تمهيد

تركيب المجتمع المصري في عصر إسماعيل

(١) نوعية الحكم

يُحدِّد الغرضُ الرئيسي من هذه الدراسة التمهيدية النوعياتِ التي نحاول من خلالها فهم تركيب المجتمع المصري في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، كما يُحدِّدها أيضًا — بدرجة ما — موضوع الدراسة ككل. والنوعية الأساسية هي تلك التي تتعلَّق بالحكم، ويترتَّب على ذلك أن ثمةَ تمايُزًا في تركيب المجتمع يستند إلى التفرقة بين أصحاب السلطة والخاضعين لها.

وأول ما يُثير اهتمامنا هو تكوين وصلاحيات الطبقة الحاكمة ثم تحديد طبيعة الدور الاجتماعي-السياسي لجماعة وسيطة بين الطبقة الحاكمة وغالبية سكان البلاد ونعني بها جماعة «الأعيان». وأخيرًا، علينا أن نتناول الوظائف الخاصة بالجماعات الهامشية والفرعية في المجتمع.

كما يجب أن نأخذ في اعتبارنا البُعد الاقتصادي في الاستحواذ على مراكز السلطة وتقويتها؛ فالوضع الاجتماعي الاقتصادي البارز في مصر يستند — قبل كل شيء — على الإنتاج الزراعي الواسع النطاق، كما أن الصناعات التجهيزية المحدودة الأهمية (كحلج القطن وصناعة السكر) كانت بأيدي كبار المُلَّاك. ولكن شراء وبيع الإنتاج (وخاصةً تجارة التصدير) كان يتركز بصفة رئيسية في أيدي التجار الأوروبيين والشوام الذين تحكَّموا — في نفس الوقت — في تجارة الاستيراد. وكانت ممارسة صلاحية الطبقة الحاكمة تقود عادةً إلى الاستحواذ على المِلكيات الزراعية، ولكن تلك لم تكن الوسيلة الوحيدة التي تكوَّن بها هذا النوع من الثروة، ولم تكن مِلكية الأرض الزراعية تعني — في حد ذاتها — الانتماء إلى الطبقة الحاكمة رغم ما تضفيه على صاحبها من مركز ومكانة اجتماعية. ومن ثم لم يكن التركيب الطبقي بالمفهوم الاقتصادي الاجتماعي مرتبطًا ببناء السلطة السياسية.

وسنرى كيف كان الأصل العِرقي مُحدِّدًا حاسمًا في تكوين الطبقة الحاكمة، وكان النقد الذي وُجِّه إلى تلك الحقيقة أحد القوى الدافعة للتحرك نحو التغير الاجتماعي من خلال فتح أبواب هذه الطبقة أو توسيعها أو حتى استبدالها بطبقة أخرى.

ونعني ﺑ «الطبقة الحاكمة» أولئك الذين تولَّوا المناصب الهامة في السلطة بصورة دورية، وكان كل فرد من أفراد تلك الجماعة يستطيع — من حيث المبدأ — أن يتولَّى أي منصب ولم تكن الخبرات الفنية أو العملية من بين متطلَّبات تَوَلِّي تلك الوظائف بالنسبة لأفراد هذه الجماعة. وبغضِّ النظر عن الخديو وأسرته والأمراء الذين ينتمون إلى فروع أخرى من الأسرة الحاكمة، كانت الطبقة الحاكمة تضم موظفي البلاط وأصفياء الحاكم وأعضاء المجلس الخصوصي وكبار موظفي الإدارة المركزية (الدواوين والمجالس والنِّظارات والمصالح الحكومية ومجالس الأحكام)، وكذلك أولئك الذين شغلوا مناصب القيادة العسكرية وكبار موظفي الإدارة بالأقاليم وكبار موظفي الحكومة (المفتشين والمديرين والمحافظين ومأموري الضبطية).

وهناك شيءٌ لا بد أن نذكره حول تعريف وتفوجيل Wittfogel للطبقة الحاكمة باعتبارها لا تتضمن الحاكم ورجال بلاطه وكبار الموظفين فحسب، بل تتضمن من يلونهم مرتبةً أيضًا.١ فهو يرى «أداة الدولة» من جانب «الرجل العامي» الذي يرى أن أصحاب الوظائف الصغرى في السلم البيروقراطي أعضاء في الطبقة الحاكمة. وبالنسبة لمصر يدخل ضمن هؤلاء: العمد والصيارفة، والكَتَبَة. ولا ريب أن الموظف الصغير نفسه كان يشعر أن وضعه أرقى من وضع «الرجل العامي». وعلى أيَّة حال، إذا نظرنا إلى الطبقة الحاكمة في ضوء هذا التعريف من وجهة نظر أعضائها يبدو الموظفون الصغار كأدوات مساعدة للأجهزة التنفيذية. ويتجلَّى ذلك بوضوح في حقيقة أن جُبَاة الضرائب والكَتَبَة كانوا ينتظمون في طوائف، شأنهم في ذلك شأن الحِرَفيين والتجار والمشتغلين بالخدمات. وقد يُفترض أيضًا أن صغار العمد الذين يجلدون بالكرباج علنًا قد لا يبدون في أعين الفلاحين كممثلين للطبقة الحاكمة.

ولم تكن الترقيات في الجهاز البيروقراطي تتم على أساس الأفضلية أو الخبرة، ولكن العلاقات الشخصية بالأسرة الحاكمة، والأصل العرقي، كانا حاسِمَين في تقرير مبدأ التَّرَقِّي، وما دام لم تكن هناك عقبات أمام صغار الموظفين فإنَّهم — من وجهة النظر هذه — يُعَدُّون ضمن الطبقة الحاكمة افتراضًا. وظلَّ الموظفون الذين يُمارسون أعمالًا تتطلَّب استعدادًا فنيًّا أو إداريًّا خاصًّا يشغلون — كقاعدة عامة — وظائف ثانوية. وسوف نتناول فيما بعدُ استثناءات تلك القاعدة.

(٢) الطبقة الحاكمة

الحاكم شبه المستقل وسيده

قبل أن يؤدي تدخل الدول الأوروبية في الشئون الداخلية للبلاد إلى تدهور النظام الاجتماعي السياسي، كان الخديو إسماعيل يحكم المصريين حكمًا مطلقًا؛ أي إن إرادته الشخصية كانت لها السيادة أولًا وأخيرًا حتى في المسائل المتعلقة بالموت والحياة.

وكان إسماعيل خامس حُكَّام٢ الأسرة الأجنبية التي أقامت حكمها في مصر في أعقاب حملة نابليون. وكان وضع مؤسسها — محمد علي — في البداية وضع الوالي التابع للسلطان، ولكن بعد حروبه الناجحة ضد سيده السلطان في ١٨٣١-١٨٣٢م و١٨٣٩م حيث تعرَّضت الدولة العثمانية للخطر لولا قيام الدول الأوروبية بإنقاذها مرتين، مُنِحَت مِصرُ حقوقًا إدارية واسعة (بمقتضى معاهدة لندن في ١٥ يوليو ١٨٤٠م والفرمانات السلطانية الصادرة في ١٣ فبراير وأول يونيو ١٨٤١م)، كما مُنِحَت أسرة محمد علي حكم مصر وراثيًّا على أن يلي حكمها الأرشد فالأرشد من أسرة محمد علي. ولكن السلطان فرض شروطًا مختلفة على حُكَّام مصر: كمبادئ خط شريف جلخانة الصادر في ١٨٣٩م، كما أن المعاهدات الدولية التي يُبرمها السلطان كانت تسري على مصر، وتُفرض الضرائب وتُسَكُّ العملة باسم السلطان، ولا تزيد قوة الجيش المصري في وقت السِّلم عن ثمانية عشر ألف جندي، واحتفظ السلطان لنفسه بحق تعيين الضُّباط من رتبتي اللواء والفريق وبحق الحصول على جِزْيَة سنوية تُدفع للباب العالي.

وظلَّ وضع مصر ووضع حكامها في إطار الدولة العثمانية ثابتًا بالضرورة طوال حكم الولاة الثلاثة من خلفاء محمد علي. وعلى أيَّة حال حاول إسماعيل طوال السنوات العشر الأولى من حكمه أن يرفع تلك القيود، وأن يُوسِّع سلطته، وفضَّل إسماعيل الوسائل الدبلوماسية كما فهمها — الأموال والهدايا لكل من وعده بالمساعدة بأي شكل من الأشكال وخاصةً السلطان نفسه — على الصدام العسكري الذي لجأ إليه محمد علي.

فدفع الأموال أولًا إلى السلطان لتغيير نظام ولاية العرش؛ ومن ثَم حصل على فرمان ٢٧ مايو ١٨٦٦م الذي استبدل بوراثة الأرشد الوراثة الصُّلبية. وفي نفس الوقت سمح له بأن يحتفظ بجيش قوامه ٣٠ ألف رجل زمن السِّلم، ولكن الجزية التي يدفعها للسلطان زيدت من ٨٠٠٠٠ إلى ١٥٠٠٠٠ كيس سنويًّا (أي ما يُعادل ٦٨١٥٠٠ جنيه إسترليني)، وخلع الفرمان الصادر في ٨ يونيو ١٨٦٧م على إسماعيل وخلفائه «لقب الخديو» وهو لقب فارسي الأصل؛ ومن ثَم أصبح إسماعيل حاكمًا شبه مستقل. وأصبحت طبيعة استقلاله الذاتي أكثر تحديدًا عندما سُمِح له بإيجاد المؤسسات الإدارية التي يرى ضرورة إيجادها، وإصدار اللوائح الخاصة بها، وعقد الاتفاقات الإدارية مع الدول الأجنبية، ولكن إبرام المعاهدات ظلَّ من حق السلطان وحده، وفي ٢٩ نوفمبر ١٨٦٩م صدر الفرمان الذي حرَّم على إسماعيل عقد القروض الأجنبية دون موافقة الباب العالي، ولكن إسماعيل استعاد هذا الحق بموجب فرمان ٢٥ سبتمبر ١٨٧٢م. وفي ٨ يونيو ١٨٧٣م صدر الفرمان الذي أكَّد كل تلك الامتيازات ورفع القيود الخاصة بتحديد قوة الجيش المصري.

وبذلك وصل الاستقلال الذاتي المصري إلى نقطة تقل درجةً واحدة فقط عن مرتبة الاستقلال التام. ولا تزال الأسباب التي جعلت إسماعيل يُحْجِمُ عن اتخاذ الخطوة الأخيرة في هذا الصدد والظروف التي قد يكون مستعدًّا عندها لاتخاذ مثل هذه الخطوة في حاجة إلى استيضاح.

ففي خلال ثورة كريت ضد الحكم التركي، سعت اليونان إلى التحالف مع مصر ضد السلطان عام ١٨٦٧م مفترضةً أن إسماعيل كان يسعى إلى تحقيق الاستقلال الكامل عن الباب العالي، وقدَّم القنصلُ اليوناني إلى وزير الخارجية راغب باشا (الذي كان من مواليد اليونان) عرضًا رسميًّا «لعقد تحالف بين الأمتين الصغيرتين اللتين تُعدان من أقدم الأمم»،٣ غير أن استجابة الحكومة المصرية لهذا العرض كانت سلبية. وذكر إسماعيل للقنصل اليوناني في ٢٢ أبريل ١٨٦٧م أنه لا يعتزم فصم الروابط التي تربط مصر بالباب العالي، وأنه يسعى لتحقيق أهدافه بطريق المفاوضات وليس الحرب.

وقد يبدو أن إسماعيل كان لا يرغب في أن يَلحَقَ به مصير محمد علي الذي سلبته الدول الأوروبية ثمار انتصاراته العسكرية؛ فقد بدا استقلال مصر لتلك الدول بداية النهاية للإمبراطورية العثمانية التي كانوا يحاولون الإبقاء عليها. وعلى أيَّة حال، أشار إسماعيل أكثر من مرة في مناسبات بعينها إلى أنه لن يتردَّد في فصم روابطه بالدولة العثمانية إذا حاول السلطان خلعه، فذكر للقنصل النمساوي — عام ١٨٦٩م — أنه قد يُعلن استقلال مصر في تلك الحالة.

وكان المراقبون الأوروبيون يتوقعون أن يخطو إسماعيل هذه الخطوة خلال احتفالات افتتاح قناة السويس عام ١٨٦٩م. ويبدو أن إسماعيل توصَّل إلى تفاهم مع الملك فيكتور عمانويل ملك إيطاليا حول هذا الموضوع، ولكن تحقيق ذلك باء بالفشل نتيجة معارضة فرنسا، وحقيقة ذلك الاعتراض معروفة عامة. غير أن الاعتقاد كان سائدًا أن إسماعيل قد يخطو الخطوة الحاسمة إن عاجلًا أو آجلًا. وكتب أحد المشاركين الألمان في احتفالات عام ١٨٦٩م يقول: «إن إعلان استقلال مصر أصبح بالضرورة مسألة انتظار اللحظة المناسبة، بعدما تطوَّر البناء العضوي لشروط ذلك الاستقلال تطورًا راسخًا.»٤

وقد قيل للضُّبَّاط الأمريكيين الذين أدخلهم إسماعيل في خدمته والذين جاءوا إلى مصر في مطلع عام ١٨٧٠م إن مهمتهم مساعدة مصر على نيل استقلالها، ولكن الخديو ما لبث أن ارتضى تحديد علاقته بالسلطان على أساس فرمانَي ١٨٧٢م و١٨٧٣م، ولم تتكرَّر أزمة ١٨٦٩-١٨٧٠م التي وقعت بين إسماعيل والسلطان. ومنذ عام ١٨٧٥م أصبحت الأزمة المالية هي كل ما شغل بال إسماعيل.

