الفصل الثالث

نساء متألِّقات

«يجب عليكِ أن تُوقظي إيمانك.»

بولينا: «حكاية الشتاء»

تأتي نساءٌ متألقات قويَّات إلى الاستديو الخاص بي لإبراز أصواتهن. هن نساءٌ يرغبن في الحصول على مساواةٍ مُعترفٍ بها ليُمسِكن بزمام القيادة. نساء لديهن أفكارٌ مهمة ومعرفة وحكمة عميقة. نساء لديهن قدراتٌ مبدعة وتعاطف لا يرغبن إلا في أن يُحمَل أمرهنَّ على مَحمل الجِد وأن يُصغى إليهن.

قدِمن إلى هنا لأن أصواتهن لا تلبي احتياجاتهن، فتظهر أصواتهن حادة عالية، أو ليس ممكنًا سماعها بوضوح، وتجاهد ألسنتُهن لإيصال فكرة أو تتدافع الكلمات من أفواههن لدرجةٍ يصعب فهمها. يأتين ويعترفن أو يقُلنَ طوال الوقت: «أنا مثيرة للاهتمام أكثرَ مما أبدو عليه.»

ماذا يعني ذلك؟ أن تشعري بأنكِ مثيرة للاهتمام أكثر مما يبدو عليكِ؟

في البداية، تشعُرين أن لديك رؤًى ومعرفةً وخبرة وحكايات مهمة، لكنها لا تُقدَّر أو حتى تُقابَل بالتجاهل. هذا تصرُّف عدواني من جانب المُستمع ليُشعركِ بالرفض. مهما فعلتِ، فسوف يَغض الطرْف عنه. هؤلاء العازفون عن الاستماع، يشعرون بأنكِ لا تستحقِّين أن يُستمع إليكِ.

لكن حتى لو كان لديكِ جمهورٌ مُنتبه ومتعاطف، فكثيرًا ما يُعجِزُكِ خوفك وصوتك المُهمَل الذي صار في العادة أجشَّ، عن أخذ خطوةٍ حقيقية للتعبير عما تُريدين قوله على نحوٍ وافٍ.

الصوت البشري هو نشاطٌ جسدي وعضلي مُعقَّد يحتاج إلى عملٍ وعناية دائمَين حتى يؤديَ وظيفته بكفاءة، لا سيما عندما تتحدَّثين عن أفكارٍ مهمةٍ وكلامٍ مهم.

تتطلب هذه الأفكار المهمة مشاعر واثقة ورسمية تقتضي من المُتحدث أن يكون حاضرًا بكل كيانه ويتنفَّس بحُرية ويطلق صوته بالكامل.

على مرِّ التاريخ، يُنظر إلى النساء بوصفهنَّ مُتحدثات عن قضايا غير مهمة. يمكن السماح لهن بالحديث لاستثارة أفكار الرجال والاستمتاع بالثرثرة والقيل والقال، ولكن ليس بهدفِ مناقشة قضايا الدولة، والأزمات، والموضوعات الشديدة الجِدية والخطورة.

ليس مُمكنًا الاستهانة بأثر استمرار هذه الأشباح القديمة في مطاردة النساء وزعزعة ثقتهن عندما يقفنَ والضوءُ مُسلَّط عليهن.

يبدأ عملي في عالم التجسيد. لكي يعمل الصوت بصورةٍ مُعبِّرة، يجب استخدامه كلَّ يوم. فالأمر بهذه البساطة.

ليس من الصدفة أنَّ الأشخاص المَحظوظين لا يزالون يتلقَّون في الفصول الدراسية يوميًّا ما يُعلِّمهم كيفيةَ استخدام أصواتهم بالكامل. ويجب تشجيع كل طفلٍ على هذه الممارسة ليحافظ على صوته الطبيعي نشطًا.

لا يُمكنني تَخيُّل أن الحَراك الاجتماعي ممكن من دون إعادة إشراك كلِّ طفلٍ بصوته. ليس من الصدفة أن القادة المُميزين يجيدون التحدُّث، لكن لا يكون لديهم مُحتوًى في أغلب الأحيان. وهم يُمثلون المقابل المباشر والتام للنساء اللاتي يدخلنَ الغرفةَ وهنَّ على علمٍ بأنهن أكثرُ إثارة للاهتمام مما يبدون عليه.

