الفصل التاسع عشر

٢٠٠٦: مواصلة المسير، ثورة الازدهار وليس النجاة فحسب

قطعتُ رحلةَ تدريبٍ دامت ٣٠ عامًا، وكنت قد ابتعدت عن العمل الذي قيَّدني. فكان ثمرة ما فعلت أن صار لديَّ مُتسع من الوقت لأتأمَّل وضعي في العمل.

سرعان ما أدركت حقيقةً قاسية: لا تزال النساء تناضل من أجل أن يُسمع صوتهن.

في المدارس، في المسرح، في العمل. ازداد تكميمُ صوت المرأة وكبْتُه، وفُرِضت عراقيلُ أمام حضورها أكثر مما كانت في السبعينيات.

اشتدَّت ردود الفعل الغاضبة من الرجال.

أفادت نساء كثيراتٌ بأن الرجال الذين عملنَ معهم، أو كنَّ في علاقةٍ معهم، أو الذين كانوا داعمين لهنَّ في بداية تطوُّرهن، قد انقلبوا عليهن. بدا الأمر وكأن آلهة الانتقام الرجال يحتشدون. لكنهم لا يتحلَّون بروح إلهات الانتقام القديمات الباحثات عن العدالة، إنما يحملون روح النِّكاية لإنكار مساواة المرأة بالرجل والزج بها مرةً أخرى داخل مَحْبَسها. وكذلك الغضب الذي يحمله بعض الرجال من فكرة «كيف تَجْرُئين وتظنِّين أنك مكافئة لنا، فضلًا عن التفكير في أنَّ بإمكانكِ تولِّي القيادة؟»

هل كان الأمر أن هؤلاء الرجال ظنوا أن مساواة المرأة بالرجل كانت تجربةً من فترة السبعينيات وستنقضي الآن وأن مصيرها حتمًا هو الفشل؟

بدأت النساء تشعر بالرد الذكوري المُعتاد عندما يُهدَّد أي جزءٍ من سُلطة الرجل. لُجئ إلى العنف المعتاد المستخدَم لمنع أصواتهن وقصصهن. مُورس العنف بما تحمِله الكلمة من معنًى، أو هُدِّدْن به ببساطة. ضُربن إلى أن تنازلن. وفي بعض الحالات، تسبَّب هذا العنف في كسر شوكة النساء وقتلهن. لكن على مرِّ التاريخ، عرف بعضهن كيف لهنَّ أن يُخفين شخصياتهن من أجل إخفاء قوَّتهن والحفاظ عليها.

الآن في القرن الحادي والعشرين، لم يتراجعن، ولهذا تزايدت وتيرة العنف.

شهِدت فترتا الثمانينيات والتسعينيات تقليصًا في النفقات على التعليم مما أدَّى إلى تفاقُم المشكلة. باتت بعض الإصلاحات السريعة مقبولةً بدلًا من التوجُّه إلى التعليم العميق. أما المهارات الفنية فعادت من جديدٍ يُسخَر منها (ولا تزال هكذا في بعض المؤسسات)، ازدادت أصوات النساء تدهورًا؛ إذ إن مزيدًا من تلك الإصلاحات السريعة كانت سرعان ما يُدفَع بها لإخفاء خلافاتنا وأقنعتنا التاريخية، فتخلق مزيدًا من العوائق التي تحُول دون قُدرتنا على التواصل.

أدركتُ أن عليَّ أن أعيد النساء مرةً أخرى إلى حضورهن وصوتهن الطبيعيَّين الكاملَين، على نحوٍ ضروري، دون أن أتعهَّد بإمكانية تحقيق ذلك من دون نضالٍ وجهد. وكما قالت لي مديرةٌ تنفيذية: «إن الطُّرق المُختصرة لم تُجدِ نفعًا.»

ولا كذلك الحِيل التي كان، ولا يزال، يُدرِّسُها الكثير من المُدربين. الحيلة الأكثر انتشارًا التي سمِعتها «ألقي نكتة، أضحكيهم.» وهو ما لم يُجدِ نفعًا مع النساء.