وعندما أصبح يُدرك مدى التهديد الذي يتعرَّض له من جانب الباب العالي في الأسابيع السابقة على خلعه عام ١٨٧٩م، بدأ يُعد العدة لصدام عسكري مع السلطان، ولكنَّه أذعن في نهاية الأمر. ولعله رأى أنه لا جدوى في الخروج على السلطان والدول الأوروبية معًا، أو لعله كان لا يثق في إمكانية الاعتماد على جيشه في ضوء الكارثة التي تعرَّض لها في الحبشة عام ١٨٧٥-١٨٧٦م.

ومن ثم يتضح أن محمد علي — وبدرجة أقل — إسماعيل قد رَغِبَا في جعل مصر مملكةً مستقلة عن الباب العالي، ولكن أوروبا حالت دون ذلك. غير أن إسماعيل حقَّق لبلاده درجةً كبيرة من الاستقلال الذاتي، ولم يكن هناك إحساس بسيادة السلطان على مصر إلا خلال الأزمات مثل أزمة ١٨٧٩م وأزمة ١٨٨١-١٨٨٢م.

الحاكم الأوتوقراطي وهيئاته الاستشارية

وهكذا لم تكن هناك عقبات من جانب الباب العالي تعوق طريق الحكم الداخلي لإسماعيل عند بداية فترة الأزمة. أضف إلى ذلك أنه لم تكن في البلاد ذاتها هيئة أو مؤسسة أو جماعة اجتماعية تستطيع وَضْعَ حدٍّ لسلطة الخديو، أو تستطيع معارضة إرادته استنادًا إلى حقوقها التنظيمية، أو وضعها الاقتصادي، أو نفوذها الاجتماعي-السياسي. وحتَّى مجلس شورى النواب الذي تأسَّس عام ١٨٦٦م لا يُعدُّ استثناءً لذلك.

وبغضِّ النظر عن موظفي القصر وتأثيرهم غير الرسمي على الحاكم، لم يكن هناك حتى عام ١٨٦٦م سوى مجلس واحد يرجع إليه إسماعيل من حين لآخر طلبًا للمشورة هو المجلس الخصوصي. وذلك المجلس لم يكن يتكوَّن من ممثلين للجماعات الاجتماعية (المهنية أو الطائفية) ولكنَّه كان يتكوَّن من شخصيات تدين بولائها للحاكم وتتمتع بثقته، وفي كثير من الأحوال كان أعضاء المجلس يشغلون مناصب رؤساء الأجهزة الإدارية، وشكَّل المجلس الخصوصي الدائرة للطبقة الحاكمة وخضع في تشكيله لتغيُّرات مستمرة. وكان المجلس ينظر في المسائل الإدارية ويرفع التوصيات بشأنها إلى الخديو ليتخذ ما يراه من قرارات.

وعلى أيَّة حال، لم تكن هناك وسائل اتصال بين المجلس والشعب، وطالما كان أعضاؤه لا يعلمون إلا القليل عن المشاكل والاحتياجات المحلية؛ لذلك أضاف إسماعيل إلى المجلس الخصوصي — عام ١٨٦٦م — مجلس شورى النواب. ولم يكن ذلك يعني أنه تنازل عن بعض سلطاته. وربما كان المراقبون المعاصرون على حق عندما رأوا في إنشاء مجلس شورى النواب ردًّا على الشكوك التي أُثيرت في الصحافة الأوروبية في ١٨٦٥-١٨٦٦م حول عجز الخديو ماليًّا. وتأسيس مجلس شورى النواب، و«التمصير» المؤقت للمناصب العليا في الإدارة المحلية، يجب أن يُنظر إليه من زاوية جهود إسماعيل لتحرير نفسه من الباب العالي.

وقدَّم إسماعيل مجلس شورى النواب إلى العالم الخارجي على أنه تتويج لرسالته العظيمة ﻟ «تحضير» مصر. وتحويل مصر إلى شريك محترم لأوروبا «المتحضرة» كان هدفًا سعى إليه سعيد، وجاء إسماعيل ليُطوِّره، ووجد هذا الاتجاه التعبير الرمزي عنه باشتراك مصر في معرض باريس الدولي عام ١٨٦٧م، واشتراك الأورطة السودانية في القتال إلى جانب الحملة الفرنسية في المكسيك خلال السنوات ١٨٦٣‏–‏١٨٦٧م.

وكان ذلك التصرف الحضاري بإقامة مجلس شورى النواب يعني أيضًا إعطاء مصر وضعًا خاصًّا في الدولة العثمانية، وقد كتب إسماعيل إلى نوبار باشا — الذي كان يُمثِّل مصالحه في باريس — في ١٨ نوفمبر ١٨٦٦م يقول: «لا يوجد في إسطنبول ولا يمكن أن يوجد أبدًا، أقول أبدًا … حاكم مثلنا.»٥ وعبَّر إسماعيل في أمر وجَّهه إلى رجله راغب باشا — في ٢٢ أكتوبر ١٨٦٦م — الذي عيَّنه أول رئيس للمجلس الجديد عن اقتناعه بأن المصريين قد بلغوا درجةً كافية من النضج لنيل هذا المجلس الذي يتجلَّى نفعه في كل البلاد المتحضرة. وفي نفس الوقت حاول نوبار أن يشرح لوزير الخارجية الفرنسي بباريس الفرق بين إقامة مجلس شورى النواب والدستور التونسي الصادر عام ١٨٦٠م، فذكر أن الباي نفسه لا يعرف شيئًا عن مغزى الدستور، وأن رعاياه ما زالوا لا يفهمونه، أما مجلس شورى النواب فيقوم — على النقيض من ذلك — على أُسُسٍ متينة؛ فشيوخ القرى من أعضاء المجلس ينتخبُهم الناس، وتقوم الحكومة بالتصديق على اختيارهم، ويُقدِّم ذوو النفوذ منهم المشورة للمُديرين في المسائل الخاصة بالأشغال العمومية.
وبينما كان إنشاء مجلس شورى النواب يستهدف تأمين مكان لمصر بين البلاد «المتحضرة»، نُظِر إليه في مصر على أنه أداة «تحضير»؛ فقد صرَّح نوبار لوزير الخارجية الفرنسي في ديسمبر ١٨٦٦م أن «برلماننا مدرسة تسعى الحكومة عن طريقه إلى العمل على تقدُّم السكان وتدريب وتحضير الأهالي.»٦ وبذلك يكون المجلس قد اعتُبِر وسيلة اتصال بين الحكومة والشعب أكثر من كونه وسيلة اتصال بين الشعب والحكومة.
وفي خطاب العرش الذي افتُتح به دور الانعقاد الأول للمجلس في ١٠ نوفمبر ١٨٦٦م، خصَّص إسماعيل فقرتين لمبادئ الشورى باعتبارهما الأساس النظري للمجلس، ولم يُحاول أن يُقحم القرآن في تلك المبادئ العامة.٧ ولم يُعتَبر المجلس بأي حال من الأحوال أداةً لتقسيم أو تحديد السلطة، ولم يُشكِّك المثقفون (ونعني بهم الجماعة الصغيرة التي عبَّرت عن روح ذلك العصر من خلال الصحف والكتب) بأي حال من الأحوال في قيادة إسماعيل للبلاد على طريق التحديث والحضارة، كذلك لم يُوجِّهوا أي نقد إلى سياسة إسماعيل المالية. فلم يقم رفاعة بدوي رافع الطهطاوي بالترحيب بالمجلس باعتباره وسيلةً للحد من سلطة إسماعيل المطلقة، ولكنَّه رأى في مجلس شورى النواب والمجلس الخصوصي أداتين لتخفيف عبء الحكم عن كاهل إسماعيل. وبهذا الصدد لم يُشِر إلى ما جاء بالقرآن والحديث حول الأمر بالشورى — على نحو ما فعل إسماعيل نفسه — وهو ما جرت العادة عليه.
ولم يكن في نية النواب الذين قدموا إلى القاهرة في نوفمبر ١٨٦٦م وضعَ حدود لسلطة إسماعيل المطلقة؛ إذ تذكر ليدي دف جوردون أنها تحدَّثت مع بعض نُواب أقصى الصعيد، وهم في طريقهم إلى حضور مراسم افتتاح مجلس شورى النواب بالقلعة، فوجدت معنوياتهم منخفضة، وعندما ذكرت لبعضهم أنهم يُشاركون الآن في حكم البلاد إذا بهم يؤنبونها على هذه الملاحظة بقولهم: «من ذا الذي يعيش على ضفاف النيل ويستطيع أن يقول أكثر من كلمة «حاضر» واضعًا كلتا يديه على رأسه المنكفئ إلى الأرض بتحية «السلام» حتى إلى المدير، فما بالك بمن يتحدَّث أمام أفندينا؟!» فقد أعاد استدعاء أبرز أعيان الأقاليم إلى القلعة إلى الأذهان ما حدث للمماليك الذين دعاهم محمد علي إلى نفس المكان عام ١٨١١م فقُدِّر لهم ألَّا يعودوا من هناك.٨

وظلَّ الحادث الذي وقع في الاجتماع الأول لمجلس شورى النواب يُروى على مدى العديد من السنين بعد ذلك، لا بين أعضاء الجاليات الأوروبية فحسب، بل وبين المصريين كذلك: فعندما طُلِب من النواب أن يُكوِّنوا ثلاث مجموعات على نسق ما يحدث في البرلمانات الأوروبية: جماعة «اليمين» المؤيدة للحكومة، وجماعة «اليسار» المعارضة لها، وجماعة «الوسط» المعتدلة، تكأكأ النواب على يمين القاعدة، فلم يشأ أي منهم أن يجلس في المكان المُخصَّص لمعارضي الحكومة؛ فالجميع كان يعلم أنه من الخطورة بمكان أن يخرج إسماعيل بانطباع سيئ، حتى ولو كان يبغي تحضير البلاد.

وكانت مسئولية اختيار النواب تقع — قبل كل شيء — على عاتق المديرين الذين كان عليهم أن يُراعوا تعليمات الحكومة من ناحية، ورغبات أعيان الأقاليم الذين يُختار النواب من بينهم من ناحية أخرى، كان «الانتخاب» يتم في ديوان المديرية، ويبدو أن أحدًا لم يكن يعلم به خارج دائرة من يعنيهم الأمر بصورة مباشرة، بل إن بعض شيوخ القرى ذكر لستيوارت فيما بعد (عام ١٨٨٢م) أن المدير كان يتولَّى تعيين النواب. ووصف أحد أعضاء المجلس إجراءات الانتخاب على النحو التالي:

«كان شيوخ القرى يكتبون إلى المدير بتحديد مرشحهم في الانتخابات لتمثيل القسم، ويجمع المدير الشيوخ ويُعلن أمامهم عدد الأصوات التي حصل عليها كل مرشح، ثم يدعوهم إلى تحديد من يقع عليه الاختيار ليصبح نائبًا. وهم يختارون عادةً المرشح الذي يُعلن المدير أنه قد حصل على أعلى الأصوات، وإن كان لا يحق للمدير — نظريًّا — أن يؤثِّر في اختيارهم، وغالبًا ما كان يستبدل بالمرشح أحد ذوي النفوذ أو يتلقَّى من الحكومة توجيهًا باختيار شخص معين، ومن تُحدِّده الحكومة يتم انتخابه كتحصيل حاصل.»٩

ويُقدِّم لنا البارون دي مالورتي — الذي كان يستقي معلوماته عادةً من شريف باشا — الوصف التالي:

«رغم أن المجلس كان مجلسًا مُنتخَبًا من حيث المبدأ، إلا أنه كانت للمديرين يد في اختيار النواب، وكان الاختيار يقع — عامةً — على أكثر الناس ثراءً لتمثيل جيرانهم، وكما كان يحدث عند انتخاب الفلاحين للشيوخ وانتخاب الشيوخ للعمد، كان انتخاب النواب من بين الأعيان إجراءً شكليًّا. وكان تردُّد الكثيرين في تحمل مسئوليةٍ ما قد يؤدي إلى وقوع خلاف مع المدير أو مع الحكومة، هو الذي جعل التعيين الإجباري الملاذ الوحيد — من حين لآخر — لاختيار النواب.»١٠
وكان مجلس شورى النواب يتكوَّن من ممثلين لأكثر العائلات ثراءً من مُلَّاك الأراضي والتجار من أهالي البلاد، وأكثرهم بروزًا وتقبُّلًا عند الحكومة، إلا أنه لم يكن مجلسًا مستقل الإرادة؛ فقد جعل القانونُ الأساسي ولائحة المجلس طبيعةَ المجلس واضحةً تمامًا.١١ إذ كان يُعتبر مجلسًا خاصًّا ثانيًا يقع على عاتق أعضائه إبلاغ الخديو بمشكلات أقاليمهم، كما كان عليهم أن يوصلوا — بدورهم — رسالته الحضارية إلى أهالي أقاليمهم. سمح للنواب — حقيقةً — بالموافقة على عددٍ من القرارات الخاصة بزيادة الضرائب، ولكن إسماعيل لم يكن يعتبر موافقتهم ضروريةً بأي حال من الأحوال، بل إن قانون المقابلة الصادر في عام ١٨٧١م — الذي يُعَد أهم إجراء مالي في عصره من حيث مداه وما ترتَّب عليه من نتائج — أُعِدَّ بمعرفة المجلس الخصوصي وصدر بقرار من الخديو دون أن يأخذ المجلسُ علمًا به.

