الأقفاص
«إذا أظهرت ما بداخلك، فإنَّ ما عندك سوف يخلِّصك. وإذا لم يكن عندك ما بداخلك، فإن ما لا تملكه بداخلك سيقتلك.»
هذا يُبيِّن ما يحدُث لنا — جسدًا وعقلًا وقلبًا وروحًا — عندما تُحتجز الطاقة بداخلنا أو تتحرَّر. ينطبِق وصفُ الكبت على معظم النساء وكثير من الرجال. وهذه هي الرحلة العميقة التي ناقشتها النساء على مدار آلاف السنين، وركَّزن عليها بشدة في الخمسين سنة الأخيرة.
حينما بلغتُ سنَّ الخامسة عشرة، اكتشفت العدوَّ الحقيقي الذي قيَّد أصوات النساء. كان شيئًا أحببتُه ثم كرهته بالقدْر نفسِه: إنه الحضارة الغربية كما سلَّمَنا إياها الإغريق القدامى.
كانت المسرحيات والشِّعر والفلسفة والمناظرات والفضول الفكري جميعها جوانبَ مثيرةً أحببتُها، لكن الإقصاء التام للقوة النسائية هو الشيء الذي كرهتُه. فحتى أكثرُ النساء تميُّزًا كنَّ محبوساتٍ ومحصورات في إطار الواجبات الجنسية والمنزلية، دون أملٍ في نيْل الحرية.
لم أُدرك، وأنا في الخامسة عشرة من عمري، أنها كانت نَزعةً تزامَن حدوثها تقريبًا حول العالم، وأنها متأصِّلة في جوهر كل الحضارات الكبرى والأديان المُنظَّمة ومعتقداتها الدينية.
ولم أكن أُدرك أنه لا تزال توجد مجتمعات تحترم قوة المرأة وصوتها. إنها المجتمعات التي نطلق عليها الآن المجتمعات الأصلية. تلك المجتمعات التي تحترم الطبيعة، وهي التي تمتلك الحكمةَ للحفاظ على الأرض وإصلاحها.
إنَّ إسهاماتي في رحلة تعافي النساء تبدأ بتدريبٍ بسيط. ويتمحور ذلك التدريب البسيط حول التطبيق العملي وليس الشرح النظري، ولهذا فإنه تدريبٌ بسيط. فعليك أن تطبِّق التدريب البسيط قبل أن تفهم التدريب العميق، فضلًا عن تنفيذه. يجب تنفيذ التدريب ثم البدء في الإلقاء. إنها مهمَّة جسدية تستغرق وقتًا، ولا يمكن فهمُها من خلال تفسير عقلي. فإذا كنا نريد أن يكون لقصصنا تأثيرٌ في العالم، لا سيما في الأشخاص الذين لا يريدون سماعها، فلا بد أن تكون مسموعةً وواضحة. نحن — غير المُرحَّب بنا في أحد المجالات — ليس بمقدورنا أن نتوقَّع جذب مُستمعين غير متعاطفين ما لم نوصِّل صوتنا ونلقي كلماتنا على النحو الأمثل ونبدو مقنعين.
إنَّ هذا الإلقاء المُتقَن يحتاج منَّا إلى تدريب. التدريب بصوتٍ عالٍ، وليس بصوتٍ محبوس في رأسك. إنه التزام جسدي نحو حضورك وصوتك وكلماتك. إنه مهارة فنية، والمهارة الفنية تركِّز على تجسيد الرسالة وممارسة تدريب مُهم بسيط بصفة متكررة. لم أتوصَّل حتى الآن إلى طريقةٍ لإطلاق العِنان للحكايات أو لراويها من دون اتِّباع روتين بسيط. بوسعي أن أشرح مدى فعالية الأصوات والقصص في عرضٍ رئيسي مُدته ساعتَين، لكن حتى لو نجحتُ في جعل العرض مُمتعًا للغاية، فلن يتيسَّر لأيٍّ من الحاضرين تحسينُ حضورهم أو صوتهم حتى يُطبِّقوا التدريبَ ويواظبوا على ممارسته.
في جزءٍ لاحِق من هذا الكتاب، سأُعلِّمكم كيف يمكن استعادةُ صوتكِ وقوَّتكِ الصوتية الكاملة، والحفاظ عليهما.
إنَّ المهارة الفنية المُتَضَمَّنة في تعليم الحضور والصوت تتألَّف من مرحلتَين أساسيتَين.
