حضورٌ كامل، صوتٌ كامل
«لن يأتيَ شيءٌ من الفراغ.»
الحضور الكامل
المستبدُّون لا يريدون الحضورَ الكامل من أي شخصٍ لا يعتبرونه مساويًا لهم.
بالنسبة إلى النساء، هذا أمرٌ معقَّد. إذ يتلقَّين معاملةً قاسية على الحضور الكامل عندما يظهر ذكاؤهن، لكن يكافأن حينما يكون الهدف من حضورهن هو إرضاء الآخرين، والمشاركة في مغازلةٍ جنسية، وكثيرًا حينما يتظاهرنَ بالغباء.
يُرَى الحضور الكامل بوضوحٍ بعينَين تتطلَّعان إلى العالَم، وكثيرٌ من النساء يخشَينَ التطلُّع إلى الخارج وأن يُصبحن ظاهرات.
فلا بد من العثور مرةً أخرى على هذا الحضور المفقود.
الحضور هو الطاقة التي تُمثِّل قوةَ الحياة فينا جميعًا. لا يُمكننا البقاءُ على قيد الحياة من دون حضور؛ حتى عندما نُخفي حضورنا تمامًا بالانغماس في تناول الكحوليات أو المُخدِّرات، يُمكننا أن نشعر بأن تركيزنا يقظٌ في نفوسنا المُشوَّشة عند تعرُّضها للتهديد.
إن الحضور مُرتبطٌ بأجسادنا وأنفاسنا وأصواتنا. إنه يُنير قلوبنا وعقولنا، ويُثير فضولنا واهتمامنا بالعالم من حولنا. إنه مصدر العالم الداخلي للمرء الذي يصل ويتصل بكلِّ ما حوله.
إنه دائرة الطاقة التي تُحيط بنا من جميع الاتجاهات، وعلى الرغم من أننا نراها في عيون بعضنا بعضًا، إلا أنها تتدفَّق من كل جزءٍ فينا.
عندما يلتقي حضورك بحضورِ إنسانٍ آخر، فإنكما متصلان ويصبح أمامكما الفرصة للفهم المتبادل. وعندما يحدث هذا التبادل، ينفتح بابان. يظهر بينكما ممران للطاقة ذوَا اتجاهَين: وهما الأخذ والعطاء. يتحقَّق توازن، وفي إطار هذا التبادل تتحقَّق المساواة. حتى لو كان شخصٌ واحد يتمتع بقوةٍ أكبر، فهناك إقرارٌ بالإنسانية واللقاء المشترك. حتى لو التقى بكِ قائدٌ وتشارك الحضورَ معكِ بضعَ ثوانٍ: فإن هذا يُشعرُكِ بأنكِ معروفة ومرئية ومتساوية.
عندما نكون حاضراتٍ بكامل حواسنا، فلدينا اتصالان متزامنان مع العالَم. الاتصال الأول هو مع المجموعة بأكملها أو المكان المُحيط بكِ، والاتصال الآخر هو مع شخصٍ واحد في المجموعة أو بقعة واحدة في المكان؛ قد يكون كِلا الاتصالَين ليسا سوى اتصالَين عابرَين.
على سبيل المثال، ينظر الطفل في عينَي والدَيه، لكنه مدركٌ أيضًا لوصول القطة إلى الغرفة.
إنَّ الممثل الذي يتحدَّث إلى ممثلٍ آخرَ على خشبة المسرح يجب أن يكون في حالة حضورٍ مع الممثل الآخر والجمهور، حتى لو لم ينظرا إليه. وكذلك المُمثل المُستَمِع يجب أن يمنح حالة حضوره الكاملة إلى المُمثل المتحدِّث والجمهور.