وَضَمَّ مجلس شورى النواب خمسةً وسبعين نائبًا من بينهم ثلاثةُ نواب عن القاهرة ونائبان عن الإسكندرية، ونائب عن دمياط ونائب أو نائبان — حسب تعداد السكان — عن كل قسم من أقسام المديريات، ووفقًا للقانون الأساسي، يتم انتخاب النواب لمدة ثلاث سنوات في اجتماع يضم شيوخ القرى أو أعيان المدن يُعقَد في كل محافظة أو مديرية، ولا بد أن يُصدِّق الخديو على نتيجة الانتخاب. ولم يُمنح المجلس أيَّة صلاحيات مستقلة، بل كان وضعه وضع الهيئة الاستشارية الخاصة بالخديوي، ولم يكن من المفترض أن يُناقش النواب شئون أقاليمهم أو شئون البلاد ككل، ولكنَّهم يُناقشون ما ترى الحكومة عرضه عليهم من أمور، فلم يكن من حقهم التدخل بين إسماعيل ورعاياه؛ ومن ثَم لم يكن من حقهم قَبول الالتماسات التي ظلَّ قَبولها من حق الخديو وحده.

وحتى عام ١٨٧٩م، لم يُحاول المجلس تجاوز حدود الإطار الذي رُسِم له، وتحقَّق ذلك بفضل جهود رجال إسماعيل من الذوات الأتراك الذين عيَّنهم في رئاسة المجلس: إسماعيل راغب، وعبد الله عزت، وبكر راتب، وقاسم رسمي، وجعفر مظهر، وأحمد رشيد، وحسن راسم. وعلى سبيل المثال، كان راغب باشا ناظرًا للخارجية في نفس الوقت، وقاسم رسمي محافظًا للقاهرة، وجعفر مظهر عضوًا بالمجلس الخصوصي، وعبد الله عزت قائدًا للجيش. ومن ثم لم يتحوَّل المجلس إلى أداة لتقسيم السلطة أو تحديدها أو مراقبتها.

وتدلنا حقيقة مناقشة المجلس لنفس المشكلات والصعوبات عامًا بعد عام على أنه لم يُحقِّق نجاحًا من الناحية العملية، وظلَّ عاجزًا عن ممارسة أي تأثير على حكومة إسماعيل أو على سياسته المالية، بل كان عليه أن يتقبَّل الموازنات والإحصاءات الزائفة التي كانت تُقدَّم له. وَفَقَدَ إسماعيل اهتمامه بالمجلس بعد أن تحسَّنت علاقته بالسلطان فلم يدعُ المجلس للانعقاد في سنوات ١٨٧٢ و١٨٧٤ و١٨٧٥م.

الوضع الاقتصادي للحاكم الأوتوقراطي

استخدم إسماعيل سلطته السياسية المطلقة لتحقيق وضع اقتصادي فريد، فجمع في يده وأيدي عائلته خُمس أراضي مصر الزراعية. حقًّا لم يكن هناك تمييز واضح — حتى عام ١٨٧٨م — بين ملكية الدولة وملكية الحاكم، غير أن التطوُّر السريع للملكية الزراعية الخاصة منذ عام ١٨٥٨م جعل الخديو يرى أنه من الأصوب أن يضمن لنفسه حقوق ملكية واضحة على الأرض، حتى لو كان لا يزال يعتبر أرض الدولة وخزانتها تحت تصرفه؛ فقد كان يَعُد الخِزانة العامة جَيبَه الخاص، وكان ناظرُ المالية بمثابة كبير صيارفته.

وبعد أن ألغى محمد علي نظام الالتزام، استحوذ لنفسه وعائلته على مساحات واسعة من أراضي الدولة، التي كانت — بصفة أساسية — بُورًا لم تُدرَج في زمام القرى في سجلات المساحة، أو قرًى هَجَرَهَا سُكانها هربًا من الضرائب الجائرة والتجنيد المتوالي للخدمة في الجيش أو العمل بالسخرة. وعُرِفت تلك المزارع باسم الجفالك.

وقد ذكر الأمير إبراهيم — نجل الأمير أحمد رفعت الذي مات غرقًا عام ١٨٥٨م — للمستر روسل مدير الدومين، عام ١٨٨٢م، أن السلطان سمح لمحمد علي بالاستحواذ على ١٥٠ ألف فدان من أطيان الجفالك، وقيل إنَّه خصَّص ٣٠ ألف فدان لكل واحد من أنجاله. وفي عام ١٨٤٥م كان مختلِف أعضاء الأسرة الحاكمة يملكون ٦٧٧ ألف فدان فيما بينهم. ووفقًا لأحد السجلات الرسمية الخاصة بالسنوات ١٨٤٧‏–‏١٨٥٨م حتى ١٨٧٠-١٨٧١م١٢ كانت مساحة الأراضي التي يملكها أمراء الأسرة الحاكمة وعائلاتهم عند نهاية الفترة على النحو التالي:
سعيد ٤٦١٦١٥ فدانًا
حليم ٤١٤٤٨ فدانًا
أحمد يكن ٣٣٤٣٨ فدانًا
مصطفى فاضل ٢٠٧٠٢ فدان
أحمد رفعت ١٩٨٧٦ فدانًا
إبراهيم يكن ١١٠٠٦ فدادين
عباس الأول ٠٧٠١٣ فدانًا

وكان إسماعيل يمتلك نحو ١٥ ألف فدان عند وفاة والده إبراهيم، ومنذ توليته الحكم في عام ١٨٦٣م حتى صيف ١٨٧٨م استطاع أن يجمع لنفسه ولأفراد أسرته ملكية بلغت ٥١٧٠٤٦ فدانًا لا يدخل ضمنها أراضي الأوقاف وكان نصف مساحة هذه الأراضي مسجلًا باسمه شخصيًّا. وفي البداية، قيل إن السلطان سمح له بأن يمتلك ٩٠ ألف فدان من الأراضي البور ملكيةً خاصة، ولكنَّه انتزع من الموظفين الأتراك الأراضي التي كانوا قد زرعوها بالفعل وأعطاهم بدلًا عنها من الأراضي البور، وكان الخيار الوحيد أمام أولئك الموظفين هو القَبول بهذا الاستبدال أو النفي إلى فازوغلي بالسودان. وفي مجموعة أمين سامي الوثائقية نجد سلسلةً من الأوامر التي أصدرها إسماعيل لناظر المالية تُغطِّي السنوات الأربع الأولى من حكمه فقط، نقل بموجبها لنفسه ولأفراد أسرته ملكية ما يزيد عن ١٥٠ ألف فدان.

وبعد تغيير نظام الحكم نَفَى إسماعيل الأميرين اللذين كانا يستحقان وراثة العرش طِبقًا للنظام القديم وهما أخوه مصطفى فاضل وعمه عبد الحليم (الذي كان يصغر مصطفى فاضل بعام واحد) لأنهما دَبَّرَا مؤامرةً لخلعه، واستولى على معظم أراضيهما. وكانت مزارع حليم من أخصب أراضي مصر. وفي عام ١٨٧٦م استولى إسماعيل على ملكية إسماعيل صديق المفتش الذي قُتِل بناءً على أمره مُخلِّفًا وراءه ملكيةً بلغت مساحتها ٣٠ ألف فدان. وقد تحدَّثت الليدي دف جوردون مع البدراوي أحد كبار المُلَّاك الوطنيين عندما كان في طريقه إلى منفاه بفازوغلي عن سبب نفيه، فذكر لها أن «جريمته» هي امتلاك ١٢ ألف فدان من أجود الأراضي بين طنطا وسمنود.

وحصل إسماعيل على أراضي مزارع السكر الواسعة التي كان يمتلكها في مصر الوسطى ومصر العليا عن طريق مصادرة أراضي الفلاحين، وتضمَّنت تلك الملكيات ٥٠ معصرةً للقصب و١٥ مصنعًا للسكر و٢٥٠ ميلًا من السكك الحديدية و٤٠ قاطرةً لنقل المحصول من الحقول إلى المصانع. وبالإضافة إلى ذلك، امتلك إسماعيل خمسة عشر محلجًا للقطن وعددًا لا يُحصى من آلات الحرث البخارية والجرارات والمضخَّات البخارية، ولم تُشكِّل أراضيه ومصانعه أهم العوامل الفردية في الإنتاج الزراعي في مصر فحسب، بل وفي تصنيع الإنتاج الزراعي أيضًا.

وعلى أيَّة حال، لم تقتصر استفادة إسماعيل على المحصول الناتج من ملكيته الزراعية، بل استفاد أيضًا من الدخل من الضرائب. وبغضِّ النظر عن نمو المِلكية الخاصة للأرض الزراعية منذ عام ١٨٥٨م، ظلَّ حُكَّام مصر يعتبرون الأرض ملكيتهم الخاصة بصفة رئيسية. وعلى سبيل المثال استخدم سعيد فائض الميزانية لشراء الضِّيَاع لأفراد أسرته. ولا يمكن أنْ نَصِفَ تصرُّف إسماعيل في هذا الصدد إلَّا بأنه ضَرْبٌ من ضروب الاختلال العقلي المقترن بسلوك عدواني تجاه المجتمع، فلم يَسْتَوْلِ على الأموال من الخزانة بحرية تامة لنفسه وأقاربه فحسب، بل بَعْثَرَ عشرات الألوف من الجنيهات في كل اتجاه أيضًا، كما لو كان يوزع توقيعاته على الأوتوجرافات. فإذا كانت الخزانة خاوية، عقد القروض الأجنبية وزاد في الضرائب. وعلى سبيل المثال أبلغ ناظر المالية في أول يوليو ١٨٦٦م أنه أمَر مفتش عام الأقاليم بزيادة ضريبة الأطيان بمقدار ٥٠٠ ألف جنيه.

وبعرض هذه الخلفية الخاصة بوضع إسماعيل السياسي والاقتصادي يبدو واضحًا أنه كان ينفرد بحكم مصر، غير أنه إذا تحدَّثنا عن الطبقة الحاكمة يجب أن نؤكِّد أن أولئك الذين كانوا ينتمون إلى هذه الطبقة شغلوا مراكزَ في السلطة تعتمد على حُسن نوايا إسماعيل. وبعبارة أخرى، كان من الممكن أن يفقدوا مناصبهم بين عَشِيَّةٍ وضحاها ويفقدوا معها ملكياتهم التي حصلوا عليها من خلال مناصبهم أو غير طريق تلك المناصب.

الصفوة الحاكمة التابعة

وأهم ملامح الطبقة الحاكمة عند بداية الأزمة في عام ١٨٧٦م هو أنها كانت لا تزال تُعرَف على نطاق واسع بأصولها العرقية وكانت تتكوَّن من الأتراك الجراكسة.

ولم يعد هناك ذلك القطاع من الصفوة الحاكمة الذي يضم المهاجرين من بقية بلاد الدولة العثمانية، بل كانوا يولدون في مصر، وكان بعض أولئك الأتراك المصريين ابنًا لأم مصرية أو زوجًا لسيدة مصرية، أضف إلى ذلك أن حاجز اللغة ما لبث أن أُسقط في مطلع عام ١٨٧٠م، فمن بين اللغات الرسمية الثلاث «التركية والفرنسية والعربية» أحرزت اللغة العربية قصب السبق.

وكان الوصول إلى مراكز السلطة يتحدَّد بالأصل العرقي، والروابط الشخصية، والعلاقات مع الأسرة الحاكمة. أما المصريون الذين دخلوا في غمار الطبقة الحاكمة (مثل إسماعيل صديق وعلي مبارك) فكانوا يُمثِّلون استثناءً، وكان نشاطهم قاصرًا على فرع واحد من فروع الإدارة وهو ذلك الذي يرى الخديو أن لديهم مهارةً خاصة فيه، وعلى سبيل المثال تخصَّص إسماعيل صديق في المجال المالي نظرًا لما عُرِف عنه من براعةٍ في ابتداع الضرائب والمكوس الجديدة واعتصارها من الأهالي، أما علي مبارك الذي كان مهندسًا فتخصَّص في مجال الأشغال العمومية والتعليم.

وكانت واجبات المنتمين إلى طبقة الأتراك الجراكسة تتغيَّر عدة مرات في العام الواحد، فقد يُعيَّن أحد الباشاوات على مدى عام أو عامين في وظائف متتابعة مثل مأمور ضبطية مصر، ووكيلًا لنظارة المالية، ومديرًا لإحدى المديريات، ورئيسًا لمحكمة، وأخيرًا قائدًا للجيش. وقد يُعيَّن ما يقرب من خمسة مديرين بالمديرية الواحدة في العام الواحد. وبذلك لا تتحوَّل المناصب الكبرى إلى مراكز للسلطة الشخصية.

وكان هذا التغيير الدوري في الصفوة الحاكمة يخلق لديها وعيًا واضحًا بتفوقها، وشعرت الأغلبية التركية-الجركسية في تلك الصفوة بأنها تخصَّصت للحكم، واعتقدت أنها وحدها هي التي تستطيع حكم مصر، وأدى هذا الاعتقاد فيما بعد إلى تولُّد شعور بالاستعلاء على كل من انحدر من أصول فلَّاحية، وتحتوي المصادر الخاصة بالفترة ١٨٧٨‏–‏١٨٨٢م على العديد من الأمثلة على ذلك.