المرحلة الأولى تتمثَّل في إعادة الجسم والتنفُّس والصوت إلى حالته التي يتمتَّع فيها بأقصى مستويات الحرية والانطلاق. وتتضمَّن هذه المرحلة اجتثاثَ جميع الضغوطات المتراكمة في الجسم على مرِّ سنوات الصدمة. بعضُ هذه الصدمات غيرُ واضح بتاتًا؛ قد تكون من تأثير التجاهل المستمر. أو، قد تكون من حدثٍ جلل أدَّى إلى إعاقة تنفُّسنا وصوتنا على نحوٍ ملحوظ.
يُعَد الفهم مُهمًّا في هذه العملية؛ لأن أي تحدٍّ يقف أمام حضورنا الحقيقي، سواء كان بتجاهله أو معاملته بقسوة، يُشكِّل صدمةً، لا سيما لدى الطفل.
في هذه المرحلة الأولى من التدريب، نُعيد إلى حضورنا وجسدنا وتنفُّسنا إمكاناتها الكاملة وقوتها القصوى. ثم، علينا أن نقويها بالتكرار، حتى يتمكَّن حضورنا وصوتنا من الصمود أمام الضغط والخوف. ومثل جميع المحترفين، علينا أن نُجيدَ تطبيق التدريب إلى أن ننفِّذه تلقائيًّا من دون وعي منَّا به.
بالنسبة إلى بعض الأشخاص، تُعَد هذه المرحلة الأولى كافيةً لهم. ولكن الذين يرغبون في استخدام أصواتهم باحترافٍ وأن يكون لها تأثير بارز، يتعين عليهم توسيع نطاق حضورهم وصوتهم، حتى يتسنَّى لهم استخدامه بقوةٍ في كل يوم، وفي جميع المواقف، ويظلُّ له تأثيرٌ إيجابي.
حالفني الحظُّ في بداية حياتي المهنية بالعمل مع راقِصين ومُغنِّين ولاعبي فنون قتالية ونخبة من الرياضيين، وعلَّمتني هذه اللقاءات الأولى أنَّ العمل على الصوت يتطلَّب التزامًا جسديًّا جادًّا. وأن عليك استخدام صوتك بمهارةٍ يوميًّا لكي يُحافظ على مداه وقوَّته.
الأمر الآخر الذي تَكشَّف لي من العمل مع أولئك المُتَّصلين قلبًا وقالبًا مع أجسادهم، أنَّ تمرينات الصوت المُجسَّد قد تصلح للجميع، مع إدخال بعض التعديلات البسيطة؛ إذ إنها تعتمد على تكويننا المشترَك.
لم أسعَ وراء فكرة التشابه: لكنها فُرضت عليَّ. إنني نتاجُ جيلٍ من نساء كانت شديدات الخجل والخوف من التعبير عن آرائهن. في بداية حياتي المهنية، طُلب مني العمل مع أشخاصٍ خارج إطار خبرتي، ومع ثقافاتٍ وفي أماكنَ لم أتخيَّل قطُّ دخولَها.
لم أطرق قط الباب وأطلب من أي فرقةٍ أن تتعلَّم طريقتي، ولكني كنتُ مَن يُقترَب إليه لأن شخصًا ما لاحظ أوجهَ التشابُه بين عمله وعملي. بدأت أفهم أنني لم أكن أُعلِّم تمريناتٍ اكتشفها مُدرِّس إلقاءٍ في العصر الفيكتوري، لكنها تمريناتٌ ومهارة أوجدها الجنس البشري ليرويَ قصصًا مهمة.
هذه التمرينات ليست اختراعًا، بل هي جزءٌ منَّا.
هي جزء من الحكمة القديمة التي أُعيد اكتشافها وتعليمها لآلاف السنين. لكن في القرون الأخيرة، استولت عليها المجتمعات الذكورية، ولم تُعلَّم إلا للرجال المُتميزين. لم تكن هناك امرأة لم تنل نصيبها من الأذى. وسلكنَ سبيلًا تغيب فيه المساواة. وارتبط التعلُّق بهنَّ بكونهن جميلات وثريَّات، لكن دون أن يُعترَف بهن نِدًّا مكافئًا.
نزلت المِحَن على النساء كافةً في المملكة المُتحدة حتى صدور قانون التمييز على أساس الجنس عام ١٩٧٥ وقانون العلاقات العِرقية عام ١٩٧٦. وكما هي الحال، فإن مع كل مِحْنة تأتي المِنْحة. أصبحت النساء خبيرات، سواء عن قصدٍ أو من دونه، في آليات السُّلطة. وأدركنا القصة وأصبحنا ماهراتٍ في الاستراتيجيات التي كان الرجال يعتقدون لقرون أنها خداع.