يُلجَأ إلى الحضور الموجَّه لنقطةٍ واحدة عندما نباشر مهمةً، لكن يجب أن ندرك أن الخطر ربما يكون مُحدِقًا بنا. إذا أُنجزت المهمة وبقية العالم من حولنا ليست في نطاق حضورنا الكامل، فسننغمس في أعمالنا، ومن ثَم علينا أن نعودَ إلى العالم من حولنا بعد أن نَفْرَغ منها. ليس ممكنًا تنفيذ هذه الأنشطة، التي تتطلب انهماكًا تامًّا وتركيزًا محددًا، بأمان إلا عندما تكون في مكانٍ آمن. هذه هي قدرتنا الطبيعية المزدوجة النشطة التي لا تزال ناجحة في بعض المجتمعات التي عملت معها.
إنَّ التمدُّن والتكنولوجيا في الحضارة الغربية قد هدَّدا بمحو حضورنا تجاه بعضنا بعضًا وتجاه المجموعة.
تعرف قبائل الزولو كيف لها أن تظل حاضرة أثناء عبورها أرضًا خطرة، لكن تلتقي أفرادها ببعضها بتحية «أتراني؟» التي تُسأل إلى الغريب.
وعندما يُصبح الغريب حضوره موجهًا إليهم يقول: «أراك.»
إنَّ اندثار المجتمعات والعائلات، والوحدة العميقة التي يشعر بها الكثيرون، هو نتيجة فقدان حضورنا الكامل.
في أواخر سبعينيات القرن العشرين، بدأتُ في تطويرِ ما أطلق عليه الآن «دوائر الطاقة الثلاث»، حيث لاحظت أنَّ الطلاب لم يكونوا حاضرين كما يجب، ولم يتمكَّنوا من تكوين فِرق أو تسخير انتباههم وقوَّتهم الكامليْن.
بدأت أفهم أن غياب الحضور يؤثِّر في الجسم والتنفُّس والصوت، وكذلك، بصورةٍ أكثرَ عمقًا، في حساسيتنا وفضولنا وإدراكنا للعالم.
عندما كان الطالب في حالةِ حضور كامل، أُتيح للجسم ضبط وضعه بصورةٍ طبيعية، وللصوت أن يكون حرًّا منطلقًا. وبدأت أنا أُطلق على هذا الوضع «حالة الاستعداد»، وهو ما أعبِّر عنه الآن بمُصطلح «الدائرة الثانية». في هذه الحالة، تعيش اللحظة بكل تفاصيلها. وتعيش اللحظة الراهنة.
إنَّ الطلاب ذوي الأجسام المُتهدِّلة، الذين ينظرون لأسفل، ويمشون بلا هدف، ويتنفَّسون تنفسًا سطحيًّا، وتُكبَت أصواتهم بداخلهم، ويغمغمون في حديثهم، ويعيشون منزوين، ولا يتواصلون بأعينهم، كنت قد أطلقت سابقًا على حالتهم اسم «الإنكار»، أما الآن فقد أعطيتها اسم «الدائرة الأولى». لاحظت أنَّ هذه العادات الانسحابية، التي تؤدي إلى غياب الحضور، كانت في الغالب حالةَ الإناث. فأنتِ، في هذه الحالة، تنسحبين إلى الماضي.
ثمَّة طلاب آخرون — هنا هم في الغالب من الذكور — تبنَّوا وضعًا كنتُ قد اعتبرته «التظاهر بعكس ما يُضمَر»: وهو وضعٌ أُطلق عليه الآن «الدائرة الثالثة». وضعٌ مصطنَع فيه استعراضٌ للجسم؛ إذ يكون الصدر مرفوعًا وكذلك الذقن لأعلى، والساقان مُمدَّدتَين، والتنفُّس مُسيطَرًا عليه بدرجة مُبالغٍ فيها، والصوت مرتفعًا جدًّا. في هذه الحالة، أنت تدفع نفْسَك دفعًا إلى المستقبل. إنَّ التظاهر بالقوة، بدرجةٍ ما، لا يقل ضَعفًا عن الدائرة الأولى لأن كلَيهما يُعيقان التنفُّس الطبيعي ويعرِّضانك للخطر. ويقوِّض كلٌّ من الإنكار والتظاهر حساسيتك تجاه العالَم من حولك. فتُصبح غيرَ واعٍ لنفسك أو لما حولك. في ثمانينيات القرن العشرين، بدأت النساء في تبني «التظاهر» — الدائرة الثالثة — وهن يقلِّدن عادات الرجال السيئة المتمثلة في استعراض القوة والتظاهر بها.
