أبي
والدي — ماكس — كان رجلًا مهذَّبًا.
كانت أخلاقه لا غبارَ عليها واستقباله لضيوفه كان في غاية اللطف والكرم. كان يهوى الحفلات المُمتعة. ويضحك كثيرًا بين الناس. كان عاملًا مكافحًا وكان أصدقاؤه الرجال ودودِين وأوفياء. عندما كانت تقتضي الحاجة، كان هذا الرجل الوسيم يُظهِر جاذبيته واهتمامه.
بدأ كساعي مكتبٍ في شركة نشرٍ، وشقَّ طريقه حتى أصبح يُديرها. ساعد في الدفاع عن قانون الإجهاض، وقانون الهواء النظيف وتنظيف نهر التيمز. لم يفقد قط لهجتَه الهولندية، وكان يتلعثم أحيانًا عندما يتحدَّث الإنجليزية. كان يعتقد، على نحوٍ كان مُحقًّا فيه، أنَّ ذلك الأمر كان يعمل لصالحه في النظام الطبقي الإنجليزي: فلم يكن بوسع أحدٍ أن يُحدِّد الطبقة الاجتماعية التي تُناسِبه.
في جنازته، حضر أشخاصٌ لم أعرفهم كانوا يُحبُّونه. كان لدَيه عالَم لحياته العملية وعالَم لحياته الأُسَريَّة.
كان ماكس يشرب حتى الثُّمالة.
في ثمانينيات القرن العشرين، كنت أُدرِّس جنبًا إلى جنبٍ مع عازف الكمان العظيم والمايسترو يهودي منوهين. وكان برفقتي ملحنٌ كان والداه يعيشان في أوشيفيتز.
تناولنا الغداءَ مع يهودي. أتذكَّر أنه كان يستمع إلينا بانتباهٍ شديد. في لحظةٍ ما، التفت إلى الملحن وقال: «لقد تأثَّرت بلعنة النازية.»
قالها بكل بساطة لدرجةِ أنها لم تقع على مسامعنا تعليقًا صادمًا بل حقيقةً واقعية. استمرَّ الغداء وعندما انتهى، وقفتُ لأترك الطاولةَ وأتوجَّه إلى التدريس، نظر يهودي إليَّ وقال: «وأنتِ أيضًا تأثرتِ باللعنة.» في تلك اللحظة، منحَني جزءًا من السرِّ الذي كان واضحًا طوال حياتي. وهو والدي.
أما الأجزاء الأخرى فكانت مُخبأة جيدًا داخل أسرةٍ لم يكن أفرادها متواصِلين بعضهم مع بعض. فكان لا بد من دفعِ تلك الأجزاء وسحبها إلى النور. وما زلتُ لا أعرف إلا بعض الأجزاء.
يمكن لمُخيِّلتي أن تتصوَّر ماكس البالغ من العمر ١٦ عامًا في ١٠ مايو عام ١٩٤٠، وهو يشاهد جنودَ المظلات من الرايخ الثالث يهبطون بالمظلات إلى بلده هولندا. لا أعرف ما إذا كانت هذه فكرته، لكنه ركض إلى مبنى البلدية ليُساعدَ في إتلاف المُستندات التي من بينها أسماءُ السكان بأكملهم وعناوينهم. كانت هذه خطوةً غايةً في الذكاء باعتبارها أولَ عملٍ للمقاومة. بالنسبة إلى النازيين، كانت المعرفة هي منبع القوة. فانتزع ماكس منهم بعضًا من هذه المعرفة.
بالكاد يُمكنني أن أتخيَّل ما رآه والدي، وما فعله وشعر به خلال الحرب، لكني أدرك أنَّ الأمر كان مفزعًا. هذه لعنة. أخفى ماكس أثرَ العنف الهائل الذي شهِده، وكان الشرب يُخفِّف من حدَّته على نحوٍ غير عادي. وإلى جانب الشرب، كان العزف الصاخب لموسيقى الجاز: عزف دوك إلينجتون وإيلا فيتزجيرالد.
جمعتُ أجزاءً من قصته في لحظات متفرقة من البَوْح على مدار سنوات.
اكتشفتُ في سن المراهقة أنه كان قد شارك في الطقوس الوحشية التي مُورسَت في جميع أنحاء أوروبا المُحرَّرة وهي حلق رءوس النساء اللائي تَعاونَّ في مدينته مع النازيين، فشعر مرةً أخرى بغضبي تجاهه. لم يُبدِ ردةَ فعلٍ، لكنه اكتفى بالقول: «كنَّ يأكلنَ مع الشرطة الألمانية السرية بينما كنَّا نحن نتضوَّر جوعًا.» كانت هولندا حقًّا تتضوَّر جوعًا في أوائل عام ١٩٤٥. كانت معركة الثغرة مُحتدِمة ولم يتمكَّن محرِّروهم من الوصول إليهم بالسرعة الكافية. في ذلك الشتاء القارس، عاش ماكس على بُصيلات زهر التيوليب.
فيما بعدُ، علمتُ أنَّ صديقته كانت قد فقدَت ساقَيها، وأنه كان يدفعها في عربةِ يدٍ محاولًا العثورَ على مساعدةٍ. لكنها ماتت في العربة. ومرةً أخرى، كُشِف عن هذا الأمر في تعليق عابر منفصل تقريبًا.
ثم، ذات مرة، تحدَّث ببساطة عن أنه أُجبِر على حفر قبره وهو في الحادية والعشرين من عمره، لكنه استطاع الهروب، راكضًا بكلِّ ما أُوتي من قوة عندما ظهرت الطائرة المقاتلة سبيتفاير. وحينما سألته عن هذه القصة الاستثنائية التي كان قد كشف عنها من دون قصد على غير عادته، كان تعليقه الوحيد هو: «عندما يُطلق أحدهم النار عليكِ، اركضي بخطٍّ مُتعرج.» وهذا كلُّ ما علِمته عن تلك اللحظة البالِغة الأهمية لنجاته.
