الخاتمة

طرحنا في بداية هذه الدراسة سؤالين أساسيَّين يتعلَّقان بطبيعة الأزمة الاجتماعية السياسية خلال السنوات الممتدة من ١٨٧٨م إلى ١٨٨٢م هما: هل عرفت مصر الثورة؟ وهل كانت القومية هي القوة المحركة للتغيرات التي أدت إلى احتلال البلاد؟ وحتى لا نجعل الإجابة على هذين السؤالين صعبة دون داعٍ، سنتغاضى عن الحقيقة القائلة بأن النظام الاجتماعي السياسي الذي أُسِّس في ١٨٨١-١٨٨٢م لم يُستكمل، ولم يستغرق سوى وقت قصير، ثم ما لبث أن أصبح ضحية للتدخل الأجنبي.

وعندما تقارن حالة مصر في ربيع ١٨٨٢م بالوضع السياسي والاجتماعي في عهد إسماعيل نلحظ تغيُّرًا مؤثرًا؛ ففي الداخل كان إسماعيل حاكم مصر بلا منازع الذي يَعُد البلاد ضيعته الخاصة، فأبقى الجهاز الإداري والجيش تحت سيطرته وتحت إمرته عن طريق شَغل كل مناصب السلطة بأفراد موالين له، مرتكزين إليه، كافأهم تبعًا لدرجة ولائهم له. وكانت غالبية تلك الطبقة الحاكمة لا تزال تنتمي إلى أصول غير مصرية، حتى أولئك الذين كانوا يعتبرون البلاد وطنهم الحقيقي بعدما استقروا بمصر زمنًا طويلًا، لا يمكن أن نضعهم سياسيًّا في مستوى الوطنيين من أبناء البلاد، فبالنسبة لهم بررت أحقيتهم في السلطة على حساب قدراتهم الإدارية والحكومية.

وبالنسبة للصفوة الاجتماعية: العلماء، والتجار، وكبار المُلَّاك، والخبراء الذين تلقَّوا تعليمًا غربيًّا، كانت مراكز السلطة بعيدة المنال إلى حدٍّ كبير. أما الضباط «الفلاحون» فقد استطاعوا — في ظروف استثنائية — أن يصلوا إلى مراكز القيادة في الجيش. وكان لهذا الوضع الضعيف للقوى الاجتماعية التي كوَّنت الصفوة الوطنية أسباب مختلفة؛ فقد اعتُبرت عائلات أعيان التجار مُمثِّلة للمدن حقًّا، ولكن أهميتها الاقتصادية بقيت محدودة ما لم تجمع بين التجارة والملكية الزراعية الكبيرة. فأوروبا — وإنجلترا في مقدمتها — لم تُجبر محمد علي على إلغاء الاحتكار لمصلحة التجار المصريين؛ لأن التجارة الخارجية كانت تتركَّز غالبًا في أيدي الشوام والأوروبيين. ولم يكن العلماء — كقوة اجتماعية — قد أفاقوا من الضربة التي وجَّهها إليهم محمد علي اقتصاديًّا وسياسيًّا. وكان الكثير من كبار تجار القاهرة وعلمائها ينتمون إلى حاشية إسماعيل بطريقة ما، ولكنَّهم لم يكونوا قادرين على التأثير على سياسته أو توجيهه، فقد أفسدهم إسماعيل بإنعاماته. أما الخبراء الوطنيون (المهندسون – الأطباء – المدرسون وغيرهم) الذين تلقَّوا تعليمهم في أوروبا أو في مدارس الحكومة المصرية، فلم يكن مطلوبًا منهم المساعدة في حكم البلاد بل في «تحضيرها»، فساهموا بحماس في تحسين البنية الأساسية للبلاد، ولكنَّهم لم يُدْخِلوا تغييرًا على البنية السياسية العلوية. وكان حجر الزاوية في بناء طبقة وطنية من كبار المُلَّاك قد أُرسِي بالفعل في عهد محمد علي، وأزاح سعيد العقبة الرئيسية التي اعترضت طريق تكوين الملكية الخاصة من الأرض الزراعية. وفي غمرة اندماج مصر قسرًا في السوق العالمية، وما صحب ذلك من تطور للإنتاج الزراعي المُخصَّص للتصدير، أحرز أعيان الريف مركزًا اجتماعيًّا اقتصاديًّا بارزًا في الريف وخاصة في عصر إسماعيل. ووُضعت إدارة الأقاليم مؤقتًا — وإلى حدٍّ بعيد — في أيديهم، ولكنَّهم ظلُّوا عاجزين عن ضمان موقع لأنفسهم في الإدارة المركزية، ولم يُصبح مجلس النواب في ١٨٧٠م — وعلى الأقل في ١٨٧٦م — أداة فعَّالة لتمثيل مصالحهم وللتحكم في السلطة.