وعندما قدم ثلاثة من الضباط (أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي) إلى مجلس عسكري في أول فبراير ١٨٨١م اجتمع اللواءات الأوروبيين والأتراك-الجراكسة وحولهم كبار الضباط من الأتراك-الجراكسة في نظارة الجهادية وانهالوا على أولئك الفلاحين سبًّا وإهانة بمجرد وصولهم. وعبَّر شريف باشا عن غضبه لرفض أعيان المصريين من أعضاء مجلس شورى النواب أن يخضعوا لإرادته (ولضغوط القوى الأوروبية) في يناير ١٨٨٢م بقوله: «إن المصريين مجرد أطفال ويجب أن يُعاملوا كالأطفال … إنَّهم لا يستطيعون المُضِيَّ قُدُمًا بدوني؛ فهؤلاء الفلاحون في حاجة إلى من يقودهم.»١٣ وبعد نفي أربعين ضابطًا تركيًّا-جركسيًّا في ربيع ١٨٨٢م، أَرْجَعَ ثابت باشا — ممثل الخديو بالآستانة — ذلك إلى الخروج على سياسة محمد علي التي كانت تقضي بعدم منح المصريين وظائف كبرى في الجيش أو في الخدمة المدنية، وألحَّ في ضرورة العودة إلى تلك السياسة. وعندما هزمت القوات البريطانية جيش عرابي، حال الاحتلال البريطاني دون قيام نظام حكم إرهابي تركي-جركسي.

وعلى أيَّة حال شَكَّل الأتراك-الجراكسة شريحةً صغيرة من سُكان البلاد، فوفقًا لإحصاء ١٨٨٢م كان تعدادهم لا يتجاوز ٣١٧٧٤ نسمةً من عدد سكان مصر الذي بلغ ٦٨٠٦٣٨١ نسمة، وذُكِرُوا بالتعداد تحت اسم «المصريون المنحدرون من أقطار الدولة العثمانية الأخرى»، وكان نصفهم يعيش بالقاهرة (١٠٥٥٦ نسمة) والإسكندرية (٥١٦٩ نسمة). واندرج في تلك الفئة الشوام والعرب، كما لم يتضمَّن ذلك الرقم الأتراك الجراكسة الذين وُلدوا في مصر؛ ولذلك لا يمكن أن نُعوِّل كثيرًا على تلك الأرقام. ويُقدِّر المراقبون المعاصرون عدد الأتراك الجراكسة في مصر، الذين كانوا يُكوِّنون رصيدًا للطبقة الحاكمة، بما يتراوح بين عشرة وعشرين ألف نسمة استنادًا إلى معلومات رسمية.

ولم يكن محمد علي أو سعيد أو إسماعيل يكتفون بالاعتماد على هذه الفئة المحدودة العدد في تنفيذ برامجهم الطموحة لتطوير البلاد على النمط الأوروبي و«تحضيرها»؛ ولذلك نجد محمد علي يفتح أبواب المدارس الحكومية الجديدة أمام المصريين في النصف الثاني من حكمه (وهي المدارس التي أُنشئت لسد حاجة الجيش)، كما أوفدهم ضمن بعثاته العلمية إلى أوروبا، وهي البعثات التي كانت مُخصَّصةً من قبلُ لأبناء المماليك (الذين قام بتصفيتهم) وأبناء موظفيه العثمانيين، وأصبح المصريون يُجنَّدُون لهذه المدارس كما يُجنَّدُون للجيش. ولكن حتى أولئك المصريين الذين درسوا في الخارج نادرًا ما كانوا يشقون طريقهم بين صفوف الطبقة الحاكمة، وأصبحوا يلعبون دور الخبراء والفنيين في الإدارة، بينما ظلَّت المناصب الخاصة بصنع القرار بيد الأتراك الجراكسة.

وكانت المناصب القيادية في الجيش لا تزال قاصرةً على الأتراك الجراكسة، رغم أن حروب محمد علي الطويلة والمتصلة أجبرته على فتح باب الترقي أمام المصريين إلى الرتب الدنيا للضباط — وفي عام ١٨٤٦م كان هناك ٥١٧ ضابطًا «من أبناء العرب»١٤ بين صفوف الجيش من بينهم ١١٠ برتبة يوزباشي و٣٧٧ برتبة الملازم أول والملازم ثانٍ وذلك في سلاح المشاة، و٩ يوزباشية و٢١ ملازمًا بسلاح الفرسان.١٥ وقام عباس — الذي أنقص عدد الجيش إلى ١٨ ألف رجلٍ تنفيذًا لفرمان السلطان — بتحويل الجيش إلى قوة حرس يقودها ضُبَّاط من الأتراك الجراكسة فقط. وعلى أيَّة حال كان سعيد «الملك الجندي» يُفضِّل المصريين في الجيش، فمنذ ١٨٥٥‏-‏١٨٥٦م سمح لأبناء أعيان الريف بدخول سلك الجندية (لمة أولاد العمد)، وترقَّى بعضهم إلى رتبة القائم مقام (كان تعيين اللواءات من حق السلطان). ومهما كانت دوافع سعيد، فإنَّه لم يكسب من وراء ذلك تقدير العُمد، ويبدو أنه كان مدفوعًا بنوازعه الشخصية وميوله إلى كل ما هو عسكري؛ مما قاده إلى نتائج مأساوية-هزلية معًا. وتتجلَّى هذه الحقيقة — بالطبع — في مُعظم ما كُتب عنه.
وعلى أيَّة حال تابع إسماعيل سياسة سعيد؛ فلم تكد تنقضي أربعة أيام على توليته الحكم — في ٢٢ يناير ١٨٦٣م — حتى أمر ناظر الجهادية بإدخال جميع أبناء العُمد في الجيش، فإذا رغبوا عن ذلك دفعوا البدلية وعادوا إلى القرى.١٦ واحتفظت هيئة الضباط بطابعها التركي الجركسي في عهد إسماعيل، ولا أدل على ذلك من أن الجزء الذي خصَّصه عرابي في مذكراته لعهد إسماعيل عبارة عن شكوى مطوَّلة من تفضيل الضُّبَّاط «المماليك» على زملائهم من أبناء العرب.١٧ وعن الامتيازات التي تمتَّعوا بها وينتهي ذلك الفصل — من مذكرات عرابي — بما يلي:
«ولقد حملت مدة ولاية إسماعيل الجائرة بكل صبر وثبات تحت ضغط الظلم والاستبداد، ومكثت برتبة القائم مقام مدة تسع عشرة سنة، أنظر إلى صغار الضباط الذين كانوا تحت إدارتي في عهد سعيد باشا وإسماعيل باشا وهم يترقَّون دوني، فترقَّى بعضهم إلى رتبة الأميرالاي وبعضهم إلى رتبة أمير اللواء، وبعضهم إلى رتبة الفريق، لا بعلم علموه من دوني، ولا بفهم خارق للعادة، ولا بشجاعة أبرزوها في ميادين القتال، ولكن لكونهم من مماليك أو أبناء مماليك العائلة الخديوية، فاصطفاهم الخديو بالرتب والنياشين والجواري الحسان والأراضي الواسعة الخصبة والبيوت الرحبة، وحباهم بالأموال الكثيرة والحُلِي الثمينة من دم المصريين المساكين وعرق جبينهم.»١٨

ولكن ذلك لا يعني أن الضباط المصريين حُرِموا من فرص الترقي مبدئيًّا في عصر إسماعيل؛ فمن الجدير بالذكر أن إسماعيل هو صاحب سياسة تزويج الضباط المصريين من الجواري الجميلات من حريمه ليربطهم بالبلاط. غير أن شكوى عرابي كانت — بلا ريب — تعبيرًا عمَّا كان يسود بين صفوف الضباط المصريين عندما لم يُعِرْهُم خليفة سعيد اهتمامًا خاصًّا.

وقد أَوْلَى إسماعيل جماعةً اجتماعية أخرى اهتمامَه هم آباء «أولاد العُمد»؛ أي أعيان الريف، وهم عائلات أثرياء المُلَّاك والتُّجَّار من المصريين الذين شكَّل مُمثِّلوهم مجلس شورى النواب. وعند نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات حاول إسماعيل أن يضع في أيديهم — بصفة مؤقتة — الإشراف على المديريات الأربع عشرة،١٩ ولكن لم يمنحهم شيئًا من المحافظات الثماني.٢٠

ولم يكن إسناد مسئوليات إدارية بالمديريات إلى أفراد من عائلات الأعيان المتنفذة أمرًا جديدًا في بابه؛ فقد عيَّن محمد علي — على سبيل المثال — علي البدراوي مأمورًا لمديرية الغربية، وخضر أبو حشيش وكيلًا لمديرية القليوبية. وفي عهد إسماعيل شغل الكثير من العُمد وكبار المُلَّاك المصريين مرةً أخرى مناصب إدارية بالمديريات، بل وصل بعضهم إلى منصب المدير مثل: السيد أباظة مدير البحيرة والقليوبية، وحسن الشريعي مدير الدقهلية والجيزة ومحمد سلطان مدير بني سويف، وإن كان المديرون من الأعيان قد ظلُّوا يُمثِّلون استثناءً.

وعندما بلغ سعي إسماعيل للاستقلال ذروتَه، ذلك السعي الذي اقترن بتردِّي العلاقات بينه وبين الباب العالي. وضع إسماعيل — لأول مرة — إدارة جميع المديريات في أيدي عائلات كبار المُلَّاك من المصريين؛ ففي ١٨٦٩‏-١٨٧٠م عيَّن ستةً من أعضاء مجلس شورى النواب وكلاء للمديريات، وهم: محمد الصيرفي وكيلًا للمنيا، وهلال وكيلًا للغربية، وأحمد أباظة للبحيرة، ومحمد عفيفي للشرقية، وإبراهيم الشريعي للجيزة. وعيَّن سليم الشواربي مأمورًا لضواحي مصر، وأصبح محمود سليمان (الذي أصبح نائبًا بالمجلس في عام ١٨٨١م) وكيلًا لمديرية جرجا ثم لمديرية أسيوط.

ومن الملفت للنظر حقًّا إعادة توزيع المديرين من حين لآخر على المديريات في تلك السنوات؛ فقد استُبدِل بالأتراك الجراكسة مصريون، كما كان هناك بعض الأفراد من المصريين بين المديرين في السنوات الأولى من حكم إسماعيل مثل محمد سلطان، وحسن الشريعي، ومحمد المنشاوي وأيوب جمال الدين، والإتربي أبو العز. وفي عام ١٨٦٩‏–‏١٨٧١م عيَّن بعض وجهاء أعيان الريف في منصب المدير مثل محمد الصيرفي، أحمد الشريف، سليمان أباظة، أحمد مصطفى، هلال، أحمد الزمر، عمر، جميعي، سليمان عبد العال، أحمد علي، السيد أباظة، محمد حمادي، عمر أحمد، محمد الشواربي، محمد عفيفي، وحامد أبو ستيت.

وقد اتخذ إسماعيل قراراته الخاصة بتعيين معظم أولئك الأفراد خلال جولاته في مصر الوسطى حيث مزارع القصب التي يمتلكها، وقيل إنَّه استدعى سلطان باشا عند زيارته للمنيا وسأله الرأي في أنسب المديريات لكلٍّ من محمد حمادي وأيوب جمال الدين.

وفي عام ١٨٧١م عاد أول تركي-جركسي إلى شغل منصب المدير، وبحلول عام ١٨٧٣م كان الأتراك يشغلون معظم مناصب المديرين. والجدير بالملاحظة أن هذا التراجع في إسناد مناصب المديرين إلى الأعيان تزامن مع إهمال إسماعيل لمجلس شورى النواب في أعوام ١٨٧٢ و١٨٧٤ و١٨٧٥م، كما اقترن بتحسن علاقات إسماعيل والباب العالي. ولكن بينما عاد مجلس شورى النواب إلى الانعقاد في السنوات الأخيرة من حكم إسماعيل (١٨٧٦‏–‏١٨٧٩م) فإن معظم مناصب المديرين ظلَّت بأيدي الأتراك-الجراكسة، وكان من النادر تعيين أحد الأعيان في منصب المدير ولفترة زمنية قصيرة. غير أن مناصب نُظَّار الأقسام والمناصب الثانوية في المديريات ظلَّت بأيدي أفراد من المصريين؛ ففي عام ١٨٧٣م — على سبيل المثال — عيَّن إسماعيل بعض أعضاء مجلس شورى النواب في وظائف نُظَّار الأقسام، ولكنَّه لم يُعيِّن أحدًا منهم بوظيفة مدير.

وقد أكَّد الباحثون المعاصرون على تعيين عدد من أعيان المصريين بوظائف المديرين، ولكنَّهم نسوا أن يُضيفوا إلى ذلك أن هؤلاء لم يبقَوا في مناصبهم إلا لفترة محدودة، بينما كان بعضُ المؤلفين الذين كانوا يعيشون في مصر عندئذ شهودَ عيان للتراجع في تلك السياسة؛ فقد كتب كلونزنجر Klunzinger يقول:
«جرت محاولة منذ بضع سنوات لاستبدال الموظفين الأتراك بالمصريين في كل المناصب؛ من وظيفة المدير حتى وظيفة الشرطي، ولكن ذلك لم يستمر طويلًا؛ لأن الموظفين الجدد لم يُثبتوا مقدرتهم بدرجة كافية، فرغم أنهم أُحيطوا بكل أنواع الاعتبار اختل الأمن واضطرب ميزان العدل؛ ففي الحقيقة كان أبناء البلاد أنفسهم هم أول من شكا من هذا الاتجاه لأنهم لا يحترمون أبناء جلدتهم (الفلاحين)؛ ولذلك استعاد الأتراك مناصبهم بعودة النظام القديم بعد فترة وجيزة.»٢١

الوضع الاقتصادي للذوات

وهكذا كانت الصفوة الحاكمة تتكوَّن من أغلبية تركية-جركسية عَشِيَّة التدخل الأوروبي الذي عصف ببناء السلطة المصرية، وكانت تلك الصفوة — غالبًا — ذات خلفية عسكرية إلى جانب بعض الخبراء المصريين وأعيان الريف. وكان أعضاء تلك الطبقة الحاكمة التي واجهت الفلاحين من خلال مواقعها المختلفة، كالمديرين والمفتشين وكبار الضباط وكبار الموظفين الإداريين في القاهرة، وفي مزارعهم الواسعة، يُعرَفون عامةً باسم «الذوات». وهم يأتون في المرتبة الثانية مباشرةً بعد الأسرة الحاكمة، وتكوَّنت منهم الجماعة البارزة من كبار المُلَّاك في البلاد، وقد كوَّنوا ملكياتهم — بصفة رئيسية — من خلال مناصبهم، ومن خلال هِبات الأراضي التي كان يمنحها الحُكَّام لهم، وكان القليل من تلك الملكيات نِتَاجًا لاستفادتهم بما لهم من وضع ممتاز في البلاد. وكان الحُكَّام يُحقِّقون — بمنح الأراضي الواسعة لكبار الموظفين وكبار الضباط — أهدافًا اقتصادية وسياسية في آنٍ واحد. فَتَتَحقَّق زراعة الأرض على نطاق واسع، ويدين ملاكها بالولاء للحكام.