عندما تدخل غرفة، وقبل أن تتحدَّث بفترة طويلة، فإنَّ الطريقة التي تنظر وتتنفَّس بها، ترسل إنذارًا للحِس الداخلي في كل واحدة منَّا، فنحن نعرف ما إذا كنت واثقًا من نفسك وجديرًا بالاحترام أم لا.
نحن نعرف إن كنتَ تمتلك قوةً حقيقية أم لا، إذا كان الجسم والمِشيَة متَّزنَيْن، والعينان تنظران بما يعكس الحضور والفضول، والتنفُّس مُتصل تمامًا بعضلات البطن السفلية وليس سريعًا أو لاهثًا. والفكان ليسا مُطبقَين. فتتدفَّق الطاقة منك وتدخل محلَّها الطاقة المُتدفِّقة منَّا. فتُوزِّع الطاقة وتتلقَّاها بحضورك الكامل.
يولد أغلبُ الناس وهم يتمتَّعون بحالةِ حضور كامل، وتلك الطاقة تحمل في داخلها الإمكاناتِ الكاملة لتبقى مفعمًا بالحياة وتتمتَّع بالفضول وتصبح إنسانًا عظيمًا. أولئك الذين حافظوا عليها، يدخلون العالَم من دون الاضطراب الذي يُسبِّبه الخوفُ لكن يدخلونه بالحُرية التي يَهَبُها إياهم الأوصياء العطوفون.
بهذه الطريقة، ولآلاف السنين، فإنَّ الصبي الذي يتمتَّع بامتيازاتٍ ويحظى دائمًا بتقديرٍ كامل (بعبارة أخرى، يحظى بحبٍّ غير مشروط) يبدو أنه صبي لا يقف أمامه شيء، بل غالبًا ما يكون كذلك.
والصبي الذي يتمتَّع بامتيازات ولم يحظَ بقبول الحُب غير المشروط، فإنه يبدو واثقًا بنفسه، لكنه غالبًا ما يمثِّل طاقةً خطيرة على نفسِه ومَن حوله. ويكون حضوره غيرَ كامل: بل يتظاهر بأنه كذلك.
من جانبٍ آخر، الصبي الذي يعيش في بيئةٍ لا امتيازات فيها، لكنَّ نفسَه مُشبَّعة بحبٍّ غير مشروط، بمقدوره أن يكسر الحواجز التي تقف أمامه في بداية حياته ويظهر في حالة قوة.
يخرج هؤلاء الصبية إلى العالم في حالةِ حضور، وسيحظون بالتقدير والاحترام. مع ذلك، تلقى الفتيات عادةً ردَّ فعلٍ معاكسًا على قوَّتهن الكاملة: لا يحظينَ بالتقدير والاحترام، بل يُهاجَمن. تُعامل النساء معاملةً قاسية على حضورهن الطاغي. ويُسخَر منهن حينما يكون حضورهن ذا ثِقل.
في مواقفَ عديدة، يصبح أسهل على الفتاة ألا تكون حاضرة، وأن تنسحب لوقف تلك الهجمات أو ذلك الاهتمام الجنسي غير المرغوب فيه.
لا يزال الحضور الكامل للفتيات يُمثل خطرًا لكثيرين. ولا يزال بعض الرجال (والنساء) يشجعون الفتيات على الانسحاب، وألا يُظهرن حضورَهن للعالم — وقد تكون هذه استراتيجية للنجاة ويُراد منها حماية الفتاة الصغيرة بمحبَّةٍ وإخلاص. تُصبح هذه الحماية وسيلةً جيدة إذا لم تقوِّض قدرتهنَّ على العودة إلى حضورهن الطبيعي.