وفي ربيع ١٨٨٢م، تغيَّر هذا الوضع تغيُّرًا أساسيًّا. ففي ظل حكم خديو ضعيف، كان هناك مجلس للنظار مستقل استقلالًا عمليًّا عن توفيق، وكانت غالبية أعضائه من الوطنيين المصريين. وحصل أعيان الريف على لائحة أساسية لمجلس النواب أعطتهم حقوقًا جديدة لرقابة السلطة التنفيذية، وكلمة أقوى في مجال التشريع، وخاصةً فيما يتعلَّق بالضرائب وإعطاء الامتيازات، وبذلك كسر احتكار الأتراك الجراكسة للسلطة. وفي الجيش وصل المصريون لأول مرة إلى رتبة اللواء.

فما الذي أدى إلى هذه التغيُّرات؟ لم يكن ذلك من عمل جمال الدين الأفغاني «الأب الشرعي للثورة العرابية» (كما يقول الرافعي) وتلاميذه، كما لم يكن ذلك نتاجًا لدعوة المثقفين المتأثرين بأوروبا لنظام سياسي جديد.

فالتدخل الأجنبي، وتأسيس «الوزارة الأوروبية»، حطَّم بنية السلطة. فقد أمسك مجلس النظار — المستقل عن الخديو والمدعم بمساندة أوروبا — بزمام السلطة لحماية مصالح حملة سندات الدَّين. وحاول إسماعيل — بمساعدة «مماليكه» وممثلي الصفوة الاجتماعية — أن يستعيد موقعه المفقود، وخلال تلك الحملة ساعد مجلس النواب لكي يكتسب أهمية غير متوقعة، وقدرًا من حرية العمل، وبذل الوعود الدستورية للنواب، وشجَّعهم على مقاومة التدخل الأجنبي، بل وضع نفسه على رأس هذا الاتجاه مما كلَّفه عرشه.

وخلف لويس الرابع عشر المصري لويس خامس عشر مصري؛ فرغم إرادة السلطان اختارته الدول — وفي طليعتها إنجلترا — لقلة كفايته، التي وصفها أبوه فيما بعد بقوله «إنَّه بلا رأس وبلا قلب وبلا شجاعة»١ ولكنَّ توفيقًا خيَّب آمال من علَّقوا آمالهم الدستورية والوطنية عليه خيبة مريرة. فقامت حكومة متعاونة مع الأجانب بتطبيق البرنامج الذي فشلت «الوزارة الأوروبية» في تحقيقه بسبب مقاومة إسماعيل، وتضمَّن هذا البرنامج تقليص الامتيازات المالية وغير المالية للطبقة العليا المحدودة، كما أُجهِضت التجربة الدستورية.

