والدتي مارجريت وجَدتي وينيفريد
مارجريت
عندما أسمع أصدقائي يصِفون أُمهاتهم، أدركُ كم كنتُ ذات حظٍّ عظيم.
كانت مارجريت امرأةً وأُمًّا لطيفة وحنونة ومُراعية لأدقِّ التفاصيل وجديرةً بالاحترام. كانت تباشر شئوننا في الصباح، وتستقبلنا بالتَّرحاب في أي وقتٍ نعود فيه إلى المنزل. وحينما أنهيت علاقةً مؤذية واتصلت بها لأُخبرها، ظلَّت مُستيقظة تراقِب قدومي من النافذة. ظلَّت تنتظرني حتى الساعة الثالثة صباحًا وأسرعَت في إعداد فنجان شاي لي.
لم تكن أمًّا تُعبِّر عن مشاعرها بالجسد، لكنها كانت تتمتع بحضورٍ كامل.
علَّمتُها كيف تُعانق عندما كنت في سن الثامنة عشرة. وبعد بعض الأحضان الأولى، المصحوبة بضحكاتها، كانت تغمرها السعادة عندما يُعانقها أحدٌ، فتُبادله بعناقٍ آخر.
لم يكن لمارجريت صوتٌ مسموع في العَلَن: إنما صوتها كان مسموعًا في مُحيطٍ خاص. كانت تتبنى دَور المُستمعة، لكن ما إن تُمنَح الفرصة للتعبير عن نفسها، كانت تجد الكلمات والأفكار والوضوح فيما كانت تُفكِّر فيه وتشعر به. لكن يجب أن يكون ذلك في مكانٍ آمِن. لم أسمعها ترفع صوتها أو تصرخ أو تسبُّ. كانت تضحك حتى تتساقط الدموع من وجهها، لكن من دونِ صوتٍ صاخب. لم أسمع القوة الكاملة لصوتها إلا قبل يومَين من وفاتها.
لم تُمنح الفرصة للتعبير عن قراراتٍ أو خيارات مُهمة في حياتها الزوجية. لا أعتقد أنَّ والدي كان يظن أنَّ هذا أمرٌ قاسٍ — لكنه كان كذلك — ولم يخطر في باله أو في بال أصدقائه أنها ربما لها رأيٌ مؤثِّر. كانت امرأة من الطبقة العاملة، لم تُكمل تعليمها، ومن المفترض أنها كانت تُبدي امتنانًا لثروته التي تزيد يومًا بعد يوم، والعطلات والمشتريات الغالية.
لم تنفق مارجريت أموالًا على نفسها أو تطلب هدايا، ولذلك نادرًا ما حصلت عليها. كانت تؤدي عملًا رائعًا من دون أن تتذمَّر، بل كانت تُخفي خيبةَ أملها، وظلَّت تغرق ببطء في الاكتئاب الذي تسبَّب فيه إهمال زوجها.
لم يُسعفه عقله قط أن يفهم سببَ عدم سعادتها عندما أعلن عن رحلةٍ بحرية من الدرجة الأولى.
فكان ردي على استيائه ودفاعي عنها: «لأنك لم تسألها قط! لم تمنحها فرصةَ الاختيار.» هكذا كان تفسيري.
بدت عيناه مذهولتَين، ولم يبدِ رغبةً في سماعِ ما كان يعتقد أنه هجوم طفولي وغير واقعي من ابنته.
كان يُمارس هذه الاستراتيجيات طَوال حياتهما الزوجية. عاد إلى المنزل، إلى شقتهما التابعة لمجلس البلدية في بيمليكو، معلنًا أنه اشترى منزلًا في الضواحي، فانتزعها هي وأمَّها — جَدتي — من أصدقائهما وذكرياتهما لينتقِلا إلى منزلٍ وسط الطبقة الوسطى. كان مكانًا غريبًا على كلَيهما. لكن كان بوسعه أن يقود سيارته متجهًا إلى لندن ويترك الضواحي من أجل عمله وحياته، وكلُّ هذا من دوننا. على الرغم من حبِّه لها، كان واضحًا جدًّا أنه وجد طبقتها الاجتماعية تُمثِّل مشكلةً له، ولم ينزلها قط منزلتها علانيةً ولم يدافع عنها قط عندما تجاهلها أصدقاؤه. وسرعان ما أصبحت دائرتها الاجتماعية الجديدة من الطبقة الوسطى مدركةً لذلك.