يستكشف هذا الكتاب كيف يتسنَّى للنساء العودةُ إلى حضورهن وقوَّتهن الكاملَين.
الصوت الكامل
إنَّ حضورنا وصوتنا الطبيعيَّين لا ينفكَّان عن بعضهما. وكلٌّ منهما يعتمد على الآخر. وأي عائق يحُول دون الحضور يؤثِّر في صوتنا وأي عائق في صوتنا يؤثِّر في حضورنا.
يكمُن اقتران الحضور والصوت في جسمٍ مُتزنٍ ومُستقيم ويُعتمد عليه. فالجسم الكفء هو الذي لا يحمل توتراتٍ لا طائل منها إلى القدَمَين، وفي الساقَين ومنطقة الحوض والمَعِدة والعمود الفقري والجزء العلوي من الصدر والكتفَين والرقبة والفكَّين.
يستهلك الوقوف والمشي والجري الطاقةَ الكاملة الطبيعية في الجسم بأكمله، وباستمرارٍ تتعدَّل تلك الطاقة، إلى جانب القوة العضلية المناسبة، لتنفيذ أنشطة بدنية مُعينة.
إنَّ الحالة الطبيعية لجسدنا لا تُبدِّد الطاقة. ويجب أن تكون الطاقة متناسبةً مع المهمة التي يُجرَى تنفيذُها؛ مثل رفعِ حقيبةٍ ثقيلة أو ريشة.
تؤثِّر حالة الجسم في التنفس. والتنفس هو ما يُمِد كلَّ شيءٍ فينا بالقوة، بما في ذلك الصوت.
يجب ألا يظهر على التنفُّس الطبيعي أيُّ ضغطٍ أو يستلزم رفعًا للكتفين، أو الجزء العلوي من الصدر أو الفكين. عندما نستنشق الهواء، يجب أن يتَّسع القفص الصدري من الجانبين والخلف، ثم يجب أن تتحرَّر العضلات إلى منطقة الأُربيَّة.
عند زَفْرِ الهواء، فإنَّ العضلات التي تتحكَّم في تنفُّسنا من أعمقِ مكانٍ في أجسامنا وحول القفص الصدري يجب أن تتحرك لتُحدِث تدفقًا عاموديًّا للهواء يدعم الجسم والصوت والمخ والقلب أو يمد الجسم بالقوة. إذا استعصى علينا التنفُّس تمامًا، فلا يُمكننا أن نكون حاضرين حضورًا كاملًا. ولا يُمكننا أن نفكِّر أو أن نشعر أو أن نَسمع بآذان صاغية أو أن يؤخَذ كلامنا على مَحمل الجِد.
تتغيَّر قوة النفَس وتدفُّقه مع أي مهمة تحتاج إلى تنفيذها. كلما كانت الصخرة التي تحتاج إلى تحريكها كبيرةً، كان النفس أكبر. وكلما كان المكان الذي نتحدَّث فيه أكبر، كان النفَس أكبر.
كلما كان الصوت أعلى، كان النفَس المستخدَم لإطلاق الصوت أكبر. فأي صوتٍ نُصدره يجب أن يدعمه التنفُّس.
يجب أن يدعم النفَسُ الصوتَ الحرَّ الذي ينطلق من أفواهنا من دون عقبات. سيغيِّر النفَس والصوت الحر من نبرة الصوت ومداه لنعبِّر عن أفكارنا ومشاعرنا.
يجب أن يُعبِّر الصوت ونغمته عمَّا يُقال.
إنَّ العقبات التي تَحُول دون الصوت تؤدي إلى تحريف المعنى الدقيق لما نحاول التعبيرَ عنه؛ لأن جودة الصوت لا تتطابق مع الكلمات.