إنَّ آخر ما قاله وهو يصارع الموت: «لم أغفر لوالدي قط أنه لم يقاوم.» فكانت قطعة أخرى مهمة من قصته تُركَت معلَّقة من دون تفسير.
في جنازة ماكس، ألقيتُ كلماتٍ لشكسبير من هنري الخامس قبل معركة آجنكور.
إنَّ استيعابي للمحنة التي تعرَّض لها والدي وكيف ظلَّ ثابتًا وحارب خوفَه ليفعلَ ما ينبغي فِعله، هو ما أَعَانني على مُسامحته. فكانت هذه المحنة مُتمثلةً في العنف والخوف الذي داهم شابًّا في لحظةٍ ظالمة من التاريخ.
كان في حاجةٍ إلى الغفران.
المقاومة
كان من الصعب التحدُّث مع والدي عن أمورٍ كنت أعُدُّها مهمة بالنسبة لي. يمكن لِمَن يمتلكون زمام القوة في أي علاقة أن يختاروا تجنُّب الحديث عن الموضوعات التي يجدونها مزعجةً لهم. لم يتحمل ماكس قط الموضوعات التي لم يرغب في سماعها؛ لذا كان عليك إما أن تستدرجه إلى محادثةٍ تريد الخوض فيها، أو أن ترفع صوتك وتُجبره عليها.
كان عليَّ دائمًا أن آخذَ موعدًا لأتحدَّث معه. ويجب أن يُخضَع لشروطه، أن نجلس في منزله بغرفة الجلوس وهو مكانٌ تجنَّبتْه أمي في النهاية. كان الاضطراب يتعاظم في مَعِدتي وكنت أتدرَّب على المحتوى كما لو كنتُ أتدرَّب على خطط دروسي.
كنتُ خائفة.
«هل هذا وقتٌ مناسب للتحدُّث عن …؟»
فيغمغم معربًا عن عدم اهتمامه.
إذا لم يكن بالفعل يقرأ صحيفة «الفايننشال تايمز»، فسيأخذها، ويفتحها، وإما يقرؤها وإما يتظاهر بقراءتها.
قد تنتهي بعض اللقاءات من دون أي مشاركة من جانبه، ربما يحرِّك الصحيفة فحسب. هل سمِع أيَّ شيء؟ ما آراؤه؟
عندما كنت طفلة، قرَّرت الثباتَ على موقفي وألا أسمح بالطريقة التي كان يعامل بها والدتي وجَدتي.
مثله مثل الكثير من الآباء في خمسينيات القرن العشرين، لم يكن مُهتمًّا بالأطفال والتجاهل ليس جيدًا للطفل. كنت أعرف أيضًا أنَّ القليل من الاهتمام الذي تلقَّيته منه كان من النوع الخطأ.
كان يتنافس معي بطرقٍ غريبة ومؤذية، وكان من المُفترض أنَّ أفعاله معي كانت من باب المزاح؛ فإذا لم أضحك، يثبُت في عقله أنني طفلة مُزعجة، وغير محبوبة، وغير مرحة.
كانت جَدتي الهولندية تزورُنا. فكانت العائلة بأكملها تتنزَّه في حديقة كيلسي. وكنتُ في الخامسة من عمري. أُعطيتُ دراجةَ أختي القديمة ذات العجلات الثلاث التي شعرتُ عند ركوبها بفرحةٍ غامرة. كنت أتحرَّك سريعًا بالدراجة جيئةً وذهابًا، وأدور حول المجموعة التي كانت تمشي. كان والدي يحمل معه مظلَّته مطويَّةً. بدأ يحاول أن يُمسِك الدراجة بمقبض المِظلة كلما مررتُ بجانبه. كان يسعى إلى إيقافي عن طريق تثبيت الدراجة من أسفل المقعد. في المرة الأولى التي نجح فيها، وقعتُ من الدراجة وخُدِشَت ركبتي عند السقوطِ.
فضحِك.
كنتُ غاضبة. لم أكن لأخرُج عن مساري بهذه الطريقة، لذا بدأت أسير في حركة دائرية مرةً أخرى، ولكن على نحوٍ أسرع، لأتفوَّق عليه.
ما أتذكَّره بعد ذلك، كانت لحظةً تعلَّمت فيها أن أُميز نقطةَ التحول من مجرد لعبة إلى فعلٍ أكثر شرًّا. كان يزداد إصرارًا على إيقاعي من الدراجة، ومع هذا الإصرار ظهر غضبه الشديد.
واصلتُ، رغم أنني فهمت أن اللعبة حينها صارت مختلفة. ثم سمِعت جَدتي تتحدَّث مع ابنها بالهولندية. كانت غاضبة منه. سمعتُ اسمي فعرفت أنها كانت تدافع عني. كانت جَدتي، تلك الشخصية المُخيفة الحاكمة لأسرتها، لها تاريخ في المقاومة مع أخواتها؛ إذ قامت إحدى العمَّات الكبريات بتزوير مستندات لطيارين في القوات الجوية الملكية الذين سقطوا. شعرتُ من جَدتي بتأييد قوي وصارم، لكن لم تسنح لي الفرصة لأتعرف إليها جيدًا.
توقَّف والدي عن الهجوم عليَّ وعلى دراجتي: وكانت جَدتي أولَ شخص أشعر بأنه شاهدٌ على ما كان يفعله بي. ساعدتني على أن أشعر بأنني انتصرتُ وأنه كان يستحق أن يُعارَض.
عندما بدأتْ مسيرة والدي المهنية لم يكن موجودًا معنا كثيرًا، ولكن حينما يُوجَد، قد يُصبح وجوده بمثابة تجربة قاسية ومؤذية جسديًّا في بعض الأحيان. قبل بضع سنوات، أدركت أنني كنت أخاف من صعود الدَّرج أمام الناس؛ فكان عليَّ أن أسمح لهم بالصعود قبلي. استرجعت الذكريات على الفور. لم يكن في المنزل سوى غرفة واحدة بها قُفل، كانت الحمَّام. تعلمتُ أنه إذا أصابه أحدُ تعليقاتي اللاذعة في الوقت المناسب، كان عليَّ أن أركض إلى أعلى الدَّرج ثم إلى الحمَّام وأغلق الباب على نفسي حتى يهدأ. لم أنجح في ذلك طوال الوقت. فكان أسلوبه المتَّبع هو مُلاحقتي والإمساك بساقيَّ وسحبهما من تحتي.