حتى لو كان لديكِ أبٌ وزوج وأصدقاء واعون، فلا يزال عليكِ أن تجتازي معرفة الرجال بأنك غير مكافئة لهم قانونًا، كل يوم في الشارع أو في المدرسة أو في العمل. وتُوضَع العوائق أمامك وأمام سُلطتِك وصوتك، إن لم تكن تُدمِّرك بوحشية.
نجَت بعض النساء بأنفسهن عن طريق التظاهر بالضَّعف أو الغباء، أو السماح لجمالهن بأن يكون درعهن الواقية من أجل أن يعشنَ بأمانٍ في عالمٍ وحشي. وكذلك كي يُلاقين الإعجابَ بهن، وليجدنَ التعاطفَ وليَشْقُقن طريقهن في حربٍ غير متكافئة. لا يوجَد، حقًّا، أيُّ لوم يرتبط بهذا الوجه من أوجه النجاة. في أحيانٍ كثيرة، يُصبح من الأسهل القيام بذلك بدلًا من تبنِّي دور المرأة الرافضة لهذه الأقنعة، وعليه تتلقى معاملةً قاسية لكونها صادقة مع نفسها، أو تُنبذ من مجتمعها.
ثمَّة تشابُه في القصص المُهمَّة التي نرويها. هناك مجالٌ للابتكار في طريقة صياغة الحكاية وروايتها، لكنها جميعًا نابعة من مصادرَ واهتماماتٍ بشرية مشتركة. الحب، السلطة، العدالة والفَقْد. وفي مرحلةٍ ما في حياة كل واحدٍ منَّا، نظل مُستيقظين في الليل مهمومين ومضطربين بسببِ أمرٍ من تلك الأمور أو كلها. فَوَرَاء كل قصة عظيمة، مصدرٌ عامٌّ مشترك.
عام ١٩٧٥ كنتُ في الثانية والعشرين من عمري، وكنت سعيدة، مع كل المناصرات لحقوق المرأة، بمساواتنا القانونية الجديدة.
كنَّا مناضلاتٍ جريئات وتوقَّعنا أن يحدُث تغييرٌ سريع. كنتُ ساذجة فاعتقدتُ أن الرجال سوف يدفعون طوعًا عجلةَ التغيير من أجل هذا القانون ويرضخون لوضعنا الجديد. كان كلامي المتكرر، الذي تدرَّبتُ عليه جيدًا، إلى الرجال الذين لم يُسعدهم دفعُ عجلة التغيير أنَّ «حياة الرجال ستُصبح أسعدَ عندما نكون متساوِين، ويمكننا التشارك في القيادة والمساعدة في خوض غمار الحياة معًا.»
كان الأمر بسيطًا: ستُصبح الحياة على الأرض على ما يرام عندما يفقد الرجال سيطرتَهم علينا.
ظننتُ في الواقع أنَّ بعد آلاف السنوات من اللامساواة، قد يتقبَّل الرجال الأمرَ «في غضون سنة أو اثنتين.»
أخذت هذه السذاجة تتبدَّد عندما حاولت تغييرَ عاداتٍ محدَّدة غير طبيعية في جسم أحد الطلاب أو تنفُّسه. فاستلزم تغييرٌ، بدا ظاهريًّا أنه بسيط، جهدًا مكثفًا وحثيثًا. وبدأتُ أدرك أن التغييرات العميقة صعبة.
أدركتُ أنه: إذا اعتاد الرجال لآلاف السنين الإمساكَ بزمام القوة، فسيكون شاقًّا عليهم التخلي عنه دون قتالٍ لا يقلُّ عن حربٍ عالمية.
كان ذلك في أواخر ثمانينيات القرن العشرين، عندما بدأ الترويج لحركةٍ أكثرَ خبثًا.
تناولت وسائل الإعلام فكرةَ قوةِ المرأة، وطرحت صورًا وأفكارًا تُشجِّع العالَم على التفكير في أنَّ قوة المرأة هي قوةٌ سطحية. كانت تروِّج لفكرة أن الكيان الخارجي للمرأة أكثرُ أهمية من كيانها الداخلي.
كانت الصورة الرائجة فعليًّا تُضعِف النساء. إنك ترتدين ثيابًا جادة رسمية من أجل إظهار القوة. أنت تُبرزين أنوثتك من أجل التأثير.
عادت الملابس والسلوكيات والإباحيات والاهتمام بخسارة الوزن من جديد تكبت أصواتنا وأجسادنا وتقيِّدها، ومن ثَم تقوِّض قدرتنا على أن نبدوَ قويَّات. بزغ عصر المثالية والنرجسية الذي لا ينتهي في تسعينيات القرن العشرين، فارضًا حصارًا على النساء وبعض الرجال.