ومنذ عام ١٨٢٩م كانت الأراضي البور الخارجة عن زمام القرى في سجلات المساحة تُعطَى للذوات باسم أطيان الأبعادية، بشرط زراعتها على أن تُعفى من الضريبة، ومنذ عام ١٨٤٠م أجبر محمد علي الموظفين والضباط الأثرياء على دفع الضرائب المتراكمة على القرى التي هجرها أهلها تخلُّصًا من أعباء التجنيد والضرائب الباهظة معًا. وكان على هؤلاء أن يقبلوا تحمُّل مسئولية الالتزامات المالية التي تقع على هذه القرى في المستقبل، وفي مقابل ذلك أُعطيت لهم مساحة من تلك القرى مُعفاة من الضرائب سُمِّيت العهدة كان لهم أن يُسخِّروا الفلاحين في زراعتها. أضف إلى ذلك أن الكثير من الموظفين نالوا عند تقاعدهم مساحات من أراضي الوسية بدلًا من المعاش.

وفي عهد إسماعيل كان توزيع الأبعاديات يتم إمَّا في مناسبات خاصة بمساحات معينة تتفاوت بتفاوت مراتب الضباط والموظفين وتُعطى لأفراد تقديرًا لخدماتهم الشخصية، أو يتم توزيعها دون سبب معين كإنعام من الخديو؛ فبعد تولية إسماعيل الحكم بقليل، سعى لتأكيد ولاء الضباط له بمنح خمسمائة فدان من الأراضي الخارجة عن الزمام في مديريات الغربية والمنوفية لكل ضابط برتبة القائم مقام، و١٥٠ فدانًا لكل ضابط برتبة البكباشي. وأثناء وجود إسماعيل بالخارج عام ١٨٦٩‏-‏١٨٧٠م وزَّع ولي عهده توفيق — الذي كان ينوب عنه خلال غيابه — ١٥ ألف فدانٍ من الأراضي المهملة والمتروكة على موظفي الحكومة في مساحات قدرها ٣٠، ٥٠، ٨٠، ١٠٠ فدان.

وجاءت هِبَات الأطيان الهامة التي منحها إسماعيل لمماليكه ولبعض أعيان الريف في الثلث الأول من حكمه، أما في الثلث الثاني فقد تركَّزت أكبر هِبَاته النقدية، أما بعد ذلك فلم يكن لديه إلا القليل ليمنحه كهبات. وكانت أكبر مساحة من أراضي الأبعاديات منحها لأتباعه المُخلصين تبلغ ألف فدان أو أكثر من ذلك (حصل إسماعيل راغب على ثلاث منح من تلك المساحات، كما حصل كل من أحمد رشيد، وأحمد طلعت، ومحمد شريف، ومحمد حافظ، وإسماعيل صديق، وعلي ذو الفقار على منحة واحدة من تلك المساحة). أما أكبر منحة مالية قدَّمها إسماعيل لرجاله فكانت تلك التي أعطاها لنوبار باشا (١٥ ألف جنيه، ثم مَنَحَهُ بعد ذلك ٢٠ ألف جنيه ليشتري منزلًا، وأخيرًا مَنَحَهُ ١٠ آلاف جنيه). وحصل رياض باشا في إحدى المناسبات على ٣٠٠٠ جنيه، كما حصل عمر لطفي على ٤٠٠٠ جنيه ليشتري منزلًا.

واحتفظ القصر بسجلات تفصيلية لملكيات أراضي الذوات، وتضم تلك السجلات٢٢ ملكيات ١٤٥ شخصًا أو عائلة تزيد كل منها على ١٨٠٠ فدان وتتضمَّن تلك السجلات أسماء بعض من تتردَّد أسماؤهم من حين لآخر في هذه الدراسة مثل:
إسماعيل راغب ٧٠٦١ فدانًا
عارف فهمي ٦٥٦١ فدانًا
سليمان الفرنساوي ٤٠٨٠ فدانًا
إسماعيل صديق ٤٠٢٤ فدانًا
محمد حافظ ٣٨٠٧ فدادين
علي ذو الفقار ٣٦٨٩ فدانًا
حسن راسم ٢٧٦٣ فدانًا
محمد شاكر ٢٧٣٦ فدانًا
أحمد رشيد ٢٧٢٨ فدانًا
محمد شريف ٢٥٠٧ فدادين
إسماعيل أبو جبل ٢٤٩١ فدانًا
محمد مظهر ٢٣٢٢ فدانًا
نوبار باشا ٢١٩٣ فدانًا
أحمد الدرملِّي ٢٨٨٦ فدانًا
محمد فاضل ٢١٦٨ فدانًا
محمد طلعت ٢١٢٨ فدانًا
عبد اللطيف ٢٠٥٠ فدانًا
شاهين باشا ٢٠١٠ فدادين
عبد الله عزت ١٩٨٠ فدانًا
محمد سلطان ١٩٠٥ فدادين
محمد ثابت ١٦٠٠ فدانٍ
عبد القادر ١٥٧٤ فدانًا
رفاعة الطهطاوي ١٥٤٦ فدانًا
أبو بكر راتب ١٣١٦ فدانًا
عبد الرحمن رشدي ١٣٠٣ فدادين
موسى العقَّاد ١٢٤٩ فدانًا
محمد خسرو ١٢٠٠ فدانٍ
مصطفى رياض ١١١٩ فدانًا
محمد راتب ١١٠٠ فدانٍ
محمد المنشاوي ١٠٣٠ فدانًا
قاسم باشا ١٠٠٠ فدانٍ
ويرجع تاريخ هذه الأرقام إلى عام ١٨٧٠م عندما أُعِدَّ هذا السجل. وكان عددٌ آخر من الشخصيات التي ستظهر فيما بعدُ في هذا الكتاب تمتلك مساحات أقل من الأرض، ولكن مساحة ملكياتهم ازدادت بترقيتهم في مدارج السلطة (كان عمر لطفي يملك — وفقًا لهذا السجل — ٧٢٣ فدانًا فقط، ومحمد زكي ٧٥١ فدانًا وعلي مبارك ٣٦٣ فدانًا، وعثمان رفقي ١٤٣ فدانًا، وعبد الله فكري ١١١ فدانًا). أما إسماعيل صديق الذي يُشير السجل إلى أنه كان يمتلك ٤٠٢٤ فدانًا، فقد قيل إنَّه ترك حوالي ٣٠ ألف فدانٍ عند وفاته ١٨٧٦م على نحو ما ذكرنا آنفًا. أما محمود سامي — الذي أصبح رئيسًا للنُظَّار فيما بعد — فقد امتلك وفقًا لتلك القائمة ١٥٠ فدانًا، وبحلول عام ١٨٨٢م زادت ملكيته ١٧٠٥ فدادين ولكنَّه لم يُكوِّن تلك الملكية — كما قد يتبادر إلى الذهن — خلال تحالفه مع الجيش، ولكنَّه كوَّنها خلال حكم إسماعيل٢٣ أما محمد سلطان فقد نمَّى ملكيته — عند عام ١٨٨٢م — فأصبحت ١٣ ألف فدانٍ كان من بينها ١٠ آلاف فدانٍ في مديرية المنيا وحدها.
ومنذ عام ١٨٥٤م فُرضت ضريبة العُشر على أراضي الذوات (بما في ذلك الجفالك) بعد أن كانت مُعفاةً من الضرائب حتى ذلك الوقت؛ إذ انقسمت الأطيان تبعًا لنوعية الضرائب الخاضعة لها إلى قسمين: الأطيان العشورية، والأطيان الخراجية وقد فُرضت على الأطيان العشورية (التي يملكها أفراد الأسرة الحاكمة والذوات) عام ١٨٨١م ضريبة بلغ متوسطها ٥٢ قرشًا للفدان (تراوحت ما بين ٢٧ قرشًا في الفيوم و٩١ قرشًا في القليوبية). بينما كان متوسط الضريبة على الأطيان الخراجية (التي يزرعها الفلَّاحون) ١٢٨ قرشًا للفدان الواحد (تراوحت ما بين ٧٧ قرشًا للفدان في إسنا و١٦٠ قرشًا للفدان في المنوفية). وكانت جملة الضرائب المفروضة على الأطيان الخراجية التي بلغت مساحتها ٣٤٠٦٤٨٠ فدانًا تُقدَّر ﺑ ٤٣٨٧٧٦٢ جنيهًا بينما كانت جملة الضرائب المفروضة على الأراضي العشرية التي بلغت مساحتها ١٣٠٧٩٢٦ فدانًا تُقدَّر ﺑ ٦٨٦٣٨٤ جنيهًا.٢٤

أعيان البلاد

وهكذا، بينما ظلَّت معظم المناصب الكبرى بجميع فروع الإدارة التي يحتلها من أسميناهم هنا ﺑ «الطبقة الحاكمة» حِكرًا لغير أبناء البلاد من الصفوة الحاكمة، وُجِد إلى جانب تلك الصفوة، صفوة اجتماعية من أبناء البلاد تمثَّلت في أعيان الريف ووجهاء المدن. وقد آثرنا استخدام مصطلح «الأعيان Honoratioren» بالمفهوم الذي قصده ماكس فيبر Weber بهذا المصطلح.٢٥

وتميَّز «الأعيان» كفئات اجتماعية داخل وحداتهم الجغرافية (القرية أو المديرية، أو البلاد كلها) بأنه كان باستطاعتهم — بحكم طبيعة مهنهم والرخاء النسبي الذي تمتَّعوا به — أن يُخصِّصوا بعضًا من وقتهم للقيام ببعض الواجبات على الساحة الاجتماعية-السياسية دون انتظارٍ لمكافآت مالية مقابل قيامهم بتلك الواجبات وَأَكسَبَتهُم مراكزُهم المهنية والاقتصادية مكانةً اجتماعية عالية؛ ومن ثَم كانت صلاحيتهم للقيام بتمثيل الأهالي وكسب ثقتهم.

وعلى المستوى القومي غالبًا ما كان يظهر أعيان البلاد إلى جانب مُمثِّلي الطبقة الحاكمة التركية-الجركسية. وكان يقع على عاتقهم تمثيل المجتمع المصري ككل في مناسبات معينة مثل مراسم قراءة فرمان تولية الوالي الجديد، وفي أوقات الأزمات وكلما آن الأوان لسماع صوت الشعب.

وفي مثل تلك الحالات كان يحضر تلك المناسبات (إلى جانب ممثلي الذوات) رجال البلاط (أعضاء المجلس الخصوص ‏–‏ كبار الموظفين والقضاة والضُّبَّاط ‏–‏ الجماعات التالية: كبار العلماء من بينهم قاضي القضاة، ومفتي البلاد (وكان حنفيًّا)، وكبار علماء المذاهب الأربعة، وشيخ الأزهر، والشيخ البكري والشيخ السادات وغيرهم من كبار أساتذة الأزهر، ثم يأتي بعدهم الرؤساء الروحانيون للأقليات الدينية، بطريرك الأقباط، وحاخام اليهود، ثم كبار تجار القاهرة، وكبار المُلَّاك الزراعيين وأعضاء مجلس شورى النواب المقيمين بالقاهرة. وإذا كان هناك متسع من الوقت وُجِّهت الدعوة إلى أعيان الأقاليم. وعلى سبيل المثال، كان يُدعى بقبة أعضاء مجلس شورى النواب، وكبار التجار، وقضاة ومُفْتُو المدن الساحلية وعواصم المديريات). وهكذا كان الأعيان يُدعَون لتمثيل المجتمع في مناسبات معينة — بصفة رسمية وليست تنظيمية — باعتبارهم الصفوة الاجتماعية للبلاد. وفيما يلي بعض الملاحظات حول كل فئة من فئات الأعيان.

كان الدور السياسي للعلماء — تحت حكم إسماعيل — يقتصر على حضور الاحتفالات الرسمية المرتبطة بالدولة؛ فلم يعد باستطاعتهم الاحتفاظ بالنفوذ السياسي الذي مارسوه في عصرهم الذهبي في العقود الأخيرة من حكم المماليك وزمن الحملة الفرنسية ومطلع عهد محمد علي، فبعدما قدَّموا عونهم الحاسم لمحمد علي ليعتلي السلطة حرمهم من مواردهم الاقتصادية (من خلال الاستيلاء على الأوقاف التي كانوا يتولون نظارتها)، وقضى على نفوذهم السياسي باستخدامِ زعمائهم ضد بعضهم البعض ونَفْيِ بعضهم الآخر، فلم يستطيعوا استرداد ما كان لهم من نفوذ بعد تلك الضربة القاضية، أضف إلى ذلك أن الحاجة إليهم، باعتبارهم الفئة المثقفة في البلاد، قلَّت بزيادة أعداد الخبراء الذين تلقَّوا تعليمهم في أوروبا أو في مدارس أُقيمت على النمط الأوروبي.