كان العقاب سريعًا ومؤذيًا جسديًّا.
أكثرُ الذكريات التي أسترجعها بوضوح هي حينما كنت في الثامنة من عمري وتحديْتُ معرفته بالموسيقى. كان لدَيه في صندوقٍ مجموعةٌ من الأسطوانات من إنتاج «ريدرز دايجست». كنت أستمع إليها باستمرار. حتى ظننتُ أنها كانت لي؛ إذ قلَّما كان مهتمًّا بالموسيقى الكلاسيكية. ذات مساء، كان يبحث في مجموعة الأسطوانات فاختار واحدةً ووضعها في مُشغِّل الأسطوانات الاستريوفوني. وكنت قد وضعت الأسطوانة في غير غلافها: فوضعت أسطوانةَ موتزارت في غلاف واجنر. استرخى مع كأس الويسكي ليستمعَ إلى الموسيقى.
علَّق بسعادة قائلًا: «أُحب واجنر. إنه رائع.» ثم تنهَّد وأخذ رشفةً من مشروبه المفضَّل.
تدفَّقت الكلمات في فمي.
«أنت لا تعرف الكثير عن الموسيقى إذا كنتَ تعتقد أنَّ موتزارت هو واجنر.»
تعرَّفتُ نقطةَ التحوُّل مرةً أخرى.
وضع الكأس، وتركَّز في عينَيه الغضبُ الذي دلَّ على أنني قد جذبت انتباهَه أخيرًا، ثم بدأ في مُلاحقتي.
كانت أُمي عاجزةً عن إيقافه أو إيقافي.
بعدما يجرحني، كنت أنزوي إلى غرفتي في عزلةٍ مع نفسي، فأستلقي على الفراش في وضعٍ مُستقيم وجسدي متيبسٌ من الغضب، كان يصعد إليَّ ويجلس على السرير ليعتذر. يربِّت على كتفي، لكني لا أتفوَّه بكلمة. كنتُ لا أقبل اعتذاره. ولا أنزل لتناول العشاء. كنت أكثر عنادًا منه. فكنت أظن أنني بهذه الطريقة قد انتصرت عليه.
كانت جَدتي تصعد بعد العشاء بطبقٍ فيه طعامي المُفضَّل الذي كانت قد جمعته لي. فكانت لفتةً طيبة منها وكذلك كانت لفتةً تضامُنية معي.
لم تكن تتحدَّث كثيرًا، إنما كانت تضع الطبقَ وتومئ برأسها وتغادر.
كان هناك عملٌ اعتاده والدي فترةً من الوقت عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري. كان يؤدي هذا العملَ الروتيني وكأنه يؤدي عرضًا في مسرح غنائي.
كان يقول: «لا يمكنكِ أن تمتلكي كعكةً وتأكليها في الوقت نفسِه.»
ثم يتوقَّف.
«لا يمكنني أن أفهم هذا المَثل، إنه أحمق. يُمكنني أن أمتلك كعكة وآكلها ثم أشتري كعكة أخرى.»
بعد المرة الأولى التي صرح فيها بهذا الرأي، عرف أنه سيثير استيائي.
«لا، لا يمكنكِ.»
«نعم، يُمكنني.»
«إذا أكلتِ الكعكة فلن تُصبح موجودة.»
«يمكنني شراءُ كعكة أخرى.»
«لكن المَثل ليس هكذا. إنها كعكة. بصيغة المفرد. وليست كعكات. بل هي كعكة واحدة.»
عادةً ما ينتهي الأمر معي بالصراخ بتلك النبرة العالية التي يُراد منها أن تبدوَ في غاية الإزعاج لدرجةٍ تُرغِم المستمِع على التنازل لإسكاتك.
لكن أبي لم يتنازل قط. إنَّ العديد من الرجال الأثرياء، الأقوياء، الوسماء ذوي البشرة البيضاء قد اكتشفوا على مدار الألفية أنَّ بوسعهم امتلاكَ كعكة وشراءَ كعكة أخرى.
بعد وفاة أمي، أصبح حضور مُساعِدته الشخصية، لأكثر من ٤٠ عامًا، لافتًا في حياته.
بدأنا تدريجيًّا ندرك أنَّ والدنا كان حُبَّ حياتها، وأنه الآن صار بين يدَيها. سرعان ما أصبح وجودها ثابتًا في منزل العائلة. واتُّفِق على أنني يجب أن أتحقَّق من الأمر، خاصةً عندما بدأتْ ترمي أغراض والدتنا خارج المنزل. بدأ الخوف المُعتاد يتراكم في جسدي وأنفاسي وأنا أتهيأ للحديث معه.
«هل كلير تُحبُّكَ؟»
ارتسمت تلك الابتسامة الماكرة المعهودة: «بالطبع. نعم.»
«هل كانت أمي تعرف؟»
«أوه لا. كنتُ أحبُّ أمَّك!»
«لكن كلير عشقتك طوال ٤٠ عامًا.»
«نعم. إنها تُحبني.»
«بهذا، كنت تخرج إلى العمل من منزلٍ تعيش فيه امرأةٌ تُحِبُّها، لتعمل في مكانٍ تحبُّك فيه امرأةٌ أخرى.»
«أجل.»
«هل كانت تخرج للشرب معك؟»
«بالطبع. مع جميع الرجال الآخرين. كنا جميعًا نرى أنَّ مرافقتها لنا أمرٌ مسلٍّ.»
ضحِك.
«بهذا امتلكتَ الكعكةَ وأكلتها.»
بدأ يضحك مرةً أخرى. توقَّف. نظر بغضب. ثم قام وأعاد ملء كأسه بشراب الجين وماء الصودا.