أخبرتني امرأةٌ بارعة وذكية بهذه القصة: «في أواخر الثمانينيات، كنتُ صغيرة جدًّا، لا أزال في العشرينيات من عمري، وكنت في غاية السعادة بحصولي على وظيفةٍ ذات نفوذٍ قوي كنت أطمح إليها دائمًا. حاولت كسْر الجمود مع زملائي الجدد، الذين كانوا جميعهم تقريبًا من الرجال، من خلال فِعل ما بدا بالنسبة لي طبيعيًّا وتلقائيًّا، فحاولت إضحاكهم. لكن ظل الجو يسوده غيابُ الودِّ بدرجةٍ ملحوظة. بعد بضعة أيام من ذلك، أخذني أحد الرجال الأقل عدوانيةً جانبًا وشرح لي: «انظري، لا يريد الرجال منكِ أن تكوني مُضحِكَة. إنهم لا يريدون منكِ إضحاكهم. يريد الرجال أن يكونوا هم المُضحِكين، أي يريدون أن يكونوا هم مَن يُضحِكون بعضهم بعضًا، أو يُضحِكون النساء. أخبركِ بهذا لأُساعدك.» هذا فسَّر لي سببَ دهشتي من أن أسمع نِكاتي التي قوبِلَت بصمتٍ تام عندما ألقيتُها، تُثير ضحكاتٍ مدويةً عندما يُلقيها أحد الرجال هي نفسها، حرفيًّا، بعد دقائق. كان وقْع السرقة مُخزيًا بالنسبة لي، لكني الآن فهمت.»

كان عليَّ أن أُمضيَ وقتًا وأُشجِّع النساء اللاتي عملتُ معهن أن يُمضينَ ما يكفيهنَّ من الوقت ويعُدْنَ لاستعادة حضورهن وأصواتهن. أن يُخصِّصن وقتًا لاستعادة الرابط بينهن وبين قصصهن.

ولم أُدرك إلا في تلك اللحظة تحديدًا أنها ممارسة ثورية أن تُمضي المرأة وقتًا لتعمل على تحسين نفسها ومع نفسها.

  • (١)

    إنها ممارسة ثورية للمرأة أن تُطالب بوقتٍ ومساحة من أجلها.

  • (٢)

    إنها ممارسة ثورية للمرأة أن تُمضي وقتًا لتتنفَّس وتنظر إلى الجمهور قبل البدء.

  • (٣)

    إنها ممارسة ثورية أن تتمهَّل ولا تتعجَّل.

تُضطر المرأة أن تجاهد من أجل تخصيص المساحة والوقت لنفسها، لكن في كثيرٍ من المؤسَّسات التي عملتُ فيها، ثمة حقيقة رائجة بأن النساء ماهرات في إنجاز عدة مهام في آنٍ واحد. هذا مهَّد الطريق أمام الرجال «ليُقرُّوا» بعجزهم عن إنجاز عدة مهام في آنٍ واحد، ومن ثَم كان عليهم أن ينقلوا مهامَّهم «الزائدة» إلى أقرانهم من النساء. غالبًا ما يحدث ذلك وثمة ابتسامة على وجوههم: «أنتِ تتفوقِّين عليَّ في فعل ذلك.» لكننا نُدرك الآن أنكِ حينما تُنفِّذين عدة مهام في وقتٍ واحد، فإنك قد تنفِّذين مهامَّ كثيرة دون أن تُتقني أيًّا منها. وبذلك كان تفوُّق المرأة معرَّضًا للخطر. وفُرضت عراقيل في طريق نجاحهن.

أخبرتني إحدى النساء اللاتي نفَّذنَ معي هذا التدريب واكتشفن ذواتهن مرةً أخرى: «أشعر أني عُدت إلى نطاق أماني، إلى مكانٍ أتذكَّره من طفولتي، إنَّ ما أشعر به لهو حضوري الحقيقي.» لقد هجرتْ حالة التوتر التي فرضَتْها عليها الدائرة الثالثة وأعادت اتصالها بقوَّتها الحقيقية. أدركت: «ليس فشلًا أن تأخُذي وقتًا كافيًا، أو تكتشفي ما لا تستطيعين القيام به. وليس عليكِ حينها سوى التدرُّب عليه. فالتدريب يؤتي ثماره.»