لم تشعر مارجريت قط بالراحة مع النساء «الأرستقراطيات» ووالدات أصدقائنا. كانت تبصر حقيقتهن بوضوح شديد وتتحمَّل غرورهن، وتلاحظ كلَّ شيء باستمتاعٍ ساخر. لم تكن قاسية البتة، كان لديها فحسب شعورٌ بالسخرية واللطف الذي يسمح لهن بالتصرف بطريقة تريحهن. كان ارتداء قبَّعة الكوكتيل الصغيرة، ذلك التصميم السابق لقبعات «الفاسينتور» في ثمانينيات القرن العشرين، سخيفًا للغاية على رأس زائرة تشرب كوب الشاي الذي صنعته أُمي بإجادة تامة كعادتها، وتأكل برقةٍ شريحةً من كعكة فيكتوريا الإسفنجيَّة. كان مضحكًا للغاية أن أشاهد رفرفةَ الريش وتقليد أشكال الحشرات فوق رأسها، لدرجةِ أن تلك الأم جذبت انتباهي، أما الالتفاف الطفيف الذي بدت به القبعة فقد جعلني أُضطر إلى مغادرة الغرفة قبل أن أنهار من الضحك. ولم يكن مضحكًا على الإطلاق عندما رأيت أمي تُحضِر إحدى صديقاتها المغرورات لتتناول الشاي. كانت أُمي قد تعلَّمت القيادةَ في ذلك الوقت، لذا لم تكن تحتاج إلى حمل مشترياتها لمسافةٍ كبيرة. بعد أن أُعطيت السيارة التي اختارها هو، كانت سائقةً بطيئة وحَذِرة، وكانت تستخدمها العديد من «صديقاتها» الأرستقراطيات لنقلهنَّ ذهابًا وإيابًا.
رأيتها توقِف السيارةَ وتسير حولها لتفتح البابَ لهذه السيدة.
في وقتٍ لاحق، اعترضتُ عليها فيما يخصُّ السبب الذي دفعها إلى القيام بذلك فهزَّت كتفَيها. «كان زوجها يفعل ذلك من أجلها، وهذا يُشعرها بالاهتمام: إنها أرملة.»
في ذلك اليوم، أوصلتُ هذه السيدةَ إلى المنزل وعندما توقَّفنا خارجَ منزلها الكبير انتظرتني لأفعل الشيءَ نفسه. قالت بابتسامة لطيفة كانت دلالتها أقربَ ما تكون إلى الاستياء: «زوجي كان يفتح الباب لي دائمًا.»
«سأفتح لك الباب، ولكن من فضلك لا تُعاملي أمي على أنها سائقة. هي أكبر منك سنًّا ويمكنكِ فتحُ الباب بسهولة.»
لم أخبر أُمي قط عن هذا الحوار، لكن كان يؤلِمني أن لم يعرفها أحدٌ بالقدْر الكافي حتى يمنحها المساواة. ألم يغضضنَ الطرْف عن جذورها المُنتمية إلى الطبقة العاملة مقابل ما وجدنَه من لطفٍ وسخاء منها؟ كُنَّ دائمًا يأكلن جيدًا ويشربن نبيذًا ذا مذاقٍ طيب. كان والدي يحتفظ بمجموعةٍ متنوعة من النبيذ.
جَدتي
كانت جَدتي — ويني — صعبةَ المِراس. وسرعان ما يظهر غضبها. عاشت حياةً قاسية. ولم تنعم بالراحة حتى تزوَّجت مارجريت وبدأ والدي في كسب المال، فأصبحت هي جزءًا من العائلة، وانتقلت لتعيش في منزله. لم تقِف في مواجهةٍ مباشِرة مع زوج ابنتها، ولم تُذعن له كذلك أو تُداهنه. بمجرَّد أن انتقلنا، فقدَت الأصدقاء الذين أحبَّتهم في لندن.
احتفظت بأسرارها وكرامتها. كانت صاحبة شخصية شديدة، فكانت من واقع تجربتي هي الأفضل، بل الوحيدة، التي يمكن أن ترويَ لي القصص. كانت مُخيفة وجذابة بالنسبة إليَّ. كنت أعشقها، لكن روحها كانت دائمًا تحمل إحساسًا بالخطر.
حتى في الثمانينيات من عمرها، تصارعت معي ذات مرةٍ على قناة التلفاز التي كنَّا نُشاهدها حتى طرحتني أرضًا، وهي تلوي يديَّ بيدَيها! كان التلفاز هو مصدرَها الرئيسي للراحة والبهجة في القرن العشرين. وفيما بعدُ، صُدمت من أني هُزمت بهذه السهولة، وأدركت أنَّ يدَيها وذراعَيها كانتا يُعتمد عليهما في إنجاز العمل؛ إذ كانت تغسل الملابس مقابلَ المال وكانت تتباهى بكل اعتزازٍ بأنها ماهرة في عَصْرِ الملابس.
كذلك كلماتها وأفكارها كانت تُصارعني، فكانت تحطِّم عن قصد المفاهيمَ الخاطئة التي تعلَّمتها من الطبقة الوسطى. كان ذلك في الغالب مؤلمًا، لكنَّ أثره كان دائمًا مبدعًا وتربويًّا.
بعد حوارٍ دار بيننا ذاتَ مرة، رأت أنها جرحت مشاعري خلاله، فقالت: «أنتِ لا تعرفين مَن أنا. ولا أحدَ هنا يعرف.»