هناك درجاتٌ لكَون المرء مثيرًا للاهتمام. لا يمكنك أن تكون شخصًا مثيرًا للاهتمام إذا لم يُسمع صوتك، أو حتى إذا سُمع، فإن طبيعة صوتك تزعج المُستمع. المسألة ليست متعلِّقة باللهجة، وهي محل تقييم النُّخبة، وإنما تتعلَّق بنبرة الصوت وسرعته وإيقاعه.

النبرة هي جودةُ صوتك التي تتأثَّر في حال دفعها أو تحريكها إلى نغمةٍ عالية ثم تُصبح عالقةً في هذا الوضع. يجب أن تتوافق نبرةُ الصوت مع المحتوى، وهو أمرٌ لا يمكن حدوثه إذا كان الصوت متوترًا. إنَّ الصوت الضعيف ينطلق من دون أن يُرافقه التنفُّس. أما الصوت الذي يسير على وتيرةٍ واحدة فهو صوتٌ ذو إيقاع هابط. ومن المُستحيل التركيز مع صوتٍ متعجِّل أو منخفض.

تظهر هذه العادات الصوتية الشائعة بوضوحٍ أكبرَ عندما تقدِّم النساء عرضًا أو يتحدَّثن بأسلوبٍ رسمي.

تبدأ كل هذه العادات في الجسم، ثم تنتقل إلى النفس، ومن ثَم إلى الصوت والكلام.

عندما يكون المحتوى مقيدًا داخل المتحدث أو مندفعًا منه بقوة، تُصبح حينها تلك النبرة المُتكلِّفة غيرَ متوافقة مع الهدف المنشود.

إذا أجبرتِ صوتكِ على الخروج، فسوف تبدِين عدوانية حتى لو كنتِ تشعرين بأنكِ لطيفة. أما إذا كان صوتكِ مسرعًا، فسوف تبدِين خائفة أو تفتقرين إلى الثقة. وإذا تحدثتِ بصوتٍ يغلب عليه الانخفاض، يقترب من الهمس، فسوف تبدِين لطيفةً لكن ضعيفة. أما إذا انخفض الصوت، فسوف تبدِين متشائمةً أو تشعُرين بالملل.

إذا لم تكوني حاضرةً بكل حواسِّك ولا تتواصَلين مع الجمهور، فليس ممكنًا للمُستمعين أن يكونوا في حالة حضور.

لن تَبدي مُثيرةً للاهتمام بقدرِ ما أنتِ عليه في الحقيقة إلا عندما يبدو صوتكِ مُتناسبًا مع ما تفكرين فيه وتشعرين به. وهو توازنٌ يسعى إليه كل مُتحدثٍ محترف.

كما قلتُ، يولَد معظم البشر وهم يتمتعون بحالة حضور، وبأجسادٍ وأصوات قوية ومرِنة وحرة.

إنَّ الضغط الذي يفرضه نمَط الحياة والنظام الغذائي والتكنولوجيا والتحضُّر وتفكُّك المجتمعات والأزياء وقلة الوقت الذي تقضيه العائلات في تشارك الحديث، إلى جانب التعليم في المدارس الذي لا يعتمِد على الحوار، يعني أنَّ العديد من الأصوات البشرية قد تأثَّرت في الأربعين عامًا الماضية. لكن أصوات النساء هي أكثر مَا تأثَّر. لقد ألقى التاريخ بظلاله علينا. إنَّ تعليم المرأة أن تُحرِّر صوتها وتكتشف قوَّتها الكاملة يتطلَّب جهدًا ووقتًا وعملًا وألمًا أكبر مما يحتاج إليه أغلب الرجال الذين أُعلِّمهم.

لا أعلِّق أبدًا على تلك النقطة صراحةً، لكني أعمل بتروٍّ شديد لأصلَ بكل طالبٍ وعميل إلى مرحلة التطوُّر، ومع ذلك، تلاحظ الفِرَق أحيانًا أنني أعمل فترةً أطول مع النساء.

