الفصل الثالث والعشرون

الشكل والمضمون

بعد الإلقاء، علينا أن نعمل على البِنية (الشكل) والمضمون (الأفكار والمشاعر) لما نقوله.

كما ستتذكَّرون، كان الإلقاء في اليونان القديمة هو الإنجازَ الأول الذي تعلَّمه هؤلاء الشباب عندما دُرِّست لهم البلاغة.

ولعلكم تذكرون أيضًا أن المبدأ الأساسي للبلاغة هو تحريك الناس بالأفكار والعاطفة.

لا يمكن أن يُوجَد نشاط في العقل حتى نكون فضوليين وحاضرين بما يكفي لطرح سؤال. لذلك علينا أن نكون في الدائرة الثانية حتى نؤدِّي هذه المهمة.

البِنْية

تأخذ البنيةُ المستمعَ في رحلةٍ. فتسمح للمتحدث ببناء قصة أو جدالٍ من نقطة افتتاح المناقشة وحتى الاستكشاف، ثم تبحث عن حلٍّ أو خاتمة: افتتاح. استكشاف. خاتمة.

تُعد هذه البنية جوهرَ النقاش وأبسط أشكال السرد القصصي. إنها تحرك سيرَ الأفكار والقصص والمُتحدث إلى الأمام. تتغيَّر على مدار الحديث وتهدف إلى إحداث تغييرٍ في المستمع. يسعى هذا التدفُّق في الأفكار إلى تحريك قلب وعقل المُتحدث والمُستمع على حدٍّ سواء.

تمنع البنية الشكلية وتضع حدًّا للاستطراد في الحديث والتكرار الذي لا طائل منه.

نفِّذي تمرينات التهيئة التالية عن طريق التحدث بصوتٍ عالٍ. حتى إذا كنتِ تدوِّنين ملاحظات أو نقاطًا رئيسية، فتحدَّثي بينما تكتُبين. هذا يجعل الكلمات حاضرة على لسانك ويساعد في جذب عقلك وقلبك. كما يجعلك تختارين الكلمات التي تستخدمينها وتبدو ذات صلة.

  • (١)

    ما الذي تحتاجين إلى توضيحه؟ ما السؤال الذي تتحرَّين عنه؟

  • (٢)

    كيف يمكنك تقديم تلك الحاجة؟

  • (٣)

    إلى أين يجب أن تتَّجهي لإيجاز فكرتك أو قصتك؟

ابدئي التدريب من حيث يجب أن تبدئي. الفكرة الأولى. ما الأفكار التي يجب تناولها بعد الفكرة الأولى؟ ثم، أي اتجاه يجب أن يسلكه سيرُ الحديث لكي تصلي إلى الخاتمة؟

يجب أن تدفعكِ البنية الشكلية أنتِ وسير النقاش والقصة إلى الأمام. إذا تكررت الأفكار، أو ابتعدْتِ عن المسار دون سببٍ أو بديل حقيقي، فقد توصَمين بأنك شخص يتحدث بعشوائية. يجب أن يكون الانحراف عن المسار الرئيسي للنقاش ذا قيمة. ويكون الهدف منه تعزيزَ القصة أو الفكرة، وليس لطرح فكرة لا علاقة لها بالنقاش.

البنية الشكلية هي بناء للأفكار يسعى إلى الوصول إلى نتيجة: البداية. الوسط. النهاية.

عند التدرُّب على هذا الشكل الأساسي، يمكنك بالطبع أن تَحيدي عنه وتُعيدي الترتيبَ لتحقيق التأثير المطلوب. قد يبدأ سرد قصصي شيِّق من النهاية ثم يعود بالأحداث إلى الوراء.

ينطوي عِلم البلاغة أيضًا على الإبداع والاكتشاف؛ إذ يشجع على ذلك أثناء الكلام. الهدف من ذلك هو أن تتمتَّعي بالحضور. ليس الغرض أن تَظهري بطابع رسمي للغاية أو صارم، وإنما لتظهري مُفعمة بالحيوية، وسديدةً في عرضك، وقادرةً على تشويق الجمهور. يجب أن يكون كل سؤال حقيقيًّا، ويجب أن تتناسب الإجابة مع السؤال.