«أخبِريني، من فضلك.»
أطالت التحديق فيَّ. ثم قالت: «إنها حكاية عميقة مضى عليها زمنٌ طويل.» وكانت هذه نهايةَ الحوار.
كما قال بوتوم في مسرحية «حُلم ليلة منتصف صيف» وكان يعلم: «إنَّ قصصنا لا نهايةَ لها.»
من دون الأصوات والكلمات، لا يُمكننا أن نُعبِّر عن أنفسنا أمام العالم أو أمام أنفسنا.
أعتقد أنَّ مارجريت وويني كانتا تعرفان نفسيهما.
كانتا تعرفان رحلاتهما وقيودهما القديمة. كانتا تعرفان أيضًا القيودَ التي فرضها عالَم الرجال. فهِمتا، في زمانهما ومكانهما، أنَّ الرجال لم يكونوا مُستمعين متعاطفين. لم يكونوا مُضطرِّين إلى الاستماع، أو الاهتمام بما تفكِّر فيه النساء أو يشعرن به.
لقد ذكرت من قبلُ أنَّ منزلنا كان خاليًا من الكتب، فلم أرَ قطُّ أبي يقرأ كتابًا، ليس إلا صحيفة «فايننشال تايمز» والمجلات التي كان ينشرها.
لكن كانت لدَينا خزانة اكتشفتُ بداخلها كتابًا مُهترئًا لأمي وهو «الأعمال الكاملة لشكسبير» وكتاب الشعر «كولينز ألباتروس».
أخذتهما إلى غرفتي. في الحقيقة سرقتهما. أخفيتهما وقرأتهما. كنتُ في التاسعة من عمري. لم أرغب في مشاركتهما؛ لأنه خالجني شعورٌ بالذنب كان مرتبطًا بالبهجة التي وجدتها في قراءة هذه الكنوز المخبوءة. بمفهوم اليوم، لم أملك السيطرةَ على نفسي إلى أبعدِ حدٍّ.
ذات يوم، طرقَت أمي المهذَّبة باب غرفتي. لم تدخل قط على أيٍّ منَّا من دون أن تطرق بلُطفٍ على الباب.
كنت قد تركت كتابَ الشعر في الخارج.
عندما لمحته، شعرتُ بالذنب. كنت أعرف أنها لن تُعاقبني، لكنها قد تشعر بخيبة الأمل من سرقتي. رأيتُ عينَيها تغرورقان بالدموع عندما أمسَكَتْه.
ثم ألقت من ذاكرتها شعرًا للاي هانت بعنوان «جيني قبَّلتني».
وكانت هذه، على الأرجح، بدايةَ العلاقة الأكثر أهميةً التي شعرت بها مع أمي. علاقة لم يشهدها أحد. أعتقد أنني أعدتُ إلى أذهان أُمي مشهدَين من أبرز المشاهد في حياتها عندما قدَّمت لها الليدي ماري سومز — ابنة وينستون تشرشل — وهو بالنسبة إلى أمي أعظمُ رجل عاش على وجه الأرض، وباربرا لاي هانت: المُمثلة العظيمة التي ينحدِر نسلها من الشاعر لاي هانت.
أتاح لي هذا السرُّ أن أُحضِر إلى المنزل كُتُب الشعر من المدرسة وأشاركها معها. استوعَبتِ الأمر. كانت تُدرك أن الشعرَ يُشبِع شيئًا في نفسي. فهمتْ شيئًا عني عجز الآخرون عن فهْمه، وأنا كذلك فهِمت شيئًا عنها. كانت أُمي تحبُّ الشعر. رأيت شيئًا مميزًا فيها عندما كنا نتناقش في الشعر: ألا وهو المُتعة. كنت أشعر دائمًا بأنه مخبوءٌ تحت لُطفها وحنانها إحساسٌ مُوحش بالوحدة. وهو ما اعتبرته فيما بعدُ شعورًا بالأسى.
كانت تحب الضحك على الأشياء المضحكة التي لا تضر بأحدٍ. كانت تُحب الرقص والرقصات الشعبية وإنشاد ترنيمات مؤثِّرة. لكنها لم تجِد بهجتها في الثروة أو المكانة.
كانت تُحب القصائد التي لها وزن شعري، وعندما كبرتُ ومررتُ بتلك المرحلة التي يمر بها معظمُ مَن هم في سن الثالثة عشرة — تلك العجرفة الناتجة عن الجهل — كنتُ أعتقد أن اختيارها للقصائد بسيط ويفتقر إلى العمق الفكري. بئس الجهل؛ ذاك الافتقار إلى الفهْم والتعاطف.
ها هي واحدة من القصائد التي تشارَكنا معًا الحديثَ عنها، كانت للشاعر هارولد مونرو، بعنوان «سمِعت صدفةً عن مُستنقع المِلح».