ولذلك واجهت الحكومة مقاومةً من جانب المثقفين والطبقة الممتازة وعلى رأسها الأتراك الجراكسة الذين حُرِموا من السلطة السياسية إلى حدٍّ كبير. وفي دائرة جمال الدين الأفغاني أُثيرت التطلعات والآمال الوطنية والدستورية منذ بداية ١٨٧٩م، وعبَّرت عن نفسها في الصحف. ولم يكتفِ أصفياء إسماعيل من الأتراك الجراكسة بمقاومة فقدهم لاحتكار السلطة فحسب، بل قاوموا أيضًا ما تتعرَّض له امتيازاتهم المالية من تهديد نتيجة التدخل الأوروبي. ولمَّا كانت أدوات القمع تتركَّز في يد الحكومة لم يؤدِّ ذلك إلى تبلوُر معارضة فعَّالة.

فلم يكن ثمة خطر يتعرَّض له النظام المتعاون مع الأجانب. ولم يُفكِّر «مماليك» إسماعيل لحظة في كسب الجيش إلى جانبهم عن طريق الضباط الجراكسة، وتدبير انقلاب ضد رياض وتوفيق. ولم يكن المثقفون يُكوِّنون «قوة» قائمة بذاتها، وفي معظم الأحوال كان هؤلاء يعملون تحت جناح شخصية ذات نفوذ من الطبقة الحاكمة. ولم تكن الصحف — المتقطعة الصدور المحدودة الانتشار — تستطيع المساهمة في تكوين «جماهير ثورية»، حتى ولو لم تكن هناك رقابة. فمن يستطيعون قراءة الصحف كانوا لا يزالون أقلية محدودة.

وبالإضافة إلى ذلك، لم يكن باستطاعة غالبية أهالي البلاد فهم مداخلات ومصالح «الأتراك» الذين كوَّنوا «الحزب الوطني». فقد ابتهجوا بإعفائهم من دفع المقابلة، واحتفلوا بالتخفُّف من الضرائب والإصلاحات التي قام بها توفيق ورياض «أبو المصريين» (على حد قول عرابي). وفي أوائل ١٨٨١م لم تكن هناك نذر لعاصفة وشيكة الهبوب أو لثورة وشيكة الوقوع.

وفي أوائل فبراير ١٨٨١م لم يطلب الضباط «الفلاحون» أكثر من مجرد إلغاء امتياز الأتراك الجراكسة في الجيش أيضًا، فلم يقبلوا أن يبقوا خارج دائرة الإصلاحات، ودائرة الانتعاش المادي، ونجحوا لأن الجنود كانوا وراءهم. وربما لم يكن ذلك مفاجأة للخديو ولكبار الضباط الأتراك الجراكسة فحسب، بل كان أيضًا مفاجأة لهم أنفسهم.

وتعرَّض التجانس الاجتماعي داخل هيئة الضباط للتفسُّخ — بالفعل — نتيجة لجوء سعيد إلى تجنيد أبناء العُمَد وترقيتهم إلى رتب الضباط. وفي أواخر أيام سعيد وبداية حكم توفيق، أُسند إلى عدد من الضباط المصريين قيادة الفرق والكتائب، وقد أشار حادث الأول من فبراير إلى أن الجنود قد يتبعون الضباط الفلاحين، وليس زملاءهم الأتراك الجراكسة. وأدرك الأميرالايات «الفلاحون» فجأة أن آلاياتهم هي القوة الوحيدة في البلاد، إذا استطاعوا أن يبقوا على اتحادهم، وظلَّ هذا الأمر شغلهم الشاغل طوال العام ونصف العام التالي.

وما حدث في الأول من فبراير لم يكن مُوجَّهًا ضد توفيق، وقد جانبه الصواب عندما لم يتبيَّن ذلك. ولعل الأتراك الجراكسة من رجال البلاط والضباط وكبار الموظفين حالوا بينه وبين الوصول إلى هذه الحقيقة، عندما رأوا أوضاعهم تتعرَّض للتهديد على يد الأميرالايات «الفلاحين». وعلى كلٍّ أدرك أعيان الريف المكانة التي بلغها «أبناؤهم وإخوتهم» في الجيش، فتحالفوا مع الضباط المصريين، وبمساعدتهم أملوا في اكتساب وضع سياسي يتفق مع وضعهم الاجتماعي الاقتصادي من خلال توسيع دائرة صلاحيات مجلس النواب، ليحصل ذلك المجلس على نفس الحقوق التي تتمتَّع بها «برلمانات أوروبا».