ولكن استمرَّ كبار العلماء — في عهد إسماعيل — يتمتَّعون بمكانة اجتماعية كبيرة نظرًا لدورهم في الحياة الدينية، دون أن يكون لهم تأثير على الخديو نفسه، بل كانوا يعتمدون عليه إلى حد كبير في تولِّي مناصبهم؛ لأنه كان يُعيِّنهم في تلك المناصب أو يُصدِّق على تعيينهم فيها. ومن ثم أبدوا ولاءهم له ولم يُحاولوا معارضته أو المطالبة بأي حقوق سياسية، ورفل بعضهم في نعيم إسماعيل عندما عيَّنهم نُظَّارًا للأوقاف فاستطاعوا أن يُكوِّنوا ثروات كبيرة نسبيًّا وأن يُصبحوا من كبار المُلَّاك أو التجار.

وكان قاضي قضاة مصر يُعيَّن من قِبَل السلطان لمدة عام واحد، ولكن في مطلع السبعينيات توصَّل إسماعيل إلى اتفاق مع الباب العالي يمنح الخديو — بمقتضاه — لقاضي قضاة مصر التركي راتبًا شهريًّا على أن يظل بالآستانة، وعيَّن الخديو إسماعيل في فبراير ١٨٧٦م الشيخ عبد الرحمن نافد للقيام بواجبات قاضي قضاة مصر واستمرَّ يشغل هذا المنصب لمدة خمسة عشر عامًا. وكان مفتي الديار المصرية (الحنفي المذهب؛ لأن المذهب الحنفي كان المذهب الرسمي للدولة العثمانية) الشيخ محمد العباسي المهدي موضعَ ثقة إسماعيل؛ فقد عيَّنه الأخير شيخًا للأزهر عام ١٨٧١م، واستطاع خلال شغله لمنصب مشيخة الأزهر أن يُكوِّن ملكيةً زراعية كبيرة. أما الشيخ علي البكري — الذي تولَّى مع الشيخ السادات مشيخة الطرق الصوفية وكان نقيبًا للأشراف — فكان موضع ثقة إسماعيل الذي منحه ثلاثمائة فدانٍ من الأراضي الزراعية عام ١٨٦٤م، وعندما مات — في ٢١ أكتوبر ١٨٨٠م — تجاوزت تَرِكته من الأراضي الزراعية الألف فدان.

وسمح الخديو توفيق لعبد الباقي البكري بخلافة أبيه بشرط العمل على مكافحة الطقوس الصوفية التي تؤثِّر في عامة الناس — وخاصةً الدوسة — والتي كانت الطرق الصوفية تستمد شعبيتها منها. وكان الخديو قد وعد والد عبد الباقي من قَبلُ بالإنعام عليه بالرتب الرفيعة وبإقامة احتفال عظيم للطرق الصوفية إذا نجح في كبح جماح تلك الطقوس، وفي عام ١٨٨١م أرسل الشيخ عبد الباقي البكري أوامر إلى مشايخ الطرق الصوفية بمنع إقامة الدوسة وضرب النفس بالسوط وغيرها من الطقوس المكروهة وقصر طقوس الصوفية على حلقات الذكر، وأمر بالقبض على المجاذيب الذين يعتقد فيهم الناس الولاية وتسليمهم للشرطة لإيداعهم مستشفى الأمراض العقلية.

ولعب إسماعيل دورُ حامي حمى العلماء وهي سياسة كلَّفته — في معظم الأحيان — الكثير. فعندما علم أن الشيخ محمد عليش — مفتي المالكية — يُعاني ضائقةً مالية رفع مخصصاته من ٨٠٠ قرش إلى ١٥٠٠ قرش — في عام ١٨٧١م — ومنحه أرضًا زراعية مساحتها مائة فدان. ومنح في نفس السنة لمفتي المحكمة العليا الشيخ أبو العلا الخلفاوي ١٢٠ فدانًا. وكان من أتباع إسماعيل — وولده توفيق من بعده — من العلماء — بالإضافة إلى الشيخ الخلفاوي — الشيخُ عبد الرحمن البحراوي الذي كان مُفتيًا للمجلس الخصوصي ثم لنظارة الحقانية، والشيخ علي الليثي شاعر القصر، والشيخ عبد الهادي الإبياري مُعلم أبناء إسماعيل الذي عيَّنه توفيق — فيما بعد — مُفتيًا وإمامًا للمعية.

وفي عهد إسماعيل عاش كبار العلماء في بحبوحة من العيش بفضل حمايته لهم أو نتيجة ما جنَوه من مكاسب من وراء مناصبهم، وعلى سبيل المثال، كان للشيخ محمد السادات عقاراتٌ بالمدن وأراضٍ زراعيةٌ واسعة، أما الشيخ حسن العدوي الذي كان يُدَرِّس بالأزهر منذ ١٨٢٨م، والذي لعب دورًا هامًّا في مطلع عهد الاحتلال البريطاني، فقد كان يمتلك — بالإضافة إلى بعض العقارات بالقاهرة — مزرعةً مساحتها ألف فدان، وكان الشيخ محمد الإنبابي ثريًّا بالفعل، وصاحب تجارة أقمشة واسعة، وكانت له علاقات تِجارية مع مانشستر، قبل أن يُصبح شيخًا للأزهر عام ١٨٨١م.

وهكذا كان مُعظم من شغلوا المناصب الدينية الهامة يعتمدون على الحاكم في تولِّي مناصبهم من ناحية، وفي تكوين ثرواتهم من ناحية أخرى، وبذلك تحكَّم إسماعيل في العلماء، وليس العكس، ولمَّا كانوا غير مستقلين كفئة مهنية حتى في المجال الديني لم يكن باستطاعتهم أن يلعبوا دورًا هامًّا على المسرح السياسي، ولم يزعموا لأنفسهم مثل هذا الدور؛ ومن ثَم رفلوا في نعيم البلاط وتمتعوا بإحسان الحاكم.

وبينما اعتُبِر العلماء البارزون من «أعيان مصر» بفضل دورهم في الحياة الاجتماعية الدينية، كان ثراء التجار وكبار المُلَّاك هو الذي أدخلهم في زمرة الأعيان، ولا ريب أن ثراء الكثير من التجار كان يرجع إلى ملكياتهم الزراعية الواسعة، كما كانت الحال بالنسبة لعائلات العقَّاد والهجين بالقاهرة وأمين الشمسي بالزقازيق. ونجح إسماعيل في اجتذاب أعيان تجار القاهرة إليه؛ ففي ١٨٦٥م رُتِّب لمصطفى العناني ٢٠٠٠ جنيه، وفي ١٨٦٩م مُنح محمد السيوفي ٢٠٠ فدانٍ، وفي ١٨٧١م مُنح الأخوان المويلحي ١٣٠٠ جنيه ليُسدِّدا ديونهما.

ولمَّا كان أعيان الأقاليم من كِبار مُلَّاك الأراضي الزراعية، فقد اكتسبوا مكانتهم من خلال خدماتهم للحكام أو نتيجة ما منحوهم إياه من عطايا؛ ففي عهد محمد علي لم يكن باستطاعتهم اقتناء الملكيات الزراعية الكبيرة عن غير هذا الطريق، ومن بين العائلات التي كوَّنت ثرواتها في ذلك العهد عائلات أباظة، والشواربي، والبدراوي.

وفتحت اللائحة السعيدية الصادرة عام ١٨٥٨م الطريق لتأمين حقوق الملكية، فاستطاعت عائلات العُمد التي احتكرت هذا المنصب لفترة زمنية طويلة أن تُضيف إلى أراضيها مساحات ذات بال.

ولكن حتى عام ١٨٧٥م — وقبل أن يُؤتي قانون المقابلة ثماره — كان ربع أراضي مصر فقط ملكًا خاصًّا لأصحابه.

وكان أثرياء العمد هم الذين يشغلون مناصب نُظَّار الأقسام والمديرين في عهد إسماعيل، فجلبت لهم هذه المناصب ثروات جديدة من الأراضي الزراعية بفضل إحسان الحاكم، فقد منح إسماعيل — عام ١٨٧٠م — لكل من محمد الصيرفي والسيد أباظة ٥٠٠ فدانٍ، وسبق أن أشرنا إلى ما منحه إسماعيل من أطيان عشورية لمحمد سلطان ومحمد المنشاوي.

وهكذا كانت هناك بعض العائلات المتنفِّذة الثرية في كل إقليم تحتكر لنفسها منصب «العمدة»، ولعب أفرادها دورًا هامًّا في إدارة الأقاليم، وشغل بعضهم منصب «مدير المديرية» لفترة وجيزة، وكان من بينهم الأعضاء البارزون في مجلس شورى النواب، بالإضافة إلى عائلات كبار تجار القاهرة والإسكندرية ودمياط، وكان من أبرز هذه العائلات: الصيرفي ومحمود والوكيل بالبحيرة، والمنشاوي والشريف وأبو العز بالغربية، وأباظة والشمسي بالشرقية، وشعير وعبد الغفار بالمنوفية، والشواربي وأبو حشيش بالقليوبية، والزمر بالجيزة، وسلطان والشريعي وشعراوي بالمنيا، وسليمان بأسيوط، وحمَّادي بجرجا، وغيرهم من عائلات أعيان الريف.

وكان الحُكَّام يُشرِّفون تلك العائلات بزيارة منازلهم عندما يطوفون بالأقاليم؛ فعندما قام توفيق بجولة في الأقاليم — عام ١٨٨٠م — زار أمين الشمسي، وسليمان أباظة، وعلي شعير، ومحمد المنشاوي، ومحمد سلطان، والسيد اللوزي (عضو مجلس شورى النواب وكبير تُجَّار دمياط) وكانت هذه زيارات خاصة، أما الزيارات الرسمية فكانت للمديرين.

وإلى جانب أولئك المُلَّاك الكبار الذين كوَّنوا ثرواتهم من خلال احتكارهم لمنصب «العمدة» وتوليهم مناصب الإدارة في الأقاليم، كان التُّجَّار الأثرياء نسبيًّا والقضاة والمفتون بعواصم المديريات يُعَدُّون ضمن أعيان الريف، ولكن هذه الفئات لعبت دورًا محدودًا في الحياة الاجتماعية السياسية.

وعلى أيَّة حال، لم يكن جميع العُمد يدخلون في زمرة أعيان الريف، كما لو كانوا من كبار المُلَّاك؛ فقد كان الكثير منهم يمتلك بضعة أفدنة من الأرض الزراعية. وكما كان هناك تمايُزٌ بين الفلاحين، فشغل بعضهم الوظائف العامة حسبما سمحت الظروف، وكان معظمهم عُمالًا زراعيين مُعدمين (وخاصةً في الصعيد)، وبينهم عائلات فقيرة تمتلك ما دون الفدان الواحد، وفئة وسطى تمتلك ما بين فدان وخمسة أفدنة، وفلاحون أثرياء. كذلك كان هناك تمايُزٌ كبير بين العمد تبعًا لدرجة الثراء، وأوضاعُهم الاقتصادية تعتمد على حجم وثروة القرية ككل.

وكان العمد هم محور الإدارة الحكومية.٢٦ وفي القرى الكبرى كان هناك عدد من الشيوخ يُعاونون العمدة في مهامه الإدارية في القرية نفسها أو توابعها (العزبة أو الكفر أو النجع أو النزلة).٢٧
وفي عهد إسماعيل يبدو أنه كان ثمة اقتراعٌ مبدئيٌّ يتم قبل تعيين العُمَد والشيوخ بصفة رسمية؛ فقد ذكر نوبار لوزير الخارجية الفرنسي — عام ١٨٦٦م — أن إسماعيل أعاد العمل بالنظام القديم الذي يقضي بحق أهالي القرية في اختيار شيوخهم، كما أشارت المادة السابعة من القانون الأساسي لسنة ١٨٦٦م إلى انتخاب الشيوخ والعمد، ويؤكد بعض المؤلفين ذلك.٢٨ ولسوء الحظ، لم يذكر الرافعي في عرضه المختصر ما وراء قرار مجلس شورى النواب — عام ١٨٦٩م — بضرورة تعيين شيوخ القرى مع تحديد عددهم وفقًا لرغبات الأهالي. ومن الواضح أن السلطات (ناظر القسم أو المدير) كانت تتدخَّل فقط عندما لا يأتي اختيار الأهالي وفق هواها. وفي نشرة أصدرتها نِظَارة الداخلية في سبتمبر ١٨٨١م طُلِب إلى حكام الأقاليم التدخل في اختيار شيوخ القرى مرةً أخرى؛ إذ جاء فيها:
«إن خير ضمان لممارسة السلطة المُخَوَّلَة لكم لاختيار الأشخاص المنوط بهم الأعمال التنفيذية هو ملاحظة قيام شيوخ البلاد بأداء أعمالهم بما يُحقِّق رغائب الأهالي؛ ولذلك يجب اختيارهم من بين الأشخاص المعروفين بالأمانة والخبرة والثروة في بلادهم، فعليكم مراعاة حجم الثروة التي يمتلكونها والتأكد من تمثيلهم للمصالح الزراعية والتجارية، أن يكون لهم نفوذ مُعترَف به لا ينازعهم فيه أحد.»٢٩

ويترتب على ذلك أن يكون اختيار العمد والشيوخ — بصفة عامة — من أغنى أو من بين أغنى عائلات الناحية، ونتيجةً لهذا انتقلت هذه المناصب من الأب إلى الابن أو بقيت — على الأقل — بيد أبناء عائلة واحدة؛ مما جعل الكثير من الكُتَّاب يعتقد أن المنصب كان وراثيًّا.