إن الاستراتيجيات الثلاث التي تلجأ إليها النساء لإظهار قوَّتهن تأتي على حساب حضورهن وصوتهن الطبيعِيَّيْن، وتزيد من كبت أصواتهن. وتلك الاستراتيجيات هي:

  • (١)

    تقليد أسوأ عادات الرجال وذلك بانتقالهن إلى الدائرة الثالثة. وهي التظاهر بالقوة. فخفَّضن أصواتهن وأجهدنها كثيرًا. قاطعنَ الحديثَ واستخدمن نبرةَ صوتٍ عدوانية. حقَّقت هذه الاستراتيجية نجاحًا بدرجةٍ ما، لكنها لم تؤدِّ قط إلى الوصول لمستوًى ذي قيمة من القوة. في بداية مسيرتهن المهنية، عندما كنَّ أصغر عمرًا، كان الرجال يتسامحون معهنَّ بل ويُغازلوهن، لم يكن هذا ليُعزِّز مكانتهن: فلم يحظينَ بعدها بالثقة أو يُساعَدْن للوصول إلى السلطة.

  • (٢)

    اختارت نساء أُخرَيات أن ينسحبنَ وينتقلن إلى الدائرة الأولى. فواصلن عملهن، واكتسبن معرفةً عميقة هائلة، وانتظرنَ بكرامةٍ وهدوء أن يلاحَظْنَ. في بعض الأحيان يَنَلْنَ ذلك بالفعل. كافأهن القادة الموقَّرون بترقيةٍ لما لديهن من المعرفة، لكن رغم ذلك لا يُسمَع لهن صوتٌ. ثم يُرسَلن فيما بعدُ إليَّ؛ لأُساعدهن على اكتشاف صوتهن.

  • (٣)

    أما الاستراتيجية الثالثة فهي «الظهور بمظهرٍ جذاب» والسعي وراء الصورة المثالية المُستحيلة لامرأةٍ خيالية ليس لها وجود. فترتدي ملابسَ ضيقة كاشفة، وكعبًا عاليًا للغاية، وتضع طبقاتٍ من مستحضرات التجميل. إن حاشية النساء المُحيطة بالرئيس ترامب أظهرت مثالًا صارخًا على هذه الاستراتيجية. صارت هؤلاء النساء في ظاهرهن جذَّابات، وبقينَ حبيساتٍ ومُقيداتٍ في قالبهن، لدرجةِ أن صوت هؤلاء النساء الناضجات بدا مثل صوت فتاة ذات ثمانية أعوام. وظل هذا «الصوت الطفولي» الذي لا يُوحي بالخطر والمُستخدَم مع الرجال الذين لا يُظهِرون احترامًا للنساء، يعني إمكانية سماع أفكارهن. إن أغلب النساء اللاتي يتعاملنَ مع هذا النوع من الرجال قد استخدمنَ هذه الاستراتيجية للنجاة.

يجب ألا يُلقى باللوم على النساء أو يلُمْنَ أنفسهن، إذا استخدمن تلك الأقنعةَ للدفاع عن أنفسهن. ويمكنكِ الحفاظُ على قوَّتكِ وفقًا لشروطك، إذا فعلتِ ذلك باختيارك.

عرفتُ حينها وازداد يقيني بذلك الآن أن حضوركِ وصوتكِ الحقيقيَّين هما وحدَهما مَن سيمنحانكِ القوة، وحينها سيُعتَرف بمساواتكِ وبقيادتك. كان عليَّ أن أتخذ قرارًا منذ ٢٠ عامًا بألا أُخفِّف الحقيقة على النساء. لكني كنتُ أظن أني حينما أفعل ذلك، سأكون داعمةً لهن. لكن لم أفعل الشيء نفسَه مع الرجال الذين كانوا في حالةٍ مُماثلة. فالحقيقة أكثر قسوةً على النساء: لأنهن لم يأتينَ من مكانٍ مكافئ، فنقطة بدايتهنَّ أبعدُ كثيرًا.

لكن الأكثر قسوةً هو أن عليكِ تحمُّل بعض المسئولية إذا لم يُسمَع صوتك أو يؤخَذ حديثك على مَحمل الجِد. والحقيقة التي عليَّ قولها في هذا الصدد، هو أنكِ تواجهين مُستمعين غير متعاطفين: فبعض الرجال لا يريدون سماعك. ستظهر بعض التضحيات التي لا يريد الكثير من الرجال تقبُّلها عندما تُعبِّرين عن رأيك بصوتٍ عالٍ وبكامل قوَّتك. ستُعاقَبين بطريقةٍ ما لن يُعاقَب بها الرجال.