كان والدي يَختبرني باستمرار وأنا أختبره، كان ذلك صعبًا لكنه ضروريٌّ. في ذلك الوقت، لم أدرك أنها الطريقة الوحيدة للحفاظ على جزءٍ من صوتي. لكنها كانت. وتعلَّمت الكثير.
كنتُ في الأربعينيات من عمري، عندما تناقشت مع أبي في مسألةٍ مهمة لآخر مرة، وكانت الجريدة تحجب وجهه عن نظري. يئستُ من محاولة إشراكه في الحديث. وكان صوتي أعلى من المعتاد:
«هل تساءلتَ يومًا لماذا كرَّست حياتي للصوت والحضور؟»
اهتزَّت الجريدة وسمحت للتوقُّف بأن يطول أمده، وللصمت بأن يسود.
أَنزَلَ الجريدة والتقت عيناي بعينَيه مباشرةً. أومأ إيماءة بسيطة، وأعتقدُ حقًّا أنَّ ثمة تغييرًا قد حدث. لم يستخدم الجريدة مطلقًا درعًا واقيةً بيننا مرةً أخرى.
في حفل تقاعُده المهيب الذي أقامته شركة النشر، كنت جالسةً على طاولةٍ بعيدة بجانب صحفي لم أكن قد التقيتُ به من قبل. وفي لحظةٍ خلال كَلِمة والدي، بعد أن كان قد نظر مرةً أخرى تجاهي، همس إليَّ ذلك الصحفي قائلًا: «كنت أتساءل دومًا ممن كان يخاف والدك … فعرفتُ الآن أنه: منكِ أنتِ.»
لم أكن أعرف إن كان ذلك مدحًا أم ذمًّا، لكن الصدمة كانت عميقة. يا له من ثَمن أتكبَّده حتى أحتفظ بصوتي ولا أتنازل عنه.
إنها مسألةُ المكسب والخسارة.
لقد آذاني والدي؛ وفي تلك اللحظة، أدركتُ أنَّ حضوري ومقاومتي قد آذَيَاه. لقد كُرِّس قدْرٌ كبير من طاقتي الشابة في الدفاع عن نفسي وأُمي وجَدتي.
لم يخطر ببالي قط أنَّ ذلك قد يكون له تأثير عليه.
الغرق
توقَّف العنف بعد حادثةٍ وقعت لي عندما كنت في الحادية عشرة من عمري. ومع أنَّ هذه الحادثة بعينها لا تغيب مطلقًا عن ذاكرتي، عانيتُ في بيت مزرعتي بالبرتغال، بعد مرور ٢٧ عامًا من الحادثة وأنا في سن الثامنة والثلاثين، عانيتُ صعوبةً في التنفُّس دامت ثلاثة أيام على إثر نوبة ربو شديدة بدأت معي في سنٍّ متأخرة، قبل أن تُصبح موضعَ تركيز شديد باعتبارها ذكرى مُسجَّلة في جسدي.
إنَّ ما أثار هذه النوبة التي أصابتني في سن الرشد كان صعوبةَ التنفُّس: بدأت أعاني نوبةً قوية في جهازي التنفسي. أعلم أنني لم أنجُ منها إلا لأني كنت أعرف كيف أتنفَّس. لم يكن لديَّ هاتف، وعلى أي حال، كانت خدمة الإسعاف البرتغالية في ذلك الوقت بدائية. كنتُ أعرف أنه عليَّ أن أتنفَّس وأصمِّم على البقاء على قيد الحياة. عندما حلَّ الليل، بدا أنَّ المنزل يمتلئ بالأشباح التي تُراقبني بارتيابٍ وأنا أحاول جاهدةً أن آخذَ شهيقًا ثم أُخرِج الهواء كاملًا، وذلك هو الأهم.
لا تزال بعضٌ من تلك الأشباح حيَّة وهي التي حاولت أن تمنعني من التنفس. ثم، ظهرت على كتفيَّ آثارُ قدمَي والدي الحافيتَين.
في صيف عام ١٩٦٥، حين كنتُ في الحادية عشرة، كنا نقضي الإجازة في آبلدورن حيث مسقط رأس والدي في هولندا. كان مصدر البهجة الحقيقية لي في تلك الزيارة هو المسبح المكشوف الرائع، والسباحة هي من أحبِّ المُتَع في حياتي. إنني سبَّاحة ماهرة.
كان والدي بطلًا في السباحة ومارس لعبةَ كرة الماء قبل الحرب. كان ماهرًا بما يكفي حتى إن أصدقاءه ظلوا يُعلِّقون على انتصاراته السابقة بعد مرور سنوات عديدة. كنا — ونحن أطفال — نقضي الأيام في المسبح مع والدتي. ذات يومٍ، انضمَّ إلينا ماكس الذي كان يسبح على نحوٍ مُثير للإعجاب قاطعًا شوطًا تلو الآخر. تمكَّنت جيدًا من مواكبة سرعته في السباحة، ثم بدأ ما ظننتُ أنها لعبة. غَطَّسني. فتعالت أصوات الضحك. ثم غَطَّسني مرةً أخرى وضحِك ثم اتجه إلى السباحة بعيدًا.
رأيت ظهره، فصعدتُ عليه وغطَّستُه وأنا أضحك.
كنت أستمتع بأنني قد غطسته تحت الماء ما إن ظهر على سطحه، ثم وهو يزيح شَعره عن عينَيه، نظر إليَّ. فأدركت نقطةَ التحول. لم تَعُد لعبةً بعدُ، ولم أستطِع السباحة بعيدًا.
