة إليهن. طلبنَ أن يُدرَّس لهن من دون وجود أي رجلٍ في الغرفة. فَجَرَى تنسيق ذلك.

حضرت ٦٠ امرأة. وكنت أقف في الأمام في انتظار بدء الدرس، وكان الباب مغلقًا أمام الرجال.

تقدمتْ إلى الأمام المُتحدثةُ باسمهن، وكانت آثار الغضب من سذاجتي لا تزال واضحةً في صوتها.

«نحن نفهم ما تحاولين فعله. نفهم أنه، كما أوضحتِ، إذا وقفنا كما نقف وأقدامنا متقاربة، وأعيُننا تنظر إلى أسفل ورءوسنا مُطأطأة، فلن يُمكننا أن نتنفَّس حتى نُظهِر قوَّتنا وستُصبح أصواتنا ضعيفة وفي الغالِب غير مسموعة.

لكن يا سيدة رودنبرج، ما تطلبينه منا هو أمرٌ طبيعي وصحيح، لكن عليكِ أن تفهمي العواقب التي ستنتظرنا إذا فعلنا هذا. هذه أفعال ثورية وقد يُعاقَب عليها إما بالتعرُّض للاغتصاب أو التشويه أو الموت.»

قبل أن أتمكَّن من الإجابة، بدأت في الحديث سيدةٌ أخرى.

«على أي حالٍ، أنتن — أيتها النساء الغربيات — تزعمنَ بأنكنَّ مثلكنَّ مثل الرجال ثم تحسبن أن تلك هي القوة!»

على الفور، بدأت هي وعدة نساء أخريات بتقليدٍ فظٍّ لكنه مؤثِّر للنساء الغربيات وهن يتصرفنَ بتباهٍ ويتبخترن مثل الرجال. يتبخترن وصدورهن منتفخة ويتكلَّمن بصوتٍ مندفع وعدواني.

انضممتُ إلى تلك المِشية المميزة وأنا أضحك فرحًا، وانكسر الحاجز بيننا حينما قدَّمنا عرضًا لسلوك المُتظاهرين بالقوة المُنتمين إلى الدائرة الثالثة.

كنَّ على حقٍّ: إن الكثير من النساء الغربيات، الساعيات وراء القوة، يُظهرن هذا الأداء السطحي الذي يُحاكي الشجاعة المُصطنعة العقيمة التي انتهجها الرجال في ثمانينيات القرن العشرين. اعتقدتْ بعض النساء أنهن قد شعرن بالقوة حينما ارتدينَ كتفَين مُبطنَين وأنيقَين، وبدلة مفصَّلة بأناقة تحاكي بدلات الرجال. غير أن هذا كان يُعَد تقليدًا سطحيًّا لملابس الرجال وعاداتهم دون أن يحمل أي شيءٍ حقيقي في جوهره. فلم يكن إلا استعراضًا للقوة خاويًا من أي مضمونٍ حقيقي.

قلت: «ليس هذا ما أسعى إليه. إنما أريد منكن أن تكُنَّ متوازنات وتتنفَّسنَ كما ينبغي وتستخدمن أصواتكن بقوةٍ على نحوٍ طبيعي. أظهرنَ قوةً حقيقية، لا قوة مُصطنعة.»

قالت المتحدثة بلسانهن: «نعلم ذلك. لكن تذكَّري من فضلك أننا قد عرفنا كلَّ هذه الأمور منذ آلاف السنين. إنها جزء من ثقافتنا. فأنتِ لا تحملين إلينا أيَّ جديد. لكن من المُفترَض أن تُحجَب هذه المعرفة عن النساء هنا. نحن نفهم ما نُصبح عليه عندما نكون مُتزناتٍ ولا نرتدي مثل تلك الأحذية السخيفة التي تَمِلنَ إلى ارتدائها. نحن مُدركاتٌ لأهمية أن تكوني متصلة بالأرض تمامًا.

لذا، علِّمينا مرةً أخرى، من فضلك، أن نقف ونتنفَّس ونستخدم أصواتنا بقوة، وهو حقنا الطبيعي، ثم وضِّحي لنا كيف نقف مثلما يريد منَّا الرجال أن نقف؛ في استكانةٍ وتواضع ومن دون تواصل بالعينَين. وبهذا يُصبح لدينا الاختيار بأن نحتفظ بقوَّتنا حتى لو اخترنا ألا نكون عُرضة لهجوم أحدهم.» وهذا ما بدأنا نفعله. أعدْنا اكتشاف قوَّتهن الحقيقية ثم جعلنا تلك العادة اختيارًا يلجأن إليه حتى يَبقَينَ في وضعٍ آمن ولا يُقلل من شأنهن دائمًا.