وفي السبعينيات من القرن التاسع عشر، تحدَّدت واجبات العُمد بتقديم المعلومات اللازمة إلى نِظَارة المالية التي تُعِينُها على تقدير الضرائب، وتأمين جباية الضرائب وتسليمها للصراف، وتحديد حصة القرية من الرجال الذين يُرسَلون للعمل بالسخرة أو يُجنَّدون بالجيش، ويقع على عاتقهم المحافظة على الأمن وفض المنازعات في دائرة اختصاصهم، وفي كثير من الحالات كان عليهم أن يستضيفوا موظفي الحكومة عند زيارتهم للقرية، ويتحمَّلون مسئولية إبلاغ أوامر الحكومة وتعليماتها إلى الأهالي.

ولم يحصل العمد على رواتب أو مكافآت نظير قيامهم بتلك الواجبات. ولذلك طالب اثنان من أعضاء مجلس شورى النواب — في ربيع ١٨٨٢م — بمنح العمد والشيوخ رواتب أسوةً بغيرهم من موظفي الحكومة، ما دام أُلغي امتياز تخفيض ضرائب أطيانهم الذي كانوا يتمتعون به من قبل.

فإذا أخذنا ذلك الوضع في الاعتبار، لا نعجب إذا رأينا العمد والشيوخ يستغلون مناصبهم لتحقيق مكاسب اقتصادية لأنفسهم على سبيل التعويض. ففي مقابل مبالغ معينة كانوا يتغاضَون عن الأفراد اللائقين للعمل بالسُّخرة أو الخدمة العسكرية، كما كانت حقولهم تحظى بأولوية الري، ويفلحها الأهالي لهم دون أجر، وعند تقدير الضرائب وجبايتها كانوا يعرفون كيف يُقلِّلون نصيبهم منها، وأقرضوا الأموال للفلاحين ثم استولوا على أراضيهم عند عجزهم عن سداد الدين.

ولا سبيل لإنكار أن العمد والشيوخ قد استفادوا بالفرص التي أتاحتها لهم مناصبهم لخدمة مصالحهم على حساب الفلَّاحين الآخرين، ولكن علينا ألَّا نتورط في التعميم كما فعل كرومر ودافرين اللذان زعما أن أحد الأهداف الرئيسية للسياسة البريطانية في مصر تحرير الفلاحين من يد شيوخ القرى لأن الآخرين كانوا طغاةً وظالمين حقيقيين. وفي الحقيقة، كان الشيوخ في وضع لا يُحسَدون عليه لأنه كان عليهم تلبية المطالب غير المحتمَلة لإسماعيل الذي لا يرحم.

وترسم ليدي دف جوردون — التي يمكن الاعتماد على روايتها أكثر من غيرها — صورةً مختلفة لوضع شيوخ القرى في وطنها الثاني، صعيد مصر، فكتبت في مارس ١٨٦٧م تقول إن السجون امتلأت بشيوخ القرى الذين لم يُحصِّلوا قدرًا كافيًا من الضرائب التي طُلب منهم تحصيلها. وذكرت — فيما بعد — أن مدير قنا أمر بجلد الكثير من شيوخ القرى لنفس السبب، ومات اثنان منهم تحت وطأة التعذيب. ويمكننا أن نُضيف أمثلةً أخرى؛ ففي أكتوبر ١٨٧٩م تلقت نِظَارةُ الداخلية عريضتين من شيوخ الفيوم جأروا فيهما بالشكوى من عسف ومظالم جُباة ضرائب المديرية، وحتى أعضاء مجلس شورى النواب الذي جاء معظم أعضائه (فيما عدا بعض التجار الممثِّلين للمدن) من العمد أو العمد السابقين، كانوا في كل دَور من أدوار انعقاد المجلس لا يحرصون على حماية مصالحهم وحسب، بل ومصالح الفلَّاحين الذين يُمثِّلونهم. ففكرة طغيان شيوخ القرى تُعد نتاجًا لرؤية الأمور من جانب واحد، ولم يكن العمد والشيوخ هم الذين غالوا في فرض الضرائب وتعسَّفوا في جمعها أو أمروا بتجنيد الناس للسخرة أو الجيش؛ فقد كانوا مجرد مُنفِّذين لتعليمات السلطات العليا.

وهكذا نرى أن أعيان البلاد لعبوا دورًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا هامًّا في حياة الريف، ولكنَّهم لم يلعبوا دورًا مماثلًا في الحياة السياسية في العاصمة. ومن خلال تمثيلهم في مجلس شورى النواب، واستخدامهم في إدارة الأقاليم، دخلوا دائرة السلطة دون الوصول إلى محورها؛ فقد كان المحور وقفًا على الموظفين والضباط الذين انحدروا من أصول تركية جركسية، وإن كان الكثير من الأعيان قد تمتَّعوا بنفس الامتيازات والمزايا الاقتصادية الأخرى للطبقة الحاكمة، وكان وضعهم الاقتصادي مُماثلًا لوضع تلك الطبقة، إلا أنهم احتلوا مرتبةً أدنى منها في سُلم السلطة، فشكَّلوا صفوة اجتماعية ذات وضع ممتاز ولكنها لا تمت بصلة إلى الصفوة السياسية.

أحوال الفلاحين والأقليات

يتضح لنا في هذا العرض المختصر — كما هو واقع الأمر — أن أولئك الذين يخضعون للسلطة يفتقرون إلى العدالة؛ فقد كان الفلاحون يُشكِّلون جمهرة المنتجين الزراعيين الذين يُنتجون ثروة الأمة، كما أن الحِرفيين وتُجار التجزئة وموظفي الخدمة العامة يسدون حاجة الناس إلى خدماتهم؛ فمجال هؤلاء وأولئك القرى وأحياء المدن، وشكَّلوا أعدادًا كبيرة من الوحدات الاجتماعية التي تفتقر إلى الوعي السياسي وإلى التنظيم الذي يلم شعثها ويربط بين بعضها البعض، فإذا غضضنا النظر عن تحركاتهم الإجبارية، وجدنا أن حراكهم كان محدودًا؛ فالقرية أو حي المدينة بالنسبة لهم هو الوطن.٣٠

وعاش الفلاحون حياةً ترتبط بالأرض، فكانوا يفلحون المساحات الصغيرة من الأرض بأيديهم، وحدَّدت مواسمُ الزراعة ونهر النيل إيقاع حياتهم، فكانوا يرقبون فيض النهر وغيضه بقلق شديد، وفي كل عام كان احتمال وقوع كارثة فيضان يجرف التربة الخصبة أو جفاف يضر بالمحاصيل يزيد القرية ارتباكًا، ولمَّا كانت بيوت القرية مُشيَّدةً باللَّبِن، فإن انهيار الجسور أمام الفيضان يعني ذوبان القرية كما يذوب الثلج تحت حرارة الشمس.

فالقرية «التي يُحاصرها الفيضان السنوي»٣١ اعتبرت جهاز السلطة البيروقراطي خطرًا يتهدَّدها، واعتمد بقاء القرية في الوجود على عطاء النيل غير المضمون، ولكن ذلك الوجود كان مرهونًا أيضًا بالمطالب التي لا يمكن تجنُّبها التي تأتي من القاهرة، فإذا أتاح النيل للقرية فرصة البقاء، كان عليها أن تتطلَّع نحو وكلاء الحاكم، تُرى، كم يبلغ مقدار الضرائب الذي على أهالي القرية أن يدفعوه هذا العام؟ وكم من الرجال سيُجنَّدون في الجيش أو يُطلَبون للسخرة لشق ترع لا تروي حقولهم، ولفلاحة مزارع الحاكم أو الذوات؟ ووفقًا لتقدير علي مبارك — ناظر الأشغال العمومية — كانت السخرة «المشروعة» تتطلَّب ٣٩٫٥ مليون يوم عمل عام ١٨٨٠م، ويُقصد بها السخرة في حفظ الجسور والترع.

ولا عجب أن يكون حكم عباس «الرجعي» أسعد أيام الفلاحين؛ فلم يشن أيَّة حروب، ولم يشق ترعًا جديدة؛ ومن ثَم لم يفرض ضرائب جديدة. ولكن الفترة التي شهدت فيها مصر عملية «التحديث» تحت حكم إسماعيل كانت أشقى أيامهم؛ فعبء الضرائب فاق قدرتهم على الاحتمال، ولم يكن الهرب من الأرض أو مواجهة جباة الضرائب مواجهةً عنيفة ليجدي نفعًا؛ فلم يكن أمامهم سبيل للنجاة سوى هجر القُرى تمامًا؛ عندئذ يمنح الخديو الأراضي المهجورة لرجاله المخلصين.

وفي مثل هذا المناخ يظهر أدعياء المهدية لتحقيق الخلاص؛ ففي عام ١٨٦٥م دعا المهدي أحمد الطيب إلى ثورة اجتماعية دينية في الصعيد، ومقاومة الأتراك، وإعادة توزيع الملكيات والقضاء على الأفكار الدينية التي تلقَّن في القاهرة. وقد أقام «الأتراك من ضباط إسماعيل مذبحةً للمهدي وأتباعه، اختفت خلالها قرًى بأكملها من على وجه الأرض، وذُبح سكانها أو نفوا بعيدًا عنها».

ولذلك يبدو أن أهالي القرية كانوا أكثر ميلًا إلى الانطواء على أنفسهم، ويُعبِّرون عن خصوصيتهم من خلال قيم محلية معقدة: عاداتهم وطقوسهم، طعامهم، منتجاتهم الزراعية والصناعية، الأولياء ومختلِف ألوان الغيبيات التي كانت تفوق — في الريف — تعاليم الأزهر قوة، «فلم يُضعف الفقر ولا العوز من سمة الإصرار التي ميَّزت الشخصية الجماعية (للقرية) … تلك السمة التي لم تكن تحتاج إلى تنظيم قانوني للتعبير عنها، بل كانت — قبل كل شيء — ملاذهم الوحيد ضد السلطة.»٣٢

ونود أن نؤكِّد مرةً أخرى، أننا لا نعتزم أن نُقدِّم — في هذا العرض — تحليلًا شاملًا للمجتمع المصري، ولكنَّنا نهدف إلى توضيح بنية الحكم مع إبداء بعض الملاحظات حولها؛ ولذلك لا نستطيع شرح أوضاع الأقليات المختلفة شرحًا مستفيضًا، ولكنَّنا نستطيع أن نُقدِّم — فحسب — بعض المؤشرات الخاصة بوظيفة كل أقلية من تلك الأقليات في المجتمع ونقاط الاتصال بينها وبين جهاز السلطة. فالبدو الذين قُدِّر عددهم ﺑ ٢٥٠ ألف نسمة — عام ١٨٨٢م — لا يدخلون دائرة اهتمامنا؛ فقد شكَّلوا أقليةً غير متماسكة تمامًا تتمتَّع بحقوق خاصة وتعيش على هامش المجتمع المصري. أما عائلات شيوخ البدو السابقين الذين اقتنَوا الملكيات الزراعية الواسعة (مثل أباظة والشواربي)، فلا يمكن تمييزهم عن أعيان الريف.

والأقباط هم أهم أقلية دينية في المجتمع المصري. وقُدِّر عددهم — حوالي عام ١٨٨٠م — بثلاثمائة ألف نسمة، ولمَّا كان إحصاء ١٨٩٧م يُقدِّر عددهم ﺑ ٦٠٨ ألف نسمة، فإن تقدير ماك كون يقترب من الحقيقة، فقد ذكر أن عدد الأقباط بلغ ٥٠٠ ألف نسمة عام ١٨٧٧م. ومعظم الأقباط يعيشون في مصر الوسطى والصعيد.

وكان معظم الأقباط من الفلاحين والحرفيين وصغار تجار التجزئة، شأنهم في ذلك شأن أغلبية سُكان البلاد من المسلمين، ولكن بعض العائلات القبطية لقَّنت أبناءها أسرار مهنة المحاسبة والكتابة الديوانية حتى يتميَّزوا عن رفاقهم المسلمين الذين يتعلَّمون في كُتَّاب القرية بلون خاص من ألوان المعرفة؛ ولذلك لم يكن من السهل الاستغناء عن خدماتهم في نِظارَتَي المالية والحقانية، وكان غالبية الصيارفة من الأقباط الذين احتكروا وظائف المحاسبين والكَتَبَة.

وكان لهم — في الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر — نصيبٌ متكافئٌ بين صفوف الأعيان والخبراء؛ ففي عام ١٨٦٦م انضم إلى عضوية مجلس شورى النواب سبعة من العمد والأعيان الأقباط، وعند نهاية السبعينيات ترقَّى بعض موظفي المالية والقضاء منهم في سُلم الوظائف بنِظَارَاتِهِم وبالمحاكم المختلفة، وإن كانوا لا يدخلون في عداد الطبقة الحاكمة، وبغضِّ النظر عن الوظائف التي شغلوها بحكم مهاراتهم الخاصة، يمكن القول إن الأغلبية القبطية كان لها نفس وضع الأغلبية المسلمة.

أما اليهود المصريون، فشكَّلوا أقليةً عنصرية-دينية تركَّزت في القاهرة والإسكندرية وضمَّت عند نهاية السبعينيات عشرين ألف نسمة. وكانوا في معظمهم من الحرفيين وصغار تجار التجزئة والجواهرية، والصيارفة والمرابين، وكانت هناك بنوك يهودية خاصة لها معاملات مالية واسعة مع إسماعيل. وبصفة عامة، لم يلعب اليهود دورًا ملحوظًا في الحياة الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية في مصر.