فَغَطَّسَني غاضبًا. أخذتُ نَفَسًا ثم ذهبت تحت الماء. ثم صعِدتُ وشَهِقت. التقطتُ بعضَ الهواء لكنه لم يكن كافيًا. غطَّسني مرةً أخرى. صعِدت ولم أستطِع الحصول على هواء كافٍ قبل أن يُغطِّسني. في المرة التالية التي صعِدت فيها، تعالى صراخٌ يطلب منه أن يتوقف. لكنه غطَّسني. لم يَصِلني إلا هواءٌ شحيح. صعِدت. لم أستطِع الحصول على الهواء. وغُطِّسْتُ مرةً أخرى. كنا في المنطقة العميقة من المسبح، وهذه المرة وضعَ قدمَيه على كتفيَّ ودفعني لأسفل ليُبقيني في قاع المسبح. في تلك المسافة البعيدة في الماء، كنت أستطيع سماعَ صراخ والدتي. لم أستطِع سماع الكلمات لكني تمكَّنت من سماع صوتها. استشعرتُ بقدميَّ قاعَ المسبح ورأيت قدمَيه على كتفيَّ.
ثم انتابني هدوءٌ فجأةً وشعرت بقفصي الصدري يتقلَّص، وبدأت أشعر أني مُحرَّرة.
فجأةً كان يسحبني لأعلى. يسحبني وأنا أشهق إلى جانب المسبح. تشبَّثت بالقضيب المُمتدِّ على طول جانب المسبح، وأنا أتنفَّس بصعوبة وأبكي.
أما هو، فسبح بعيدًا وظلَّ يقطع أشواطًا في السباحة.
كانت والدتي تقف ومعها المنشفة وانتهى الحدث على ذلك. لم يدُرْ حديثٌ عنه، ولم يُسمَح حتى بالتعليق عليه.
بعد ٢٧ عامًا، في بيت المزرعة، تنفَّست مرارًا حتى يتلاشى أثرُ قدمَيه. كم كان مثيرًا للاهتمام التفاف الكثير من الأشباح حولي حينها، وحتى الآن هناك أشخاص أحببتُهم أشعر بأنهم يُحاولون إغراقي.
«أغرِق نفسَك! أغرِق القططَ والجِراء العمياء.»
برز هذا السطر من الصفحة في بداية قراءتي لمسرحية «عطيل». وكان واضحًا لعقلي الصغير أنَّ عطيل كان مضطرًّا إلى خنق ديدمونة لكتم أنفاسها وليس لطعنها.
بعد عامٍ من نوبة الربو التي أصابتني، كنت جالسةً برفقة أمي في بيت المزرعة. كانت تُحب البرتغال فسافرنا معًا من دون والدي الذي رأى أنَّ ذلك ليس عدلًا.
سألتها عن الحادثة التي لم يدُرْ حديثٌ عنها.
كانت هادئة مطمئنة البال.
قلتُ: «هل حدث ذلك؟»
«أجل، حدث.»
«أكنتِ تصرخين إليه حتى يتوقف؟»
«نعم.»
كان بإمكاني أن أشعر بخجلها وقلةِ حيلتها. وقفنا معًا وتعانقنا عناقًا طويلًا.
ثم قالت: «لم يَعُد يضربك بعدها. كان يعلم أنه كان سيُغرِقُكِ.»
بعد وفاة أمي، سألته السؤال نفسَه. فضحِك. وقال: «كانت لعبة!» ثم بعد لحظةِ توقُّفٍ كانت الأقصر على الإطلاق، قال: «لقد هزمتُكِ.»
«كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وكانت قدماكَ على كتفيَّ.»
«هكذا نفعل في كرة الماء.» ثم وقف ليملأ كأسه من جديد بالويسكي الاسكتلندي، وقال: «لكنكِ لم تغرقي. نجوتِ منها.»
توقَّف والدي عن العنف، لكن مقاومتي لم تتوقَّف. هذا بالأخص عندما شُحِنتُ بموجة النسوية في أوائل سبعينيات القرن العشرين عندما كنت أقرأ وأستمع إلى المفكِّرات الرائعات.
أتذكَّر نقاشًا مُحتدِمًا معه عندما تحدثتُ عن كتاب «غرفة تخصُّ المرء وحدَه» لكاتبته فيرجينيا وولف. فالفكرة البسيطة المُتمثلة في أن تمتلك المرأة غرفتها الخاصة كانت بمثابة إهانةٍ جسدية ورفضًا لشخصه. «لماذا تنام الزوجة في أي مكانٍ آخر ليس بجانب زوجها؟»
إذا فزتُ بنقطة، كان يزمجر وينهض ليعيدَ ملءَ كأسه بالويسكي. كانت أمي تجلس في صمتٍ لكن في انتباه وهي تُخفي ابتسامتها وحماستها لفكرة أن تمتلك غرفتها الخاصة. فكان والدي بطلًا في الشخير.
توطَّدت علاقتي مع أُمي في هذا التحالف ضده.
كان ذلك يجرح مشاعره؛ إذ كنتُ أتعمَّد الدفاع عنها وأبتكر خططًا لأتسبَّب في جُرحه عندما يبدو غير مبالٍ بها وقاسيًا معها.
في الثلاثينيات من عمري، كنت أشرب مع مجموعة من المُمثلين في حانة «ساوث لندن». كان ذلك يوم الجمعة، في ساعة مبكرة من مساءِ ليلةٍ في شهر يونيو.
لم يمرَّ إلا ١٠ دقائق حتى أدركت، ما تسبَّب في شعوري بالخجل والصدمة، أنَّ ذلك الشخص الذي كان جالسًا عند الحانة حاملًا الويسكي هو والدي الذي يُغازل النادلة. وبدا واضحًا أنها كانت تعرفه.
لم يرَني. كان الحزن يعتصِر قلبي على أُمي التي كانت تنتظر في الضواحي وحدَها. اعتذرتُ وتمكَّنت من الهروب دون أن يراني.
قُدْتُ السيارة إلى منزلهما. وجدتُ أمي، وحزمتُ حقيبةً لها لنقضِيَ عطلة نهاية الأسبوع، ثم قدتُها إلى إيستبورن. سجَّلنا الوصول في فندق جراند أوتيل ثم طلبنا خدمةَ الغرف.
في وقتٍ لاحق، عندما علِمتُ أنَّ والدي سيعود، اتصلتُ به وقلتُ له إننا نقضي عطلةَ نهاية الأسبوع على البحر.