وفي ٩ سبتمبر ١٨٨١م، أصبح عرابي المتحدث بلسان الجيش والشعب المصري كله، وأكَّد المُمثِّلون التقليديون للأهالي الوطنيين وضعه في عرائض مُهِرَت بإمضائهم. وكانت النتيجة المباشرة لمظاهرة عابدين بالنسبة للضباط المصريين ضمان سلامتهم الشخصية، ومعاملتهم على أساس المساواة داخل الجيش، وبالنسبة للأعيان الوطنيين كانت تحقيق آمالهم الدستورية التي تلقَّوا وعدًا بتحقيقها. ولكن كان عليهم أن يُتابعوا النضال من أجلها حتى تحوَّلت هذه الوعود إلى حقيقة على يد وزارة محمود سامي التي حظيت بتأييدهم وتأييد الجيش.

تُرى، هل كانت تلك ثورة قادها عرابي؟

لم يكن عرابي قائدًا ثوريًّا؛ ففي خريف ١٨٨١م أصبح بطلًا شعبيًّا، وفي ربيع وصيف ١٨٨٢م أصبح حاميًا للوطن والدين. ولكنَّه ليس مسئولًا عن تلك التطورات، بل كان مدفوعًا بالظروف والأحداث. لم يُناضل عرابي من أجل السلطة؛ فلم يكن له مصلحة في أن يُصبح دكتاتورًا أو أن يفرض على البلاد نظامًا سياسيًّا بعينه. لقد أراد أن يكون حاميًا وأن يتأكَّد من أن أحدًا لن يخرج عن الصراط المستقيم؛ صراط تعاليم الله والعدالة والمساواة والإنسانية والأخوة. لقد أُسنِد إليه الدور الذي لعبه، ولم يسعَ هو لنيل هذا الدور، كما لم يكن مُثيرًا للفتنة أو ثوريًّا أو دكتاتورًا، إنَّما كان يعتبر نفسه مُمثِّلًا للمصالح الشرعية، وأبًا للوطن الذي يُشكِّل جزءًا لا يتجزأ من الدولة العثمانية، ومن الجماعة الإسلامية التي رأسها السلطان باعتباره أميرًا للمؤمنين.

وتحقَّق مطلب «مصر للمصريين» (الذي لم يكن شوفينيًّا ولم يُحدَّد على أساس عرقي) بواسطة الجيش، فبدا وكأنه يدفع الأحداث صوب الفتنة أو الثورة. وعلى كلٍّ، لم تكن نتيجة تمرد الأول من فبراير، ومظاهرة التاسع من سبتمبر ١٨٨١م، تحولًا جذريًّا في النظام الاقتصادي الاجتماعي، ولا في النظام السياسي التقليدي، والأفكار الأساسية التي يقوم عليها ذلك النظام. وحتى عندما تحالف الحاكم مع العدو — الذي جاء يغزو البلاد — لم يُخلع من منصبه، بل كان من المتوقع أن يقوم أمير المؤمنين بإقصاء الخديو الذي تصرَّف على نحو مُغايِر لمصالح الدولة، وخرج على تعاليم الإسلام، فيكون خلعه على يد من يتولَّى رعايتهما.