وكانت الجالية الأرمنية أيضًا غير ذات أهمية من الناحية العددية، وقيل إنَّها زادت تحت حكم إسماعيل حيث أصبحت تضم عشرة آلاف نسمة، وكان الأرمن نشطين في حقل تجارة التجزئة. ولكن بعض أفراد الجالية — وخاصةً عائلة بوغوص ونوبار — لعبوا دورًا ملحوظًا في الإدارة والسياسة المصرية طوال القرن التاسع عشر، فكانت نظارة الخارجية — في الغالب — احتكارًا أرمنيًّا، حيث تولاها بوغوص في عهد محمد علي، وأرتين في عهد عباس، وأسطفان في عهدَي عباس، وسعيد، ونوبار في عهد إسماعيل، وتيجران في عهد كرومر. ولذلك كان كبار الأرمن (الذين هاجروا إلى مصر من الدولة العثمانية) يُعدُّون من الطبقة الحاكمة، وبذلك كان لهم وضع فريد بين الأقليات غير الإسلامية، ولم يدخل الشوام في زمرة الصفوة الحاكمة شأنهم في ذلك شأن الأقباط واليهود. ويُقدِّر ماك كون عددهم بسبعة آلاف نسمة عام ١٨٧٧م، وكان من بينهم الصحفيون، حيث تولى تحرير معظم الصحف الأولى التي صدرت في مصر صحفيون من الشوام المسيحيين، غير أن معظم الشوام كانوا ينافسون الأقباط في الوظائف الإدارية الصغرى وينافسون اليونانيين في أعمال الربا.

وكان أهم دور لعبته الأقليات الاقتصادية والسياسية في مصر — في عهد إسماعيل — هو دور الأوروبيين. وقد بلغ عددهم — عام ١٨٨٢م — ٩٠٨٨٦ نسمة (بنسبة ١٫٣٤٪ من التعداد الإجمالي لسكان البلاد).

وكان الأوروبيون يسكنون المدن والدلتا شأنهم في ذلك شأن المصريين الذين ينحدرون من أصول عثمانية، وكان يعيش بالإسكندرية أكثر من نصفهم (٤٩٦٩٣ نسمة) وسكن القاهرة ٢١٦٥٠ منهم، وبورسعيد ٧٠١٠ أشخاص، بينما توزَّع الباقون (١٨٩٥) بين مصر الوسطى والصعيد وبقية أنحاء البلاد. وشكَّل اليونانيون أكبر الجاليات الأوروبية في مصر (٣٧٠٣١ نسمة)، يليهم الإيطاليون (١٨٦٦٥ نسمة) ثم الفرنسيون (١٥٧١٦ نسمة)، فالنمساويون (٨٠٢٢ نسمة)، فالبريطانيون (٦١١٨)، وتركَّزت معظم تجارة الاستيراد والتصدير بأيديهم، وفي ظل الامتيازات تمتَّعوا بإعفاء تام من ضرائب الدخل والعقارات.

ولعب اليونانيون دورًا خاصًّا في تجارة التجزئة وكأصحابٍ للحانات، وتزايدت أعداد المشتغلين منهم بالربا في عهد إسماعيل، وأصبح المرابون اليونانيون معروفين في الريف مكروهين بين أهله؛ حيث كانوا على استعداد دائمًا لتقديم القروض للفلاحين، فتَذْكُر ليدي جوردون أن المُرابي اليوناني كان يتبع الصرَّاف القبطي كما يتبع النسر البقرة.٣٣ فيُقرض الأموال للفلاحين الذين يعجزون عن سداد الضرائب بفوائد باهظة. وكثيرًا ما كانت تلك المعاملات تنتهي بفقد المدين لمحصوله أو حتى أرضه، وبلغ ذلك الذروة بعد إنشاء المحاكم المختلطة، فأصبحت تلك المحاكم أداةً في يد المُرابين الأجانب، فانتزعوا محاصيل وأراضي الفلاحين، وقبل أن تبدأ تلك المحاكم عملها كانت ملكيات الأجانب محدودة المساحة، وبحلول عام ١٨٨٧م بلغت مساحتها ٢٢٥١٨١ فدانًا (لم تكن كلها للمرابين اليونانيين وغيرهم من رعايا بلاد شرق المتوسط بالطبع)، وقدَّر ستيوارت — عام ١٨٨٢م — قيمة الفوائد التي يدفعها الفلاحون بالدلتا مقابل القروض التي يحصلون عليها بما يتجاوز قيمة ضرائب الأطيان بما يتراوح بين أربعة وخمسة ملايين جنيه إسترليني. واستمر انتزاع ملكيات الفلاحين وفاءً لمستحقات المرابين أوائل عهد الاحتلال البريطاني (بلغت مساحتها ٢٢٠٤٧ فدانًا في ١٨٨٣م و١٨١٤٨ فدانًا في ١٨٨٤م، و١٧٫٨٢٨ فدانًا في ١٨٨٥م، و١٢٩٦٩ فدانًا في ١٨٨٦م)، وسوف نذكر المزيد من التفاصيل حول أهمية هذا العامل في أحداث ١٨٨٢م.

ملاحظات ختامية

لم يُكتب بعدُ تاريخ مصر الاجتماعي في القرن التاسع عشر، وسوف يُصبح باستطاعتنا أن نسير في طريق مأمونة عندما يُميط المؤرخون وعلماء الاجتماع اللثام عن كنوز دار الوثائق المصرية، ولا أَدَلَّ على أن البحوث في هذا المجال لا تزال في بدايتها من أن المجلدات التي نشر فيها أمين سامي مجموعةً من الوثائق منذ بضعة عقود من السنين لم تُستخدم بعدُ استخدامًا كاملًا، ويجب أن تُؤخذ هذه الخلفية في الاعتبار عند قراءة الملاحظة التالية حول تركيب المجتمع المصري في عهد إسماعيل.

وعلى نقيض دراسة أبو لغد — التي نذكرها في مكان آخر — حاولنا أن نؤكِّد على أن انتماء بعض أعيان البلاد وصفوة المثقفين إلى الطبقة الحاكمة في عصر إسماعيل كان مجرد استثناء؛ فالحقيقة التي لا مراء فيها أن الأغلبية غير المصرية التي كانت تتكوَّن منها هذه الطبقة رأت أن من الضروري إبقاء الفلَّاحين بعيدًا عن السلطة حمايةً لمصالحهم؛ ومن ثَم لم يكن شعار «مصر للمصريين» موجَّهًا نحو التدخل الأوروبي فحسب، بل كان يهدف إلى الحصول على نصيب مُتكافئ من السلطة مع الصفوة التركية-الجركسية المتعالية والمسيطرة. فلم يكن العُمَد والذوات حلفاء — على نحو ما يزعم أبو لغد — بل كانوا خصومًا. والفكرة القائلة بأن «الأرستقراطية» حاولت في السبعينيات — أو في السنوات الأخيرة منها على الأقل — أن تضع حدودًا لحكم إسماعيل الاستبدادي (التي يُروِّج لها الرافعي، وأبو لغد، وأنور عبد الملك) لا أساس لها من الصحة، فلم يكن للأتراك الجراكسة الذين يُشكِّلون الطبقة الحاكمة اهتمام شخصي بمجلس شورى النواب؛ فلم يُمَثَّلوا فيه، كما أن المجلس لم يُمثِّل مصالحهم.

ورغم أن الرافعي يمتدح شريف باشا «مؤسس النظام الدستوري في مصر»، نجد شريف من أخلص رجال إسماعيل، ولم يفهم حقيقة اهتماماته الدستورية سوى عفاف لطفي السيد، فتذكر أنه «تبنى المبادئ اللبرالية بنفس الروح التي كان أحد سادة فلورنسا في عصر النهضة يُسبغ بها حمايته على أحد الرسامين الجدد.»٣٤

ولا ريب أن ثمة مصالحَ مشتركة — وخاصةً في المجال الاقتصادي — تجعل المرء يتحدَّث عن طبقة ممتازة تتضمَّن الأتراك الجراكسة وأعيان البلاد، ولكن ذلك لم يؤدِّ إلى تلاحم بين صفوة السلطة والصفوة الاجتماعية، فقد ظلَّ الأعيان في نظر الكثيرين من الأتراك الجراكسة مجرد «فلَّاحين». وسوف نُولِي اهتمامنا الخاص للتغيرات المتميزة في تركيب المجتمع المصري عند دراستنا لأحداث سنوات الأزمة السابقة على الاحتلال البريطاني.

١  Karl A. Wittfogel: Oriental Despotism, New Haven and London 1967, pp. 303–307, 320-21.
٢  حكم محمد علي من ١٨٠٥–١٨٤٨م، وإبراهيم ١٨٤٨م، وعباس الأول ١٨٤٨–١٨٥٤م، وسعيد ١٨٥٤–١٨٦٣م، وإسماعيل ١٨٦٣–١٨٧٩م.
٣  Politis, p. 52.
٤  Stephan, p. 167.
٥  جندي وتاجر، ص٦٢.
٦  نفس المرجع.
٧  سورة ٣: ١٥٩ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، وسورة ٤٢: ٣٨ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ.
٨  Lady Duff Gordon, p. 286.
٩  Stuart, p. 67.
١٠  Malortie, p. 120.
١١  يُنسب إلى شريف صياغة تلك الوثائق، كما يُنسب إلى نوبار الاشتراك في صياغتها، وقد نشر الرافعي المواد الثمانية عشر «للَّائحة الأساسية» والمواد اﻟ ٦١ «للَّائحة النظامية». انظر: عصر إسماعيل، ج٢، ص٢٨٧‏–‏٢٩٨.
١٢  دفتر زمام أطيان عشورية.
١٣  Blunt: Secret History, p. 149.
١٤  في هذه الدراسة نشير إلى الضباط أو الموظفين «العرب» كعنصر مقابل للأتراك-الجراكسة عندما نتحدَّث عن «الوطنيين المصريين».
١٥  متفرقات الجيش ١٨٠٩‏–‏١٨٨١م.
١٦  بيانات الجيش المصري ابتداءً ١٢٧١ﻫ إلى سنة ١٢٨٠ﻫ.
١٧  في هذه الدراسة الإشارة إلى «المماليك» يُقصد بها الأتراك-الجراكسة.
١٨  كشف الستار، ص٤٩‏-‏٥٠.
١٩  الشرقية، الدقهلية، الغربية، البحيرة، المنوفية، القليوبية، الجيزة، الفيوم، بني سويف، المنيا، أسيوط، جرجا، قنا، إسنا.
٢٠  القاهرة، الإسكندرية، دمياط، رشيد، بورسعيد ومنطقة قناة السويس، السويس، العريش، القصير. وكانت واحات الفرافرة والبحرية تدخل في دائرة اختصاص مدير الفيوم، وواحات الداخلة والخارجة في اختصاص مدير أسيوط، أما واحة سيوة فتتبع نظارة الداخلية. وكان محافظ السويس مسئولًا عن بدو سيناء، وقد أُلغيت محافظة القاهرة في ٣١ مارس ١٨٧٨م ثم أُعيدت فيما بعد، كما كانت الإسماعيلية محافظةً مستقلة.
٢١  Klunzinger, p. 66.
٢٢  دفتر زمام أطيان عشورية.
٢٣  دار الوثائق التاريخية القومية: محفظة ٣٨، ملف ١٧٣؛ محفظة ٣٩، ملف ١٧٥.
وتحتوي الملفات اﻟ ٢٠٠ في المحافظ من ٢٤‏–‏٣٩ على مادة متباينة نوعًا من ملكيات «العصاة» السبعة الذين نُفوا، وهذا بيان بملكياتهم حسبما جاء بالمحفظة ٣٨، ملف ١٧٣:
محمود سامي ١٠٧٥ فدانًا
أحمد عرابي ٩٧٦ فدانًا
علي فهمي ٢٤٠ فدانًا
يعقوب سامي ٧٦ فدانًا
عبد العال حلمي ٥٤ فدانًا
طُلْبَة عصمت ١٠ أفدنة
محمود فهمي لا شيء
وكان كلٌّ من محمود سامي وعلي فهمي ويعقوب سامي قد كوَّن ملكياته قبل ١٨٨١م، على عكس عرابي الذي اشترى في مطلع ١٨٨٢م مساحة ٨١٠ فدادين من أراضي الميري (الدولة) بمبلغ ١٩١٩١٠ قرش (محفظة ٢٤، ملف ٢؛ محفظة ٣٨، ملف ١٧٣؛ محفظة ٣٩، ملف ١٧٥).
٢٤  Budget Gouvernement Egyptien pour L’Exercice 1881, p. 62.
٢٥  Max Weber: Wirtschaft und Gesellschaft, Köln and Berlin 1964, pp. 215-16, 698-99, 741-42.
٢٦  Berque, L’Egypte, p. 47.
٢٧  في عام ١٨٨٢م كان هناك ٤٠٣٥ مدينةً وقرية و٩٠٨٠ عزبةً في مصر، يسكنها ٩٤٤٤٩٨ نسمة (Recensement Générale, 1882) بينما يذكر Amici أن هناك ١٢٨٧٦ مركزًا سكانيًّا يتكوَّن من: ٥٣ مدينةً وبندرًا، ٣٥٧٨ ناحية، ٢٢١ كفرًا، ٦٣٠٥ عزب، ١٥٦٥ نجعًا، ٦٠١ أبعادية، ٤٣٨ نزلة، ١١٥ من المراكز السكانية الأخرى تنتمي إلى تسعة أنواع أخرى مختلفة، كما كان هناك نحو أربعة آلاف عمدة.
٢٨  انظر: Reformen im Verwaltungs-und Finanzwesen Egypten.
٢٩  الوقائع المصرية، ٢٥-‏٢٦، سبتمبر ١٨٨١م.
٣٠  Berque: Dans Le Delta du Nil, p. 279.
٣١  Ibid., p. 277.
٣٢  Berque: L’Egypte: p. 47.
٣٣  Lady Duff Gordon, p. 182.
٣٤  Egypt and Cromer, p. 8.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