إن الوقفة التي تدربنا عليها في ذلك اليوم كانت هي نفسها التي يطلبها أيُّ ظالمٍ قاسٍ من أولئك الذين يعتبرهم أقلَّ شأنًا منه. تلك الوقفة التي تُفرَض عليهنَّ من خلال الخوف وأمور تافهة.

لقد فُرِض على جميع الخَدَم والعبيد والنساء والأطفال هذا الوضع الجسدي الذليل.

الجُبن. الانحناء. حبس «المُستضعفين»! لكنَّ المستضعفين الذين يعرفهم أسيادهم — بالفطرة ربما — بأن لهم قوةً وذكاءً فائقَين.

يعرف جمهور المسرح، قبل أن يتحدَّث المُمثل بفترة طويلة، أن طاقته في تلك اللحظة مؤشرٌ على مكانته وقوَّته. إذا رأى الجمهور السِّتار يُرفع في بداية العرض وأن الشخصية تقف في مسرحٍ خاوٍ في الدائرة الأولى، أي قدماها مُتقاربتان وجسدها مُنحنٍ ورأسها مُطأطِئ، فإنه سيفترض في الحال أن هذه الشخصية هي خادم أو فردٍ من طبقة دُنيا.

كان من السهل عليَّ أن أعلمهنَّ هذه الطريقة؛ إذ يمكن لأي مُمثل ماهر أن ينتقل من الوقفة القوية المتزنة إلى أخرى تُظهر أنه خادم من طبقة دُنيا: لكن قوَّته وحضوره مُخبَّآن تحت قناع الدونية. إنه تحوُّل يحدث يوميًّا في غُرف لتجارب الأداء تضمُّ مُمثلين بارعين.

منذ زيارتي للهند، توطَّدت علاقتي بنخبةٍ من أمهر المُمثلين وأجريتُ محادثات مؤثرة مع سيدات مميزات قمنَ بتعليمي.

جاءت المُخرجة الشهيرة، فيناباني تشاولا، وأقامت معي في منزلي عدةَ شهور، عَرَّفتها على تدريب التنفُّس الذي يُمارسه الممثلون الغربيون. وعرَّفتني هي على بعض الأساليب الفنية الهندية.

رافقتني فيناباني إلى جيلدهول وسُمِح لها بالتجول بين الصفوف الدراسية.

ذات مساء، عادت إلى منزلي في كامبرويل وهي غاضبة.

كانت قد لاحظت مُعلِّمًا يُدرِّس تمرين التنفُّس المعروف باسم تشي، وهو تقليد للتنفُّس قديم ومُقدس في الشرق كانت قد دَرَسَته سنواتٍ.

جزء من تبادل التدريس بيننا هو أن أعلِّمها، بناءً على طلبها، كلماتٍ للسِّباب بالإنجليزية.

فصارت تنطلق منها في تلك اللحظة بتلقائية.

«كيف لهذا الرجل الغربي الحقير أن يُدرِّس تمرين تشي للتنفُّس في حين أنه لم يشارك إلا في ورشة عمل أو اثنتَين؟! وعندما سألته استشهد بالكتُب التي كان قد قرأها! ألا تفهمون أيها الغربيون الحقراء أن عليكم أن تتدربوا عليها لا أن تقرءوا عنها؟! هذا في مُنتهى الغباء! ولماذا تسمحين له بتدريس ما لا يفقه شيئًا عنه؟ لقد استغرق منِّي ٢٠ عامًا التدريب على ما قد قرأ هو عنه!»

بالطبع كانت على حق. جعلتني أفهم المعنى العملي للتجسيد الذي ينطوي على الاحتواء العميق للمعرفة في جسدك. ولا يمكن تحقيق التجسيد إلا من خلال التدريب المُتكرر على المهارات الفنية.