كانت أمي تحبُّ البحر. ووجدتْ في السير على الشاطئ أكبرَ متعةٍ لها. قضينا عطلةً رائعة وعندما عدتُ بها إلى المنزل، بدا في غاية الاستياء. أظهر أفعالًا تعكس هجرانه لأُمي. لم يؤذِها بدنيًّا قط، لكنه تجاهلها إلى حدِّ الإيذاء. كان ماكس يُحب مارجريت ولا أعتقد أنه ظن مطلقًا أنَّ تصرفاته معها كانت بمثابة إهمالٍ مُستمر لها.
بعد ذلك، اكتشفت عدةَ محطات توقُّف للشرب في رحلة عودته إلى المنزل. لم يكن يريد العودةَ إلى المنزل. كان عملُه وزملاؤه مصدرَي المتعة له. بينما الأطفال والزواج لم يكونوا كذلك.
صحيح أنه لم يضربني مرةً أخرى، لكنه وجد طرقًا أخرى لإيذائي. أَقَلُّها أنه لم يُثنِ على أيٍّ من إنجازاتي، على الرغم من أنني كنت أعرف من بعض سلوكه أنني قد اجتزت التقييمَ الذي يلاقي استحسانه. كان يُحب السيارات الجميلة ويقتنيها وكان مسموحًا لي، وليس لأحدٍ آخر، بقيادتها.
فزتُ في فعاليات رياضية، ومسابقات إلقاء الشِّعر، ومنحٍ دراسية، وجوائز. ألَّفت كتبًا، ولم يُبدِ تعليقاتٍ إيجابية، ليس سوى تعليقات سلبية. فتوقَّفت عن بناء توقُّعات.
قبل وفاته ببضع سنوات، جلستْ صديقة مقرَّبة معه في حفلةٍ، وسمِعتها عبْر الغرفة تخبره بأني كم أبدو محترفة وجديرة بالاحترام. فكان ردُّه: «لا أُبالي بأي شيء تفعله.»
كما ألاحظ، هناك ثلاثة أنواع من الانتقادات يصوِّبها الرجال بسهولة على حضور المرأة، وقوَّتها، وصوتها. انتقادات من شأنها أن تَشِل قدرتنا على الشعور بأي تقديرٍ للذات أو ثقة في أنفسنا أو فيما نفعل.
مظهرنا، وافتقارنا إلى الجَمال أو الجاذبية، أو أحدهما؛ افتقارنا لحسِّ الفكاهة أو عدم قدرتنا على الابتسامة لهم أو الضحك على نِكاتهم السخيفة؛ وربما — وهو أساس كل هذا — غياب احتمالية الإعجاب بنا. إذا لم يُبْدَ إعجابٌ بنا — نحن النساء — فإننا معرَّضات للخطر والانتقاد.
كان والدي يعتاد أسلوبًا عند تقديمي أنا وأختي الكبرى. هو أن يشيرَ إلى أختي قائلًا: «هذه هي الجميلة.»
ثم يشير إليَّ قائلًا: «هذه هي الذكية. شتَّان بينهما.»
كان يتوقَّع دائمًا الضَّحك على هذا التعليق. لكني لم أضحك على نِكاته، لا سيما حينما أدركت أنها كانت تسخر مني، أراد أن أضحك على الجروح التي ألحَقَها بي. كان الانتصار انتصارين إذا كنتُ سأضحك.
أعترف أنني كنت طفلةً جادة. ومفكِّرة عميقة. فهمت أنَّ النكات التي يستهدفني بها والدي لم تكن مُضحكة ولكنها كانت ساخرة، وكان متوقعًا مني أن أضحك على هذه الكلمات التي كانت تُقلِّل منِّي. ربما هذه هي الطريقة التي يمزح بها الرجال معًا؛ وربما لو كنت أستطيع الردَّ بمزحةٍ كان سيُسمَح لي بالانضمام إلى «المجموعة». ولكني كنت طفلةً، والنِّكات كانت تجرح مشاعري. لم تكن من نوعية النِّكات التي تلقَّاها أخي وأختي. فكانت نِكاتًا عن الأشياء التي لا أستطيع القيام بها، الأخطاء التي ارتكبتها، الأشياء التي أنجزتها، عن جسدي، وأفكاري.
عندما كنت في الثالثة عشرة، قرأت بحماسة شديدة أنَّ «افتتاحية ١٨١٢» لتشايكوفسكي — كاملة مع العزف بآلة الكانون — كانت تُعرض في قاعات فيرفيلد في كرويدون. فذهبتُ إلى أمي وسألتها: «هل يُمكنني الذهاب؟»
لم تكن من هواة الموسيقى. ولم يُمكنِّي الذهابُ بمفردي. فقالت: «اسألي والدكِ.»
كالعادة، كنتُ متوترة. انتظرت حتى كنَّا معًا. فعرضت عليه الإعلان في الصحيفة المحلية. تحدَّث إلى أمي.
«لا أريد أن يراني أحدٌ معها، إنها قبيحة.» لا أتذكَّر أيَّ ألَم شعرت به في ذلك الوقت.
ربما أني كنت أعرف بالفعل؛ ربما كنت أعرف أنه كان يشرب؛ ربما كنت أرغب في الذهاب فحسب، لكنَّ ردَّه جعل أُمي توافق على اصطحابي إلى هناك.
لم أواجه غضبي إلا بعد سنواتٍ عندما نظرت إلى صورٍ لي. لم يكن صحيحًا. كان كذبًا. صحيح أني لم أحاول أن أجعل نفسي جذابة، لكن ما قاله لم يكن صحيحًا.
حتى آخر حياته، كان يُرسِل لأختي بطاقةَ عيد ميلاد مزخرفة بالزهور وبطاقةً أخرى لي عليها صورة خنزير. استوعب والدي في النهاية أنني لم أكن أضحك، وهو ما استفزَّه ليُدليَ بالرأي التالي: «باتسي لا تتمتع بحس الفكاهة.»