أصبح مظهرنا أكثرَ أهميةً من جوهرنا، والغباء أكثرَ جاذبية من الذكاء، والوضاعة أكثرَ تأثيرًا من العلم والشرف.
رأيت عصرَ المثالية الذي لا ينقضي يُحاصرنا من الخارج.
لقد سلكَت بعض النساء مسلكًا أرقى بفهمٍ أعمق، وانتقلنَ إلى مناصبَ قياديةٍ بكرامة وشرف، دون أن يُخدعنَ بهذا الفخ. ووازن بعضهنَّ صورتهن الخارجية مع حضورهن وقوَّتهن وصوتهن الحقيقي.
لا تنتظر هؤلاء النساء مُستمِعين متعاطفين. هن يُدركنَ أنَّ واجبهنَّ التواصل بمهارة وفاعليَّة. ويعرفن أنه إذا اخترن استخدامَ قناع فقد تكون العاقبة سيئة. ويعرفن كذلك أنَّ القيادة الحكيمة هي مهارة نادرة تتطلَّب تفانيًا وجهدًا استثنائيًّا.
إنَّ القادة الحقيقيِّين، نساءً ورجالًا، الذين يسعون إلى تحقيق العدل والتوازن في قوَّتهم، قد وجدوا مكانهم على محور ارتكاز أرجوحة التوازن. هم يلجئون إلى التوازن باعتباره ممارسةً دائمةً يجب أن تتضمَّن التعامُل مع الطاقات الرجالية والنسائية في آنٍ واحد. ولا يخافون من المكان الذي لا ينحاز كليةً إلى طرفٍ على حساب الطرف الآخر، وهو مكانٌ أعتبره خارجًا عن إطار المألوف.
إن النتيجة القاسية للوقوف في المنتصف هو تعرُّضُك للهجوم من الجانبَين. وليس ثمَّة سبيل للنجاة من هذا إلا بالتمسُّك بالعدل والصدق.
في الأربعين سنةً الأخيرة، أصبحت معظم النساء أكثرَ عنادًا وغضبًا وثقةً، لكن أقل قدرةً على التواصُل. وبينما حوصرت أجسادهن بتغييراتٍ سطحية، كانت استجابة أصواتهن، على مستوى التشريح، بأنها صارت مضغوطة وخشنة ولاهثة وعالية ومندفعة.
وحينما قلَّدوا أسوأ عادات الرجال، أصبح بعضهنَّ أكثرَ عدوانيةً، يرهبن الاستماع، ولهذا يقاطعن المتحدِّث، وقد استبدلن بالنقاش الواضح المقتضب الإهانات والانتقادات القاسية. فصرنَ يلجأن إلى التشكيك بدلًا من رحابة الصدر.
لقد فعلتُ هذه الأشياء وحتى عندما فعلتها، كنت أعرف في قرارة نفسي أنها لم تُجدِ نفعًا أو تُساعدني في التواصُل على نحوٍ بنَّاء.
إنَّ تبادل أطراف الحديث بالتساوي يتطلَّب استماعًا واعيًا وفعالًا من كلا الطرفَين وهو ما يشكِّل تبادُل حوارٍ ناضج. عندما ندخل في نقاش مع أي شخصٍ، يتعيَّن علينا أن نكون منفتحين على تغيير آرائنا والاعتراف بأننا قد نكون مُخطئين، حتى لو بدرجةٍ بسيطة. وإذا لم يكن الوضع كذلك، تختفي أي احتمالية للتغيير.
هذه فترة حاسمة في القيادة ورفاهة عالمنا.
اتسمَت الروح الأنثوية بالقوة والمرونة، ولقد صمدَت أمام آلاف السنين من الهجمات المُستمرة على أجساد النساء وأصواتهن وقصصهن.
إنها لمعجزة أننا نجَونا.
لقد كان لذلك تداعياتٌ سلبية عبر الألفية: تلك العراقيل المعروفة تمامًا التي اعترت أجسادنا وأنفاسنا حتى صرنا نشعر بأننا جُرِّدنا من أصواتنا. وكُبِتت حكاياتنا بشدة لفترة طويلة للغاية حتى باتت تبدو أنها فقدت أهميتها.
لكنَّ هناك شيئًا باستطاعتنا فِعله. يُمكننا، بالعمل الجاد، أن نُغيِّر صوتنا. يمكننا البقاءُ في حالة حضور حتى عندما نرغب في الاختفاء. يُمكننا أن نتولَّى زمام القيادة ونُساهم في تعافي الآخرين ومُعافاة أنفسنا: فنُغيِّر مسارَ عالمنا.