بعد سنواتٍ قلائل، جاءت المُغنِّية الدينية الهندوسية الشهيرة، نيلا بهاجوات، لتدرُس معي. أوضحت لي خلال جلسة واحدة أن مجموعة الأغاني المُقدسة التي غنَّتها لم تُصبح في متناول صوتها إلا في الستينيات من عمرها. جزء من السبب له علاقة بالتدريب على المهارات الفنية، وكذلك أيضًا بمدى الحكمة والخبرة اللتين اكتسبهما جسدها وعقلها وقلبها وكانت ضرورية من أجل الغِناء. هذا أعاد إلى ذاكرتي نموذج البراعة الفنية في أوائل عصر النهضة. فمن خلال المهارات الفنية، يمكن لفنَّانٍ أن يرقى في يومٍ من الأيام إلى مرحلة الجمال والتدخُّل الإلهي. كانت الحضارة الغربية تعرف ذلك تمام المعرفة: لكنه نُسي.

عام ١٩٩٤، كنت أدرِّس لدى «ناشونال ثيتر استوديو» بجنوب أفريقيا، وقضيت وقتًا في منطقة سويتو. دعتني ممثلة زولوية، كنتُ قد قابلتها في «ماركت ثيتر» في مدينة جوهانسبرج، لأعمل مع بعض أصدقائها هناك.

إنها لحقيقةٌ أن المُعلِّم يتعلَّم شيئًا من كل مَن يعلِّمه. وبالطبع علَّمتني هؤلاء النساء الزولويات أكثرَ مما علَّمتهن.

لقد طلبنَ كذلك أن يتدربنَ من دون وجود الرجال.

عند بدء الدرس، شرحت السيدات أن الزولو هي لغة نداء. لغةٌ سلسة ومُتحررة تنتقل ومنسابة. ثم انطلقت من المجموعة سلسلة نداءات أثناء شرحهن.

ثم اتضح التحدي.

«قبل أن يأتي الرجل الأبيض، كنا نعتقد أن طيَّاتنا الصوتية في منطقة البطن.»

شاهدنني بينما آخُذ شهيقًا ثم أنتظر. كان الانطباع مذهلًا، لأننا نُعطي لصوتنا القوةَ من منطقة البطن، ومن ثَم ما كانت تقوله السيدات كان حقيقة مُطلقة، لكنها ليست مناسبة لعقلية الغربيين العلمية.

إنَّ قوة الصوت تبدأ من التنفُّس، فكلَّما كان النفس أعمق، ازدادت قوة الصوت. لهذا، من الناحية العلمية، تنشأ قوة الصوت من منطقة البطن، لكن انطلاق الصوت يبدأ من الحلق.

لا صوت من دون نفَس. ومن دون يد وأصابع تضرب على أوتار الجيتار، فلن يُصدِر الجيتار صوتًا. أخبرتني النساء الزولويات: «إذن نحن نعرف من أين يبدأ الصوت حقًّا.» فأجبتها قائلةً: «هذا صحيح؛ لقد ضاع هذا الفهم سنواتٍ كثيرة في تدريس الصوت في الغرب.» فضحكن.

أعادني هذا التعليق إلى الفترة الأولى التي قضيتُها في التدريس، وبعض الأعمال التي شاركت فيها مع أطباء الأنف والأذن والحنجرة. في الثمانينيات، عملتُ مع أصواتٍ تالفة إكلينيكيًّا بالمشاركة مع جارفيلد ديفيز وروبرت ساتلوف. كان هذان الجرَّاحان يُدركان أن الاكتفاء بالعمل على الجزء الخاص بإصدار الصوت في الحلق لا يحل المشكلة. ولن يمكنك إنقاذُ صوتٍ تالِف إلا بفهم العملية المادية للتنفُّس من منطقة البطن.

بوضوحٍ وسرعة كبيريْن، أدركت أثناء العمل مع تلك السيدات على مسرحيات شكسبير، التي أحببنها وعرفنها، أنهن لم يمتلكنَ أيًّا من العادات البدنية والصوتية التي لدى النساء الغربيَّات. بل كنَّ في حالة حضورٍ كامل. وفي حالة وعيٍ تامٍّ على مستوى أجسادهن، وكان بإمكانهن إطلاقُ أصواتهن بحُرية وتلقائية. والأهم من ذلك، أنهن يفهمن العلاقةَ الكاملة بين العناصر المشارِكة في إنتاج الصوت، وهو ما لم يفهمه الكثير من الغربيين. فلم أحتَجْ إلى شرح العلاقة المادية الكاملة لإنتاج الصوت. فلا يُوجَد جهاز في أجسادهن يعمل منفصلًا.