عندما ينطلق الصوت إلى العالَم، يجب أن تطوِّر عضلات الكلام الصوتَ بسهولة إلى كلمات.
الحضور والصوت الطبيعيان هما العنصران اللذان نربطهما بالنفوذ والقوة الحقيقيَّين. فالقائد المُسيطر يعيش منغمسًا في حالة حضور، ومنسجمًا مع جسده وصوته، وتُعد قوَّته قوةً طبيعية ومتناسبة مع كلِّ ما يقوم به أو يتواصل معه.
لقد قابلتُ العديد من الرجال المسيطرين الذين لم يُضطروا قط إلى العمل على أنفسهم. وقابلت كذلك نساء مسيطرات، لكن اضطُررن كلهن إلى إعادة الاتصال بقوَّتهن الطبيعية وحقوقهن في القيادة بمجهودٍ شاقٍّ. لكن يتسنى للنساء فرصة العمل على أنفسهن في أوقاتٍ خاطفة، لكن اللواتي قابلتهنَّ لم يتمكنَّ من المواظبة على ذلك إلى أن يصِلنَ إلى مرحلة الانسجام في دور القيادة من دون عمل.
في حِقبة ما قبل التاريخ، تقلَّدت النساء الحُكمَ باعتبارهنَّ طرفًا مكافئًا، مثلما كنَّ يحكُمن في العديد من المجتمعات الأصلية. أما النساء في الحضارات الأولى فكنَّ مَن يُطارَدن أو يُكبَتن أو يُرجَمن حتى الموت.
لقد قضيتُ وقتًا لا يُستهان به في مسيرتي المهنية أُجري دراسةً على القرود. من أجل مساعدة المُمثلين في تجسيد أدوار الشمبانزي والغوريلا والبونوبو، لقد شاهدتُ سلوكهم وناقشته مع الخبراء، ولاحظت سِماتهم الجسدية وأصواتهم، ولاحظت عمومًا كيف تؤثِّر القوة في طاقتهم وطاقة المجتمع.
كانت الرائعة أيلسا بيرك في فيلم «جرايستروك» (١٩٨٣)، مُضطرَّة إلى الخضوع لهذا التحوُّل. كانت تلعب دور أم طرزان بالتبنِّي — التي كانت قردة — وقد طوَّرنا حوارًا فعَّالًا حول الطريقة التي يمكن لها، تحت زي القرد الذي تبلغ قيمته ربعَ مليون دولار أمريكي، أن تملأ، على نحوٍ كامل وصادق، كيانها المُتخفي وراء القناع التجميلي بهذا الدور. عملتُ مع أيلسا لمساعدتها في تحفيزها من الداخل وإضفاء الحياة على زيِّها.
هذا تضمَّن بحثًا وزياراتٍ مُوسَّعة إلى مجتمعات القرود.
توالت أفلامٌ أخرى للقرود، وتحسَّنت دراستي بدرجةٍ كبيرة مع العمل الذي أجريته في «السير مع رجال الكهف» (واكينج ويذ كيفمان) (هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)/«ديسكفري تشانيل») في عام ٢٠٠٢.
كنت أواصل عملي الدءوب على الدوائر الثلاث وتوصَّلت إلى اكتشافاتٍ سارَّة عند مراقبة الغوريلا والشمبانزي.
يجلس الذكور والإناث المُسيطرون في المركز ويُراقبون مجتمعَهم بحماسةٍ واهتمام، ويكونون مُتيقظين فيتحرَّكون سريعًا ليتدخَّلوا بالقوة المناسبة حالَ حدوث أي شِجار. يحافظون على إبقاء السلام. يتحرَّكون بكفاءةٍ وحذَر في أرجاء المكان، ويُنزِلون العقابَ الجسدي المناسب تمامًا جزاءً لأي فعلٍ خاطئ، بحيث لا يكون قاسيًا للغاية ولا مُتساهلًا للغاية. بجانب مُمارساتهم، يسود دائمًا الهدوءُ والعدل. هم يُصدرون الأصوات عند الضرورة وبالقدْر المناسب دائمًا. فكفاءتهم الناتجة عن مُمارساتهم المُتزنة وحِكمتهم في استخدام الصوت هي نقطة ارتكاز المجموعة.