وكان تكوين الصفوة السياسية والعسكرية هو الذي تغيَّر تغيُّرًا أساسيًّا في المقام الأول، وربما تغير النظام الدستوري للبلاد — فيما بعد — بمرور الزمن. ومن ثم وقعت الثورة بمعنى حدوث تغير ذي مغزًى تاريخي فقط بالنسبة للأصول الاجتماعية للصفوة الحاكمة، فلم يعد الجيش والجهاز الإداري يخضعان لسيطرة الأوليجاركية غير المصرية، وأعطيت المراكز الهامة لممثلي القوة الاجتماعية الوطنية، دون أن يترتب على ذلك تصفية الأتراك الجراكسة أو الأوروبيين تصفية تامة من إدارة البلاد.

تُرى، هل كانت القومية المصرية المُحرِّك لتلك التغييرات؟

لا شك أن النشاط السياسي خلال عامَي ١٨٨١م و١٨٨٢م يتجه ضد سيطرة مُمثِّلي الدول الأوروبية على الشئون المصرية. وكان هناك تخوُّف حقيقي من حدوث تدخُّل عسكري وخاصة بعد احتلال الفرنسيين لتونس، وجاءت المذكرة المشتركة في يناير ١٨٨٢م لتُسفر عن الخطر المحدق بالبلاد. وفي نفس الوقت، أصبح المصريون أكثر وعيًا بالنفوذ الاقتصادي للأوروبيين والشوام وانتشارهم في الريف المصري. وزاد التصميم على المقاومة الوطنية والدفاع عن الوطن خلال أزمة مايو ١٨٨٢م وأثناء الحرب.

ولكن الفكرة الرئيسية لم تكن فكرة إقامة دولة قومية مصرية مستقلة؛ فعرابي لم يكن «قوميًّا» عربيًّا أو «قوميًّا» مصريًّا، وفي الأول من فبراير ١٨٨١م التمس تأييد رياض الذي كان يتعرَّض للهجوم من جانب «الحزب الوطني» (جمعية حلوان)، كما التمس تأييد قناصل دولتَي المراقبة. وفي أكتوبر ١٨٨١م، أكَّد مبعوثو الباب العالي أن القول بأن مصر قد تُصبح مركزًا لحركة قومية عربية لا أساس له من الصحة. وأنهم اكتشفوا أن المصريين موالون للدولة، وأن النضال ضد احتكار الأتراك الجراكسة للسلطة لا يتضمَّن تعديًا على «حقوق وامتيازات» السلطان في مصر، وأن إسماعيل هو الذي كان يُحاول إضعاف الروابط بين مصر والدولة العثمانية وليس العرابيين. وخلال الحرب، دُعِي المصريون إلى مقاومة المعتدين الكفار بأسلوب إسلامي تقليدي عن طريق إعلان الجهاد. فدعا العرابيون إلى «حب الوطن والشعب» دون أن يُثيروا قضية الانتماء إلى الدولة العثمانية والعالم الإسلامي، ودون أن يتأثَّر ولاؤهم لأمير المؤمنين. وعدَّ عرابي ادعاء أن مصر تسعى إلى إقامة خلافة عربية «بهتانًا عظيمًا».٢

وقبل أن تُثير المظاهرة البحرية والغزو الإنجليزي المقاومة المسلحة الوطنية والدينية، كان هدف تقرير المصريين لمصيرهم لا يتجاوز الرغبة في وضع حد للسيطرة الأوروبية على مصر، وإيقاف تحكم الأوروبيين في الجهاز الإداري المصري، وتوسعهم الاقتصادي، وإنقاص نفوذهم في بعض المجالات. وبدت المصالح الاقتصادية الأوروبية — وخاصة المصالح المالية — عُرضة للخطر؛ ولذلك أساء المراقبان العامَّان والقنصل الإنجليزي فهم نظام ١٨٨٢م، فاعتبروه دكتاتورية ثم نظامًا فوضويًّا مُعاديًا للغرب ليُبرِّروا التدخل العسكري.