لم يحتَجن إلى تدريبٍ على مهارات فنية. ذلك لأنهن لم يفقدنَ يومًا أصواتهن الطبيعية بالطريقة التي فقدَتْها بها المجتمعات الغربية ومِن ثَم اضطُرت بعدها إلى اكتشافها من جديد. إن المجتمعات التي تعيش في عالمٍ يعتمد كليًّا على التكنولوجيا قد فقدَت تواصلها البشري، وفي كثيرٍ من الأحيان، فقدَت قدرتَها على البقاء على قيد الحياة من دون هذه التكنولوجيا، مع أن الشعور الزائف بالأمان قد يحفز الشعورَ بالسيطرة على زمام الأمور. تجوب هؤلاء السيدات مدينةَ سويتو وهن يتنقلن بين المخاطر واحتمالية تعرُّضهن إلى الاغتصاب. فقالت: «نحن مدركاتٌ بأننا نسير وسط المخاطر؛ لهذا علينا أن نظلَّ حَذِرات، ونعلم أنه أمرٌ خطير كونكِ امرأة. لكن مجتمعنا أيضًا هو الذي يُبقينا في حالة حضور وحذر.»

كان عليهن أن يتبنَّين حالةَ الدائرة الثانية وهن سائراتٌ على أرض محفوفة بالمخاطر، ويجتهدن ويتحدثن. كن يحكين القصصَ في مجتمعٍ حريصٍ على الاستماع والمشاهدة والتحدث. أخبرنني بتلك الأمور ونظرن إليَّ شزرًا عندما فكرت فيها. فكانت هؤلاء النساء دائمًا يمِلْن إلى المزاح معي.

قلت: «على مدار التدريس سنواتٍ عديدة، كنت ألاحظ تضاؤل الحضور وقوة الجسم والصوت لدى طلابي.»

لكني لم ألقَ ردَّ فعلٍ.

«كنت كثيرًا ما أعتقد أنَّ المُمثلين في مسرحيات شكسبير …» أثار الكلام اهتمامَ المجموعة. «… لم يكونوا في حاجةٍ إلى هذا التدريب الأساسي. كان بوسع أحد اللندنيين في زمن شكسبير أن يستخدم جسدَه وصوته وحضوره. ويقتحم المخاطر دائمًا، ويسير على أرضٍ وعْرة.»

فضحكن. ظهر صوتٌ من آخِر الغرفة معلنًا: «مثلنا! نحن أقربُ إلى شكسبير منكم!» فازداد الضحك.

ولم يسعني سوى أن أوافقها الرأي.

بدأن يُظهِرن اهتمامًا بفكرة انفصال المرأة الغربية عن قوَّتها الجسدية. «أنتن — أيتها النساء الغربيات — تتمايلنَ في مشيتكنَّ.» وأضافت إحداهن: «لا نسير ونحن نهزُّ أردافنا إلا حينما نرغب في جذب أحد الرجال.» ثم قدَّمت كل واحدة منهن طريقتها في المشي لتجذب أحد الرجال.

تعالت الضحكات.

«نحن نختار أن نتمايل، ولا نفعل ذلك طوال الوقت.»

هنا يكمُن الفَرق الجوهري: الاختيار. لا يمكنكِ العمل أو السير بكفاءة إذا كنتِ تهُزين أردافك طوال الوقت. فلن يُمكنكِ حملُ السلع فوق رأسكِ، لقد حملنا حقائبنا وحاولنا السيرَ بها. فكان من المُستحيل السيرُ والتمايل من دون إهدار طاقة والشعور باختلال التوازن على المستوى الجسدي.

في نهاية الوقت الذي أمضيناه معًا، امتدحتني المتحدثة — التي قادت المجموعة، وقادتني أنا أيضًا — قائلةً:

«أنتِ أول شخصٍ ذي بشرة بيضاء يضحك معنا وليس علينا.» كانت تعرف مسرحيات شكسبير التي وجدت فيها نفسَها. قالت: «كما قال شايلوك، إذا وخزْتَنا، ألن ننزف؟ وإذا دغدغتنا، ألن نضحك؟»

وافقتها قائلةً: «صحيح، لقد دغدغ بعضنا بعضًا.»

طوكيو ١٩٩٢

إذا كان التوجُّه الرائج في الغرب يقضي على المرأة بأن تتظاهر بالقوة وتستخدم صوتًا رخيمًا لتقليد الرجال، فإن المُمثلات اليابانيات يُرقِّقن من أصواتهن. وكذلك تفعل الموظفات.