كنَّا نرى — أنا وهي — أنَّ القصيدة كانت قصةً جميلة، مناسبة لمستوى الطفل، تدور حول الحوريات في الغابة. لم تكن الحياة في العالَم السُّفلي المظلم واضحةً. وهكذا كانت أيضًا الصدمة التي باغتتنا في مسرحية «حُلم ليلة منتصف صيف» عندما أدركنا مدى الخطورة والشر الذي كانت تُمثِّله بوك. وأثار إعجابي أنَّ الحورية كانت ثابتة على قرارها. وكنت أعرف أنَّ صوتها سيكون قويًّا وواضحًا وغير مُعتمدٍ على تعاطفه. فلا اعتذار، ولا أعذار، ولا تنازلات.
لم يكن لدينا قوانينُ المساواة حتى تلك اللحظة، لكني كنتُ أعرف أنَّ لها صوتًا مكافئًا لصوته ولا يُخالجها خوفٌ من استخدامه. وكنت أدرك أنَّ الصوت جاء من رحِمِها. كنت أعرف أنها تنظر إليه بحضورٍ كامل، فلم تُطأطئ رأسها، ولم ترتجف عيناها، ولم تبتسِم أو تتلوَّى بجسدها.
كانت متزنة، وتركيزها موجَّه، ولا تُخيفها العواقب.
«لا.»
في وقتٍ لاحق، عام ١٩٧٣، عندما كنت في المدرسة المركزية الملكية، كنت سعيدةَ الحظ بما يكفي لأدرس على يدِ جيرارد بينسون، وهو شاعر عظيم بدأ أعماله ﺑ «قصائد على قطار الأنفاق» وكان عضوًا مؤسِّسًا في مجموعة شعراء بارو، وسمِعت القصيدة مرةً أخرى بإلقاء جيرارد. ثم أدركت، من براعة صوته، أنَّ هذه قصيدة معقَّدة عن الجنس والقبول أو عدم القبول.
لا مجالَ للتفاوض أو التردُّد. إنه رفضٌ شجاعٌ لطلب الغُول. لم تكن الحورية منزَّهة عن الخطأ! لقد سرقت الخرزات من القمر، لكن تكمُن قوة القصيدة في اقتناعها بما تمتلكه واختيارها بألَّا تُعطيَه الخرزات أو الحُلي. تعوَّدت النساء، حتى وقتٍ قريب جدًّا، أنَّ فقدان عُذريتها الغالية سيدمِّر حياتها ويُعرِّضها لخطر عدم الزواج في أفضل الأحوال، أو الرجم في أسوأ الأحوال.
إنَّ «لا» الحازمة، التي نطقت بها الحورية، تُثير الخوفَ والرعب في نفس أي شخصٍ يخشى القوةَ الكامنة للغول. هل لدَيه قوةٌ أكبر منها؟ ماذا سيفعل؟ نحن لا نعرف ماذا سيفعل بعد نهاية القصيدة، ولكن خيالاتنا تتجوَّل بين احتمالات غامضة.
أمامنا خيارات ثلاثة:
أولها، أن يستمتع بوضوحها وقوَّتها، والصداقة القوية التي ستنشأ بعد ذلك! وهذا توقُّعٌ حالم. ويُمثِّل المسارَ الذي سلكه الرجال المُبجَّلون في مسرحية شكسبير عندما تحدَّتهم امرأة فصيحة اللسان.
ثانيها، أن يكرهها ويتَّقد غضبًا منها، ويتجهَّم ويشتكي منها في كل مكانٍ في المستنقع المالح. وربما يُخطِّط لإسقاطها.
أو ثالثها، أن يُهاجمها وينتزع الخرزات منها في أفضل الأحوال، أو يغتصبها.
هذا الخيار الأخير هو أول ما يتبادر إلى أذهان معظم النساء عندما يقُلْنَ «لا» لمن هم في موضع سلطة. إذا خسرن استحسانَ القائد وحمايته، فهل بسبب ذلك سيتعرضن للخطر؟
اضطُرت النساء إلى تعلُّم كيفية التفاوض بطرقٍ مُلتوية، والعثور على طرقٍ غيرِ حادَّة لتجنُّب الرفض المباشر.
وجد الرجال، لعدة قرون، أنَّ هذه الاستراتيجية التي تتَّبعها النساء مثيرةٌ للغضب. ويعتبرونها تلاعُبًا وخداعًا. فيضطرُّون إلى قضاءِ ساعاتٍ في التودُّد إليهن، ووقتٍ آخرَ في الإطراء عليهن. ثم يغضبون ويتذمَّرون من الطرق المُلتوية التي تسلكها النساء، لكنهم عجزوا عن فهمِ الأمر. امنحونا المساواةَ والحقوق وحينها قد تتوقَّف الحِيَل.
إنَّ النساء صريحاتٌ مثلهن مثل الرجال ويجب أن يسعَين لأن يكنَّ كذلك، لكن يجب أن يشعرنَ بالأمان ويعرفن أنَّ قولهن «لا» في أي سياقٍ لن يُستخدَم ضدهن.
