الفصل الأول

الأزمة السياسية والاجتماعية

١٨٧٨‏–‏١٨٨٢م
التدخل الأجنبي وتداعي النظام الاجتماعي-السياسي
الخديو يفقد السلطة

(١) الخراب المالي

«إن عصر سعيد يُسجِّل بداية الخراب الذي حلَّ بكل مكان»١ بهذه العبارة التي يلتمس بها العذر، حاول نوبار باشا٢ وهو يسترجع الماضي أن يُبرِّئ ساحة إسماعيل من مسئولية دفع مصر إلى الخراب المالي في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، على أساس أن مستشاريه — بما فيهم نوبار — لم يستطيعوا تحاشي أسباب ذلك الخراب. وقصد نوبار بكلمة «الخراب» زيادة ديون مصر من حوالي ٣٫٥ ملايين من الجنيهات الإسترلينية عند وفاة سعيد، إلى ما يقرب من ١٠٠ مليون عند نهاية حكم إسماعيل.٣ وعندما لم تعد مصر قادرةً على تلبية حاجات الممولين الأوروبيين ذات الطبيعة الربوية، أغفلوا حقيقة أن مصر ليست بلدًا أسطوري الثروة، ولكنَّها مجرد قُطر يَدين بالطاعة لحاكم لا يُقدِّر المسئولية. وأدى عناد الدائنين الأوروبيين في التمسك بمطالبهم إلى تدخل بعض الحكومات الأوروبية لخلع إسماعيل، ووقعت مصر في نهاية المطاف تحت الاحتلال البريطاني، وتمثَّلت النتيجة الفورية لهذا الخراب في اضطراب النظام السياسي للبلاد، وبداية عملية إعادة التكيُّف سياسيًّا واجتماعيًّا مع الأوضاع الجديدة التي أسفرت عن سلسلة من الأزمات الداخلية؛ فقد أضرم التدخل الأجنبي الصراعات الكامنة من ناحية، كما أثار صراعات جديدة نتجت عن تحوُّل الهيكل الاجتماعي الاقتصادي من ناحية أخرى. تلك الصراعات التي أوجدت ذريعةً للاحتلال.

ولسنا بصدد مناقشة أسباب تلك التطورات المالية مناقشةً تفصيلية — رغم ما ترتَّب عليها من نتائج خطيرة — كما أننا لن نأخذ في اعتبارنا المسئوليات الشخصية عن تلك التطورات، سواء كانت مسئولية البنوك أو إسماعيل أو مستشاريه الماليين، ولن نضع النظريات الخاصة بالإمبريالية موضع الاختبار في هذا المقام. كذلك سنتجنب الحديث عن حجم الأموال التي بُعثرت أو أُنفقت لمصلحة مصر في المدى البعيد على الأقل، ولكنَّنا نود أن نُشير إلى أن القروض المختلفة كانت ذات قيمة اسمية وحسب، فمن بين اﻟ ٦٨٫٤ مليونًا من الجنيهات التي تلقتها مصر فيما بين ١٨٦٢‏–‏١٨٧٣م لم يصل إلى يد إسماعيل منها سوى ما يقل عن الثلثين، وبذلك يُصبح التساؤل حول مسئولية هذه السياسة وطريقة استخدام هذه المبالغ لا محل لهما، إذا وضعنا في اعتبارنا المستفيد الحقيقي من تلك الصفقات. فقد استغل الممولون الأوروبيون مصر بلا استحياء؛ ففي عام ١٨٧٧م بلغت مصروفات مصر حوالي ٩٫٥ ملايين من الجنيهات خُصِّص منها مبلغ ٧٫٥ ملايين لسداد فوائد القروض، كما خُصِّصت منها مبالغ صغيرة نسبيًّا لاستهلاك الديون الأوروبية، وكان على البلاد أن تدفع من المليونين الآخرين جزية الباب العالي، وبذلك لم يتبقَّ لأوجه الإنفاق الأخرى إلا أقل القليل. وفي عام ١٨٧٨م خُصِّص مبلغ ٧٫٤ ملايين من الجنيهات من إجمالي ميزانية الإنفاق — البالغ قدرها ١٠٫١٥ ملايين — لسداد متطلبات الديون والجزية العثمانية والمطالب المدنية الأخرى. ونجم عن ذلك أن الإنفاق الحكومي على المدارس — الذي كان بالغ التواضع — بلغ في العامين المذكورين من عهد إسماعيل وخلال عهد توفيق أدنى مستوى له (٤١٢٦٧ جنيهًا عام ١٨٧٧م و٣٤٠٤٠ عام ١٨٧٨م).

ورغم أننا لن نتناول بالتفصيل الصفقات المالية التي عقدها إسماعيل مع رجال البنوك الأجانب وحملة السندات المصرية، يجب أن نذكر القروض الداخلية لأهميتها الكبرى في الأزمة التي نعرض لها هنا؛ فإسماعيل لم يَسْعَ — ببساطة — إلى تدمير نفسه وتخريب مصر؛ فقد كانت هناك محاولات لحل مشكلات مصر المالية بشكل جذري وعلى مدًى قصير، عندما كان ذلك لا يزال ممكنًا، على سبيل المثال، كان مشروع المقابلة — الشيء المؤسف — يهدف إلى استهلاك الديون الحكومية استهلاكًا كاملًا.٤

وقام المجلس الخصوصي بصياغة مشروع قانون المقابلة، ثم رفعه إلى الخديو إسماعيل للتصديق عليه في ٢٨ أغسطس ١٨٧٦م، واعتمد مستشارو الخديو على المعلومات المقدمة من ناظر المالية والتي مؤداها أن نصف ضرائب الأطيان تكفي لسداد فوائد الديون الحكومية (التي بلغت عندئذٍ ثلاثين مليونًا من الجنيهات)؛ ولذلك رأوا إمكانية التخلص من الديون دفعةً واحدة بتجميع القوة المالية لجميع مُلاك الأراضي في البلاد؛ ومن ثَم يمكن الاستغناء عن نصف ضرائب الأطيان مستقبلًا ما دام يتم التخلص من فوائد الديون. وقد رأوا أن ديون الدولة يمكن أن تُستهلك إذا دفع مُلَّاك الأراضي مبلغًا يُعادل ستة أضعاف الضريبة السنوية على الأراضي على مدى ست سنوات مقدَّمًا بالإضافة إلى الضريبة السنوية، وقُدِّر دخل الدولة من ضريبة الأطيان عام ١٨٧١م بمبلغ ٥٫١٥ ملايين من الجنيهات، وبذلك كانت الحكومة تتوقَّع أن تحصل من المقابلة على نحو ٣١ مليونًا — بالإضافة إلى هذا المبلغ — وهو ما يُعادل قيمة المبالغ المستحقة للدائنين الأوروبيين.

وكانت توقُّعات الحكومة من وراء هذا القانون ذات بال إذ جاء فيه:

«… حصل التبصُّر بالمجلس في طريقة بها تدفع الأهالي لنفسها هذه الفوائد بأن تأخذ على ذمتها رأس مال الديون الملزومة بها البلدة حتى يمكنها التخلُّص من تلك الفوائد … تبين أنه إذا كانت أصحاب الأراضي تدفع أموال ست سنوات إلى الخزينة ويُعطى لهم مقابلة ذلك ربما باعتبار ثمانية وثلث المائة في السنة يُستنزل من أموال أطيانهم، فبذا يكون مال الست سنوات الذي يدفعونه بعد خصم الربح المحكي عنه كافيًا لسداد جميع ديون الحكومة … وتحقَّق أن هذا المقدار الذي يُخلِّصون منه الأهالي هو نصف الأموال المقررة سنويًّا على جميع الأراضي … ومن يدفع المقابلة عن مربوط مال أو عشور أطيانه ست سنوات يُرفع له قيمة نصف المربوط عليها الحالية هذه رفعًا مستمرًّا … ولا يحصل تصعيد درجات الأطيان العشورية ولا تعديل فيات ضرائب الأطيان الخراجية (مادة ٣).»٥

كما تضمَّن القانون تخفيض ضرائب الأطيان إلى النصف إلى الأبد مع التأكيد على إبقاء الضرائب في المستقبل عند الحد الذي يُعادل نصف قيمتها عام ١٨٧١م، مع الاستعداد الذي أبدته الحكومة لإعطاء حائزي الأطيان الخراجية التي تخضع للمقابلة حق الملكية التامة عليها.

وعندما أُوقف العمل بقانون المقابلة، أنحى الجميع باللائمة على واضعيه الذين تعرَّضوا لنقدٍ مُرٍّ من جانب الأوروبيين، ولكن القانون نجح في أن يترك انطباعًا في أوروبا، فنقرأ في أحد المطبوعات النمساوية أنه «بصدور هذا القانون ينضم رجال الدولة في مصر إلى صف أدهى الساسة الماليين في عصرنا»؛ فقد خطَوا «بهذا القرار على طريق التقدم».٦

ومن الصعوبة بمكان أن نقوم بأكثر من تخمين مدى اعتقاد واضعي القانون في إمكانية نجاحه، ومدى إخلاص إسماعيل عندما أصدر مرسومًا — في ٣٠ أغسطس ١٨٧١م — لوضع المشروع موضع التنفيذ؛ فقد جعل دفع المقابلة اختياريًّا، مما يوحي بأن احتمالات النجاح وإقبال جميع دافعي الضرائب على سدادها — بقدر كبير أو قليل من الحماس — من أجل تحرير البلاد من الأعباء التي ألقاها الحُكَّام على كواهلها، كان متوَقَّعًا، ولكن أولئك الذين اعتقدوا إمكانية نجاح المشروع عانَوا من خيبة أمل مريرة؛ لأنه فشل فشلًا ذريعًا.

ويرجع ذلك إلى المحاباة التي اتَّسم بها إسماعيل؛ فقد أمر بأن يتمتَّع الكثيرون من كبار المُلَّاك بمزايا المقابلة دون أن يدفعوا نصيبهم منها. ففي ظل القانون لم يدفع الكثيرون أكثر من ضرائبهم المتأخرة أو ضرائبهم العادية أو ما استُحِق عليهم من ديون للدولة أو سندات للخزانة، وعجز الآخرون عن الاستجابة لطلب الخديو لأنهم كانوا أنفسهم في رِبقة الدَّين، على حين فضَّل البعض الآخر أن يقتنوا أرضًا جديدةً بما لديهم من أموال. ولم يدفع المقابلة — أساسًا — إلا أولئك الذين أرادوا نَيل حق الملكية التامة لأراضيهم الخراجية، وأولئك الذين كانت حقوقهم على الأرض موضع شك.

واعترفت الحكومة بفشل المشروع بصورة غير مباشرة عندما تقرَّر — عام ١٨٧٣م — أن تُدفع المقابلة اعتبارًا من ذلك التاريخ على اثني عشر قسطًا بدلًا من ستة أقساط سنوية، وعندما أصبح دفع المقابلة إجباريًّا منذ عام ١٨٧٤م؛ وبذلك أصبحت المقابلة — من الناحية العملية — بمثابة ضريبة جديدة. وحتى إلغاء المقابلة في ٦ يناير ١٨٨٠م كانت قد جلبت إلى الخزانة مبلغًا قُدِّر ﺑ ١٦٫٥ مليونًا من الجنيهات، ولكن عندما قُدِّرت التعويضات التي يجب دفعها لمن دفعوا دين المقابلة لم يتم الاعتراف إلا ﺑ ٩٫٥ ملايين كديون صحيحة. وخلال العمل بقانون المقابلة، لم تقم الحكومة بالوفاء بالالتزامات التي تعهَّدت بها، بل قامت بإلقاء أعباء جديدة على كواهل مُلَّاك الأطيان الزراعية. أضف إلى ذلك أنه كان في حكم المقرَّر فرضُ ضريبة جديدة للدخل عند نهاية العمل بالقانون، ولكن هذا لا يعني أن المقابلة كانت منذ البداية عملًا ابتزازيًّا مُخطَّطًا، فربما كان الناس قد سعدوا بإمكانية التخلُّص من عبء الديون عندما ظنوا أن المقابلة حل عملي لها، واعتقدوا بإمكانية إقامة «نموذجٍ نادرٍ للانتعاش المالي» على نحو ما ذكر المجلس الخصوصي في الديباجة التي رفع بها المشروع إلى إسماعيل عام ١٨٧١م.٧

ولكن، تُرى ما الذي زرع تلك الثقة في نفوس دافعي الضرائب من أهل البلاد؟ بالطبع لم تكن تأكيدات إسماعيل هي التي زرعت تلك الثقة في نفوسهم، ولا يمكننا أن نلومهم إذا قصر نظرهم عن الاستفادة بالمزايا التي كان يُتيحها المشروع لهم، فلتحقيق المشروع على أساس اختياري كان لا بد من توفُّر ضمانات سياسية ودستورية، وكانت مصر في حاجة إلى حاكم مسئول حتى يمكن تنفيذ هذا المشروع بواسطة قانون حاسم وبطريقة شرعية أو أمينة. وأنى لدافعي الضرائب أن يوقنوا أن هذا المشروع لم يكن أكثر من مناورة غير صادقة قام بها إسماعيل ومستشاروه لإتاحة مصدر جديد لجمع المال حين أغلقت الحرب الألمانية-الفرنسية أبواب سوق المال في باريس؟

لقد كان المُناخ الاجتماعي السياسي لمصر يجعل الفشل متوقَّعًا حتى لو كان حُسن النية متوفرًا في المشروع، وبذلك لم تكن النتيجة مفاجِئَة. ولم يدرك المزايا التي يوفِّرها قانون المقابلة إلا القليل من أصحاب الحظوة الذين رأوا أن يستفيدوا من تلك المزايا. وكانوا هم أنفسهم الذين قاوموا إلغاء القانون — فيما بعد — دِفاعًا عن مصالحهم الاقتصادية، ولأسباب أخرى. أما بالنسبة لعامة الناس، فكانت المقابلة ضريبةً جديدة تظهر في الموازنة في صورة مبالغ ثابتة، ولم يتمتَّع الفلاحون بأي قدر ملحوظ من التخفيض في الضرائب، أو بحقوق الملكية التامة على أراضيهم الخراجية، بل على النقيض من ذلك كانت مزايا المقابلة عندهم مجرد سراب.