طُلِب منِّي أن أدرِّس لموظفاتٍ ومُمثلاتٍ من دون حضور الرجال في الغرفة. كن يعتقدنَ بأنهن سيتعرضن للسخرية إذا لم تكن أصواتهن هادئة و«ناعمة» على حدِّ وصفهن.

لكن في البداية، بدأتُ بالتدريس لجميع الرجال في فرقة كابوكي وأُخبِرتُ — رغم أني لا أعرف إن كان ذلك حقيقيًّا — أني كنت أول امرأة تدرِّس لهم.

انحنوا إليَّ وانحنيتُ إليهم بالمِثل. شعرتُ بنفورهم، الذي أخفَوه ببراعة، من أن ثمة امرأةً تدرِّس لهم. وكانت اللحظات الأولى التي وقفتُ فيها أمام أولئك الرجال الأقوياء المُبهرين، مرعبةً. كان طلبهم بسيطًا ومُلحًّا. يستخدم المُمثلون مدًى صوتيًّا ممتدًّا حتى بات الكثيرون منهم يفقدون أصواتهم ويُتلفونها. ولم يعرفوا كيف يعالجون هذا الضررَ المادي. شعر كثيرون باليأس؛ إذ إنه بدا مريعًا التفكيرُ في فقدانهم السيطرةَ على أصواتهم حينما يقِفون أمام الجمهور.

تبيَّن لي على الفور سببُ الضرر الذي لحِق بأصواتهم. كانت صدورهم مُختنقة، وأنفاسهم ليست مُتواصلة، لا سيما عند غنائهم نغماتٍ أكثرَ انخفاضًا. فتيبُّس أجسادهم وقلةُ النفَس أدَّيا إلى تقييد الحنجرة داخل أعناقهم والتسبُّب في حدوث ضغوطات. عملتُ على تحرير الجزء العلوي من الصدر والفكَّين، وعلى التنفُّس العميق الذي يدعم صوتهم، ثم أخذ الوضع يتحسَّن. شعروا بالفَرق وبدءوا يثقون في المهارات الفنية التي كنتُ أدرِّسها. قضينا وقتًا مثمرًا. بدءوا يفتحون حلوقهم ولم يُعانوا بعدَها من أي ألمٍ أو مشقَّة.

كان من المُفارقات الغريبة أن يُطلَب من النساء التحدُّث بصوتٍ عالٍ للغاية ومن الرجال التحدُّث بصوتٍ منخفض للغاية من دون أخذِ نفَسٍ كامل.

عندما علَّمتُ السيدات، حررتُ أصواتهن لتعود إلى نبرة الصوت المنخفضة الطبيعية وذلك باتباع الروتين نفسِه الذي اتبعتُه مع الرجال. تمثَّل هذا الروتين في فتح الحلق والتنفُّس بعُمق وخفض الحنجرة وحينئذٍ سيظهر صوتهن الطبيعي.

جاءتني فكرة هي الأكثر إثارةً للدهشة على الإطلاق بعد مرور أيامٍ.

كانت شركة الإنتاج تأخذني كل ليلةٍ لأشارك المُمثلين والمُصممين ومُحبي المسرح طعامهم الفاخر.

جميع الأدوار في المسرح الكابوكي كان يؤدِّيها الرجال، وكانوا غالبًا ينتمون إلى العائلة نفسها. يُمكنك أن تشاهد رجلًا ذا ٣٠ سنة يلعب دورَ حبيبٍ في سنِّ الثمانية عشر، ويؤدي هذا الدور أمام أبيه ذي الثمانين سنة الذي يلعب دور فتاةٍ في عمر السادسة عشرة. كان الرجال الذين يؤدون أدورًا نسائية يستخدمون صوتًا رفيعًا منغَّمًا: على سبيل السخرية من فتاةٍ ساذجة!

في لحظةٍ عفوية على العَشاء، تفكَّرت فيما إذا كان الرجال يتبنَّون صوتَ النساء الذي يرغبون سماعه. وليس صوت المرأة الحقيقي. كانت هذه الفكرة تحدِّيًا قويًّا بالنسبة إليهم، ولهذا اعتذرت. بعد ذلك، في الساعة الخامسة صباحًا، رنَّ الهاتف في غرفتي بالفندق. كان رجلًا لم أكد أنتبِه إليه على العشاء. اتضح أنه مُؤرِّخ مسرحي. وشرح لي أنَّ تعليقي قد أزعجه وأنه قد قضى ساعاتٍ في قراءة روايات الجماهير التي حضرت مسرح الكابوكي في القرنين السابع عشر والثامن عشر. فاعتذر إليَّ. كانت الباغِيات، اللاتي يعملنَ لدى الطبقة العالية، يزُرنَ المسرح ليتعلمن كيف يتحدَّثن كما يريد الرجال، أن تكون أصواتهن رفيعة ومنغَّمة دون استخدام نبرة صوتٍ كاملة، ذلك هو «صوت الفتاة». كان الافتراض أن هكذا أراد الرجال أن يكون صوت النساء.