كانت متعتي الحقيقية في الملاحظات التي توصَّلتُ إليها حول أولئك الذين يرغبون في السُّلطة وأولئك الذين لا يرغبون فيها.
يتَّسم الذكور الصغار — غير المُسيطرين بَعْد لكنهم يحاولون بلوغَ السيطرة — بأنهم مُعتدون بأنفسهم، يقفزون هنا وهناك، يُصدرون ضجيجًا صاخبًا، يُثيرون الفوضى، يرمون الأشياء، يصيحون ويصرخون.
هذه صورة ساخرة مُفصَّلة للتظاهر المُمَيِّز للدائرة الثالثة.
كان الجميع يسعى إلى السُّلطة ولكنهم لم يكونوا من ذوي النفوذ والسيطرة. فكان المسيطرون بإمكانهم، وقد فعلوا ذلك، تسديدُ ضربة عنيفة في الوقت المناسب ويختفي التحدي. سيتمكن أحدهم في النهاية من عزل صاحب النفوذ والسيطرة، ومن ثَم سيعتمد على الاستخدام الهادئ المُتوازن الفعَّال للقوة الذي يجعل المجموعة بأكملها آمنة.
إنَّ القرد الشاب، الصاخب، الفوضوي، المتظاهر بالقوة لا يُعد قائدًا آمنًا أو مبدعًا يضع في اعتباره نجاةَ المجموعة ورفاهيتها. تحتاج المجموعة إلى هذه الطاقة الشابة والعدوانية التي لا تتَّبع تفكيرًا استراتيجيًّا لاستغلاها في حماية المجموعة، وليس لقيادتها.
هناك ذكورٌ في المجموعة لا يرغبون في تولِّي دور القيادة. ويسرُّهم أن يكونوا جزءًا من المجموعة وسيلجئون إلى الانسحاب المُمَيِّز للدائرة الأولى عندما يعترضهم تحدٍّ أو عند ملاحظتهم. فَهُم يعرفون منطقةَ الراحة بالنسبة إليهم ولا يتزحزحون خارجها. وهذه الفئة قد تكون ذكورًا دخلوا في تحدٍّ وفشلوا، أو أولئك الذين لم يرغبوا قط في تولِّي القيادة. ستتسامح المجموعة معهم ما داموا ماكثين في حضورٍ هادئ مُهادِن.
تؤدي الأنثى القوية دورًا مماثلًا؛ إذ إنها تتحقَّق من أي مشاغباتٍ بين الإناث. وتمتلك القوةَ المتزنة نفسها والطاقة المناسبة نفسها لمواجهة أي سوء تصرُّفٍ في المجموعة.
لا تُبدي الأنثى القوية ولاءً أو عاطفةً عند حدوثِ تغييرٍ في السُّلطة. ومن أجل سلامة صغارها وربما رفاهية المجتمع، ستغير ولاءها عندما يسقط الذكر المسيطر، وعند انقضاء السنوات التي يمكنها التكاثر فيها، فإنها لا تزال تجذب الأنظار إليها وتلقى احترامًا في المجموعة.
شاهدتُ هذا السلوك بصفتي هاويةً تسعى وراء هدفٍ. فأنا لست عالِمة، وآرائي تعبِّر عن رؤية شخصية، لكن تلك اللقاءات مع القرود في هذه المجتمعات المحمية منحتني رؤًى مهمةً عن السلوك، وعن قيادة المجموعة قيادةً إبداعية سويَّة.