يستغرق العمل وقتًا أطول حتى يترسَّخ، لأن الضرر أعمق في النساء ويبدأ في وقتٍ أبكر.

بدأتُ أطلب مؤخرًا من الطلاب أن ينظروا في صورٍ لهم عندما كانوا أطفالًا ليرَوا إن كان بمقدورهم أن يُحدِّدوا فيها الوقتَ الذي بدأت فيه العادات الجسدية المُثبطة لدَيهم.

لاحظَتِ الطالبات تلك العادات في سنٍّ مبكرة تبدأ من خمس سنوات.

لا يستطيع الرجال غالبًا اكتشافَ المرحلة التي لا يتمتَّعون فيها باتزانٍ تامٍّ، ولكن إذا نجحوا في اكتشاف ذلك، فإنهم يلاحظون تلك العادات في مرحلةٍ عمرية متأخرة، في سنِّ الثالثة عشرة تقريبًا.

هناك فروقاتٌ طبيعية بين صوت الرجل والمرأة، لكنها ليست كافية لإعاقة صوت المرأة.

المسألة هنا تكمُن في الحجم! عند الوصول إلى سنِّ البلوغ، تصير حنجرةُ الذكر أكبرَ والطيات الصوتية أطولَ وأكثر سُمكًا، إذ يتراوح طولها بين ١,٧٥ سنتيمتر و٢,٥ سنتيمتر، مقارنةً بالطيَّات الصوتية لدى الإناث، التي يتراوح طولها بين ١,٢٥ سنتيمتر و١,٧٥ سنتيمتر. تعني الطيَّات الصوتية الأكبر حجمًا أن حدَّة الصوت ستُصبح أكثر انخفاضًا، لكن هناك نقطة تلاقٍ: يتلاقى صوت الأنثى الرنَّان مع صوت الذكر الصادح.

بوجهٍ عام، يمتلك الرجال قفصًا صدريًّا أكبر حجمًا، ولهذا فهناك إمكانيةٌ أكبر لوجود نظامٍ قويٍّ يدعم عمليةَ التنفُّس ومِنْ ثَم يمتلك صوتًا أعلى. لكن النساء لديهنَّ عضلات بطن سفلية قوية للغاية. وأوراكهن أعرض؛ ولذلك يمكن لهن التنفُّس من عضلات البطن السفلية، مما يمنح الصوت الأنثوي الإمكانيةَ ليكون ذا قوة هائلة وعُمق صوتي. تُشتق كلمة المرأة Woman من الرحم womb؛ ولهذا يأتي صوت المرأة من ذلك المكان، على عكس صوت الفتاة الذي يفتقر إلى عمق الرحم ويأتي من نَفَسٍ مأخوذٍ من منطقةٍ أعلى.

إنَّ التجاويف الرنانة الأكبر حجمًا في جسم الرجل — الصدر، العنق، الوجه، الأنف، الرأس — تزيد من ضخامة أصوات الرجال. لكن لم يُوهَب جميع الرجال بِنْيَةً على هذا النحو، في حين تمتلكها الكثير من النساء.

هذه الأمور المُتعلِّقة بالحجم لها تأثير في استخدام الصوت المرتفع، على سبيل المثال الغناء في الأوبرا، ولكن بالنسبة لمعظم النساء فإنَّ الفروقات الطبيعية ليست بالغة.

لا يُوجَد فرقٌ كبير في أصواتنا حتى يمنعنا من تلاوة نصوص مقدَّسة أو شِعْر عظيم.

لا يُوجَد سببٌ لئلَّا يُسمَع صوت المرأة الطبيعي الحر: سيُصبح صوتها في تلك اللحظة حادًّا، جهوريًّا، سيعلو صوتها ولا ينخفض، سيُصبح مسرعًا، وسيفتقد إلى العمق والصدى. فلا يُوجَد سبب لئلَّا يكون لها صوتٌ يسرُّ السامِعين.

إنَّ الأسباب الوحيدة هي التوترات غير الطبيعية التي تُلقى على أجسادنا وفي أجهزتنا التنفُّسية وصوتنا. إنها التوترات الخارجية. السخرية، الازدراء، محاولات التهدئة، القمع، تقييد قوَّتنا. والعدو الآخر هو عدم الثقة بالنفس والحزن الذي يولِّده التوتُّر الخارجي بداخلنا.