كانت المديرة التنفيذية لإحدى الشركات الهندسية قد اكتشفت هذه الحقيقة وأخبرتني بها: «عبِّري عن رأيكِ بصوتٍ عالٍ. فلن يُعبِّر أحدٌ عن رأيك نيابةً عنك. ولن يدافع عنك أحدٌ حتى تدافعي أنتِ عن نفسكِ. بينما يدافع الرجال بعضهم عن بعض قبل أن يُطلَب منهم، لكن الأمر مختلف مع النساء.»

حينما بدأتُ أخبر النساءَ بالحقيقة، لمستُ شعورهن بالراحة وليس بالغضب. لقد نسيتُ أن أنقل المعرفة التي ترسَّخت في كياني طوال سنوات عملي في المسرح. يعرف مُمثلو المسرح الذين يتمتعون بحضورٍ كامل أنه حينما لا يُسمَع صوتهم، فإنهم يُصبحون مملِّين أو أن الجمهور يفقد تعاطفه معهم. ويعرفون متي يُصبح صوتهم مُنفِّرًا للجمهور.

حينما قلت الحقيقة إلى هؤلاء النساء اللاتي عملنَ في مؤسساتٍ وشركات وحشية يسيطر عليها الرجال — نساء عاملات في القطاع المصرفي والهندسي والعسكري والشرطي — عبَّرن لي عن غضبهن وكأنها المرة الأولى لهن.

أخذن يتحدَّثن عن الوضاعة وسوء المُعاملة الواضحة التي تصدُر من الرجال من حولهن. روَين حكاياتٍ عن الاختيارات التي باتت أمامهن. فإما أن يُشاركن الرجال وضاعتهم، وحينما يفعلن ذلك فسيضعف إحساسهن وذلك بانتقالهن إلى الدائرة الثالثة، وستتمثَّل التضحيات في إضعاف قابليتهنَّ على التأثر وكذلك بداهتهن وحكمتهن. لكن حينما طبَّقن تدريبًا بسيطًا معي، سرعان ما ظهر التغيير. تحدَّثنا عن عواقب أن تكون المرأة مندفعةً بجموحٍ وشديدة العزم على تحقيق أهدافها، فكنَّ مُدركاتٍ أن هذا قد أضرَّ بهن.

في تلك الجلسات التدريبية، سمحنا لأنفسنا أن نسير بعشوائية وعفوية، فمنعتُ نفسي من إعطائهن تسلسُلات وقوائم صارمة. وسمحت لهن باستكشاف حضورهن وأصواتهن. كانت عيونهن تذرف دموعًا من شعورهن بالارتياح لعودتهن إلى حضورهن واتصالهن بأجسادهن. لم تكن الدموع دموعَ غضبٍ أو ألمٍ عندما جئن إليَّ في البداية. هؤلاء النساء المُحاربات كن مُتعطشاتٍ إلى المعرفة والإحساس بالتوازن.

تحدَّثنا عن التوازن بأنه مزيجٌ بين القوة والضعف. إنه قوة الأخذ والعطاء. إنه حالة الاستعداد التي يتمتَّع بها الجسد والعقل والقلب. هو أن تُصيب تارةً وتُخطئ تارةً أخرى. هو اللحظة التي تكون فيها متزنًا لكن نشيطًا. أن تقف على مركز أرجوحة الاتزان. وفي كل الأحوال مُستعدٌّ لأن تسير في أي اتجاه.

لكن يصبح تحقيق ذلك صعبًا إذا كان هناك رجالٌ يتربصون لأي خطأ منكِ. أخبرتني الرئيسة التنفيذية للبنك الدولي: «سيعثر الرجال دائمًا على أي خطأ تقع فيه إحدى القائدات ويجعلونه مثارَ حديثهم، لكن قلَّما يتحدثون عن الأخطاء التي يقع فيها القادة الرجال.»

كنَّ مُدركاتٍ بأن قوة الدائرة الثالثة تُفقدكِ الإحساس بالعالم من حولكِ لكنها تُمكِّنكِ من تجاوز السخرية وتحقيق نتائج سريعة. وأدركت بعض النساء أنَّ هذه الحالة من التظاهُر بالقوة قد أبعدتهنَّ عن عائلاتهن.