أثناء التدريب مع أيلسا، لاحظت سلوكياتٍ بشريةً كثيرة تُمارس يوميًّا، لكنها الآن لها تداعياتٌ قوية على عملي.
في أحد المطاعم، شاهدت باستمتاع حينما حاول رجلٌ من الدائرة الثالثة باستماتة أن يَستقدِم النادل. فظل ينقر بأصابعه ويلوِّح بذراعه. ربما يَصلُح هذا السلوك مع نادلٍ أقلَّ نضجًا وخبرةً، لكن هذا النادل وجد قوَّته المتزنة في الدائرة الثانية، ومع أنه ليس رجلًا ثريًّا، لم يكن متقبلًا لأن يستدعيَه زبون متظاهر بالقوة بنقرة إصبع.
لكن هذا النادل لبَّى على الفور نداءَ رجلٍ في المطعم كان يتمتَّع بقوةٍ حقيقية. لم يكن عليه سوى رفع رأسه وتوجيه بصره نحو النادل ليجذب انتباهَه السريع. فهذا هو الرجل المسيطر فعليًّا على الرغم من أن ملابسه كانت أقلَّ ثمنًا من الشاب المتظاهر بالقوة.
امتدَّ هذا النمط إلى النساء. كان بإمكان الزبائن جذبُ الانتباه بالطريقة المتزنة المتحفِّظة نفسها. في حين قوبلت بالتجاهل، لبعض الوقت، وعلى نحوٍ مماثل، امرأةٌ أخرى كانت تلوِّح بيدها.
حفَّزت هذه الملاحظات تصوُّري عن العمل. يعرف كلُّ مَن في المجموعة ماهيةَ القوة الحقيقية من خلال الطريقة التي نستخدم بها الطاقة في الجسم والصوت.
راقبتُ وأجريتُ اختبارًا.
كان المشهد هو زحامًا عند الحانة لشراء مشروب.
كان الرجال الذين يلوِّحون بأيديهم بنقودٍ من فئة العشرة ويرفعون أصواتهم هم مَن يحصلون على الخدمة قَبْلي، ومن بعدهم الرجال الهادئون المتزنون الذين تظهر منهم طاقةٌ تعكس اعتدادًا بالنفس وكأن لسان حالهم يقول «إياك أن تعبث معي».
مثلي مثل العديد من النساء، كنتُ غاضبةً لعدم حصولي على الخدمة، وغالبًا وجدت أنَّ صوتي أصبح عدوانيًّا، وهو ما لم يُجدِ نفعًا أيضًا. لهذا غيَّرت الخطة. أمسكتُ بعشرةِ جنيهاتٍ في يدي. لكني لم ألوِّح بها، بل بقيتُ حاضرةً جدًّا وبقيَ تركيزي موجَّهًا إلى النادل.
بدأت في الحصول على الخدمة قبل الرجال من الدائرة الثالثة، ولكن ليس قبل الرجال المُتزنين من الدائرة الثانية. هذا ينطبق على النُّدُل رجالًا ونساءً. فكان أمرًا مثيرًا للاهتمام.
كان نجاحي واضحًا جليًّا للرجال من الدائرة الثالثة الذين كانوا يلوِّحون بأموالهم حتى إني بدأت أتلقى إساءاتٍ لفظية، وعلى الرغم من أنني لم أتجاوز غيري، كنتُ كثيرًا ما أُتَّهم بذلك. ولم يعترضوا على الرجال من الدائرة الثانية الذين حصلوا على الخدمة قبلهم بالطريقة نفسها.
كانت هذه تجربةً مؤثِّرة بالنسبة لي، لكني ما زلتُ أشعر كثيرًا بالخِزي والإذلال والحزن لكوني في الحانة، أستخدم خُطَطهم، وأُظهِر لنفسي في النهاية «عدم المساواة» التي أتعرض لها.
كيف ستكون الحال أن تعيش بجسدٍ وصوتٍ يُنظَر إليهما أنهما مكافئان بلا شكٍّ؟