وفي عام ١٨٧٣م، حاول إسماعيل أن يدفع الشر بِشَر آخر، فعقد قرضًا خارجيًّا قيمته ٣٢ مليونًا من الجنيهات، وبذلك كرَّس الخراب المالي للبلاد، فلم يحصل الخديو من ذلك المبلغ إلا على ١١ مليونًا من الجنيهات نقدًا.٨

ومهما كانت الإجراءات التي اتخذها إسماعيل بعد ذلك — كإصدار قرض داخلي إجباري بخمسة ملايين جنيه (دين الروزنامة) في ١٨٧٤م، وبيع أسهم قناة السويس لإنجلترا مقابل أربعة ملايين جنيه في ١٨٧٥م — فإن تلك الإجراءات كانت مجرد قطرات تقع في المحيط؛ لأن مصر كانت تندفع بشدة نحو اليوم الذي تُشهِر فيه إفلاسها.

وبدأ الدائنون الأوروبيون يقلقون على مصالحهم، وفتحت بعثتا كيف Cave وأوتري Outré الباب أمام التدخل، كانت مصر بلدًا غنيًّا مزدهرًا، فإذا عجز الخديو عن الوفاء بالتزاماته المالية، تدخَّل الأوروبيون ببساطة لإدارة أمور البلاد والحصول على ما يرَونه حقًّا لهم. كان هذا أمرًا بديهيًّا؛ ففي مايو ١٨٧٦م أُنشئ صندوق الدَّين العام، ولكن لمَّا كان ذلك لم يُرضِ الدائنين الإنجليز، جاء جوشن وجوبير للتفاوض حول شروط أكثر سخاءً يتأكَّدان من الالتزام بها. ومن ثَم كان إنشاء المراقبة الثنائية في ١٨ نوفمبر ١٨٧٦م، وكان أمضى أسلحتها يتمثَّل في المراقبَين العامَّين حيث خُصِّص أحدهما لمراقبة إيرادات الخزانة المصرية وخُصِّص الآخر لمراقبة مصروفاتها؛ وبذلك خضعت مصر لإدارة «تفليسة إجبارية» أو حتى «حكم أوروبي استعماري مُقنَّع».
وعبثًا حاولت مصر على مدى عام أن تسد المطالب المالية الأوروبية، وعلى الأقل فيما يختص بالفوائد، وانهالت أحكام المحاكم المختلَطة (التي بدأت عملها في أول يناير ١٨٧٦م) على الحكومة المصرية بلا رحمة تكتم أنفاسها المالية، وقدَّر رياض باشا المبالغ التي دفعتها الحكومة المصرية — بموجب أحكام تلك المحاكم — سدادًا لمطالب وهمية أو تفتقر إلى أساس مُحدَّد، بعشرين مليونًا من الجنيهات.٩ وقيل إن إسماعيل قال لخادمه عندما كان يزوره أحد قناصي الفرص الأوروبيين: «أغلق هذه النافذة لأنه لو أصيب هذا السيد بنزلة برد فسوف يُكلِّفني هذا عشرة آلاف جنيه.»١٠ وظلَّ الموظفون دون رواتب، ورغم انخفاض مستوى الفيضان انخفاضًا شديدًا عام ١٨٧٤م أُجبِر الفلاحون على سداد الضرائب، وجُمِع مبلغ المليوني جنيه المستحقة لسداد كوبون مايو ١٨٧٨م (فائدة الدَّين المُوحَّد) من الفلاحين في أقصر وقت ممكن لإرضاء الدائنين المؤيدين بقناصل دولهم. وجُمِعَت ضرائب الأطيان عن السنة التالية مُقدَّمًا، وهو إجراء كان محلَّ سخط لجنة التحقيق الأوروبية فيما بعد.

وفي مايو ١٨٧٨م أصبح واضحًا استحالة استمرار الأوضاع على ما هي عليه، فكان لا بد من تخفيض فائدة الدين المُوحَّد أولًا عندما تبيَّن المعتدلون أهمية ذلك — عام ١٨٧٧م — ولكن بَدَا واضحًا أن الدائنين لن يقبلوا بذلك إلا بعد إجراء فحص شامل لمالية مصر للتأكد من قدرتها على السداد.

(٢) مصر في قبضة الدائنين

ومن أجل تخفيض فائدة الدين، اقترح إسماعيل نفسه تعيين لجنة تحقيق في خريف ١٨٧٧م. وحذَّر القنصل الفرنسي البارون دي ميشل من قَبول تشكيل مثل هذه اللجنة بالشروط التي حدَّدها الخديو، فأعطى انطباعًا بأن إسماعيل إنَّما يسعى لخداع أعضاء اللجنة في كل مديرية بحساباته الزائفة حلًّا لصعوباته المالية باستغلال الدوافع الإنسانية.

وأخيرًا بادر وكلاء الدائنين بإبلاغ ناظر المالية المصري — بخطاب صادر في ٩ يناير ١٨٧٨م — اقتراحهم بإجراء تحقيق شامل في أحوال مصر المالية، وعلى أيَّة حال كان الخديو مستعدًّا أن يسمح لهم بالتأكد من مستوى دخل البلاد فقط. في ٢٧ يناير ١٨٧٨م أصدر مرسومًا بتشكيل «لجنة التحقيق العليا» مُتجاهِلًا الاعتراضات التي أبداها وُكلاء الدائنين حول هذا الإجراء، وحدَّد عمل اللجنة بوضع أُسس إصلاح ميزانية الحكومة، والتحقيق في أسباب المفاسد المتعلقة بفرض الضرائب وعدم انتظام جبايتها، وتقدير موارد عام ١٨٧٨م مُقدَّمًا، وكان من حق اللجنة أن تستمد معلوماتها من أي جهة إدارية تشاء. ولم يُعيَّن أعضاء اللجنة إلا فيما بعد، ولكن كان واضحًا أن الخديو يعتزم تعيين جوردون باشا — حكمدار السودان عندئذٍ — رئيسًا للجنة.

ولكنَّ الدائنين الأوروبيين لم يرضَوا بهذا، وعبَّر دي ميشل — مرةً أخرى — عن موقفهم بما ورد في كتابه إلى باريس: يبدو واضحًا أكثر أن سُموه لن يخضع إلا بالقوة. وعلى النقيض من ذلك أكَّد إسماعيل في برقية أرسلها إلى الخارجية الفرنسية — في ٢٦ فبراير — رغبته الصادقة في «إلقاء الضوء الكامل على الوضع المالي» ولكنَّه رفض المطالب الأخرى بعبارات قوية جاء فيها: «ولكنَّني لا أستطيع أن أقبل بمطالب الوكلاء التي تجعل لهم سلطةً على حكومتي تفوق سلطتي، وهو ما لن أقبل به أبدًا.»١١
لقد كان إسماعيل يعرف جيدًا معنى إعطاء الأوروبيين موطئ قدم عند أبواب البلاد، ولم يكن ليُضحِّي بسلطته باستقلال مصر السياسي النسبي لأولئك الذين أرادوا اغتصابها بوقاحة واستعلاء. ومن الناحية الاقتصادية، أصبحت مصر — منذ ١٨٧٦م — ضَيْعَةً بعيدة يملكها المُلَّاك الغائبون الأوروبيون، رغم أن تلك الحقيقة ظلَّت غائبةً عن إدراك البلاد، وكان تشكيل لجنة تحقيق وفق شروط الدائنين من شأنه أن يكشف وضع الخديو أمام رعاياه.١٢
وبحلول منتصف مارس ١٨٧٨م، أصبح إسماعيل مُستسلمًا لمصيره، مستعدًّا للقَبول بشروط الدائنين، وفي يونيو أبرق دي ميشل إلى باريس بأخبار نجاح الصراع مع الخديو قائلًا: «لقد تلاشت قدرته على المقاومة.»١٣ وكان إسماعيل يخشى أن يتعرَّض لخطر البقاء على هامش السياسة المصرية التي أصبحت تُمليها أوروبا، فلم يكن هناك مفرٌّ من أن يتدخَّل بطريق التآمر ليجعل الأمور عسيرةً أمام السادة الجدد، على أساس التأكيد على نفوذه الشخصي المؤثر في البلاد وذلك بمساعدة جماعة من أتباعه المخلصين. لقد كان إسماعيل يعلم أن سلطته كانت لا تزال فعَّالة؛ ومن ثَم لم يكن هدفه هو مجرد الانتقام، بل كان يسعى لاسترداد سلطته. وتجمَّع «مماليكه» — الذين كانوا يفقدون سيطرتهم على البلاد مثله — حوله كقوة معارضة ضد الأوروبيين الغاضبين. وفي ربيع ١٨٧٩م أصبح إسماعيل أحد الشخصيات الهامة التي تُدافع عن استقلال مصر النسبي، الذي كان يعني بالنسبة له استقلال الحاكم.
وهكذا شُكِّلت لجنة تحقيق «ذات صلاحيات واسعة» وفق شروط الأوروبيين بموجب الأمر الصادر في ٣٠ مارس ١٨٧٨م، على أن يتضمَّن التحقيق جميع جوانب الأوضاع المالية للبلاد دون أن يأخذ في الاعتبار «الحقوق الشرعية» للحكومة المصرية، وكان على جميع الموظفين — بما فيهم النُّظار — أن يُمِدوا اللجنة بما تحتاجه من بيانات فور طلبها.١٤ وعُيِّن فردينان ديلسبس رئيسًا للجنة، ولكنَّه غادر البلاد بعد ذلك ببضعة أسابيع، وظلَّت رئاسة اللجنة بيد اثنين من نواب الرئيس هما السير ريفرزولسون ورياض باشا. وضمَّت اللجنة في عضويتها «وكلاء الدائنين» الأربعة، وتولَّى أمانتها أحد الفرنسيين.

وكان انضمام رياض إلى اللجنة نتيجة إصرار إسماعيل على تمثيل «العنصر المحلي» حتى لا يظل الخديو وحكومته بمنأًى عن أعمالها، غير أن رياضًا ما لبث أن تضامن مع أعضاء اللجنة مما جعله محل تقدير كرومر، ولكن كان من الضروري تقديم الضمانات له حتى لا يتعرَّض لبطش إسماعيل.

ورفض شريف باشا١٥ — أخيرًا — أن يَمثُل أمام اللجنة في ٣ يونيو ١٨٧٨م عندما طُلب منه أن يُدلي بشهادة شفوية حول القوانين المالية للبلاد باعتباره ناظرًا للحقانية، وأبدى استعداده أن يُقدِّم إجابةً تحريرية على أسئلة مكتوبة تُقدِّمها له اللجنة، وعندما رفضت اللجنة ذلك استقال من منصبة كناظر للخارجية والحقانية، بسبب شخصيته القوية، وحتى لا يُشارك في عمل وكلاء الدائنين الغاصبين، ليُظهِر تأييده لإسماعيل. ولكن المُعارَضة كانت عبثًا، ورفض إسماعيل التنازل عن ممتلكاته غير أنه ما لبث أن أَذِنَ لكبار الموظفين بالمثول أمام اللجنة، غير أنه أصرَّ على عدم الكشف عن الطريقة التي كوَّن بها ممتلكاته كما فَعَل من فَعَل. غير أن وَضع العقبات في طريق اللجنة جعل الأوروبيين يضيقون ذرعًا بتلك التصرفات، كما جعلهم أكثر إلحاحًا في استقصاءاتهم. ومَثلَ أمام اللجنة بعض جواري والدة عباس باشا الأول لتقديم شكايتهن إلى اللجنة ضد الحكومة التي صادرت ممتلكاتهن والتي توقَّفت عن دفع معاشاتهن، وعندما غادرن مقرَّ اللجنة قُبِضَ عليهن بأمر ناظر الضبطية، فأصرَّ ولسون على ضرورة قيام الخديو بفصل ناظر الضبطية، فلم يجد إسماعيل مفرًّا من الاستجابة للطلب، غير أنه عيَّن الناظر المفصول مديرًا للشرقية. وأصرَّ القنصل النمساوي على ضرورة ضرب عنق إسماعيل ﺑ «سيف الطغيان» وإلا فلن تكون هناك نهاية «للاضطراب المالي».١٦

وشكا الخديو — من جانبه — إلى مُمثلي الدول من تصرفات اللجنة، زاعِمًا أن أعضاءها يُضمِرون له عداءً شخصيًّا، ويُحاوِلون المساس بما تبقَّى له من سلطة ومكانة، كما زعم أن اللجنة خلعت على نفسها سلطةً قضائية وأنها تسعى — بصورة واضحة — إلى إدانته، وإنَّه إذا كان لا بد من مثوله أمام محكمة، فلا يجب أن يكون ذلك أمام تلك التي أقامها بنفسه.

ولكن القناصل لم يُبدوا تعاطفهم مع إسماعيل، فراح يلتمس العون من غيرهم. ولمَّا كان رياض قد خيَّب الآمال التي عقدها الخديو عليه، ولم تُجدِ استقالة شريف نفعًا، تذكَّر الخديو نوبار — الذي مثَّل مصالحه أمام الدول في الستينيات والسبعينيات — رغم عدم مقدرته على مُعالَجة الصعاب الداخلية. وكان نوبار يُقيم بأوروبا منذ عام ١٨٧٦م، حيث قضى العديد من سنوات خدمته هناك، ولكن لعلَّه كان في وضع يسمح له بمدافعة الدائنين الأجانب والحد من غَلْوَاء ممثِّليهم المتغطرسين في مصر.

وكان إسماعيل قد استدعى نوبار من قبل — بعد أن أبعده بازدراء — ليُدافع عن مصالحه الخاصة باستبدال المحاكم المختلطة بالمحاكم القنصلية، ثم طرده إسماعيل فيما بعد عندما بدا نفوذه قويًّا أو كان في سبيله أن يصبح كذلك.

وعلى أيَّة حال، وجد الخديو نفسه، في حاجة إلى قدرات نوبار الدبلوماسية — على وجه التحديد — مرةً أخرى. وفي نهاية يونيو كلَّف إسماعيل ولده حسين أن يُعلِم نوبار أن سيده قد منحه الحظوة مرةً أخرى، وأنه برئ من الشكوك التي ثارت حول تآمره ضد إسماعيل قبل نفيه عام ١٨٧٦م، وأنه يستطيع أن يتولَّى أي منصب يشاء من مناصب الحكومة المصرية، فأَوفَد حسين تيجران بك إلى باريس لإبلاغ نوبار تلك الرسالة.