كانت تلك هي الرؤية التي قدمتُها إلى السيدات التي عملتُ معهن، وبعد الصدمة ضحكنا جميعًا. بدا الأمر واضحًا للغاية! لقد كوفئنَ على نعومة أصواتهن وعوقبنَ على قوَّتهن الصوتية الكاملة.

لقد ارتكبتُ خطأ مثيرًا للسخرية عندما أغفلتُ العمل مع النساء الغربيات في مجموعات خالية من الرجال. كان لديَّ شعور مُبهَم بأن هؤلاء النساء كن يُدركنَ أن الرجال من حولهن يسخرون بشكلٍ سافر من أي مفهوم للمساواة. لكنني لم أكن منطقيةً تمامًا في تقديري لمدى تأثير وجود الرجل في النساء اللاتي يعتقدنَ أنهنَّ يتمتعنَ بحقوقهن. بدأتُ أُدرك في المجموعات التي أدرِّبها أن كثيرًا من الرجال أصبحوا ماهِرين في ارتداء قناعِ رجلٍ مُتحرر يتمتع بأخلاقٍ رفيعة وبالوعي.

ولم يكن سلوكًا ثابتًا أن السيدات الشابَّات لم يُبدين اهتمامًا. بدأت ألاحظ أن الطالبات من الطبقة العاملة وذوي البشرة السمراء والآسيويين والأقليات العرقية كنَّ أكثر طموحًا لتغيير أصواتهن ويبذلنَ جهدًا لتغيير الطريقة التي يتواصلنَ بها. كان هذا قبل الفضائح المروِّعة للعَقد الأول من القرن الحادي والعشرين. فأظهرت كيف أن المسرح وهيئة «بي بي سي» والمنظَّمات الخيرية والكنيسة والمؤسَّسات القانونية والرعاية الصحية تضم بين جدرانها زمرةً من أسوأ المُستغلين للقوة الجنسية الذكورية ضد النساء والأطفال.

عَمِلتُ في شركاتٍ نجحت في إخفاء كراهيتها للنساء عقودًا دون أن تتلقَّى عقابًا رادعًا. وهنا بدأتْ تتكشَّف لي مفارقةٌ غريبة. كنتُ أعلمُ منذ نعومة أظفاري أن كل امرأة تفهم طبيعةَ القوة الذكورية. ولقد عشنا على مدارِ آلاف السنين نفهم من خلال التجربة، مدى قدرتها المُدمِّرة، ولهذا ابتدعنا أساليبَ تنكُّر مُعقَّدة للغاية حتى نصمد أمامها.

أدركت فجأةً أن الرجال المُثقفين كانوا قد راقبوا أساليبَ التخفِّي النسائية سنواتٍ كثيرةً وعرفوا حينها كيفيةَ تطويعها لإغواء النساء. وثبتَت فعاليةُ تلك الأساليب في الأماكن التي كان يُعلَن بأنها آمنة للنساء.

كان غضب الرجال من مساواتنا يزداد خلف قِناع الرجل النبيل، مما يُشعِر النساء بالأمان، لأن قوَّتهن تقوَّض بهدوء وحذرٍ وليس بعنف. ظلت النساء في مثل سني وأكبر يُصدَمن من قلة الخبرة التي تُظهرها بعض الممثلات الشابات. أبدت إحدى سيدات المسرح العظيمات صدمتَها من صعوبة سماع صوت ممثلة شابة كانت تؤدي الدورَ أمامها. فجاءت إليَّ بعد أن حاولتُ مساعدة المُمثلة الشابة. ثم قلَّدتها على سبيل السخرية: «لن آخُذ ملاحظاتٍ منكِ».

ذهبتُ إلى المخرج وطلبت منه مدرسًا خاصًّا في الصوت ليعمل مع البطلة الشابة في الفيلم. ابتسم المخرج ابتسامةً ساخرة. «لكنها تبدو فائقةَ الجمال، دعِيها وشأنها، أنا أحبُّ ما تفعله.»