ظننتُ أني لا أتمتَّع بحس الفكاهة إلى أن وصلتُ إلى العشرينيات من عمري. ثم اكتشفت أنَّ بوسعي إضحاكَ مَن أُعلِّمهم، فكنا نتشارك الضحك الذي بدا صافيًا ومُمتعًا. لا يوجد جدول أعمال، نكتفي بقضاء وقتٍ مُمتع في الغرفة.
الإعجاب
تحمل العديد من النساء الحاجة المستمرة إلى الإعجاب بهن، ويسعين وراء ذلك. وبالطبع، يسعى بعض الرجال إلى ذلك أيضًا، ولكن عادةً ليس بهذه الاستماتة. في الواقع، لا يمكنك حَمْل الناس على الإعجاب بك. فالأمر خارج نطاق سيطرتك. نحن بذلك نسعى إلى المستحيل، وعندما نفعل ذلك فإننا عادةً ما نجعل أنفسنا أقلَّ إثارة للإعجاب!
أُعلِّم النساء أنَّه، في الأدوار القيادية الرسمية، ليس أخلاقيًّا أن أسعى وراء نيل الإعجاب. إنما عليهن السعي وراء العدالة، والتوازن، وحُسن استخدام السُّلطة؛ ولكن كل هذه الأهداف الإيجابية يشوِّهها السعي وراء نيْل الإعجاب. سيستخدمها المُضلِّلون ضدك، ولن يشعر الشرفاء بالأمان تجاهك.
لا أقول بأنك لن تنالي الإعجاب، بل إنَّ الحاجة إلى نيل الإعجاب هي المُدمِّرة. ويتعيَّن على النساء في السُّلطة بوجهٍ عام أن يقاومن هذه الحاجة.
كنتُ دائمًا أعرف أنَّ والدي لم يُحبِبني.
كان يعرف بالتأكيد أني لم أُعجَب به بقدْرِ إعجابِ أغلب الناس به. ولكنني تقبَّلت كرهه ولامبالاته تجاهي في مرحلةٍ مبكرة من حياتي. اخترت في ذلك الوقت ألا أفعل شيئًا حيال ذلك.
ثم في منتصف الثلاثينيات، وقع حدثٌ صادم بشدة، لكنه حرَّرني. انكشف أمرٌ كان باعثًا على الراحة وأسهَم في توضيح وجهات النظر التي ساعدتني في رحلتي عبْر عالم الرجال الذي اضطُررت، مثلي مثل جميع النساء، إلى المرور به. كان بمثابةِ هدية مؤلِمة لكنها غيَّرتني وحرَّرتني.
تعرَّضت أختي سوزان لتلفٍ شديد في الدماغ بعد أيام قليلة من ولادة طفلها الثاني.
كانت في مستشفى الأمراض العصبية، كما كانت تُعرف آنذاك، في حي كوينز سكوير. وبين عشية وضحاها، أصبحت مُعاقة. كل يوم في وقت الغداء كنتُ أذهب لأعلِّمها الكلام من جديد. وكل مساء كان والدي يزورها.
في ذلك الوقت كان لديَّ منزلٌ في منطقة كامبرويل، وإذا لاحظ والدي أني في المنزل، كان يستخدم منزلي كمحطة توقُّف أخرى للشرب.
ذات مساء، كنت أستقبل ضيفةً. كانت صديقتي العزيزة كيلي ماكيفينو تقيم معي. كنت أطهو في المطبخ بالطابق السفلي ووصل أبي. ومرةً أخرى، كان يشرب. كان يُحب كيلي ويستمتع برفقتها. نزل واستمر في الشرب من نبيذي الأحمر.
بدأنا نتحدَّث عن سوزان. سرعان ما أصبح ذا عاطفة جياشة وفيَّاضة. ظلَّ الحديث يدور حول كيف أُصيب دماغها بالتلَف، وكم كان ذلك سيئًا.
كنت أُقطِّع السَّلطة، وظهري مواجِه له.
ثم قال: «مسكينة يا سوزي، يا لكِ من مسكينة يا سوزي.» وعندئذٍ توقَّف. شعرتُ بعينَيه مثبَّتتَين على ظهري. فوضعت السكين، ثم استدرتُ لأنظر إليه. نظر في عيني مباشرة.
«كنتُ أتمناك بدلًا منها.»
هكذا قال. تدفَّقت الكلمات من فمه. ها هي ذي صارت واضحة. إنها الحقيقة. الحقيقة التي كنت أعرفها دائمًا.
كيلي هي معلِّمة رائعة لتقنية ألكسندر؛ لذا يُمكنها التعامل مع الأجسام. قبل أن أتمكَّن من أخذِ نَفَسٍ، وقفت كيلي وأخذت بحذَر الكأسَ من يده.
«إياكَ والحديثَ مع باتسي بهذه الطريقة وأنت في بيتها، وتشرب من نبيذها!» أجبرته على الوقوف، ثم دفعته ليصعد الدَّرج وسحبت البابَ الأمامي بقوة. سِرْتُ إلى نافذة الطابق السفلي وشاهدت كيلي العزيزة وهي تطرده إلى الشارع.
وهنا السؤال يطرح نفسَه: لماذا سعى إلى رفقتي؟ وجاء الجواب واضحًا بقدْر وضوح معرفتي بكراهيته لي.
كان يحبُّني.
الموت
أُصيب والدي بسكتة دماغية شديدة في نوفمبر ٢٠١٥ حينما كان في سن السابعة والثمانين. وافق ذلك يوم الجمعة حينما وصلتُ المنزل، وكان فاقدًا للوعي. تجمَّعنا كلنا. ونِمْت بجانبه تلك الليلة.
استعاد وعيه في الصباح. وكنتُ برفقته. ظلَّ ينظر حوله وفجأةً أصبح وعيه حاضرًا بشدة ثم نظر إليَّ بصدقٍ ووضوح ودون أن يتوارى وراء حجاب.