إن الشباب الذين يَدرُسون البلاغة في مدارس مرموقة خاصة بالرجال فقط يتعلمون ذلك من خلال التطبيق العملي. إذا كنتِ تتحدَّثين بصوتٍ عالٍ لعرضِ قصصٍ وحججٍ وأفكارٍ ذات بنيةٍ شكلية مُتقنة، فسوف تتعلَّمين البنية الشكلية تلقائيًّا وتشعُرين بها. سيتحقق ذلك بسهولة ومن دون مجهود يُذكر.

يجب شرح ما تعرفينه وممارسته بصوتٍ عالٍ. هذه خطوة أساسية لأنها ستجعلكِ مُقدِّمة قويَّة. يمكنك تَقبُّل التحدِّيات أو الأسئلة عند ظهورها، وعليك أن تصمدي أمام اختلافات الرأي القوية بدرجةٍ أقل من الهلع أو التردُّد. حضِّري بصوتٍ عالٍ الإجابات عن الأسئلة التي تشعرين بالقلق حيالها.

هناك بعض النساء اللاتي يمِلْنَ في كثير من الأحيان، بسبب تربيتهن، إلى الإطالة والإسراع في الحديث. ويشعرن أن عليهنَّ إظهار كل ما يعرفنه، لذلك يُبالغنَ في الإدلاء بمعلوماتٍ ليست ذات صلة.

المرأة التي تُخفي المعلومات ولا تشرح أفكارها كما ينبغي غالبًا ما تنتمي إلى الدائرة الأولى، أما النساء من الدائرة الثالثة فإنهن يمِلْنَ إلى الإكثار في الكلام. إن مثل هذين النوعَين من المُتحدثات يُخاطران بإحباط الجمهور وإزعاجه.

لكي تكوني مؤثرة، يجب أن تقدمي اللحظات الأولى بوضوح وبصوتٍ مسموع وأن تكون الفكرة ذات صلةٍ بالموضوع مُستعينةً في ذلك بأسلوبٍ موجز. ثم افتحي موضوع المناقشة.

البِنية هي الشكل والرحلة والدافع. والمضمون يقع ضمن الشكل.

اسألي نفسك:
  • لماذا أحتاج أن أتحدث؟

  • ما المعرفة التي أمتلكها؟

  • هل أنا خبيرة في موضوعٍ ما؟

  • ما الجوانب التي تُثير اهتمامي في هذا الموضوع؟

  • ما رأيي؟

  • ما المعلومات الأساسية التي أعرفها؟

  • ما الذي أعرفه وهم يجهلونه؟

إن تلك الأسئلة ستُثْري المضمون.

المضمون

أنصحكِ بشدة ألا تستخدمي سوى أسلوبكِ ولغتكِ الخاصة في البداية. فاستخدام كلمات أو تعبيرات غير مألوفة لكِ قد يبدو مُصطنعًا في البداية، وربما على القدْر نفسِه من السوء، يبدو مُملًّا. ولكن إذا كنتِ ترغبين في التواصُل على نطاقٍ واسع، فستحتاجين قريبًا إلى توسيع نطاق لُغتك ومهاراتك في البناء اللغوي.

يجب أن تكوني على درايةٍ جيدة بجمهورك. ابحثي عن الكلمات والبِنى الشكلية التي تُناسبك وتُثير حماستك. يجب أن تكوني حريصةً على إشعال حماستك حتى تتمكَّني من إشعال حماسة جمهورك.

بإيجاز، هناك ثلاثة أساليب في البلاغة يمكن أن تُساعدك في تركيز أفكارك أثناء تطوير المضمون. يُطلَق على هذه الأساليب «الأساليب الثلاثة للتعبير» (عند أرسطو). وهي:
  • اللوجوس: النظام والمنطق والرأي.

    يتمثل في البيانات والحقائق والقانون والتعبير الواقعي عن الأفكار. إذا كنتِ تتحدثين من منطلقٍ عقلاني فحسب، ولا تتحدَّثين إلا بالبيانات والحقائق، سنُصبح مُطَّلِعين لكن شاعرين بالملل ولن نستطيع أن نهتمَّ أو نشعر بأهمية كل هذا المنطق.

    لذلك نحتاج أيضًا إلى الباثوس.