ولكن نوبار اعتبر أن عصر إسماعيل يقترب من نهايته؛ فقد كان من بين أولئك الذين تحقَّقوا من ضعف سلطة إسماعيل، ورأى أن باستطاعته أن يُملي شروطه على الخديو، فإذا قَبِل الأخير بتلك الشروط عاد إلى مصر. فكتب إلى الأمير حسين مُطالِبًا بضمان عدم تعرُّضه للسخط الخديويِّ مرةً أخرى وألَّا «يُنفى من بلاده قسرًا مرةً أخرى».١٧

ووضع نوبار شرطين أساسيين؛ أولهما ذو طبيعة شخصية وهو تولية صديقه ولسون نظارة المالية، أما الشرط الثاني فكان فنيًّا؛ إذ طالب بوضع برنامج إصلاحي وضمان تنفيذه بدقة، قبل أن يتولَّى تشكيل الحكومة. وعلى أيَّة حال، طلب إسماعيل من نوبار العودة إلى مصر على جناح السرعة، فوصلها في ١٥ أغسطس، وفي لقائه الأول مع الخديو شكا له الأخير من التدخل الأوروبي، ومن النية المتجهة إلى تجريده وأسرته من أملاكهم الخاصة، فخيَّب نوبار أمله خيبةً مُرة عندما أبلغه أنه ليس أمامه من خيار سوى أن يستسلم للأمر.

ورأى نوبار أن الفرصة قد واتته ليضع سياسات مصرية؛ فالفارق الوحيد بين قَبول منصب رئيس نُظَّار إسماعيل ومنصب الحاكم العام لحساب القوى الأوروبية هو أن إسماعيل كان الأقرب، وعقد العزم على ألَّا يسمح لإسماعيل باستخدامه مرةً أخرى وطرده متى راق له ذلك. فعندما سأله قيصر ألمانيا — عام ١٨٧٤م — عن سبب طرد إسماعيل له أجاب بقوله: «إن السبب يرجع إلى سلطته المطلقة التي لا حدود لها.»١٨ فكان لا بد من تغيير ذلك. وكان في جَعبة نوبار برنامج لحل المشكلات العاجلة، وهو برنامج لا يستطيع تنفيذه إلَّا بتأييد الدول الأوروبية. وحدَّد الأهداف الرئيسية لسياسته على النحو التالي: «عدم المساس برفاهية بلادنا، واستقلالها الإداري وحرية حكومتها في التصرف.»١٩ ومن ثم يُصبح المُصلحَ والمُخلِّص وصانع مصر الحديثة. ونظرًا لضخامة العمل الذي عليه القيام به، يجب ألَّا نتساءل عمَّن ينوي الاعتماد عليهم. فلا يذكر من ترجموا لنوبار — في مجال إطراء وطنيته الفذة — إلَّا حُسن تقديره للأمور كدافع لقَبوله تأليف الوزارة في أغسطس ١٨٧٨م، ولكن نوبار كان يعتقد أنه صاحب رسالة على نحو ما ذكر لفون كريمر في رسالة كتبها له بعد عام واحد من توليه الوزارة: «لك أن تعتقد مثلما أعتقد أنه لم يكن قد تبقَّى الكثير من مصر قبل توليتي، ولا تزال مصر تنتظر الكثير مني.»٢٠
وفي ٢٠ أغسطس ١٨٧٨م، قدَّمت لجنة التحقيق تقريرًا شاملًا عن عملها٢١ أوصت فيه بعدد كبير من الإصلاحات المالية والإدارية والسياسية التي يجب إدخالها حتى قبل أن تُنهي اللجنة تحقيقاتها. وكان من شأن هذه الإصلاحات أن تخدم «تقدُّم» مصر ظاهرًا، وتهدف إلى تغيير أوضاع البلاد لتُدار على نحو يجعلها تتحوَّل إلى ضَيْعَةٍ غنية تُدِرُّ المزيد من الأرباح على الدائنين الأوروبيين، ورأت اللجنة أن تفرض الضرائب بقوانين مُعدَّة إعدادًا جيدًا على أن يخضع لها جميع سكان البلاد دون تميُّز، وأن يتم إصلاح نظام الجباية، فلا تُجنى الضرائب إلَّا على أُسس تتلاءم مع ظروف دافعيها، ولا تُجبى الضرائب مقدمًا مرةً أخرى، على أن يُخضِع جِبايَتها لرقابة صارمة. وأن تُقرَّر ضرائب الأطيان على أساس مسحٍ جديد للأراضي، وأن يتم إلغاء عدد ملحوظ من الضرائب ذات العائد المحدود التي تُرهق الخاضعين لها، وأن تنشأ سلطةٌ قضائية مستقلة للنظر في المسائل الإدارية والمالية، ويتم نشر الموازنة السنوية للبلاد، ولا تُوزَّع مياه الري ويُجنَّد الفلاحون في الجيش ويُعَبَّئون للاشتغال بالسخرة بموجب قرارات عشوائية.٢٢

كانت تلك اقتراحات الإصلاح بعيد المدى التي اقترحتها اللجنة، ولكن تنفيذها على هذا النحو، ووضع مصر تحت الرقابة الأوروبية، لا يمكن أن يتم إلَّا إذا أُنْقِصَت صلاحيات الخديو السياسية والاقتصادية إلى أدنى حدٍّ ممكن. وبذلك أكَّد الأوروبيون حقيقة أن المبادئ الأساسية للسياسة المصرية يجب أن تُقرَّر — من الآن فصاعدًا — بواسطة الدول المسيطرة والمتعاونين معهم على إقصاء إسماعيل. أضف إلى ذلك، نقل ملكية نصف أطيان العائلة الخديوية — الخالية من الرهونات — إلى الدولة، في مقابل مُخصَّصات مالية يحصلون عليها من الخزانة العامة. وبذلك يتم نزع السلطة السياسية والاقتصادية من الخديو، كما يتم الفصل بين القطاعين العام والخاص؛ إذ يجب أن تُصبح البلاد قادرةً على البقاء بمعزِل عن المصالح الخاصة للأسرة الحاكمة سياسيًّا واقتصاديًّا، كما يجب تحويل مصر من ضَيْعَة خاصة لإسماعيل خرَّبها سوء إداراته المالية، إلى مشروع مربح يُدار على أُسس اقتصادية أوروبية. وبذلك يطمئنُّ الفلاحون والمُوظَّفون إلى أن أحوالهم سوف تتحسَّن في ظل الإدارة الجديدة، حتى لو كان هدفها النهائي ضمان سداد الديون بشكل منتظم. وكان على الإدارة أن تتأكَّد من أن الفلاحين سيدفعون الضرائب بصورة منتظمة وبمُعدَّلات معقولة. أما بالنسبة للموظفين فكانت أُولى توصيات اللجنة تهدف إلى إيجاد تسوية مُرضية لمسألة الرواتب (ولكنَّها أعطت انطباعًا — في نفس الوقت — أن الموظفين الزائدين عن الحاجة يجب فصلهم)؛ ففي ١٢ مايو ١٨٧٨م نُشِر مرسوم بالوقائع المصرية بصرف رواتب جميع الموظفين الذين يحصلون على رواتبهم من الخزانة بانتظام اعتبارًا من أول مايو، وتقرَّر بالإضافة إلى ذلك صرف الرواتب المتأخرة تدريجيًّا.

(٣) الوزارة الأوروبية

استدعى إسماعيل نوبار الذي كان «مُمثِّله الدبلوماسي الخاص» لفترة طويلة لعله يستطيع أن يَحُول دون إقصاء إسماعيل بالتوسط بينه وبين الدول الأوروبية، ولكن نوبار لم يفعل مع القناصل ما هو أكثر من السخرية من الخديو الذي قال عنه إنَّه لم يتبقَّ له سوى أن يتألَّم لفقده دائرته. وبدلًا من التوسط لصالح الخديو، اقترح على إسماعيل برنامجًا من ثلاث نقاط يتفق مع المطالب الثلاثة التي تقدَّمت بها لجنة التحقيق هي: تطبيق الإصلاحات القضائية الخاصة بحماية الأهالي من بطش الحكومة، وتنازل الخديو وأسرته عن ملكياتهم الخاصة — غير المرهونة — للدولة، مقابل مُخصَّصات مالية تُصرف لهم. وهكذا اتخذ نوبار موقفًا مؤيدًا تمامًا لتقرير لجنة التحقيق، ونجح في حث إسماعيل على القَبول بالتقرير والبرنامج الذي اقترحه عليه قَبولًا تلقائيًّا، وهدَّد بأنه في حالة عجز الخديو عن القَبول بتلك المقترحات فإنَّ نوبار وولسون سوف يُغادران مصر في ٢٧ أغسطس ويتركان للدول حل المسألة كيفما تشاء.

تُرى، ماذا يفعل إسماعيل بعدما أفقدته الظروف صوابه؟ فهل يتحدَّى الدول ولو أدَّى ذلك إلى التعرض لخطر التدخل العسكري؟ لقد كان موقف الباب العالي غير مضمون، كما أنه لم تعد لديه الأموال التي يرشو بها السلطات ومستشاريه ليقفوا إلى جانبه، تُرى، هل تظل مصر دولةً «متحضرة» إذا أصرَّ على التمسك بسلطته المطلقة وقاوم الدول مباشرةً أو عن طريق السلطان باتخاذ إجراءات حاسمة؟ لم يتبقَّ له سوى أن يستسلم للهوان، ويقبل به إلى حين، ثم ينتقم لنفسه فيما بعد، فاستعادته لسلطته مسألة وقت، فَلْيَدَع نوبار وولسون يُوجِّهان مصير البلاد إلى حين، فلن يلبث إسماعيل أن يُثبت أنه لا غِنى عنه، ويجمع زمام الأمور في يده باعتبار سلطته الفردية هي السلطة الوحيدة التي يمكن الركون إليها عندما تعم الفوضى، وعندئذٍ سيتوسَّلون إليه حتى تعود إليه السلطة.

وفي ٢٣ أغسطس، ألقى الخديو بيانًا رسميًّا في حضرة ولسون، كان نوبار قد أعدَّه من قبل. وكان من الطبيعي أن يتضمَّن ذلك البيان قَبوله بمقترحات لجنة التحقيق مؤكِّدًا أنه عندما طالب بهذا التحقيق كان يُفكِّر في مصلحة البلاد «فلم تعد بلادنا أفريقية؛ فقد حوَّلناها في الواقع إلى قطعة من أوروبا، فطبيعي أن نطرح الأخطاء جانبًا، وأن نسير على نظام يتفق وحالتنا الاجتماعية.»

وأنه قد عهد إلى نوبار باشا بتشكيل الحكومة وتنفيذ برنامج الإصلاح.

وإذا كان حلم إسماعيل بالحضارة والتقدُّم لم يبلغ مثل هذه الذروة الكلامية من قبل، فلم يكن ذلك بالتأكيد يعني أن مصر قد أصبحت — عندئذ — قطعةً من أوروبا على النحو الذي قُسمت به هذه العبارة في أكثر من مناسبة، فإذا أخذنا في اعتبارنا الخلفية التاريخية، نجد أن نوبار كتب هذه العبارة التي تحمل معاني السخرية المُرَّة. ولا ريب أن الخديو نجح في قراءة البيان كما لو كان يؤمن بما جاء به؛ فقد كان ماهرًا في التأقلم مع الأوضاع الجديدة. ولكن تُرى ماذا كانت حقيقة مشاعره عندئذ؟ إنَّه لم يرغب أبدًا في إقامة لجنة التحقيق، وكان يحلم بإمبراطورية أفريقية مصرية ذات قاعدة «متحضِّرة» تقوم على أرض مصر، وأن تولي القاهرة والإسكندرية وجهها الحضاري والاقتصادي صوب أوروبا، ولكن لم يكن يحلم بمصر على النحو الذي أصبحت عليه، يرتبط مصيرها بأوروبا.

وبقَبول الخديو لطلبات لجنة التحقيق، أنكر القناصل أنهم قد مارسوا أي ضغط عليه من أجل قَبولها، وإن كان مثل هذا الضغط لم يكن مطلوبًا؛ فقد قام نوبار وصديقه ولسون — الذي أصبح الشخصية الرئيسية في اللجنة بعد رحيل ديلسبس — عمليًّا بدفع إسماعيل إلى القَبول بتلك الطلبات. وإن كان نوبار حريصًا على أن يترك انطباعًا بأنه قد احتلَّ مكانه من السلطة من خلال النفوذ البريطاني أو الأوروبي؛ إذ يزعم أحد أصدقائه أن نوبار هو «المصري الذي يتصدى لإنقاذ مصر.»٢٣

وفي الأمر الذي وجَّهه إسماعيل إلى نوبار في ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م حاول أن يُحدِّد ما يُسمَّى بمبدأ «المسئولية الوزارية» فقال:

«أردت في وقت مباشرتكم لمأمورية تشكيل هيئة النِّظَارة الجديدة التي فوَّضتُ أمرها إليكم أن أؤكِّد لكم ما توجَّه قصدي إليه وثبت عزمي عليه من إصلاح الإدارة وتنظيمها على قواعد مماثلة للقواعد المرعية في إدارات ممالك أوروبا. وأريد عوضًا عن الانفراد بالأمر المتخذ الآن قاعدةً في الحكومة المصرية، سلطةً يكون لها إدارة عامة على المصالح تعادلها قوة موازنة في مجلس النُّظار، بمعنى أني أروم القيام بالأمر من الآن فصاعدًا باستعانة مجلس النُّظار والمشاركة معه. وعلى هذا الترتيب أرى أن إجراء الإصلاحات التي نبَّهت عليها يستلزم أن يكون أعضاء مجلس النُّظار بعضهم لبعض كفيلًا، فإن الأمر لا بد منه.» فهو يرى أن تُناقَش جميع المسائل الهامة بمجلس النُّظَّار، وتُتخَذ القرارات بأغلبية الآراء ثم يُصدِّق عليها الخديو، وأن يكون تعيين وفصل كبار الموظفين — وعلى رأسهم المديرين ونُظار الضبطية — بالاتفاق بين الناظر المختص ورئيس مجلس النظار وموافقة الخديو، وختم إسماعيل الأمر بتأسيس مجلس النُّظار بقوله: «وإني أرى أن تشكيل هيئة نِظارة حائزة لهذه الخصوصيات ليس مخالِفًا لعوائدنا وأخلاقنا، ولا لآرائنا وأفكارنا، بل موافقًا لأحكام الشريعة الغَرَّاء.»٢٤

كان هذا المرسوم وثيقةً على قدرٍ كبير من الغموض من وِجهة نظر القانون الدستوري؛ فقد شَكَّلت الرقابة الثنائية للدولتين الأوروبيتين أساس نظام «المسئولية الوزارية» وأخذُ معظم المؤلفين بهذا الأمر قضيةٌ مُسلَّمة، ولكن تلك الحقيقة لم تظهر في الوثائق المصرية. وفي البيان الصادر في ٢٣ أغسطس، استخدم مصطلح «استقلال الوزراء»؛ فقد كان نوبار يسعى لتحقيق هذه الغاية ولا شيء سواها، وفي مرسوم ٢٨ أغسطس، تحدَّث إسماعيل عن تضامن الوزراء أيما كان مغزاه من الناحية العملية، حقًّا استُخدمت عبارة «المسئولية» في هذه الوثيقة، ولكن ذلك لم يكن في إطار قانوني سياسي دستوري: «ينعقد مجلس النظار تحت رئاستكم؛ لأني فوَّضت هذا التنظيم الجديد تحت عُهدتكم، وجعلت مسئوليته عليكم.»