لكن العادات والحِيَل المُحكَمة التي دامت قرونًا لن تختفيَ بين عشيةٍ وضُحاها. سنعرف معنى المساواة عندما لا نُعاقَب على الصراحة.
ألقيتُ في جنازة أُمي قصيدتَين أخريَين كانت تُحبهما.
قصيدة «حمَّى البحر» لجون ماسفيلد، و«القمر عاليًا» لألفريد نويس.
عندما قرأتهما بصوتٍ عالٍ، أدركتُ أنَّ قصائدها المفضَّلة كانت عن الهروب وعبور البحار. فكلتاهما عن رحلاتٍ بعيدة عن الحياة الاعتيادية التي يُتوقَّع من المرء أن يعيشها.
هل كانت تُبحر دائمًا هربًا من الحياة أو زواجها؟
إنَّ أمي وجَدتي، اللتَين شعرتُ منهما بحبٍّ قويٍّ وشديد وغير مشروط، كانتا المَصدرَين الوحيدَين في حياتي بالمنزل الذي نَمَت فيه موهبتي، وهما مَنْ وضعتاني على الطريق الذي كنت سأتبعه فيما بعدُ وأُكرِّس عملي وحياتي من أجله. إنه الصوت، وسرد القصص، واللغة المُخصَّصة لخدمةِ هدفٍ بعينه.
عقب جنازة والدتي، وعند تناول الشمبانيا التي كانت مشروبها المُفضَّل، تجمَّعت صديقاتها حولي وأعربنَ جميعًا عن صدمتهن من أنَّ مارجريت كانت سببَ أول ارتباط لي بالشعر. تلك السيدة «المُستمِعة»، التي قضت حياتها في خدمة والدي وهؤلاء الصديقات، كانت مصدرَ إلهامي. لقد منحتني السرَّ لأعيش به ما تبقَّى من حياتي. تراكم في قلبي مزيدٌ من الحزن على ما لم يعرفنه عنها.
كانوا يعرفون مارجريت السيدةَ اللطيفة، الجميلة، المُهذَّبة، التي تقدِّم الدعم وتستمع. لكن صديقاتها لم يُجرِّبن الاستماعَ إلى صوتها أو شغفها. لم يواجهنَ قط ذكاءها الشديد أو يُصغين إليها وهما شيئان على القدْر نفسه من الأهمية.
في سن الحادية عشرة، فازت مارجريت بمنحةٍ دراسية في مدرسة «ذا جراي كوت هوسبيتال». وصفَت لي ذاتَ مرة كيف مرَّت المقابلة وتذكَّرت جيدًا الصدمةَ التي بدت على وجوه أعضاء اللجنة عندما أجابت عن أسئلتهم المُتعلِّقة بمكان سَكَنِها. فأخبرتهم بالحقيقة. كانت تعيش في غرفةٍ تابعة للبلدية في شارع سيلفر ستريت، على مقربة من «بيركلي ماركت». ثمَّة ستارة كانت تفصِل فراشها عن فراش والديها. وفي الطابق السفلي، كانت هناك حُجيرة للحمَّام والمرحاض.
يُحسَب لصالحهم أنهم عرضوا عليها مكانًا لتعيش فيه.
لم تذهب قط. كان والدها خائفًا من تكلفة الزِّي، والأكثر احتمالًا أنه خشي دخولها عالمًا آخرَ. كان جيمي حارسًا في البلدية لكنه في السابق كان جنديًّا محترفًا. نجا من خنادق الحرب العالمية الأولى، وتحمَّل ما لا يمكن تحمُّله، ووقف للحراسة خارجَ قصر باكنجهام. كان عضوًا في حرس كولدستريم، وترقَّى إلى رتبة رقيب مُدرِّب. ربما شعر أنها ستخرج عن نطاق الأمان، ومَن يدري؟! أو أنه سيفقدها في عالَمٍ مليء بالامتيازات.
كانت والدته ووالده (الذي عمِل في تنظيف المداخن) أُمِّيَّين. وكانت شهادة ميلاده تحمل علامتهما المُتقاطعة المميزة وليس توقيعهما.
في بداية مسيرتي المهنية، أجريتُ دوراتٍ لرقباء التدريب الذين تأذَّى صوتهم من الصياح عبْر ساحات العرض. ففكَّرت في جيمي وصوته وعالَمه.
كان عقلي يفكر دائمًا في تلك النقاط الحاسمة في تاريخ مارجريت. كان من الممكن لها أن تذهب إلى جامعتي أكسفورد وكامبريدج …
عندما التقَت صدفةً والدي الهولنديَّ الذي كان في لندن هربًا من الأهوال التي شهِدها في الحرب العالمية الثانية — كانت أهوالًا بكلِّ ما تحمِله الكلمة من معنًى، وكان يرى أنه سيئ الحظ — فكانت هي تتطوَّر سريعًا في الخدمة المدنية. كانت تكسب مالًا مجزيًا، وتترقَّى بانتظام، وكانت مثلَ أغلبِ الناس المتأثرة بأعداد وفيات الحرب، التزمت الهدوءَ وظلَّت تعمل في صمت. كان لكل شخصٍ عزيزٌ فقدَه. فحبيبها كان قد قُتل في بورما وعاشت بقيةَ حياتها في حزنٍ هادئ لا يزول. كان تريفور — حبيبها الشاب الذي سقط في الحرب — لا يغيب عن بالها قبل أيامٍ من وفاتها. وكانت تُمسك بصورته في قبضة يدها.