أصررتُ، فقلت: «لكن صوتها غير مسموع! وبقية المُمثلين على خشبة المسرح لا يسمعون إشاراتها.»

«لكن الجمهور لا يريد إلا رؤيتها.» ثم هزَّ كتفيْه وانصرف. وبهذا، فكرت أن ليس عليها أن تمتلك صوتًا أو قوةً، يكفي أنها «فائقة الجمال».

سُمِح لي في النهاية أن أجعل صوتها مسموعًا عندما انتشرت في المسرح شكاوى من صعوبة سماعها. وصارت كراهية النساء الخفيَّة تُمثل خطرًا في تلك «الأماكن الآمنة» وانكشفت بعد مرور ١٨ عامًا عندما انكشفت موجةُ الغضب العارمة من قوة النساء.

في تلك الأثناء، كنت قد بدأت العمل في أماكن «متحضرة» لكنها غير متحضرة بالنسبة للنساء، وأدركَ هؤلاء النساء، خارج مجال الفنون، أنه لا يوجد مكانٍ آمن في هذا العالم.

شارع وول ستريت. أحد البنوك

١٤ مصرفيًّا استثماريًّا داخل الغرفة. ١٣ منهم من الرجال. وسيدة واحدة.

تجد مُتنمرًا في الغالب مُمددًا في مقعده وابتسامة ساخرة على وجهه. لكني كنتُ أحاول أن أُحجِّمه.

في حين ينهض الموظفون إلى العمل، يُبدي اهتمامًا لكنه لا يُعطي تعليقًا أو يبدي إعجابًا.

لكن تقف المرأة. تقف أمام المجموعة وتأخذ نَفَسًا لتبدأ.

في تلك اللحظة، يعلو صوته. «ابتسمي يا عزيزتي، تبدين أجملَ وأنتِ تبتسِمين.»

تسري حالةٌ من الصدمة في الغرفة. يضحك بعض الرجال. فتشعر السيدة على الفور بالغضب لكنها تمتلك من الشجاعة ما يجعلها تمتنع عن التصرُّف مثلما كان يتمنَّى منها أن تتصرف. أن تضحك على نفسها، أو تبتسِم، أو حتى تُغازله.

نظرتُ إليه وسألته: «لماذا لم تطلُب من باقي الزملاء أن يبتسموا قبل بدء عملهم؟»

فأجاب: «تبًّا لكِ، هل أنتِ واحدة من النسويات الحقيرات؟»

تجاهلتُ ما قاله ثم كرَّرتُ سؤالي له. انضمَّت تلك السيدة، وهي في حالة صدمة، إلى صفِّي مدافعةً عن نفسها ومكررةً السؤال.

في تلك اللحظة، اتفق بعض الرجال على أنه كان رجلًا «منحطًّا».

تحدَّثت السيدة بعدها بقوةٍ ووضوح، وخلاصة ما قالته أنه مُتنمِّر مُتحيِّز لبني جنسه، وأنه لم يقف أحدٌ أمامه من قبلُ ولم يواجهه أحدٌ في البنك بهجومه على النساء.

في الجلسات التي أجريتُها معها بعد ذلك الموقف، أثبتت أنها بحِرفية بسيطة نجحت في الحفاظ على قوَّتها وكرامتها. والشيء الآخر الذي تبيَّن بوضوح أن أغلب الرجال في المجموعة كانوا يعرفون أنه حقير وأنهم عبَّروا عن ذلك الأمر الواضح بمجرد ذكره.

لم يكن هذا الموقف فريدًا من نوعه في مسيرتي في مجال التدريس.

في العَقد الأول من القرن الحادي والعشرين، لجأتْ إلى مساعَدتي مجموعةٌ كبيرة من النساء اللاتي لم تكن لديهنَّ خلفية مسرحية. كنَّ متأكداتٍ من أنهن لا يشعرن بالأمان، وأن الرجال قد استخدموا أقنعةً لإخفاء ازدرائهم لقوَّتنا الجديدة.

بدأتُ في تقديمِ دوراتٍ للنساء فقط. وبذلك يتَّسع لي المجال لأُحرز تقدمًا مع أصواتهن بسرعةٍ أكبر من دون أي حُكمٍ من الرجال في الغرفة، وكذلك من دون ملاحظاتهم، ومن دون أي منافسةٍ من نساء أخريات لتتفوَّق على قريناتهن في نيل استحسان الرجال.