وعلى كلٍّ، لم يغزُ الجيش البريطاني مصر من أجل إنجلترا ولحساب مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية فحسب، بل ومن أجل الخديو أيضًا. حقًّا، حال الإنجليز بين توفيق وتحقيق حلمه بالانتقام، ولكنَّهم عاملوه بالاحترام والتبجيل حتى نهاية حياته، على نقيض ما فعلوا مع الضباط «المتمردين» الذين أذلوهم أكثر من مرة. ولكن كانت هناك بعض الشخصيات البارزة من قيادات «الحزب الوطني» والذي تأسَّس في ١٨٧٩م (جمعية حلوان) تقف في صف الإنجليز، وعلى رأس هؤلاء شريف وعمر لطفي، وبعض قيادات «الحزب الوطني» الذي تأسَّس عام ١٨٨١-١٨٨٢م وعلى رأسهم سلطان باشا رئيس مجلس النواب وسليمان أباظة. فقد تخلَّى هؤلاء عن مواقعهم كمتحدثين بلسان الشعب ضد التدخل الأوروبي، وتعاونوا مع أعداء بلادهم بدافع من الولاء للحاكم الشرعي جُزئيًّا، ومصالحهم الشخصية السياسية والاقتصادية بالدرجة الأولى. كذلك وقف بعض الصحفيين المشهورين مثل الأخوان تقلا وأديب إسحاق وحمزة فتح الله ضد «حماة الدين والوطن». وبعد الهزيمة وجد عرابي العطف على آماله الوطنية وبعض العدل من جانب الصحافة البريطانية أكثر مما وجد من الصحافة المصرية.

وهذه الحقائق لا يمكن استبعادها بمقولة الخيانة؛ فاستنفار الوطنية حتى في صورتها كدعوة للقتال ضد المعتدين، لم يستطع توحيد النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للبلاد، فباعتبارهم مسلمين، استبعدوا دعوة الجهاد بحجة أن توفيقًا تولَّى الحكم بقرار من السلطان؛ ولذلك كان الحاكم الشرعي للبلاد، بينما كان الجيش المعتدي يغزو البلاد بأمره، وبينما كان العرابيون يحظَون بتأييد بعض أفراد الطبقة التي قاموا في وجه احتكارها للسلطة، في نضالهم من أجل الدين والوطن، عجز الكثير من ممثلي القوى الاجتماعية الوطنية؛ العلماء، وكبار التجار، والبارزين من أعضاء مجلس النواب، والخبراء الكبار، عن تقديم العون لهم. فكانوا لا يعدُّون الحرب — في المحل الأول — حربًا وطنية دفاعية، ويُفضِّلون الوقوف موقف الحياد من صراع السلطة بين عرابي وتوفيق، إن لم يقفوا صراحة موقف الانحياز للخديو.

ولذلك فإن القوى الدافعة للتغير في مصر لم تكن الأفكار الاجتماعية والسياسية الثورية، وإنَّما كان التطلُّع نحو التحرر والمساواة في الحقوق الذي يتحقَّق عن طريق الإصلاح العملي هو الدافع للتغير. كما لم تكن هناك نية لإقامة دولة علمانية قومية في صورة «جمهورية محايدة كسويسرا»، ولكن كان هناك تطلُّع نحو تقرير المصير مُوجَّه ضد التدخل الأوروبي، ومقاومة وطنية ودينية ضد العدوان البريطاني. أما الروابط التي تجمع بين مصر والباب العالي فلم تكن موضع مناقشة.

ويجب أن نؤكِّد — مرة أخرى — أن أحداث السنوات ١٨٧٩-١٨٨٠م، ١٨٨١-١٨٨٢م تُمثِّل مرحلتين مختلفتين من مراحل التطور الاجتماعي السياسي لمصر خلال تلك الفترة، وقعتا في حيز زمني قصير المدى تمثَّل في التدخل العدواني الأوروبي، وآخر بعيد المدى تمثَّل في التغلغل الاقتصادي والسياسي والثقافي للرأسمالية الأوروبية لمجتمعات غرب ووسط أوروبا في مصر.