  • الباثوس: المشاعر، المشاركة الوجدانية، التعاطف، الإحساس.

    نجد الباثوس في لغة التشبيهات والاستعارات. في القصص التي تطلُب منَّا أن نشعر بالآخرين.

    هذا ما يُحرِّك مشاعرنا في القصائد وكلمات الأغاني والمسرحيات.

لكن حتى نُضفي المصداقية على القصص التي نرويها والعروض التي نُقدمها، نحتاج أيضًا إلى الإيثوس وهي القواعد الأخلاقية. الأخلاقيات. الصواب والخطأ. النزاهة. الكرامة الإنسانية. العدل.

الإيثوس هو ذلك الجزء من المحتوى الذي يُوجِّه المبادئ الأخلاقية لدينا.

غالبًا ما تُلِمُّ النساء الناجحات بالمادة التي بين أيديهن أفضل من جميع الرجال حولهن. لكن الكثير منهن يفتقرنَ إلى الثقة بالنفس لتبسيطِ ما لديهنَّ من معرفة حقيقة. رغم ما لديهن من نظامٍ وبيانات لكنهن يخسرن جمهورهن. هذا مثال واضح على اللوجوس.

إلى هؤلاء النساء، أتحدَّث عن إضفاء طابعٍ إنساني على مادة العرض، وهو ما يعني عمومًا سردَ القصص لتوضيح البيانات، ولكن أحد الأهداف من وراء ذلك أيضًا هو التشجيع على إظهار مشاعرك وقِيَمك الأخلاقية.

أطلب منهن أن ينتبهن إلى القصص التي تخطر بأذهانهن، والأشياء التي سبق أن قرأنها أو تذكَّرنها من تجاربهن الشخصية، ثم أطلب منهن أن يُدوِّنَّها في دفتر ملاحظات.

وسرعان ما سيجمعن موردًا هائلًا من القصص والخبرات التي ما تلبث أن تتوافق مع بياناتهن.

ومن هنا يبدأ منطق اللوجوس في الاقتران مع عاطفة الباثوس.

وبعد ذلك، حتمًا سينضمُّ إليهما أخلاقيات الإيثوس بالقصص العامة التي تُعلِّم القيم الأخلاقية.

اسردي قصةً عن سلوكِ شخصٍ ما، سواء كان سلوكًا جيدًا أو سيئًا، ثم علِّقي بإحساسٍ وبمنطق، وبذلك تكونين قد دمجتِ بين أساليب الإقناع الثلاثة.

التدريب

هناك أربع مُهمَّات لتمرينات الأداء.

يجب إجراء كل تلك المهمات مع تطبيق المهارات الفنية للإلقاء:
  • الحضور، التواصل البصري مع الحاضرين من حولك.

  • مراعاة اتزان الجسم ومحاذاته.

  • التنفس العميق وارتباطه كاملًا بالصوت.

  • النطق الواضح.

يدرك معظم المُمثلين ضرورةَ الدخول إلى أي مكانٍ يتطلب منهم أن يُلاحَظوا ويُستمع إليهم، وذلك من خلال التواصُل البصري والتنفُّس.

إن الدخول بطريقةٍ متوترة أو لا مبالية يُثير قلقَ الجمهور: أولًا، تبثِّين فيهم شعورًا بالتوتر، وثانيًا، تُوحينَ بعدم اهتمامك.

يمكنكِ استعادة الجمهور ولكن هذا يتطلَّب مجهودًا، وقد يعني ذلك أنهم لم يسمعوا الأفكار الأساسية التي افتتحتِ بها نقاشك.

يريد الجمهور أن يشعر بالأمان معك. لهذا احرصي على التدرُّب.

  • (١)

    حضِّري في صمتٍ قصةً أو معلومةً تحتاجين إلى مشاركتها.

    قفي ثم تنفَّسي وانظري حولك وأنتِ في حالة حضور أثناء التدريب بصوتٍ عالٍ على كيف يتسنَّى لكِ أن تسردي قصة.

    لا تخافي من الفشل أو الاضطرار إلى البدء من جديد.

    اجتهدي وابحثي عن الكلمات والعبارات التي يجب استخدامها.