وبذلك، تزوَّجت والدتي من والدي، وتوقَّفت عن العمل وأصبحت بلا صوت.
تحوَّلت إلى مُستمعة متعاطفة ويَقِظة.
تعلَّمت الهولندية بسهولة لأنها أرادت أن تعرف ما تقوله عائلة زوجها، وظلَّت تتحدَّثها بطلاقةٍ طيلةَ ما تبقى من حياتها. كانت اللغة تنساب على لسانها بسلاسة.
لو كانت من الطبقة الوسطى، لكان لديها قدْرٌ أكبر من القوة وعزة النفس التي تُمكِّنها من الحفاظ على صوتها، لكنها كانت تعرف مكانتها. بدلًا من ذلك، تعاملت مع سلوك زوجها الذي يفتقر إلى التعاطف ومع المُتَكبِّرين المُحيطين بها. كانت مارجريت تتمتَّع بلحظاتٍ استثنائية من الذكاء والملاحظات الثاقبة، فكانت توجِّه في الوقت المناسب تعليقاتٍ لاذعةً قليلة لكنها مُفحِمة. ومثل هذه التعليقات البليغة كانت تطول أطفالها أيضًا: تلقيناها من آنٍ لآخر باعتبارها الحلَّ الأخير للعجرفة التي طالتنا من الطبقة الوسطى. لكي تُحقِّق النساء نجاحًا في ذلك الوقت، كنَّ بحاجةٍ إلى آباء وأزواج مُستنيرين. أما هي فلم يكن لديها أيٌّ منهما.
عقلٌ رائع وصوتٌ مفقود: إنها قصةٌ شائعة للنساء اللائي تزوَّجن في أواخر الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين. كان لها صوتٌ واضح هادئ ولم يكن مرتفعًا البتة. وفي مرحلةٍ ما من حياتها، ربما في المدرسة، غيَّرت لهجتها من لهجة نورثمبرلاند إلى الإنجليزية الفصحى المُحايدة. كانت تُجيد قواعدَ اللغة واتَّسمت لغتها بالبساطة، فلا شيء بدا عليه التكلُّف. لكني سمِعت بالفعل قوةَ صوتها في النهاية.
كانت والدتي على فراش الموت في مستشفى أوربينجتون قبل عيد الميلاد عام ٢٠٠٢.
نِمْت الليالي معها على أرض غرفتها الفردية. وقضى أخي جون الأيامَ معها. كانت تدخل في حالة وعي ثم تغيب عنه، وعانت الخرفَ.
في الليلة الثانية، استفاقت فجأةً وبدأت تبكي.
دخلتُ الفِراش معها واحتضنتها. تحوَّل البكاء إلى نحيبٍ مدوٍّ. أخذَت نَفَسًا كاملًا وأطلقَت صرخةً مدوية دون أن يكبِّلها قيد. وفي لحظة الصمت التي كانت تأخذ فيها شهيقًا، قلتُ: «لقد أديتِ عملًا رائعًا يا أمي، كنتِ أُمًّا رائعة.»
توقَّف النحيب فجأة. مارجريت، التي لم تتحدَّث بكلامٍ مفهوم لعدة أشهر، قالت بصوتٍ عالٍ وواضح. «ليس كافيًا.»
احتضنتها حتى أصبحَت متعبةً وتضاءل حزنها.
«هل تتذكَّرين، يا أُمي، كيف علَّمتِني القفزَ من الأرجوحة؟ عند أعلى نقطة تصل إليها الأرجوحة وهي في الخلف؟» شعرتُ بتركيزها يستجمع قوَّته.
أومأَتْ إليَّ بأبسط إيماءة ممكنة وابتسمت أقلَّ ابتسامة ممكنة.
بعدها قلت: «يمكنك القفزُ الآن يا أمي.»
تُوفِّيت مارجريت في مساء اليوم التالي. ليلة عيد الميلاد. اتخذَت وضْعَ الجنين. ذهب أخي ليُحضِر والدي. وأغلقتُ عينَيها. صعِدتُ على الفراش واحتضنتها. ألقيتُ قصائدَ إليها «جيني قبَّلتني»، السونيتات ١١٦ و١٨. ثم غنيتُ «السبات الهادئ يُقبِّل عينيك، والابتسامات تنتظرك عندما تنهضين، نامي يا أُمي العزيزة، ولا تبكي، وسأُغني لك تهويدة.»