ويمكننا ملاحظة كلٍّ من المدى الزمني القصير والمدى البعيد إذا أدركنا التعاقب السريع للمرحلتين.

ففتح أبواب البلاد أمام النفوذ الأوروبي الاقتصادي والسياسي في عهدَي سعيد وإسماعيل لم يؤدِّ إلى إقامة دولة «مُتحضِّرة» قومية كما كان يتمنَّى إسماعيل، بل أدى إلى تعرُّض البلاد للاستغلال الاقتصادي والخراب المالي وضياع الاستقلال السياسي النسبي. وكان العامل الرئيسي للتطور في ١٨٧٩م و١٨٨٠م النضال غير المتكافئ ضد الدول الأوروبية، الذي مارسته الطبقة الحاكمة السابقة من الأتراك الجراكسة (وعلى رأسها الخديو) التي لم تكن على استعداد للتسليم بإبعادها عن السلطة والمساس بامتيازاتها الاقتصادية، ولكن مقاومتهم لم تكن ذات طابع ثوري أو قومي أصيل، ولم يكن موضوعها الشعب المصري، ولكنَّها كانت تهدف إلى الاحتفاظ بمراكز السلطة. وعلى كلٍّ، ظهرت بعض الأفكار الوطنية — في تلك المرحلة — بشَّر بها المثقفون ذوو الأصول المختلفة الذين أبدوا المقاومة.

وكان العامل الرئيسي للتطور — خلال ١٨٨١م و١٨٨٢م — محاولة كبار المُلَّاك الوطنيين اكتساب السلطة على نطاق محدود. ولم يكن احتلال موقع الصفوة المتسلطة السابقة موضع اهتمامهم بقدر ما كان موضع اهتمام الضباط «الفلاحين» الذين تحالفوا معهم، فكانت معاداة «المماليك» هي الدافع للآخرين. فقد استفاد أعيان الريف من شل التدخل الأوروبي لحركة الطبقة الحاكمة السابقة، ولم يسعوا لتصفية الأتراك-الجراكسة، ولكنَّهم أصبحوا ينافسونهم. وكان عليهم أن ينتزعوا المركز السياسي الذين يودون إحرازه من نظام المراقبة الأوروبية والمتعاونين معها بمساعدة ضباط الجيش الوطنيين.

ولكن أعيان الريف كانوا أبعد من أن يكونوا ثوارًا، ولم تكن غالبيتهم من الوطنيين المتشددين. لقد كانوا يهتمون بحماية المراكز الاجتماعية-الاقتصادية التي حصلوا عليها في إطار رأسمالية زراعية تابعة وليدة. وعندما لم يعد باستطاعتهم ضمان مراكزهم في مواجهة مع المراقبة الأوروبية، أبدوا استعدادهم للتفاهم مع المراقبة الأوروبية وتحت الحكم البريطاني. وانصرفوا عن تأييد العرابيين في مواجهة التدخل العسكري، عندما عدَّ أولئك أن من واجبهم الوطني والديني الدعوة إلى الدفاع عن أصالة مصر، والمحافظة على المجتمع المصري من التفكُّك. ووقف الضباط الوطنيون وصغار العلماء والصحفيون في الصف الأول للمواجهة.

وتطوَّرت تطلعاتهم خلال المراحل المتأخرة للحركة الوطنية المصرية، وبهذا الصدد يَعُد «الضباطُ الأحرار» أنفسَهم — بحق — الورثةَ الشرعيين للعرابيين بعد سبعين عامًا من الثورة العرابية، ولكن هدفهم كان — أيضًا — الثورة الاجتماعية، فلم يقم انقلاب ١٩٥٢م بالقضاء على الملكية فحسب، بل قضى على الحرمان الاجتماعي الذي عانته تلك الطبقة، حتى تلك العائلات التي تحالف معها الجيش في ١٨٨١-١٨٨٢م.

١  Broadly, p. 16.
٢  مذكرات عرابي، ج١، ص١٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