وبعبارة أخرى، أراد إسماعيل ألَّا يكون له دخل في عمل المؤسسة الجديدة حتى لا يتحمَّل مسئولية فشلها، رغم أن المسألة بالنسبة له كانت مسألة وقت.

ومن الناحية القانونية، لم تكن هذه الوزارة مسئولةً أمام أحد؛ فهي ليست مسئولةً أمام الخديو أو أمام مجلس شورى النواب، أو أمام الشعب على نحو ما ذكر النواب في رَدِّهم على خطاب العرش في عام ١٨٧٩م، في الوقت الذي أعربوا للخديو فيه عن شكرهم لدعوته المجلس إلى الانعقاد ولتأسيسه مجلس النظار. وكما ذكر القنصل الأمريكي في تقريره لحكومته: «كانت الوزارة وزارةً غير مسئولة تخدم مصالح الدائنين الأجانب.»٢٥ ولم يكن ما يُسمَّى بالمسئولية الوزارية سوى ورقة التوت التي حاولت بها دولتا المراقبة الثنائية أن تستر عورة هذه الوزارة التي تضم وزراء من الأجانب والمتعاونين معهم.
واعتبر البعض مرسوم ٢٨ أغسطس «ماجناكارتا» مصرية،٢٦ أو دستورًا ثوريًّا وأنه لم يكن الغرض منه مجرد الدعاية السياسية.

ولا يتضح لنا مقدار الحقوق التي بقيت للخديو بعد تشكيل هذه الوزارة، فلم يكن إسماعيل قد تنازل عن الحكم بعد، كما لا يزال يعتقد بقدرته على تحديد الاتجاه العام للسياسة المصرية. وإن كان نوبار قد حرمه من حق رئاسة مجلس النُّظَّار، ولم يعد لإسماعيل سوى أن يُوقِّع على قرارات المجلس لتكتسب الصفة القانونية. ولكن، ماذا يحدث لو رفض الخديو التوقيع على تلك القرارات على أساس أنها لا تتمشَّى مع السياسة العامة التي يراها؟ على كلٍّ نتيجةُ مِثلِ هذا الرفضِ لم تكن في الحسبان.

وبالطبع، لا يمكن أن يحتفظ نوبار بمنصبه على أساس بضع وُريقات، فإذا اقتصر دور الخديو على قراءة البيانات التي يصوغها رئيس مجلس النظار والتي يتضمَّنها خطاب العرش، فإن نوبار كان بحاجة إلى سلطة الخديو إلى جانبه؛ إذ لم يكن له أتباع بين الطبقة الحاكمة أو بين أعيان البلاد، كما لم يكن باستطاعته أن يجمع حوله مثل أولئك الأتباع إذا تحقَّقت الإصلاحات التي ينشدها. ومن ثم، كان يُعوِّل على التأييد الكامل لدولتي المراقبة وبخاصة بريطانيا. ومن ناحية أخرى، كان نوبار بحاجة إلى مجموعة من كبار الموظفين الأكْفَاء الذين لا يتردَّدون في التعاون معه.

وفيما يتعلَّق بتشكيل مجلس النُّظَّار، كان واضحًا منذ البداية أن نوبار سيحتفظ لنفسه بنِظَارَتَي الخارجية والحقانية، ويُسنِد المالية إلى ولسون والداخلية إلى رياض باشا الذي كان سندًا لولسون في لجنة التحقيق، والمعارف والأوقاف إلى علي مبارك صديق رياض وصنيعته.٢٧ ولكن التشكيل النهائي للمجلس امتدَّ حتى نهاية العام. فعندما أسند نوبار نظارة المالية إلى ولسون الإنجليزي، كان عليه أن يتوقَّع أن تُطالب الحكومة الفرنسية بمقعد في مجلس النُّظَّار؛ ولذلك ترك منصب ناظر الأشغال العمومية شاغرًا، غير أنه أراد إسناده إلى رجل فرنسي يختاره بمعرفته، وأراد بذلك أن يُبرهن لنفسه وللرأي العام المصري على استقلاليته، لعله يستطيع أن يتجنَّب الاتهام بأنه مخلب قِط للأجانب. وكانت فرنسا تعتبر نوبار مواليًا للإنجليز؛ ولذلك لم يكن يتوقَّع أن يتعاطف معه أحد إذا قاوم ضغوط الحكومة الفرنسية، كما أن التنافس الإنجليزي الفرنسي يَحُول دون المناورات التي تستهدف النَّيل من مركزه. ولكن نوبار فشل في أن يُقيم البرهان على استقلاله المزعوم.
فقد جاءت المطالبة الفرنسية بنصيب في الوزارة في ٣ سبتمبر، ورفض نوبار هذه المطالب بحجة أنه أشرك ولسون في الوزارة باعتباره خبيرًا ماليًّا وليس باعتباره إنجليزيًّا، وأنه رمى إلى تشكيل وزارة مصرية وليس وزارة دولية. وأعلن للقنصل الفرنسي أن: «الدول تُفكِّر في حرمان مصر من حريتها، وترغب رغبةً قويةً في سلبها قدرتها على صياغة قوانينها. إنَّني لا أُريد مناقشة ذلك الآن، ولكن يجب أن يكون لنا حق ضبط أمورنا الداخلية (دون تدخل خارجي)»،٢٨ وأن على الحكومة الفرنسية أن تُقدِّم وجهة نظرها في مذكرة مكتوبة حتى يتسنى له دراستها ليُقرِّر ما إذا كان باستطاعته أن يستمر في منصبه، غير أن الحكومة الفرنسية رفضت هذا الاقتراح.
وفي ٧ سبتمبر، استسلم نوبار للمطالب الفرنسية، وأعلن أنه يعتزم تعيين المسيو كوفيه Cauvet — صديقه الشخصي ومدير الدراسات بالمدرسة المركزية — ناظرًا للأشغال العمومية، ولكنَّه قد يسحب هذا العرض إذا فسَّرته الحكومة الفرنسية على أنه امتياز لفرنسا. وقدَّم طلبًا رسميًّا — بعد ذلك بأسبوع — إلى الحكومة الفرنسية لتأذن للمسيو كوفيه بالانضمام إلى مجلس النُّظَّار المصري، غير أن باريس كان لديها مُرَشَّح آخر، ولم تكن على استعداد للقَبول بحل وسط. وفي ٢٢ سبتمبر استسلم نوبار، وقَبِل بتعيين المسيو بلنيير M. de Bligniére ناظرًا للأشغال العمومية ومشرفًا على الموانئ والسكك الحديدية، ولكن ذلك ما لم تكن تقبل به الحكومة الإنجليزية بأي حال من الأحوال، وقيل إن نوبار تعجَّب من ذلك وقال يائسًا: «لقد كنت أحلم باستقلال مصر، فإذا بإنجلترا وفرنسا يُبرهنان لي اليوم على أنني كنت مخدوعًا.»٢٩ فلم يكن باستطاعته أن يُعلِّق الآمال على تلك المنافسات لتحقيق القناعة لنفسه أو للرأي العام. وعندما طالبت إيطاليا — في منتصف سبتمبر — بمنصب وزاري، ولم يكن باستطاعته رفض هذا الطلب، نفد صبر نوبار، وذكر للقنصل الإيطالي — في نهاية أكتوبر — أنه إذا كانت حكومته تُصر على أن تنال منصبًا وزاريًّا كمنصب ناظر الحقانية مثلًا، فعليها أن تتقدَّم بطلبها إلى لندن أو باريس؛ لأن المسائل المتعلقة بمصر تتقرَّر هناك. وسواء كان دي مارتينو — القنصل الإيطالي — قد أخذ كلام نوبار على أنه كلام بريء أو وقح، فإنَّه عاد بعد ذلك بقليل ليخبر نوبار أن بلاده على اتفاق تام مع الدول الغربية. ورفض نوبار الطلب الإيطالي — بعد استشارة ولسون — رغم التهديدات السافرة من القنصل الإيطالي بضرورة سداد جميع الالتزامات المالية المصرية للدائنين الإيطاليين في حالة عدم الاستجابة للطلب.
ويمكن أن نعتبر تشكيل الوزارة قد تمَّ عندما نشرت الوقائع المصرية — في ١٢ ديسمبر — أسماء النُّظار والنِّظَارَات التي أُسندت إليهم. ونُقِلَت السكك الحديدية والموانئ — فيما عدا ميناء الإسكندرية — من اختصاص نظارة الأشغال العمومية إلى اختصاص نظارة المالية، واستطاع إسماعيل أن يدفع بأحد «مماليكه» المخلصين — راتب باشا — إلى مقعد ناظر الحربية.٣٠ ووفقًا لما جاء بالوثائق البريطانية، لم يكن نوبار يقبل شريفًا بالوزارة، ولكن الأخير لم يكن ليقبل الاشتراك في الوزارة على أي حال.

وكان لنوبار عدد محدود من المؤيدين الذين يمكنه الاعتماد عليهم؛ فقد كسب بعض الخبراء الأوروبيين إلى جانبه وضمن تعاونهم معه، ولكن لم يكن هناك من يؤيِّده بمصر سوى الأرمن، فلا عجب إذا وجدناه يلجأ إلى المحسوبية فخصَّ ولده بوغوص بمنصب هام في إدارة السكك الحديدية، وأصبح رئيسًا لديوان الخديو، وأسند أمانة مجلس النُّظار إلى صهره تيجران بك.

ومثلما حدث عند تشكيل الوزارة، امتدَّ انتقال ملكيات العائلة الخديوية — غير المرهونة — إلى الدولة إلى نهاية أكتوبر؛ فلم يكن إسماعيل على استعداد للتنازل عن ممتلكاته بنفس الطريقة التي تنازل بها عن سلطته السياسية برَحَابَة صدر، بل على نقيض ذلك، ناضل إسماعيل من أجل الاحتفاظ بكل شبر من ممتلكاته. وبدلًا من أن يتنازل عن اﻟ ٤٣١٩١٥ فدانًا كما كان متوقعًا، نَصَّ القرار الصادر في ٢٦ أكتوبر ١٨٧٨م على تنازله وأفراد أسرته عن ٤٢٥٧٢٣ فدانًا و١٦ عقارًا؛ فقد سمح له نوبار بالاحتفاظ ببعض الحدائق والبساتين التي تقع حول القصور التي بقيت بيده ويد أفراد أسرته. وبعد بضعة شهور احتجَّ إسماعيل على قرار التنازل، زاعمًا أنه — رغم تنازله عن الأراضي — فإن ذلك لا يتضمَّن ما عليها من معدات ومنشآت، وطالب بتعويض مالي نظير تلك الأشياء مقداره ٢٠٠ ألف جنيه، ولكنَّ أحدًا لم يكن على استعداد أن يدفع له مثل هذا المبلغ.٣١

وبدأ نوبار العمل بحماس كبير، ولكنَّه كان مُفرِطًا في تفاؤله فيما يتعلَّق بالأوضاع الاقتصادية للبلاد، فوضع خطةً نظرية تفصيلية لحل المشكلات المالية للبلاد، تضمَّنت تخفيض نسبة الفائدة على الدين العام، وزيادة ضرائب الأطيان العشورية، وإلغاء الامتيازات الضريبية التي تمتَّع بها الأوروبيون. غير أن موازنة عام ١٨٧٨م كانت تُعاني عجزًا كبيرًا؛ ففي مقابل مبلغ ١٠٫١٥ ملايين من الجنيهات خُصِّصت للمصروفات، كان حجم الإيرادات ٨٫٢٥ ملايين لا يزال تحصيلها موضع شك.