    تكمُن ميزة التحدُّث بصوتٍ عالٍ في أنكِ تُعدِّلين لنفسك سريعًا. وخلال ١٠ دقائق من التدريب على قصة مُدتها دقيقتان، ستتمكنين من تحسينها والتركيز فيها بكفاءة أكبر مقارنةً بالكتابة. قد يبدو الأمر صعبًا في البداية، لكن في النهاية يُصبح التحضير الشفهي أسرعَ من التحضير بالكتابة.

    لا تتعجَّلي.

    تنفَّسي.

    تجرَّئي على انتظار الكلمات والأفكار في صمتٍ بدلًا من استخدام الكلمات التي تملأ الوقت على غرار: «مثل»، «نوعًا ما»، «هل تعلم».

  • (٢)

    تدرَّبي بهذه الطريقة على افتتاح القصة. وكذلك على خاتمتها. تدرَّبي على تعريف نفسِك مصحوبًا بوصفٍ موجَز لما تفعلينه.

  • (٣)

    تدرَّبي بصوتٍ مرتفع على أهم العناصر وربما سيكون أول ما يتعين عليكِ قوله في الاجتماع. قد لا يكون هذا التدريب هو ما ستقولينه بحذافيره، لكنك تُهيِّئين بذلك عقلك وكلماتك.

  • (٤)

    تدرَّبي بصوتٍ مرتفع أمام شخصٍ ما على النقاط الصعبة التي قد تحتاجين إلى قولها.

    وأكرِّر مجددًا، الطريقة التي تتدرَّبين عليها قد لا تكون هي الطريقة التي ستتحدثين بها في النهاية، لكن استخراج الكلمات من عقلك وتوجيهها إلى فمك سيُخفف من الضغط الذي تشكله محادثةٌ صعبة متوقعة.

    بالمِثل، يجب أن تتدرَّبي على الكلمات أو العبارات التي تعرفين أن عليك استخدامَها ولكنكِ لا تفعلين ذلك أبدًا. على سبيل المثال:

    «من فضلك لا تُقاطعني.»

    «هل تسمح لي أن أنهي كلامي؟»

    «لا أعتقد أن ما قُلته صحيح.»

    يُعد هذا التدريب مفيدًا عندما تعرفين أنك ستتحدثين إلى شخصٍ يُخيفكِ.

    تُعد محادثات العمل محادثاتٍ رسمية — خاصةً إذا كانت لديك سلطة على شخصٍ ما أو أنكِ تشعرين أنَّ لهم سلطة عليكِ — ويجب أن تتبع نسقًا رسميًّا. وهذا أمر بالِغ الأهمية إذا لم تُعقَد المحادثات علانيةً. فإنهم يحتاجون إلى وضع حدودٍ لهم وحضور كامل.

    يجب ألا تتلقَّيْ تعليقًا سلبيًّا بشكلٍ عارض في الممر، ويجب أن تتجنَّبي تقديمَ تعليقاتٍ بهذه الطريقة. يجب أن يكون كلاكما في حالة حضورٍ كامل، وأن تتأكدي من الموافقة على تبادل تعليقاتٍ مهمة.

لقد تمكنتِ الآن من المهارات الفنية وأساسيات البِنية الشكلية واللغة لمواجهة وتغيير بعض العادات التي تضعفك عند التواصل. أنتِ جاهزة ويمكنك العمل على الأخطاء الشائعة التي ترتكبها النساء في حضورهن وأجسامهن وصوتهن.

أين نحن الآن؟

يمكننا المطالبة بمكاننا على طاولة السُّلطة، ليس بصفتنا مُساعِدات أو مُنتحلاتٍ لشخصية الرجال، إنما بحضورنا الكامل في الدائرة الثانية.

يمكننا أن نتدرَّب طوعًا لنبقى حاضرين ولنكتشف صوتنا الطبيعي. يُمكننا أن نفهم ما سُلِبَ منا، ونداوي جروحنا.

لن نُنقذ الكوكب إذا لم تجد النساء صوتهن الكامل ويُعلين كلمةَ الحق في وجه أصحاب السُّلطة. ولكن أن تقودي فذلك مرادفٌ لأن تُخاطري بحياتك. يجب أن يحدث ذلك بالرفق كما بالقوة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