كان على هؤلاء النساء أن يرتدينَ زيًّا رسميًّا موحدًا. صحيح أنه باهظ الثمن. لكن ينبغي لهن ارتداء ملابس أنيقة ومُقيِّدة في العادة. فتكون في الغالب ضيقةً ومُزيَّنة بحُليٍّ ثقيلة. إن ملابس العمل النسائية تُشكل عبئًا آخرَ على أصواتهن. كان عليَّ أن أُساعد الرجال في أن يتحدثوا وهم يرتدون ياقاتٍ رسمية، ووشاحَ خَصرٍ عريضًا وسلاسلَ خاصة بالعمل، لكن ذلك لا يُذكَر مقارنةً بما هو مُتوقعٌ من النساء أن ترتديه.

ساعدتُ النساء أن يُدخِلن بعضَ التعديلات على ملابسهن، مما أتاح لهن أن يتنفسن ويُمْدِدن أصواتهن بقوةٍ أكبر.

رغم أنهن كنَّ مُنفتحات على ما قدمتُ من اقتراحات، إلا أن موقفهن الأخير كان متوقفًا في كثيرٍ من الأحيان على أحذيتهن. لقد صارت الأحذية ذات الكعب العالي مصدرَ قوةٍ للعديد من النساء. إنه حلٌّ سريعٌ يُشعرهن بالسلطة. فالكعب يمنحهن طولًا ويُبرز سيقانهن على نحوٍ لافت.

كانت معظم النساء واعياتٍ بأن الكعب العالي يجعل خطواتهن متعثرةً ومُتمايلة خلال تقديمِ عرضٍ رسمي، وكذلك يمنعهن من الحفاظ على توازنهنَّ على الأرض. ومن ثَم، فإن هذا يعني أن عليهن رفعَ صدورهن، مما سيُعيق تنفسهن، وسترتفع حدة أصواتهن. لقد تعلَّمنَ أن يُصدقن بأن تأثير الكعب العالي أكثرُ أهميةً من أصواتهن.

شرحت لهنَّ أنه حينما تكون القدمان غير مُستقرتَين على الأرض، ينقطع التنفُّس، وكذلك تنغلق الحنجرة، مما يُقلل من المدى الصوتي ويدفع الصوت إلى الارتفاع فيُصبح ثاقبًا ولا ينخفض مرةً أخرى. وتُصبح الركبتان متصلبتَين وعضلات البطن متقلِّصة إلى الداخل، والكتفان مشدودتَين أو مسحوبتَين إلى الخلف، وعظمة القص مضغوطة أو مشدودة لأعلى أكثر مما ينبغي.

ثم أخبرتهن بهذه القصة.

في السبعينيات، أخذني زوجي جون إلى حانة رويال فوكسهول، وكانت واحدةً من أشهر حانات المِثليِّين وأقْدمِها في لندن. ووعدني بأني سأرى مهاراتٍ بدنية وصوتية استثنائية. ولم يكن مخطئًا فيما قاله.

كان في الحانة بارٌ له سطح لامع يمتدُّ من أول الحانة لآخرها. كان سطح البار ضيقًا وبه انحناءات بسيطة. لكنه كان لامعًا. في وقتٍ لاحق من المساء، أُخلِيَ سطح البار وبدأ عرضٌ بملابس نسائية. ارتدى هؤلاء الفنانين أحذيةً لها كعب هو الأعلى من نوعِه وقاموا بالرقص والغناء على البار. فكان عرضًا مبهرًا.