وكان آخر قرش في جيوب أهالي البلاد قد انتُزع — في الربيع — من أجل سداد كوبون مايو، وجاء في أعقاب الجفاف الذي عانته البلاد عام ١٨٧٧م، فيضان مُدمِّر عام ١٨٧٨م، وانتشرت المجاعة في ربوع الصعيد، وبلغت ذروتها فيما بين سبتمبر وديسمبر من ذلك العام. وفي مديريات جرجا وقنا وإسنا مات عشرة آلاف من الأهالي جوعًا، وكان المسافرون — في ربيع ١٨٧٩م — يمرون بقرًى مهجورة تمامًا. وعلى حد تعبير أحد مفتشي الحكومة: كانت المجاعة «مجاعة نقود»؛ فبالقليل من المال كان يمكن تجنب المجاعة، ولكن آخر قرش في جيوب الفلاحين، انتقل إلى جيوب الدائنين، ومات الكثير من الناس جوعًا وخاصةً سُكَّان المناطق المجاورة لمصانع السكر، وهم أولئك الذين كانوا يكسبون عيشهم من العمل بتلك المصانع، غير أنهم لم يصرفوا أجورهم لفترة طويلة. وأصرَّ ولسون على أن يقوم عمر لطفي — مفتش الصعيد٣٢ — بجباية الضرائب المتأخرة — حتى أواخر ١٨٧٨م — المُدْرَجَة بسجلات نِظَارَة المالية، وأشار عمر لطفي إلى المجاعة، وأبدى استعداده لجباية الأموال المطلوبة إذا أصرَّ ولسون على ذلك بشرط ألَّا يُسْأَل فيما بعدُ عن الوسائل التي اتُّبعت في جبايتها.
وهكذا ظلَّت إيرادات الحكومة تقل كثيرًا عمَّا كان متوقعًا، واضطُرَّت الحكومة إلى عقد قرض مع بيت روتشيلد بلغت قيمته الاسمية ٨٫٥ ملايين من الجنيهات، حصلت منها على ستة ملايين فقط، ورهنت أراضي العائلة الخديوية التي آلت إلى الدولة (الدائرة السَّنِيَّة) ضمانًا لهذا القرض. وبذلك استمرَّت سياسة إسماعيل التخريبية، و«عاشت الحكومة المصرية عندئذٍ على كوبون بعد الآخر» على نحو ما ذكر كرومر.٣٣ واعترف نوبار في أوائل ١٨٧٩م بهذا الإحباط والفشل بقوله: إنَّنا ندور في دائرة مفرغة لا نستطيع الخروج منها.٣٤
ولم تكن التوقعات المالية لعام ١٨٧٩م أحسن من سابقتها؛ فقد كانت زيادة ضرائب الأطيان العشورية تمثِّل أحد الخيارات المحدودة، ولكن ذلك يعني توجيه ضربة شديدة إلى الطبقة الممتازة التي كانت لا تزال قادرةً على الدفع، ولكن المقابلة كانت قد دُفعت عن معظم تلك الأراضي كليًّا أو جزئيًّا، وكان قانون المقابلة الصادر في ١٨٧١م ينص على تعهُّد الحكومة بعدم زيادة ضرائب الأطيان التي تدفع عنها المقابلة. ولكنَّ ثمة شرطًا أُضيف — للعمل به وقت الحاجة — وَرَدَ بكتاب المجلس الخصوصي إلى الخديو في ٢٨ أغسطس ١٨٧١م جاء فيه:٣٥ «إنَّه في حالة وقوع جفاف شديد أو فيضان خطير يقتضي بالضرورة التأثير على الموازنة، لا يجب المطالبة بالضرائب مُقدَّمًا إلَّا بعد بحث الأمر بمجلس النُّظار ومجلس المالية ومجلس شورى النواب.» وفي مواجهة جفاف ١٨٧٧م وفيضان ١٨٧٨م المُدمِّر، اعتقدت الحكومة أن ذلك يُبرِّر مُطالبة المُلَّاك الذين تمتَّعوا بمزايا المقابلة بسداد الضريبة مُقدَّمًا، ولكن كان لا بد من الرجوع إلى مجلس شورى النواب في هذا الأمر؛ ولذلك طلب مجلس النُّظَّار من الخديو أن يدعو مجلس شورى النواب إلى الانعقاد.
ولكن المبالغ التي كان يمكن جمعها في حالة موافقة مجلس شورى النواب على مبدأ «دفع الضرائب مُقدَّمًا» لم تكن لتسد حاجة الدائنين. كما أن وفودًا من عُمد وشيوخ القرى من مختلِف أنحاء البلاد توجَّهت إلى نِظَارة المالية وأعلنت أن الأهالي لم يعد باستطاعتهم سداد الضرائب بالكامل. ولمَّا كانت الخزانة خاوية، وظلَّ المرسوم الصادر في ١٢ مايو ١٨٧٨م والذي نصَّ على ضرورة صرف رواتب الموظفين مُعطَّلًا، وبلغت الرواتب المتأخرة لموظفي الحكومة — في يونيو ١٨٧٩م — ما يُعادل رواتب عشرين شهرًا، عرضت الحكومة على من يرغب من الموظفين أن تدفع له بعض السلع العينية (كالأحذية والجياد وغيرها) مقابل بعض مستحقاتهم المتأخرة، ويذكر أحمد شفيق أنه طلب أن يحصل على كتب من مطبوعات المطبعة الأميرية مقابل رواتبه المتأخرة.٣٦
لذلك كان دي بلنيير وولسون وبارنج (لورد كرومر) يجتمعون بصفة دورية لإيجاد مخرج للأزمة، وليضعوا أساسًا لتوجيه المناقشات في مجلس النظار، واعتبروا تخفيض نسبة الفائدة على الدين العام حجر الزاوية في أي حل ممكن، وَبِغَضِّ النظر عن تلك الحلول التي تستغرق وقتًا طويلًا، دارت مناقشات حول اتخاذ إجراءات فورية لضغط المصروفات الحكومية، وكانت موازنة ١٨٧٨م تتضمن بندًا اتجهت الأنظار إلى إمكانية تخفيضه تخفيضًا كبيرًا هو الخاص بمصروفات الإدارة العامة، فمن أصل ٣ ملايين جنيه خُصِّصت للبند (مقابل ٧٫١٥ ملايين لسداد الديون وجزية الباب العالي) كان نصيب نظارة الحربية ثلاثة أرباع المليون ونصيب نظارة المعارف ٣٧ ألفًا، وهنا يمكن تخفيض المصروفات بتخفيض مخصَّصات الحربية والمعارف، فيتم إنقاص قوة الجيش من ٩٠٤٧٠ جنديًّا و٢٦٠٩ ضباط إلى ٣٦٢٤٧ جنديًّا و٩٩٣ ضابطًا، ولم تكن تلك الأعداد تُمثِّل القوة العسكرية الحقيقية؛ ففي مطلع ١٨٧٩م لم يكن هناك سوى ١٥ ألف رجل تحت السلاح كانت النية تتجه إلى تسريح ثمانية آلاف منهم، كما تقرَّر إغلاق معظم المدارس العسكرية؛ فقد كان ولسون يهدف إلى إلغاء القوات البحرية إلغاءً تامًّا، وتحويل الجيش إلى قوة لحفظ الأمن قوامها سبعة آلاف رجل. وكان الجنرال ستون الأمريكي — ورئيس هيئة أركان الجيش المصري — يعتقد أن الاعتبارات المالية الخالصة لم تكن هي التي حَدَتْ بالوزارة «الأوروبية» إلى اتخاذ تلك الخطوة، ويرى أن الوزارة كانت ترمي إلى تحطيم قوة الجيش لتنتزع السلطة من الخديو.٣٧

وغلب الظن أن وحدات الجيش لن تُثير العقبات في طريق تنفيذ تلك الإجراءات، فإن الجنود لا يشعرون بالسعادة إلَّا عندما يُلقون ببزاتهم العسكرية جانبًا ويُهرعون إلى قُرَاهم. ولكن كيف يتصرَّف الضُّبَّاط الذين سيُطردون من الخدمة العاملة (وعددهم ١٦٠٠ ضابطٍ)؟ إنَّهم لم يصرفوا رواتبهم منذ زمن بعيد، وكان الكثيرون منهم في ربقة الدَّين، وباع بعضهم ما كان يملكه لسد رمقه. وفي أوائل يوليو ١٨٧٨م تجمَّع بعض الضباط أمام نِظَارَة الحربية و«أثاروا الشغب» لأنهم لم يحصلوا على رواتبهم منذ سبعة أو ثمانية شهور. ونجحوا في الحصول على مرتب شهر واحد. ولكن النية تتجه الآن إلى طردهم من الخدمة حتى دون أن تُصرف لهم رواتبهم المتأخرة، ولكن الحكومة لم تُعِرِ التحذيرات التي وصلتها اهتمامًا، والتي أشارت إلى احتمال لجوء الضباط إلى المقاومة. ثم ما لبث نوبار وولسون أن تعرَّضَا للإهانة والإيذاء من جانب الضباط الذين تظاهروا أمام نِظَارَة المالية في ١٨ فبراير ١٨٧٩م. وعندما أُعيد النظام إلى نصابه في اليوم التالي نتيجة تدخُّل إسماعيل شخصيًّا، استجاب رئيس مجلس النُّظَّار لطلب إسماعيل وقدَّم استقالته الشخصية.

(٤) إسماعيل يُحاول عبثًا استرداد سلطته

إسماعيل ومظاهرة الضباط، سقوط نوبار

أُجبِر إسماعيل على أن يقبع خلف كواليس المسرح السياسي بعد تأسيس مجلس النُّظَّار المستقل في ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م، ولكنَّه عاد إلى تصدُّر المسرح مرةً أخرى اعتبارًا من ١٨ فبراير ١٨٧٩م، ووضع نفسه على رأس المعارضة المتنامية ضد التدخل الأوروبي والوزارة الأوروبية المزعومة منذ أزمة فبراير والحوادث التي تَلَتهَا، وحاول بالطبع أن يدعم مركزه أمام القناصل، وكانت العناصر النشطة في قيادة المعارضة من أتباع إسماعيل المنتمين إلى الأتراك-الجراكسة وبعض أعيان البلاد الذين كانوا يدينون له بالولاء، فقد خشي هؤلاء على امتيازاتهم السياسية والاقتصادية، وكانوا لا يريدون — في نفس الوقت — أن يروا مصر تهبط إلى مستوى المستعمرة الأوروبية دون أن يحرِّكوا ساكنًا، وقامت الصحافة الوطنية الجديدة بترويج الدعاية لهم وتأييدهم.

ففي ربيع وصيف ١٨٧٨م، تخلَّى رياض ثم نوبار عن إسماعيل، وبدلًا من أن يُدافعَا عن مصالحه في مواجهة الأوروبيين، تعاونا معهم ضده، ولكن شريفًا ظلَّ مُخلصًا له ولمصر، فلم يقبل المثول أمام لجنة التحقيق، كما رغب عن إقامة الصِّلات مع مجلس النُّظَّار. فكان باستطاعة الخديو الاعتماد على الأتراك-الجراكسة وخاصةً شريف؛ ففي ظل حكمه تولوا أرفع مناصب الدولة التي أصبحوا مُهدَّدين بفقدها؛ ومن ثَم لم يكن إسماعيل بحاجة للضغط عليهم حتى يقفوا في صف المعارضة.

وبعد تشكيل وزارة نوبار بقليل، كتب رافاييل بورج — نائب القنصل البريطاني بالقاهرة — تقريرًا يُفيد أن شاهين باشا — مفتش أقاليم الدلتا — يُثير التجار وعلماء القاهرة ضد النظام الجديد.٣٨ ورغم اعتقاد نوبار أن غالبية سكان البلاد تؤيد إصلاحاته حذَّر شاهين من مغبة نشاطه، وكان على الحكومة الجديدة أن تتوقَّع أن تنال تأييد الخديو وأتباعه، وشعر نوبار أن دعم أوروبا له كفيل بتأمين مركزه ما دام لا يُمارس إسماعيل نشاطًا ضده.
وكلَّفت الحكومة البريطانية قنصلها العام بمصر — فيفيان — بأن يُحذِّر إسماعيل من مغبة العمل ضد الوزارة. وفي سبتمبر أبلغ القنصلُ الخديو أنه يُعَد مسئولًا عن نجاح أو فشل النظام الجديد؛ ولذلك عليه ألَّا يُحاول وضع العقبات في طريق وزارة نوبار، فغضب إسماعيل غضبًا شديدًا ورفض تحمُّل المسئولية لأنه — على حد قوله — قد تنازل عن سلطاته وممتلكاته، وأن مقاليد الأمور خرجت من يده. وفي حديث مع القنصل الفرنسي — جودو Godeaux — قارن الخديو بين وضعه وبين وضع ملكة إنجلترا، وذكر أنه مثلها لا يمكن أن يُعدَّ مسئولًا عن قرارات مجلس الوزراء.

وعندما بدأ الموقف السياسي يضطرب بعد اجتماع مجلس شورى النواب — في ٢ يناير ١٨٧٩م — عَزَا ذلك إلى تداخلات إسماعيل، وانتشرت إشاعة مؤداها أن الخديو اجتمع سرًّا بالشخصيات البارزة من أعضاء المجلس، ولمَّح لهم أنه لن يشعر بالاستياء إذا قاوموا التدخل الأوروبي المتزايد في شئون البلاد. وقد أنكر الخديو ذلك ولكنَّه أعلن أن وضعه لا يمكن التغاضي عنه؛ لأن مجلس النُّظَّار أغفل وجهات نظره من ناحية، ولأن إنجلترا وفرنسا اعتبرتاه مسئولًا عن كل شيء من ناحية أخرى، وأن الأمر يتطلب إعادة العمل بالمرسوم الصادر في ٢٨ أغسطس ١٨٧٢م، عندئذٍ يستطيع أن يتحمل مسئولية «إدارة جميع شئون البلاد»، كما طالب بأن يكون له مكان في مجلس النُّظَّار ليُدلي بآرائه ويشترك في رسم السياسات.

وكان فيفيان وجودو على استعداد للاستجابة لتلك المطالب التي كانت تتفق مع وجهات نظرهما، ولكن نوبار وولسون كانا يُعارضان في ذلك، وظهر إسماعيل في ١٨ فبراير بمظهر الضامن الوحيد للسلام والنظام ومن ثم يجب إعادة النظر في العلاقة بين أركان السلطة.

ورغم أنه يجب النظر إلى مظاهرة ١٨ فبراير ١٨٧٩م على أنها أكثر حوادث القرن التاسع عشر شهرة، نجد أن مُعظم الروايات المتعلقة بها تعوزها الدقة وينقصها التحليل؛ ففي معظم الروايات ذُكِر أن تلك كانت الطريقة التي دافع بها ٢٥٠٠ ضابط — فُصِلوا من خدمة الجيش — عن أنفسهم.

وفي بداية الأمر تقرَّر إنقاص عدد الضباط من نحو ٢٦٠٠ ضابط إلى ألف ضابط، أما اﻟ ١٦٠٠ ضابط فتقرَّر إحالتهم إلى الاستيداع حيث يحصلون — خلال فترة الاستيداع — على نصف رواتبهم فقط. وقد شارك في المظاهرة ما يتراوح بين ٣٠٠‏–‏٦٠٠ ضابط — بتشجيع من إسماعيل — وكانت أحوالهم المالية بالغة السوء، وقد أُحيلوا إلى الاستيداع دون أن يلوح لهم أمل العودة إلى الخدمة العاملة أو الالتحاق بوظائف مدنية؛ ومن ثَم اعتَبروا الوزارة «الأوروبية» مسئولةً عن مصيرهم.