لاحظتُ أنَّ إحدى المُمرضات كانت قد دخلت وظلَّت تُراقبني. شعرتُ بالذنب. لقد فعلتُ شيئًا خاطئًا ومُحرَّمًا. فغادرت المُمرضة دون تعليق.
وصل والدي وتركتُه مع أمي.
بينما كنتُ أسير في الممر، التقيتُ الممرضة. اعتقدتُ أنها ستؤنِّبني. توقفتُ أمامها وأنا أتوقَّع الأسوأ.
قالت: «لم أرَ أحدًا في حياتي يفعل ما فعلتِه … إنه أنسب شيء يمكن فِعله.»
فأخذْتُ نفَسًا.
حينما كنت في الثامنة عشرة من عمري، كنتُ أعمل في المكتبة المحلية بينما كانت جَدتي ترقد على فراش الموت في مستشفى فارنبورو. كانت السعادة تُحيط بكل تلك الكتب وكلِّ أمناء المكتبة هؤلاء الذين يهتمون بالكتب. كان عملًا أشتغل به خلال سنة الانقطاع عن الدراسة، وشعرتُ أنَّ المكتبة مكان مألوف وآمن. كنتُ، في الثامنة من عمري، قد وجدتُ مكتبةً قريبة وصغيرة ولم يتطلَّب الوصول إليها سوى عبور طريق سكني هادئ حتى تصل إليها. فكانت ملاذي ومصدرَ بهجتي.
في الفترة التي تركتنا فيها جَدتي، كنتُ أُنهي عملي ثم أزورها مع مارجريت. خلال ثلاثة الأسابيع التي استغرقتها جَدتي قبل رحيلها، أوجدنا طقسًا لنا.
بعد الزيارة، كنا نذهب إلى الحانةِ المحلية لنتناولَ مشروبًا. كانت هذه فكرتي؛ إذ لم يكن بوسع مارجريت أن تُصدِّق أنه يمكن لامرأة، من دون رجل، أن تذهب إلى حانة وتطلب مشروبًا. فقد كُسرت كلُّ تقاليدها وتوقُّعاتها النسائية عندما طلبتُ مشروبًا وبعضَ المكسرات ودفعتُ ثمنهما. في المرة الأولى التي فعلتُ ذلك في حضورها، امتلأت عيناها بدموع الفرح. علَّمتُها كيف تفعل ذلك وضحِكت عندما أكملت مُهمَّتها الأولى إلى الحانة. وفيما بعدُ، عندما كنتُ أعمل وأسافر إلى جميع أنحاء العالم، كانت عيناها تمتلئان مرةً أخرى بدموع الفرح عندما كنتُ أشرح أنني استطعت وتمكَّنت من الجلوس وحدي في المطاعم. كان الأمر صعبًا في ثمانينيات القرن العشرين، لكنني فعلتُه وكانت هي فخورةً جدًّا بي، وكلما فعلتُ ذلك الآن، تجلس روحها معي عندما أدخل المطعم وأجلس وأطلب وأتناول الطعام وأدفع. إنها روحٌ مسرورة.
كانت جَدتي مصدرَ إلهامي الشِّعري. رَاوِية قصصٍ من الطبقة العاملة. مُربِّيتي من «روميو وجولييت». كانت قوية ومرحة وساخرة.
أمي، التي أُجْلِيَت من لندن إلى ريف ساسكس وانفصلت عن جَدتي عندما كانت في الثالثة عشرة، لم تكن تربطها علاقةٌ قوية بها، ولم تكن لديها أي فكرة عن مهارات جَدتي في سرد القصص. ولم يكن كذلك لدى أخي أو أختي أيُّ فكرة عن ذلك. كانت متعةً احتُفِظ بها لي خاصة.
ظهرت موهبة جَدتي في شجاعتها وطاقتها عندما تروي قصصها. كانت موهبةً حرة، احتفظَت بها لنفسها، وميَّزتها فصاحةُ التعبير. كنت أعرف أنَّ بداخلها مكانًا عميقًا هادئًا تحتفظ فيه بالأسرار.
وأنا في العاشرة من عمري، كنت أمشي ببطءٍ في طريقي من المدرسة إلى المنزل. كنَّا في فصل الصيف وكان ثمَّة سؤال أحاول الوصولَ إلى إجابة عنه. لماذا لا يُسمح لنا إلا بأن نختار ولدًا لنُحبه؟ كانت الفتيات الكبيرات يتحدَّثن طوال الوقت عن الأولاد. لكن مَن الذي يقول إنه يجب أن يكون ولدًا؟ هذا هو السؤال. أليس مسموحًا بأن نختار أيَّ شخص لنُحبه؟
لم أكن قد فكَّرت في الجنس بعدُ. لم يكن الجنس مطروحًا على التلفاز! كانت الموضوعات المطروحة عن الحُب وليس الجنس في تلك الآونة. وأنا أصعد التلَّ بخُطًى متثاقلة، وقُبَّعتي من القش مُستقرة على رأسي من الخلف، وربما سُترتي الخضراء مزرَّرَة من دون تناسُق، بدا لي أنَّ هذا السؤال هو أهمُّ سؤال في العالم.