تحدَّث بالدرجة نفسِها من الوضوح التي اعتادها.
«أوه، باتسي، أنت هنا.»
ها قد ظهر … الحب.
في ذلك السبت بعد الظهيرة، في الساعة الواحدة ظهرًا، تعرَّض لسكتةٍ دماغية شديدة أخرى شهِدناها أنا وأخي.
دخل في غيبوبة وتُوفِّي بعدها بثلاثة أيام.
في حياته، لم يمتلك ماكس أيَّ مهارات للتعامُل معي. لم أكن مُطيعة. وكان هو ابنَ زمانه. كان غير مُبالٍ وقاسيًا مع زوجته وأسرته. كان يشرب مع الصحفيِّين الذين يُداعبون النساء علانيةً ويُطلقون نِكاتًا بذيئة في حضورنا. نِكات عن الاغتصاب. نِكات عن نساءٍ «فاسقات». لم يكن مُضطرًّا إلى التغيير من نفسه؛ إذ لم تلقَ أفعاله اعتراضًا عليها. لم يكن لدى ماكس أيُّ مبرِّر للتغيير، ولا أصوات غير صوتي الذي كان يُطالب بتغييره، ومن ثَم لم يكن لديه أي خطط ليُصبح زوجًا أو أبًا أفضل.
كان مستشاروه الرجال صحفيِّين مُنحلِّين ومسرفين في الشرب ومُدخِّنين بشراهة، وعلى درجة عالية من الثقافة. أنهكتهم الحرب جميعًا، ونجَوا منها جميعًا لكنهم لا يملكون مبرِّرًا لتحسين أيٍّ من سلوكياتهم. كانوا يقودون سياراتهم ويسكرون ويضحكون عندما يحطِّمونها. سرق أحدُ أصدقائه المُقرَّبين جرافةً وهو مخمور وقادها إلى طريق داونينج ستريت الذي لم يكن مسدودًا بحواجزَ آنذاك، ثم أوقفها خارج شارع رقم ١٠. فَوُبِّخ وأُرسِل إلى المنزل.
وأفهمُ الآن فهمًا جوهريًّا أنَّ الحرب وقساوتها أصابته باضطرابِ ما بعد الصدمة، وهو ما لم يُتعرَّف عليه أو يُفهم في حياته. بعيدًا عن الصدمة، كان زملاؤه رجالًا راشدين حرمتهم الحرب من فترة مُراهقتهم، وحتى يعوِّضوا أنفسهم، نسُوا ما مرُّوا به، ولم يخبرهم أحدٌ بأنَّ عليهم العودة إلى منازلهم للعيش مع عائلاتهم. إنما كانوا يستمتعون بحياتهم إلى أقصى حدٍّ. ثم اصطدمت بهم السبعينيات فقضَوا حياتهم في استرخاء.
في أواخر مُراهقتي، عندما بدأت أبحث في تاريخ اضطهاد المرأة، أدركت إلى أي مدًى قد يكون التغيير صعبًا من وجهة نظر الرجل. وفهمتُ أنه لو امتلك تلك القوةَ لآلاف السنين، لكان من الصعب للغاية أن يتخلَّى عنها.
هذا بالأخص إذا كانت هذه القوة مؤيَّدة في النصوص الدينية والقوانين العلمانية التي تسمح للرجال بأن يؤذوا النساء بلا قيدٍ أو عقاب.
إنَّ الهدية التي منحني إياها والدي كانت ألا أتبنَّى سلوكًا مُعاديًا للرجال. وبالأحرى، منحتني في سنٍّ مبكرة جدًّا، قدرةً على تعرُّف السلوكيات والأنماط التي أدركتُ، عندما دخلت عالَم البالِغين، أنها ذكورية من الدرجة الأولى. عاداتٌ، بسبب أن قوَّتها لم تلقَ معارضةً على مرِّ العصور، أصبحَتْ مقبولة لدى الرجال والنساء على حدٍّ سواء بوصفها الطريقة الصحيحة للتصرُّف.
لا يُمكنني أن أُنكر أنَّ والدي أحبَّني.
أدربُ العديد من المُمثلين على أداء دور جونريل في مسرحية «الملك لير». لم تكن كورديليا هي الابنة المُفضَّلة للملك لير. وكان الملك لير يتصرَّف في قصر جونريل على نحوٍ مفزع؛ إذ كان يُخرِّب القصر ويضرب رَجُلَها النبيل.
تلجأ معظم المُمثلات تلقائيًّا إلى إبداء غضبٍ معمَّم حينما يلعبن دَور جونريل بوصفها امرأة مشوَّهة وشريرة.
لكن الأمر أكثرُ تعقيدًا. أن يظلمك الأب هو أمرٌ قاسٍ؛ لأنه ظلمٌ واقع رغم حبِّه لك.
إنَّ اللحظة التي تقول فيها «لن أُطيق صبرًا» هي لحظةُ التحرُّر. الكثير من الناس ممن عرفوا والدي كانوا يرَونه رجلًا مميزًا، وكان كذلك بالفعل. لقد أربكتُه. أحببتُه لكني لم أرغب في أن يُنظَر إليَّ على أني لستُ جديرة بالمساواة. لم يكن عليَّ أن أتخذ القرار بأني «لن أطيق صبرًا». فالقرار كان متخذًا بالفطرة.
إنَّ المنظور الزمني يجعلني أكثرَ رأفةً به، خاصةً عندما يكون لديَّ زملاء وعملاء من الرجال في سنِّي أو أصغر يتصرفون تصرُّفًا مُسيئًا تجاه النساء. لا يزالون يقبِّلون الطالبات على أفواههن، يُعانقونهن وأجسادهم متلاصقة بأجسادهن، يصفعونهن على مؤخراتهن، ينظرون إلى صدورهن بدلًا من عيونهن. يُصدَمون عندما تتحدَّاهم النساء، يُصدَمون عندما لا يُغازِلْنهم بالمِثْل أو يضحكن على نِكاتهم، يُصدَمون أنَّ قوَّتهم تلقى معارضةً.