كان جون على معرفة بالفنانين، وفي نهاية العرض انضمَّ بعضهم إلينا. وحينما اكتشفوا أني مُدرِّسة للصوت، طلبوا مُساعدتي. فسألوا: «لماذا يُصبح الغناء بكعبٍ عالٍ أكثرَ صعوبةً بكثير؟» لم أعرف إن كان بوسعي مساعدتهم أم لا، لكن على مدار مجموعة من الجلسات ساعدَ بعضنا بعضًا. حينما يخلعون أحذيتهم، يهدأ التنفُّس، ويخرج الصوت. ثم يرتدون أحذيتهم مرةً أخرى ويحاولون فِعل الشيء نفسه. فيتدرَّبون من دون حذاء: حينها يشعرون باتِّصالهم بالأرض. ثم يتدربون بالحذاء: فيحاولون الحفاظَ على اتصالهم بالأرض قدْر الإمكان. كان هؤلاء الفنانون على قدْرٍ كبير من المثابرة في تصميمهم على ألا يكتفوا بتحسين أصواتهم فحسب، بل ليشعروا بأنهم أكثرُ أمانًا أثناء رقصهم عندما لا يُمكنهم التحكُّم في تنفُّسهم وهو مُضطرب. عملوا باجتهادٍ حتى إننا لم نكن بحاجةٍ إلى جلسات تدريبية كثيرة.

طبقتُ التدريب نفسَه مع الجميلة والرائعة جيرالدين ماكيوان عندما كنتُ أعمل في المسرح الوطني. أحد المشاهد التي كانت مطلوبةً منها هو أن تصرخ بكامل قوَّتها الصوتية. وهي ترتدي كعبًا عاليًا وتقِف على ميلٍ شديد الانحدار، كان منحدرًا على خشبة المسرح، وعلى أرضية لامعة بشدة. كانت مهارتها الفنية مبهرةً لكن المهمة كانت في غاية الصعوبة.

كان يُثير قلقَها أن تفقد صوتَها. أخبرتها بالروتين الذي كنت قد اكتشفته في حانة رويال فوكسهول.

جرَّبناه: فخلعتِ الحذاء، تنفَّست بهدوء، ثم عادت لارتداء الحذاء. أحبَّتِ الروتين، ومن خلال الذاكرة العضلية التي تكوَّنت من تكرار الحركات، أصبحت آمنةً وتتمتَّع بقدرةٍ كاملة على التعبير.

حينما أخبرت المُوظفات اللاتي عملتُ معهنَّ بتلك الحكايات، بدأ بعضهن، على نحوٍ أثار دهشتي، بتطبيق هذا الروتين أمامي. خلع الكعب. وكان بإمكاننا أن نسمع الفَرق بعد خمس دقائق. أفلح الأمر، وبدأنَ في الحفاظ على صوتٍ حُر ورسمي وهن يرتدين الكعب.

إن هذا التغيير، الذي أُجرِي بتفانٍ شديد، كان مثالًا من ضمن أمثلة كثيرة على النساء الطموحات اللاتي درَّستُ لهن. باتباع هذا الروتين، يُمكنكِ ارتداءُ أي شيءٍ ترغبين في ارتدائه إذا شعرتِ بالحرية، في التنفُّس وفي جسدك، من دونه في البداية.

في كل يومٍ من حياتي، أقول لأي امرأة: «أنتِ قَيِّمة في ذاتك. اكتشفي قيمتك الطبيعية الكاملة قبل أن تختاري تجميلَ نفْسك.» كان مُعلِّمي ذلك الرجل الذي اكتشفته في قاع خزانة أمي، إنه شكسبير المستنير.

سونيت ١٣٠

عشيقتي عيناها جميلتان ولكنَّ الشمسَ أجمل،
شفتاها في حمرةِ المَرجانِ لكنَّ المرجان أنضر،
وإذا كانَ الثلجُ أبيضَ فهل لونُ صدرها الرمادي أفضل؟
وإن كانَ الشَّعرُ كأسلاك الحرير أينمو برأسها سلكٌ أسمر؟
رأيتُ الوردَ مبتهجًا … أحمرَ وأبيضَ،
لكن هل ينمو مثل هذا الورد بخدِّها؟
وإذا كانَ بعضُ العطرِ أطيبَ،
فحينَ تتكلمُ، حبيبتي، ينبعثُ دخانٌ من أنفها،
أحبُّ سماعها تتكلَّم ولكنني أعلم جيدًا
أن للموسيقى عذوبةً أكثر من صوتها،
أقسمُ أنني لم أرَ ملاكًا على الأرضِ ماشيًا؛
فحين تمشي معشوقتيِ تتعثر في خطوها،
رغم ذلكَ، أقسمُ أنَّ حبي لها نادر،
كتلكَ المقارنةِ الظالمةِ لها وكمْ أُكابِر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