كنت أعرف أنَّ عليَّ أن أسأل جَدتي: ربما تعرف. وجدْتُها في غرفتها، تتأرجح في كرسيها، تخيط وتدخِّن.
طرحتُ السؤال.
توقَّفَت عن التأرجُح والخياطة وأخذتْ نَفَسًا عميقًا. نظرت إليَّ بانتباهٍ تام. نظرت بعينَيها الزرقاوَين الثابتتَين. وأطالت النظر من دون إجابة، ولكنها فَهِمَتني. أومأت برأسها إيماءةً بسيطة. ثم واصلَت التأرجُحَ والخياطة والتدخين.
كان امتناعها عن الرد نادرًا، إن لم يكن غيرَ معتاد بيننا.
لهذا استنتجتُ أن لا إجابةَ عن سؤالي، أو إن وجِدَت إجابةٌ فهي غير مؤكَّدة. وبدأ يتشكل في ذهني عالمٌ آخر، حالة تتوسَّط اليقين والغموض. حالةٌ ربما فهِمتها جَدتي، وربما مرَّت بها قبل زواجها المتأخر في الثامنة والثلاثين.
قادني ذلك إلى التفكير في الآخر.
لم أشعر من جَدتي بالازدراء أو الاشمئزاز أو أي نقصٍ في حبِّها لي، شعرتُ فحسب أنها تعرف في تلك اللحظة أمرًا مختلفًا عني. لم تُصدَم مما قُلته، لكن ذلك أكمل جانبًا مني ليكتمل فهمُها لي.
على عكس أمي التي عندما فهِمت ذلك الجانب مني، شعرَت، في أحسن الأحوال، بخيبة الأمل والحزن، وشعرَت، في أسوأ الأحوال، بالخِزي إزاء شغفي بكلا الجنسين الذي لا يمكن السيطرةُ عليه ولا يمكن تصنيفه. وهو ما يُعرف في يومِنا هذا بالانفتاح الجنسي، يبدو أنَّ هذا هو المصطلح المناسب.
في ثمانينيات القرن العشرين، كان يُستخدم مصطلح «مزدوج التوجُّه الجنسي» وقُصِد منه الذَّم. كان ذوو التوجُّه الجنسي المزدوج مكروهين من المِثليِّين والمُحبِّين للجنس المُغاير على حدٍّ سواء. يبدو أنَّ هؤلاء وأولئك رأوا أنَّ إمكانية الاختيار غيرُ عادلة بالنسبة إليهم. فإمكانية تعرُّضهم للخيانة كانت قائمة.
كنت أعرف وأنا طفلة أنَّ الأمر لم يكن متعلقًا بالجنس أو المظهر. لم يكن كذلك متعلقًا بالهُوية، ولكن بشيءٍ آخر. كان الأمر متعلقًا بالتكامل، هكذا كان، وبالمرونة والانسجام في القلب والعقل. له علاقة بالشَّغف الذي ينطوي على العاطفة والفكر. ولا ينطوي على أيٍّ منهما دون الآخر.
الأمر يتجاوز الجنس، أو الجمال، أو العمر. وكذلك المظهر الخارجي وإنما هو شيء ضمني فيه، وكان ذلك الشيء هو الذي جذبني.
إنه الاختلاف.
أن يكون المرء إنسانًا متكاملًا أو شخصًا يحاول التحرُّر من القيود، إنها حالةٌ فوضوية لكنها خلَّاقة مُبدعة تسبق التقييد أو الالتزام.
وجدتُ وجهًا مختلفًا في شكسبير. كان رجلًا منسجمًا مع الشعور بالشَّغف تجاه النساء والرجال. يوجِّه السونيتات لكليهما. وكان بمقدور العقل والقلب أن يتحرَّرا من القيود ويريا ويشعرا بأفضلِ ما في البشر وأسوأ ما فيهم من دون خوف.
على الأقل كانت مارجريت ووينيفريد تعرفان مَن هما، بطريقةٍ أو بأخرى. تعلَّمت أمي عادتنا الجديدة حتى تبقى على قيد الحياة، وتقيَّدت بقيد الزواج ليس بمحض إرادتها، إنما كرهًا.
لم تستسلم جَدتي قط، بل كانت تمتلئ بالغضب والازدراء الشديد تجاه العالم.
بدأتُ أدرك أنهما لم يُحبَّا بعضهما بعضًا وفهِمت أنَّ جَدتي لم تكن أمًّا مهتمة.
أما أنا … فأقف في المنتصف، يُخيفني أحيانًا أن تكون أمي ربما غارت من حُبي لجَدتي وحبِّها لي.
إنَّ الحياد عن الشكل المتعارف عليه في الحُب ليس بسيطًا أبدًا.