كان بوسعهنَّ التعبيرُ عن أفكارٍ عميقة دون أن يتعرضنَ إلى السخرية أو يُضطرَرْن إلى الضحك على أنفسهن والتقليل من قدْرهن. كان بإمكانهن أخذُ الوقت الكافي في الحديث من دون الشعور بأنهن سيتعرضنَ إلى المقاطعة. بإمكانهن أن يروِينَ قصصًا عن إخفاقاتهن وخجلهن من الفشل دون أن ترى أي ابتسامة ساخرة من رجلٍ في الغرفة.

كان بوسعهنَّ أن يشعرن بالقوة في ضعفهن وهي أعلى مظاهر الثقة التي يُظهرها أي قائد. كان بوسعهن أن يجمعنَ بين رُقي عقولهن والتعاطف والرأفة. أو يُدرِّبن عقولهن على التركيز وبناء الأفكار مع الحفاظ على إنسانيتهن.

كنت أنا مَن أعددتُ ورشَ العمل تلك من أجل النساء. لم أقدِّمها في إطارٍ مؤسسي. قوبلت الفكرة بالسخرية من أي قسمٍ للموارد البشرية ناقشتها معه.

كانت الحُجة الداحضة لتلك الفكرة بسيطة. يتعيَّن على النساء أن يعملنَ مع الرجال، ومِن ثَم يجب أن يُسمح لهنَّ إما بالنجاح أو الفشل. لكني علَّقت بأنه بات من الصعب على المرأة أن تشعر بالقوة الأساسية لحضورها وصوتها. بل بات أكثرَ صعوبةً أن تتحرَّر وبات أصعب لهن أن يشعرن بالثقة. إن شارع وول ستريت صار أكثرَ وحشيةً على النساء. لم تكن الحادثة التي شغلت عقلها حادثةً نادرة، لكنها أصابت قلبي.

إن الظرف المِثالي لكي يكون المُمثل في المسرح آمنًا ومبدعًا، هو ما نطلق عليه الفِرقة المتناغمة. يتفق المُمثلون على أن الفِرقة المتناغمة تخدم المسرحيةَ وليس الأفراد. إنها المساحة الآمنة التي ينعم الجميع فيها بالمساواة وتُقدِّم فرصةً لتقديمِ عملٍ عميق له مغزًى. هذه هي الحالة المثالية، لكن إذا أُخضِعت للتجربة، فلن تُنسى أبدًا وستمنح المُمثلَ المرونة حتى يظلَّ حاضرًا ومتحررًا. بدأ المبدأ نفسه يُصبح حقيقة مع هؤلاء السيدات، ازدادت شجاعتهنَّ في المساحة الآمنة وأفَدْن بأن تلك الشجاعة انتقلت معهن إلى الأماكن غير الآمنة التي يُسيطر عليها الرجال.

لاقى هذا التدريب صداه لدى النساء خارج مجال الفن، ممَّن عملنَ في أماكنَ يسيطر عليها رجالٌ لا يتنكَّرون خلف قِناع الرجل النبيل. كن قائداتٍ في مجالات عسكرية وهندسية وقانونية وشُرطية ومجال متعلق بشحن البضائع.

دعتني هؤلاء السيدات أيضًا إلى ميدان الرجال لديهم لأُدرِّب الرجال الذين لم يطرأ عليهم تغيير وأخوض التجربة معهم.

كان التحدي الرئيسي الذي وقف أمامي هو إن كانوا قد قرءوا عن أعمالي المسرحية والسينمائية أم لا. فكانوا قد تدربوا على يدِ مُمثلين غير ممارسين للمهنة، وأحد الأوصاف التي علِقت بذهني كان «واقع خبرتهن لا يرقى إلى صيتهنَّ المزعوم.» أدلى بهذا الوصف المصرفيُّ الأحمق من نيويورك الذي اعتذر على مضضٍ في نهاية التدريب. فقال: «لقد تعلمت أمورًا مفيدة.»

«والصيت.»

«أجل، فالخبرة ترقى إلى الصيت، وليس ذلك الصيت المزعوم.»

في أي وقتٍ أعمل فيه مع هؤلاء النساء المُحاصَرات اللاتي يدركنَ أنهن غير متكافئات وغير آمنات، أتذكَّر ما أخبرنني به كبيرات السن من قبيلة الهوبي: «نمضي قُدمًا عندما تسير الحياة بسهولة، وبهذا لا ننسى أبدًا كيف لنا أن نبقى على قيد الحياة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