ويجب أن نؤكِّد — على أيَّة حال — أن ذلك لم يكن وضعًا فريدًا في مصر القرن التاسع عشر؛ فمنذ إنشاء الجيش المصري، كان الضباط يجدون أنفسهم مرةً ومرات دون رواتب لفترات طويلة. وعلى سبيل المثال، تأخَّر للضباط عام ١٨٣٣م رواتب تتراوح بين عشرة وأحد عشر شهرًا، وفي نهاية حكم سعيد تراوحت الرواتب المتأخرة للموظفين والضباط بين ١٢ و٢٤ شهرًا. كما كانت هناك حوادث تمرد في عهد محمد علي ضد الإجراءات الجديدة وسوء المعاملة والعناية غير الكافية والرواتب الضئيلة، وتعرَّض المشاركون في تلك الحوادث للتصفية الجسدية. كذلك كان الفصل الجماعي من الخدمة معروفًا، وعلى سبيل المثال، فصل عباس الكثيرين بعد اعتلائه الحكم، كما سرَّح سعيد معظم الجيش تقريبًا قبيل زيارته للسودان (١٨٥٦‏-١٨٥٧م) خشية تمرده عليه أثناء غيابه عن مصر، ولم يستدعِ إلى الخدمة سوى بعض الضباط بعد عودته من السودان، ونقل بعضهم الآخر إلى وظائف مدنية، أما الباقون فظلُّوا ينتظرون دورهم. وكثيرًا ما كانت الرواتب المتأخرة تُلغى ببساطة عندما يتقرَّر الفصل الجماعي من حين لآخر؛ ولذلك لم يكن سقوط الضباط في وهدة الفقر ظاهرةً جديدة؛ فقد اضطُر بعض الضباط — في عهد سعيد — إلى هجر زوجاتهم عندما عجزوا عن إطعام أسرهم بعدما طال انتظارهم صرف رواتبهم المتأخرة دون جدوى، ويُنقل لنافون كريمر أغنية ساخرة كانت تُنشَد في القاهرة عندئذٍ جاء فيها:٣٩
رجال الجيش المصري،
تدلَّت ذيولهم وآذانهم،
وطلَّقوا زوجاتهم بسبب نقص الرواتب.

وفي فبراير ١٨٧٩م كان الكثير من الضباط على حافة الفقر المُدقِع مرةً أخرى؛ فقد تأخَّرت رواتبهم ما بين شهرين و٢٤ شهرًا، وكانوا لا يعرفون كيف يعيشون بدون تلك الرواتب، ومع مطلع ذلك العام، قدَّموا العديد من العرائض إلى النُّظَّار المعنيين، كما قدَّم بعضهم عرائض إلى مجلس شورى النواب، دون أن يُحرِزوا أي قدر من النجاح. وعندما شاعت الإجراءات الاقتصادية التي تنوي الحكومة اتخاذها بلغ القلق داخل الجيش حدًّا سيئًا، ووُجِّه السخط نحو نوبار وولسون، ودعَوهما مسئولين عن التمهيد لتسليم البلاد إلى بريطانيا، وشاع الاعتقاد أن بريطانيا هي التي أملت على النُّظَّار قرار إنقاص قوة الجيش، فكيف يستطيع الضباط العيش — إذن — إذا كان عليهم أن يقبعوا في منازلهم؟ وكيف يُسددون ديونهم؟ لقد أُعِدوا ليكونوا ضباطًا ولا تتوافر لديهم الأموال لشراء الأطيان أو استخدام العمال. ويذكر بورج أن تلك الأحاديث دارت في غرف الحرس بقصر عابدين، وأعلن ضباط الحرس تأييدهم لزملائهم المفصولين دفاعًا عن أنفسهم.

ولكن النُّظَّار لم يأخذوا تلك التقارير مأخذ الجد، وانتهز إسماعيل الفرصة ليُبلغ القنصل البريطاني أن تردي الأوضاع إنَّما جاء نتيجةً لسياسة نوبار الرامية إلى إنقاص سلطات الخديو، وأنه لا يستطيع أن يتدخل لتهدئة ثائرة الجيش ما دام بقي محرومًا من حقه في الاشتراك في تقرير سياسة مصر. وحتى ١٧ فبراير، كان ولسون يُنكر أن ثمة استياءً أو تذمرًا خطرًا بين صفوف الجيش. وفي ١٨ فبراير — وقبل وقوع المظاهرة أمام نظارة المالية بنصف ساعة — ضحك رياض باشا عندما حدَّثه فيفيان عن احتمال وقوع تمرد في الجيش.

ولكن إسماعيل رأى أن الفرصة قد واتته، فعندما كان شاهين باشا يُناقش أوضاع الجيش مع الخديو — قبل ١٨ فبراير بأيام معدودات — تساءل الخديو: «ولماذا يظل الضباط ساكنين؟»٤٠ وعندئذٍ تشاور شاهين في الأمر مع صهره الصاغ لطيف سليم، أحد أبناء كبار ضباط محمد علي والمعلم بمدرسة أركان الحرب ومدرسة الهندسة الحربية، فقام بالتخطيط للمظاهرة. ووفقًا لما يذكره بورج، التقى الخديو بمنظمي المظاهرة مساء ١٥ فبراير، كما يذكر أيضًا أن نحو خمسين ضابطًا كانوا مُتزوِّجين من جواري القصر الجركسيات.
وبعد المظاهرة بقليل، أصبح معروفًا على نطاق واسع أن المظاهرة دُبِّرت بالاتفاق مع إسماعيل بسبب الدور العلني الذي لعبه لطيف سليم في تلك المظاهرة، ولكن أمين سعيد وعبد الرحمن الرافعي وآخرون يُنكرون ذلك، كما أنهم يُغفِلون تقرير عرابي عن الحادث في مذكراته، فهو يقول إنَّه جاء قبيل المظاهرة من رشيد إلى القاهرة على رأس ثلاث أورط كان سيتم تسريحها، وبينما كان يجلس إلى بعض زملائه — في ١٨ فبراير — تلقَّوا نبأ وقوع مظاهرة أمام نظارة المالية، فأرسلوا ضابطًا لاستطلاع الأمر، فأخبرهم عند عودته أن الخديو حرَّض شاهين «صنيعته» لتنظيم «حركة صبيانية» لأنه يريد الإحاطة بوزارة نوبار، وأن شاهينًا حث صهره لطيف سليم أن يتجه إلى نظارة المالية على رأس تلاميذه وبعض الرعاع والضباط «الذين أضاع صوابَهم الفقر والجوع.»٤١

وفي ١٧ فبراير ١٨٧٩م، وُزِّعت عريضة في معسكرات العباسية تحمل توقيعات ما يتراوح بين ٤٠٠‏–‏٥٠٠ ضابط تتضمَّن أربعة مطالب:

  • (أ)

    ضرورة صرف الرواتب المتأخرة.

  • (ب)

    إسناد وظائف مدنية إلى الضباط المفصولين.

  • (جـ)

    فصل الضباط وإحالتهم إلى الاستيداع لا يتم إلَّا وفق القوانين العسكرية.

  • (د)

    معاملة الضباط معاملةً كريمة.

ورُفِعت تلك العريضة إلى الخديو الذي أحال أصحابها إلى الوزارة باعتبارها الجهة المختصة ببحث مطالبهم. وبناءً على ذلك، عقد الضباط اجتماعًا ألقى فيه لطيف سليم خطابًا مثيرًا شجَّع زملاء على أن يتولوا الدفاع عن مطالبهم بشجاعة وإقدام، فقرَّروا أن يقوموا بعملٍ ما.

وفي صباح ١٨ فبراير، تدفَّقوا من معسكرات العباسية وضواحي القاهرة — حيث كان يعيش معظمهم — إلى نقطة الالتقاء بالمدينة، وقرَّروا أن يُقدِّموا مطالبهم بأنفسهم إلى مجلس شورى النواب الذي كان يجتمع — لأول مرة — بالمدينة وليس بالقلعة. وقابل أحمد رشيد باشا مجموعةً من الضباط من بينهم لطيف سليم وسعيد نصر وحسن رفعت — وجميعهم من مُدرسي المدرسة الحربية — وأعلن لهم أن المجلس ليس الجهة المختصة بالنظر في مطالبهم، فأجاب الضُّباط بأن الحكومة لم تستجب حتى الآن لمطالبهم، وعندئذٍ أرسل رئيس المجلس عبد السلام المويلحي — أحد أقطاب المجلس٤٢ — إلى نوبار، وعندما مرَّ بعض الوقت دون أن يعود، استبد القلق بالضباط وطالبوا بأن يصحبهم وفد من المجلس إلى نظارة الجهادية، فعيَّن رئيس المجلس عشرة أعضاء لهذا الغرض، رافقوا الضباط إلى نقطة تجمع المظاهرة بزعم التوجه إلى نظارة الجهادية.

ومروا أمام نظارة المالية، وفي تلك اللحظة كان نوبار باشا في طريقه لمقابلة ولسون لمناقشة ما جاء به عبد السلام المويلحي معه، فاستوقفه الضباط، وأهانوه، وألحوا في طلب رواتبهم المتأخرة. وحدث نفس الشيء لولسون الذي هُرع لنجدة نوبار، وأخيرًا احتُجز الاثنان بنظارة المالية حيث لحق بهما رياض وعلي مبارك.

وعندما سمع القنصلان البريطاني والألماني بما حدث توجها من فورهما إلى القصر وأبدى الخديو استعداده للذهاب معهما فورًا إلى موقع الحادث، وهناك ناشد إسماعيل الضباط أن يُبدوا ولاءهم له، وبذل لهم الوعود بالاستجابة إلى مطالبهم، وحثَّهم على رفع الحصار عن النظارة، ثم ما لبث أن طهَّر الميدان الذي تقع عليه النظارة والشوارع المجاورة له باستخدام كتيبة من قوة الحرس الخديو، كان يقودها علي فهمي، وتولى قيادتها العليا ناظر الجهادية راتب باشا، والسر تشريفاتي عبد القادر حلمي٤٣ وأُصيب في الحادث بعض الأشخاص الذين كان من بينهم بعض المحيطين بالخديوي وألقي القبض على ثمانية من الضباط الذين تزعَّموا المظاهرة كان من بينهم لطيف سليم وسعيد نصر المتحدثان بلسان المتظاهرين.
وينقل لنا عرابي أخبار هذه المظاهرة بعبارات تنم عن اللوم وعدم الارتياح فهو يعتبرها «خارجةً عن حدود الحكمة والتدبر.» وعاد المشاركون في المظاهرة إلى منازلهم وهم في غاية الاستياء؛ لأن الخديو أمر علي فهمي بإطلاق النار على المتظاهرين عندما خرج الموقف من يده، ولكن الأخير أمر جنوده بإطلاق النار في الهواء، مما أثار سخط الضباط وجعلهم يفكِّرون في استبدال إسماعيل بتوفيق،٤٤ وعلى أيَّة حال نجح الخديو في تهدئتهم وطاف بمختلِف فرق الجيش باذلًا الوعود بالعمل على حماية حقوقهم وطرد الوزارة من الحكم.٤٥

وبعد تفريق المظاهرة، عاد إسماعيل إلى قصر عابدين حيث لحق به قناصل الدول لتهنئته على ما فعل. وخرج الخديو من ذلك الحادث بالنتائج التالية: إذا كان لا بد من إعادة القانون والنظام إلى نصابهما، يجب أن يُمسك بزمام أمور الحكم بيده؛ لأن وجود حاكم قوي يجعل الناس لا يُقدِمون على عمل كهذا ما داموا يعرفون عاقبة الإقدام عليه.

وفي صباح اليوم التالي، التقى نوبار وولسون ودي بلنيير بالقنصلين البريطاني والفرنسي — بعدما أفاقوا من الصدمة — للنظر في الخطوات التي يجب اتخاذها. وذكر نوبار بوضوح أنه لن يستطيع المُضي في تحمل مسئولية استتباب الأمن العام، وطالب القنصلين بحمايته وزملائه. وحاول فيفيان وجودو أن يستطلعا نية إسماعيل أولًا، فطلب الأخير استقالة نوبار كخطوة أولى على الطريق لإعادة الأمور إلى نصابها، فقُدِّمت الاستقالة، وتمَّ قَبولها في نفس اليوم (١٩ فبراير). وتولى الخديو رئاسة مجلس النُّظَّار.

وأكَّدت الطريقة التي عُومل بها قادةُ المظاهرة الافتراض الذي ذهب إليه معظم المراقبين المعاصرين من أن المظاهرة كانت — بدرجة ما — من تدبير إسماعيل؛ لأنها كانت تعني عودته إلى السلطة. وأبلغ الخديو القنصلين البريطاني والفرنسي أن ناظر الجهادية راتب باشا — رجله في الوزارة — كان قصير النظر لدعوته لعدد من فرق الجيش من مختلِف الحاميات بأنحاء البلاد إلى القاهرة، وبدعوته لجميع الضباط الذين اتجهت النية إلى الاستغناء عن خدماتهم، ولمَّا كان هؤلاء يُطالبون الآن بالعفو عن رفاقهم، فإنَّه (أي الخديو) لا يستطيع معاملة المدبِّرين بما يستحقون، ويُفضِّل إرجاء محاسبتهم على ما اقترفوه إلى وقت آخر.

وكانت اللجنة التي شُكِّلت للتحقيق في الأمر (رغم أن هدفها الحقيقي إخفاءه) مهزلةً فريدة في نوعها،٤٦ وعُنيت المحكمة التي شُكِّلت لهذا الغرض بالاتهامات المُوجَّهة إلى وزارة نوبار، فأنكر المشاركون في الحادث وشهود العيان كل ما حدث في أقوالهم التي أدلوا بها أمام المجلس العسكري الذي تكوَّن من ثلاثة من كبار الضباط الأتراك-الجراكسة هم: إبراهيم الفريق، حسن أفلاطون، ومحمد مرعشلي، واثنين من الفرنسيين هما لارمي وجاكييه. كما تراجع نوبار عن أقواله السابقة — خشية التعرض للخطر — فتبيَّن للمجلس أن لطيف سليم جاء بين المتظاهرين صدفة، وأنه لم يُوقِّع على العريضة التي تقدَّموا بها لأن أحواله الاقتصادية تُمكِّنه من العيش بدون راتبه، وهي الحقيقة الوحيدة فيما ورد بذلك التحقيق، كما قيل إن سعيد نصر ذكر لولسون أثناء حصار نظارة المالية أنه لا يعبأ بالرواتب ولكنَّه يهتم بشرف الجيش الذي جعل مصر تبلغ ما بلغته. غير أنه ذكر في التحقيق أن الضُّبَّاط أجبروه على أن يلعب دور المترجم بينهم وبين ولسون (ومن الجلي أن الضباط كانوا يعلمون أن هدف مظاهرتهم ولسون ونوبار وليس ناظر الجهادية، وإلَّا ما احتاجوا إلى مترجم). أما عبد الله عزت — الذي حمل عريضة ١٨ فبراير — فقد ادعى أن العريضة فُقدت منه، ولم يُقر أي من الشهود باسم من كتبها، وبذلك كان من المفترض أن العريضة ظهرت فجأةً واختفت بنفس الطريقة. وردَّد الضباط الخمسة الآخرون الذين أُلقي القبض عليهم أقوالًا مُماثلة، حتى لا يُوجِّه المجلس العسكري التهمة إليهم. فاللوم كله يقع على النظار وحدهم، الذين أرادوا ترك ضباط الجيش نهبًا للشقاء والضياع.