نُهاجَم من الخارج، ثم نُهاجِم أنفسنا في الداخل.

ومهما كانت أصواتنا مشوَّهة أو مقيَّدة بأي وجهٍ من الوجوه، فلدَينا جميعًا لحظاتٌ نشعر فيها بصوتنا الطبيعي ونسمعه. كضحكةٍ من القلب حتى تبدأ الأضلاع الصدئة في الحركة من جديد، ضحكةٌ تؤلِمك من شدَّتها.

والبكاء الشديد يفعل الشيء نفسَه، مما يجعل أجسادنا تُدرك أنَّ لدَينا جهازًا تنفسيًّا نشطًا تمامًا.

ثم تمرُّ علينا لحظات نُعبِّر فيها أو نتحدَّث تحت ضغط. يزداد شعورنا بأننا عثرنا من جديد على صوتنا وقُدرتنا الفطرية على الحديث بطلاقة.

إنَّ اللحظات التي يخشاها الرجال الظالمون المُتنمِّرون المُتوحِّشون هي اللحظات التي يتعاظم فيها غضب المرأة لدرجةِ اختفاء أي نيةٍ لدَيها لخفض صوتها وتتفجر قوَّتها الصوتية الكاملة.

من الجدير بالذكر أنه إذا كانت النساء ترتدي مشدًّا، وهذا نوعٌ من الملابس يُعَدُّ ضيقًا للغاية، ففي اللحظات التي تمنع الأضلاع من العمل بالكامل واستنشاق الهواء، فإنهن سيُغشى عليهن، ويفقدن الوعيَ من الشعور المكبوت داخلهن.

هذه هي اللحظة التي سيعتبرها الرجال المُستبدون، إذا لم يكن لديهم القدرةُ على إيذائها، أنها مجنونة أو في حالةٍ هستيرية، ويُظهِرون اشمئزازهم من بشاعتها ويعتبرون غضبها «بغيضًا».

سأروي قصةً من أحد معلِّمِيَّ المدربين. إنها عن امرأةٍ صغيرة البنية تتمتع بأخلاقيات في العمل لدرجة أنك إذا سمِعت صوتها، ولم تكن تراها، لظننتها ضخمة. لقد سخَّرت، بروحٍ طموحة، قدرتَها الصوتية الكاملة واجتهدت لتحافظ عليها.

وقعَ هذا الحادث قبل أن نلتقيَ وربما منحها فهمًا وإدراكًا لقوَّتها الكاملة.

لم تكن ليسي تُمارس أيَّ عمل ذي أهمية على صوتها قبل أن تحدُث هذه القصة.

كانت في التاسعة عشرة من عمرها. امرأة شابة من هاواي، تمشي في ساعةٍ مبكِّرة من المساء لزيارة أحد الأصدقاء. ضلَّت الطريق وأدركت شيئًا فشيئًا أن رجلًا ضخمًا يتتبَّعها. أصبحت حاضرة بجميع حواسِّها وحاولت، بطريقةٍ استراتيجية، أن تجعله يفقد أثرها أو أن تعثر على شخصٍ في الشارع لمساعدتها.

ظلَّ يُلاحقها لبعض الوقت. ولم يكن هناك مَن يساعدها. وأخذ يقترب أكثرَ فأكثر.

عندما أصبح قريبًا للغاية، استدارت وواجهته. ابتسم ابتسامةً ماكرة وقال: «عاهرة.» في تلك اللحظة، أخذت نفسًا عميقًا واعيًا جدًّا لم تأخذه من قبل، وأطلقت صوتًا ضخمًا وحرًّا لدرجةِ أنها لم تشعر به في حلقها. دفعته قوةُ صوتها إلى الخلف وطرحته أرضًا. فنهض وفرَّ خائفًا. كيف فعلت هذا؟ كيف سقط هكذا؟ لقد صدمته الطاقة المادية لصوتها، أو أنَّ صدمة مثل هذا الصوت الذي انطلق من فتاة صغيرة قد أحبطت خُطَطه، أو ربما حدث كِلا الأمرَين.

تلك قصةٌ مألوفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