ولم يتضمن تقرير المجلس الذي صدر في ٢٢ مارس توجيه أي اتهام إلى الضباط المعتقلين؛ ومن ثَم أُطلق سراحهم. وقام الأمير حسن — باعتباره القائد العام للجيش المصري — بتقديم اعتذار رسمي عن الحادث إلى القنصل البريطاني باسم الخديو والجيش؛ وبذلك اعتبر إسماعيل المسألة منتهية. وفي ٢٦، ٢٧ مارس، صُرِفت رواتب الضباط وأُحيلوا إلى الاستيداع — كما كان مقررًا من قبل — بعد أن حصلت الحكومة على قرض من روتشلد مقداره ٤٠٠ ألف جنيه لسداد تلك الرواتب، وعاد إسماعيل إلى استدعائهم للخدمة بعد ذلك بأيام معدودات.

وأعلن الخديو أن رئاسته لمجلس النظار مؤقتة، وأنه يريد التوصُّل إلى اتفاق مع الدول المعنية على أُسس إعادة تنظيم هيكل الحكومة؛ ولذلك قدَّم — بعد استقالة نوبار بأسبوع واحد — إلى قناصل الدول المقترحات التالية: تعيين ولي العهد توفيق وزيرًا بلا وزارة ورئيسًا لمجلس النُّظَّار، والتصديق على المبادئ الأساسية التي جاءت بمرسوم ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م الخاص بتحديد العلاقة بين الخديو ومجلس النظار (مع إعطاء الخديو حق دعوة مجلس النظار للاجتماع به في أي وقت)، وأن يقوم كل ناظر بنفسه بعرض القرارات التي تحتاج إلى التصديق على الخديو، ثم تُناقَش تلك القرارات بمجلس النظار برئاسة الخديو، ويتم تقريرها بأغلبية الأصوات.

وكانت الإشارة إلى مرسوم ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م إشارةً مضللة؛ ففي حقيقة الأمر كانت مقترحات إسماعيل تهدف إلى إلغاء الفصل التام بين الخديو ومجلس النظار، وبالتالي إلغاء ذلك المرسوم؛ ولذلك رفض الوزيران الأوروبيان الموافقة على تلك المقترحات، وأبدَيَا استعدادهما لقَبول اجتماع المجلس بالخديوي — بصفة غير رسمية — عندما يرغب الأخير في ذلك، وأن يتقدَّم الخديو إلى مجلس النظار بما شاء من مشروعات، على أن يتقدَّم مجلس النظار بمخططاته إلى الخديو قبل اتخاذ قرار بشأنها. وطالَبَا — بالإضافة إلى ذلك — بأن يؤخذ رأيهما فيمن يُعيَّن ناظرًا من المصريين. وفي أول مارس طلب قنصلا الدولتين — رسميًّا — عودة نوبار إلى الحكومة بحجة أن الحاكم الدستوري يجب أن يقبل التعامل مع الوزراء الذين لا يرتاح إليهم شخصيًّا. فأجاب إسماعيل بأن ذلك أمر مُسلَّم به إذا كان الوزراء منتخبين بواسطة الشعب، أما نوبار فكان أكثر الساسة افتقارًا إلى الشعبية في مصر.

ولمَّا كان إسماعيل قد ظلَّ مُتمسكًا بموقفه من فكرة عودة نوبار إلى الوزارة، وكان توفيق قد حذَّر من النتائج الخطيرة التي قد تترتَّب على إصرار الدولتين على مطلبهما، فإن الدولتين تنازلتا عن هذا المطلب، وراحتا تبحثان عن سبيل آخر لضمان استمرار النفوذ الإنجليزي الفرنسي داخل الحكومة المصرية. وفي ٩ مارس، قدَّم القنصلان إلى إسماعيل إعلانًا رسميًّا من جانب الدولتين تضمَّن ما يلي:

  • (١)

    لا يجب أن يُشارك الخديو بأي حال من الأحوال في اجتماعات مجلس النظار.

  • (٢)

    تعيين الأمير توفيق رئيسًا لمجلس النظار.

  • (٣)

    يحصل الوزيران الأوروبيان معًا على حق الفيتو على القرارات التي لا تحظى بموافقتهما.

  • (٤)

    تسحب الدولتان مطلبهما بعودة نوبار إلى مجلس النظار.

  • (٥)

    يُعَد الخديو مسئولًا عن تنفيذ هذه القواعد.

فعبَّر إسماعيل عن شكره لهما لاستجابتهما له فيما يتعلَّق بنوبار، وقبل مقترحاتهما، ولكنَّه احتفظ لنفسه بحق دعوة النظارة إلى الاجتماع به فُرادى أو مجتمعين، ليبلغهم بوجهات نظره في المسائل المعروضة عليه للتصديق عليها، أو تلك التي يرغب أن يبحثها مجلس النظار.

وفي ١٠ مارس ١٨٧٩م، عيَّن الخديو ولي عهده رئيسًا لمجلس النظار بخطاب رسمي، وأسند إليه مهمة تشكيل الحكومة. وإذا كان إسماعيل لن يُشارك في مشاورات مجلس النظار فإنَّه لا يقبل «أن يقف مرسوم ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م حائلًا بينه وبين وزرائه»؛ ولذلك رغب في أن يُخطَر بالقرارات قبل أن يُقِرها المجلس، واحتفظ لنفسه بحق عرض المسائل التي يرى ضرورة عرضها على المجلس للنظر فيها، وأخيرًا ضمَّن إسماعيل هذا الخطاب النص على حق الفيتو المشترك للوزيرين الأوروبيين.٤٧

وعلى أيَّة حال، لم يكن تشكيل الوزارة — الذي تأخَّر حتى ٢٢ مارس — من اختصاص توفيق؛ لأن الصراع حول تعيين النظار دار بصفة رئيسية بين الخديو والوزيرين الأوروبيين، فاحتفظ ولسون ودي بلنيير بمنصبيهما، فلم تكن النية متجهةً عندئذٍ إلى المساس بوضعهما، ولكن الخديو أراد أن يُسند إلى رياض نظارتَي الحقانية والخارجية — اللتين كان يتولاهما نوبار من قبل — وأن يضع رجلًا من خاصته في منصب ناظر الداخلية الذي كان يشغله رياض، وحتى تشعر المديريات بسطوة الخديو إذا كان عليه أن يتحمَّل مسئولية استتباب الأمن في البلاد، ولكن كل من رشَّحهم الخديو لشغل هذا المنصب رُفِضوا من جانب الوزيرين الأوروبيين، فاعترضا على راغب باشا لكبر سنه ولانحداره من أصل يوناني وجهله باللغات الأوروبية، وكان أحمد رشيد باشا موضع شكهما لأنه كان رئيسًا لمجلس شورى النواب كما كان من أخلص «مماليك» إسماعيل، كما رفضا أن يشغل توفيق هذا المنصب لأن ذلك يعني أن يُصبح الخديو نفسه مُسيطرًا على نظارة الداخلية، ولم يجرؤ إسماعيل على ترشيح شريف باشا لهذا المنصب لتأكُّده من اعتراض الدولتين عليه.

ولمَّا كان ولسون ودي بلنيير قد هدَّدا بالاستقالة إذا لم تُسند وزارة الداخلية إلى رياض، فقد استسلم الخديو للأمر وأصبح من حقهما أن يشغلا بقية مناصب النظارة وفق هواهما. كذلك ضاق توفيق ذرعًا بتدخل الوزيرين الأوروبيين، وحذَّر من احتمال وقوع اضطرابات، مُلمحًا إلى أنه لا يستطيع أن يظل رئيسًا لمجلس النظار في ظل تلك الظروف. ولكن الخديو وولده أذعنا للأمر ظاهريًّا. وفي ٢٢ مارس، وقَّع إسماعيل قرار تشكيل مجلس النظار الذي احتفظ فيه كل من ولسون ودي بلنيير ورياض وعلي مبارك بمناصبهم السابقة، كما أُسندت الحقانية٤٨ — أيضًا — إلى رياض، وعُيِّن حسن أفلاطون٤٩ — الذي كان عضوًا بالمجلس العسكري الذي شُكِّل للنظر في حادث ١٨ فبراير — ناظرًا للجهادية، وأُسندت نظارة الخارجية إلى ذو الفقار باشا.٥٠ ولم يطل عمر الوزارة «الأوروبية» الثانية عن أسبوعين، حيث «استجاب» الخديو «لرغبة الأمة» وحلَّ مجلس النظار الذي كان مفروضًا عليه وعلى مصر. وفي ٧ أبريل ١٨٧٩م استدعى شريف باشا ليرأس وزارة «مصرية حقيقية».

إسماعيل ومجلس شورى النواب (١٨٧٦‏–‏١٨٧٩م)

ففي ١٩ فبراير، أعلن إسماعيل للقناصل الذين دعاهم إلى الاجتماع به فلسفته السياسية بقوله إن البلد الشرقي الذي يقف على حافة الفوضى يحتاج إلى يد الحاكم القوية. وفي ٧ أبريل، أبلغ الخديو القناصل أنفسهم أنه يجب أن يخضع للإرادة الحرة لأمته وأن يُعيِّن وزارةً مصرية، وذهب الرافعي إلى أن تلك الإرادة الوطنية تمثَّلت جميعها — على نحو ما سنرى — في مجلس شورى النواب. فيذكر أن ذلك المجلس أصبح منذ عام ١٨٧٦م مركز المعارضة الموجَّهة ضد أوتوقراطية إسماعيل، وأنه أخذ الآن يُعارض التدخل الأجنبي في شئون البلاد. وعلينا أن نبحث في هذه المعلومات المتصلة بدور مجلس شورى النواب، في محاولة لإلقاء الأضواء على أحداث أبريل ١٨٧٩م.

فبالنسبة لغالبية أهالي البلاد، نتج عن طموح إسماعيل لإدخال الحضارة واستغلاله المنظم من جانب رجال الأعمال والمموِّلين الأوروبيين، نتيجةٌ ثورية واحدة تمثَّلت في الاستغلال المالي الذي تجاوز حدود المنطق الاقتصادي. وبدا ذلك في صورة زيادة الضرائب، وفرض الالتزامات المالية الجديدة على الأهالي، وعقد القروض الخارجية. ولعل الطريقة التي نُفذ بها قرض الروزنامة عام ١٨٧٤م في دمياط والبلاد المجاورة لها (وفق رواية نائب القنصل الفرنسي) تُبيِّن لنا كيف ساهم الأهالي في تحقيق تقدُّم البلاد. فعندما صدر المرسوم الخاص بذلك القرض، جمع المدير عُمد القرى وحدَّد المبالغ المطلوبة من كل قرية، وفي دمياط رأى تُجَّار المدينة أن الأسماء التي أُدرجت في قائمة المساهمين في القرض كافية، وبعد بضعة أسابيع جاء أحد الموظفين من القاهرة للتحقُّق من المبالغ التي جُمِعَت. ولكن نظرًا لأن أولئك الذين أُدرجت أسماؤهم كانوا لا يرغبون في المساهمة استخدم الكرباج لتذكيرهم بواجبهم، وعُوقب أحد شيوخ القرى المترددين في السداد بدق أذنه في باب ديوان المديرية بالمسمار. وأصبحت السنوات «١٨٦٦‏–‏١٨٧٩م» تُمثِّل العصر الذهبي للمرابين، وأحلك سنوات القرن التاسع عشر بالنسبة للفلاحين.

وحتى المحاكم المُختلطة — التي بولغ في تقريظها — ساهمت في إيذاء الأهالي، فلم يكن الفلاحون هم الذين يُدافعون عن «حقوقهم» أمام تلك المحاكم، بل كان الأجانب وعلى رأسهم المرابون من رعايا بلاد شرق البحر المتوسط، الذين يتمتعون بحماية الدول الأوروبية، هم الذين يلجئون إليها، وانتصروا على الأهالي الذين لا يعرفون طريقهم إلى المحامين الأكْفاء، والذين وقعوا في شباك الإجراءات القانونية الأجنبية غير المألوفة لهم. وبهذه الطريقة استطاع المرابون أن ينتزعوا أراضي الفلاحين بغير جهد بفضل العقود الابتزازية التي يُبرمونها معهم بمهارة، وهو أمر لم يكن نادر الحدوث في ذلك الزمان؛ ففي خلال السنوات الست الأولى نظرت المحاكم الابتدائية الثلاث في خمسة آلاف قضية سنويًّا في المتوسط، كما نظرت محكمة الاستئناف في ثلاثمائة قضية، كان نحو الثلثين منها لا يتعلَّق بالمرابين؛ أي إن عشرة آلاف قضية من تلك القضايا (التي نظرتها المحاكم الابتدائية) كانت تخص المرابين. ولسوء الحظ لا تتوفَّر لدينا المعلومات حول نسبة الأحكام التي صدرت لمصلحة المرابين، ولكن إذا صدَّقنا ما يذكره فون بملن Von Bemmlen فإن الأحكام التي صدرت لصالح المرابين كانت تُمثِّل معظم تلك الأحكام. فإذا علمنا ذلك لا نُدهش لقول عرابي عندما بلغته أنباء تحطيم الأهالي لسراي المحكمة المختلطة بالإسكندرية في صيف ١٨٨٢م: «شكرًا لله الذي خلَّص البلاد منهم.»٥١

وعلى كلٍّ، كان أهالي البلاد تحت رحمة سياسة إسماعيل وما ترتب عليها من نتائج. وعلى نحو ما يذكر سرهنك، لم تكن هناك مجالس مستقلة تُوقِف الخديو عند حده، كما لم تكن هناك شخصية قوية بين المحيطين به تبذل النصح له؛ فقد أصاب الخوفُ الجميعَ بالشلل. وأقام ما أصاب ناظر المالية إسماعيل صديق — الذي مات مخنوقًا — الدليل على حكمة الصمت؛ فقد أمر الخديو بقتله لمعارضته له خلال مفاوضات بعثة جوبير وجوشن عام ١٨٧٦م. وفي مطلع نفس السنة، نُفِيَ نوبار باشا إلى الخارج لانتقاده بعض التصرفات التي أقدم عليها الخديو؛ فقد درج إسماعيل على عدم السماح لأحد بالتدخل في شئونه الخاصة؛ ومن ثَم لم يكن باستطاعة مجلس شورى النواب أن يتخذ قرارات حاسمة تتعلَّق بالسياسة المصرية تهدف إلى الوقوف في وجه الخراب المالي والتدخل الأجنبي، كما لم يكن المجلس في السنوات الأخيرة من حكم إسماعيل مركزًا مستقلًّا لصنع القرار.

ولمَّا كان المجلس لم يُدعَ للانعقاد منذ مارس ١٨٧٣م، فقد استدعى الخديو النواب لعقد دورة غير عادية بطنطا — في ٧ أغسطس ١٨٧٧م — لمناقشة مشكلة قانون المقابلة. وكانت الدوائر المالية الأوروبية ترى أن استمرار العمل بهذا القانون يُعرِّض دخل مصر للخطر مستقبلًا؛ ولذلك أصروا على إيقاف العمل به بمرسوم صدر في ٧ مايو ١٨٧٦م. وفي نفس الوقت، أبدت الحكومة استعدادها لرد المبالغ التي دُفِعَت أو إنقاص الضرائب بما يُوازي قيمتها. ولكن تضمَّن نفس المرسوم نصًّا يتناقض مع ما جاء به عندما أورد المقابلة ضمن الحسابات المالية. ولم يكن إسماعيل يُفكِّر في رد ما جُمِع من قبل؛ ومن ثَم لا نلوم النواب إذا رأيناهم يؤيدون هذه السياسة؛ فقد تقدَّم عثمان الهرميل (أحد عُمد الغربية) باقتراح تشكيل وفد من ثلاثة أعضاء للتوجُّه إلى القاهرة من أجل الحصول على صورة واضحة للوضع المالي ككل، واستطلاع الخطط المالية للحكومة. وعاد الوفد من القاهرة ليُقرِّر لأعضاء المجلس أن الحكومة ليست في موقف يسمح لها بأن تُعيد مبلغ الثلاثة عشر مليونًا من الجنيهات قيمة المقابلة التي دُفعت حتى ذلك الحين. وفي الاجتماع الثاني والأخير (١٠ أغسطس)، وقف المجلس إلى جانب استمرار العمل بقانون المقابلة تمشِّيًا مع ما كان يراه إسماعيل. ويظل الغموض يحيط بما قصده الرافعي عندما وصف موقف النواب بأنه «معارضة» وقرارهم بأنه «تضحية». إن ما فعله النواب قد يُعتبر «تضحية» إذا صح ما ذكره القنصل الفرنسي من أن النواب قرَّروا الاستمرار في التنازل عن جميع الامتيازات المتصلة بالمقابلة باعتبارها ضريبةً إضافية، ولكنَّ أحدًا لم يُطالبهم بذلك على أي حال. كما أن الأمر الصادر في ١٨ نوفمبر ١٨٧٦م (نتيجة بعثة جوشن-جوبير) الذي أعاد العمل بقانون المقابلة، نصَّ على إلغاء تخفيض ضريبة الأطيان المقدر بنسبة ٨٪ من أقساط المقابلة المدفوعة قبل ١٨٧٦م. وبالتالي لم تُخفَّض ضرائب الأطيان إلى النصف بالنسبة لأولئك الذين دفعوا القسط الأخير من المقابلة بعد ١٨ نوفمبر ١٨٧٦م. وفي نفس الوقت كان عليهم أن يستمروا في دفع الضريبة الكاملة على الأرض حتى ١٨٨٦م، وبنفس المقادير التي كان يجب خصمها من حصة الضرائب لأن الأقساط التي دفعوها لا تستحق سوى نسبة فائدة ٥٪ فقط.

وفي خطاب العرش الذي افتتح به الخديو دور الانعقاد العادي لمجلس شورى النواب في ٢٣ نوفمبر ١٨٧٦م، نافق إسماعيل النواب بقوله إن استمرار العمل بالمقابلة كان ثمرة قرارهم الصادر في ١٠ أغسطس، وكان بذلك يهدف إلى مواساتهم؛ لأن الاستمرار في دفع المقابلة لم يعد يُحقِّق لهم أي مزايا فورية. ولم يرتفع أي صوت بالاحتجاج ضد هذا الإجراء، ويرى الرافعي — خلال عرضه لأعمال هذا الدور من أدوار المجلس — أن ثمة «روحًا معارضة جديدة» برزت داخل المجلس، ولكن ما رآه الرافعي على أنه معارضة كان مجرد سراب؛ إذ كانت الإشاعات المفزعة حول مصير إسماعيل صديق تتردَّد عندئذٍ في القاهرة؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن يأتي رد المجلس على خطاب الخديو «في غاية الأدب» على نحو ما يذكر القنصل الفرنسي العام، كما أن الحقيقة الماثلة في موافقة المجلس في ذلك الدور على وقف دفع فوائد دين الروزنامة (٩٪ مبدئيًّا) لا تعني أن هناك جنوحًا نحو المعارضة.

كما أن روح المعارضة الجديدة لا تتضح في دور الانعقاد غير العادي الذي دعا إليه الخديو في نهاية أبريل ١٨٧٧م؛ فبعد اندلاع الحرب الروسية-التركية طلب السلطان من إسماعيل المساهمة في الحرب، فأجاب الخديو بأن مصروفات الدولة قد حُدِّدت من قبل، فلم يعد أمامه بُدٌّ من أن يدعو مجلس شورى النواب إلى الموافقة على فرض ضريبة جديدة لتغطية نفقات مساهمة مصر في الحرب. وفي الحقيقة، وافق النواب على زيادة الضرائب جميعًا بنسبة ١٠٪، وهنا يرى الرافعي أيضًا تقدمًا «وطنيًّا ودستوريًّا» يدعو إلى الإعجاب؛ لأن الضرائب كانت تُقرَّر من قبلُ دون الرجوع إلى المجلس، وهو ما يُمثِّل نصف الحقيقة؛ لأنه سبق أن طُولِب النواب بالموافقة على زيادة الضرائب، مثلما حدث عام ١٨٦٨م عندما وافقوا على زيادة الضرائب بمقدار السدس كما يذكر الرافعي.

أما دور الانعقاد العادي — من ٢٨ مارس حتى ٢٧ يونيو ١٨٧٨م — فقد انقضى دون أن يُقرر ما يستحق الذكر، حتى إن القناصل الأوروبيين أهملوا ذكره في تقاريرهم، وانصرف الاهتمام العام إلى لجنة التحقيق التي بدأت تُمارس عملها، ولم يُعلن المجلس الذي سادته «روح المعارضة» بأن يُقرِّر أن لجنة التحقيق تُعَد هدفًا مناسبًا. وكما حدث في نوفمبر ١٨٧٦م عبَّر النواب — في ردِّهم على خطاب العرش — عن مجرد الأمل في أن تُحَل مشكلة الديون المصرية حلًّا مُرضيًا. ولم يكن هذا الدور من أدوار الانعقاد يختلف كثيرًا عن أدوار انعقاد ١٨٦٧م وما بعدها.

ولكنَّنا يجب أن نُشير إلى موقف هام لتسعة من نواب أقاليم مصر الوسطى (الجيزة وبني سويف والمنيا وأسيوط) خلال ذلك الدور من أدوار الانعقاد، وكانت ضرائب عام ١٨٧٨م تُجبى — عندئذٍ — لسداد كوبون مايو، فبرهن أولئك النواب على أنهم يُمثِّلون أهالي بلادهم عندما تآزروا للبحث عن مخرج للمأزق الذي يُعاني منه الفلاحون الذين كانوا أمام أمرين: إمَّا أن يبيعوا محاصيلهم قبل نضجها، أو يقعوا في حبال المرابين، فطالب العُمُد التسعة بتوفير مصدر معقول للائتمان يوفِّر لهم قرضًا قيمته ٣٠٠ ألف جنيه يُخصَّص نصفها لسداد ضرائب أسيوط والنصف الآخر لسداد ضرائب بقية مديريات مصر الوسطى، ونجحوا في التوصُّل إلى ضامنين لهذا القرض هم: الأمراء محمد توفيق، وحسين كامل، وحسن، ومحمد حافظ وكيل دائرة والدة الخديو، وشاهين باشا مفتش أقاليم الدلتا، وعمر لطفي مفتش أقاليم الصعيد، الذين قبلوا التوقيع على العقد الخاص بهذا القرض مع بعض البنوك المحلية، وتعهَّد النواب بأن يُتابعوا بأنفسهم سداد قيمة القرض بعد جني المحصول، غير أن هذا كان تصرُّفًا خاصًّا من جانب بعض النواب، ولم يكن عملًا من أعمال المجلس.

وكان إسماعيل قد اكتشف مصدرًا آخر للمال قبل انعقاد المجلس في ٢٨ مارس؛ فقد طُولِب أعيان البلاد بالتبرع بالأموال من أجل جرحى الحرب، وكُلِّف المديرون وبعض اللجان الخاصة بجمع تلك الأموال التي بلغت ما يزيد على ١٠٠ ألف جنيه، واختُتمت جولة اللجان في ٢٨ فبراير بوليمة أُقيمت بطنطا.

ومن ثم يمكن القول إنَّه لم يحدث تغيير جوهري في موضوعات ونتائج مناقشات مجلس النواب. وكذلك في علاقتهم بالخديوي منذ افتتاح المجلس في ١٨٦٦م حتى افتتاح دور الانعقاد الجديد في ٢ يناير ١٨٧٩م. فلم يكن النواب يهتمون ﺑ «السياسات العليا» أو بمراقبة سلطة الخديو، ولكن كانوا يهتمون بتمثيل المصالح المالية والاقتصادية والثقافية لبلادهم، في إطار صلاحياتهم المحدودة.

وفي الحقيقة استمرت فترة «التلمذة السياسية» التي يُطلقها أنور عبد الملك على الفترة من ١٨٦٦‏–‏١٨٧٦م حتى عام ١٨٧٩م؛ فإن «تمثيلهم للحركة الوطنية والدستورية»٥٢ لم يبدأ في ١٨٧٦م، ولكنَّه بدأ فقط في ربيع ١٨٧٩م في ظل ظروف خاصة. ففي أدوار الانعقاد الأربعة ١٨٧٦‏–‏١٨٧٨م لم يُبدِ النواب معارضتهم لسياسة إسماعيل المالية، كما لم يحتجوا على التدخل الأوروبي، أو يناضلوا من أجل توسيع حقوقهم الدستورية. كما أنهم لم يُناقشوا أي موضوع لم تسبق مناقشته في الدورات السابقة، كما لم يخط أي خطوة دون أن تكون لها سوابق في السنوات السابقة.

وهذا لا يعني القول بأن النواب لم يرغبوا في إنهاء فترة «تلمذتهم» ليُصبحوا سياسيين في أسرع وقت ممكن، فربما تطوَّر وعيهم السياسي تبعًا لذلك، رغم أن عددًا كبيرًا منهم بدأ اتصاله بالحياة الثقافية في العاصمة لأول مرة، كما أن نحو ٦/٥ النواب دخلوا المجلس لأول مرة عام ١٨٧٦م، وعلى أيَّة حال لم يُعلن ذلك الوعي السياسي عن نفسه، ولكن النواب لم يكونوا في وضع يسمح لهم بالحصول على عطايا إسماعيل أو رفض منحه المالية حتى لو كانوا يرغبون في ذلك؛ فعلى أي قوة أو سلطة كانت ترتكز معارضتهم إذن؟ لقد كان السودان بعيدًا — من الناحية الجغرافية — ولكنَّه كان أقرب ما يكون بالنسبة لأولئك الذين يعترضون طريق إسماعيل، بل مات بعضهم وهم في الطريق إليه على نحو ما حدث لإسماعيل صديق المفتش.

ومهما بلغ مقدار ما منحه إسماعيل لرعاياه، فقد كان ذلك من تلقاء نفسه وليس استجابةً لضغط من أسفل؛ فلم يجبره أحد على تأسيس المجلس، غير أنه راح في طيات النسيان بعد مارس ١٨٧٣م. ولكن ضغوط الأزمة المالية بعد تأسيس صندوق الدين العام، جعلت الخديو يتذكَّر مجلس شورى النواب من جديد، فقد يُساعده المجلس على إيجاد مصادر جديدة للمال، وعلى إضفاء الصفة القانونية على تخفيض الامتيازات المالية، ويتوسط بينه وبين الدائنين الأوروبيين إذا دعت الحاجة إلى ذلك. كل ذلك يمكن أن يتحقَّق دون أن يُقدِّم إسماعيل في مقابله شيئًا، ودون أن يُطالب بشيء. وعلى كلٍّ، تغيَّر ذلك عندما سلبت الوزارة «الأوروبية» سلطة الخديو فالتمس الأخير في النواب حليفًا (كما فعل مع بقية أعيان البلاد).

ولم يكن الخديو بحاجة إلى أكثر من مجرد التشجيع وإبداء الارتياح حتى يضع مجلسَ شورى النواب على طريق معارضة الوزارة «الأوروبية» عندما دعا المجلس إلى الانعقاد في ٢ يناير ١٨٧٩م، وكان مجلس النظار قد اتخذ قرار دعوة المجلس للانعقاد — كما ذكرنا من قبل — ظنًّا منه أن مجلس شورى النواب هو الذي يستطيع وحده أن يُوافق على زيادة ضرائب الأطيان العشورية (وربما يمكن الحصول على موافقة المجلس على سداد الضرائب مقدمًا). فلم يكن الخديو هو الذي بادر بدعوة المجلس إلى الانعقاد، بل كان مُنفِّذًا لقرار مجلس النظار، على نحو ما ذكر فيفيان؛ فقد كان يُوقِّع جميع القرارات التي تُقدَّم إليه للتصديق عليها دون أي تعليق. ولكن إسماعيل اتجه الآن إلى التحالف مع الأعيان ليضع حدًّا للنظام السياسي الذي فُرِض عليه وعلى مصر. وفي ضوء ما نعرفه عن خلفية الحوادث التي وقعت بين مارس ويونيو ١٨٧٩م يمكن الاعتماد على معلومات رافاييل بورج، الذي يذكر أن الخديو طلب من الأعضاء البارزين بالمجلس معارضة الوزارة «الأوروبية».

فإذا استبعدنا رئيسه — أحمد رشيد — الذي كان واحدًا من «مماليك» إسماعيل فإن محمود العطار وعبد السلام المويلحي٥٣ — نائبَي القاهرة — كانا زعيمَي المجلس بلا منازع، وكان أولهما سر تجار العاصمة، وثانيهما ابنًا لسر تجار أسبق. ويُذكِّرنا ذلك بالاتصالات التي أجراها شاهين باشا في أوائل سبتمبر ١٨٧٨م مع كبار تجار القاهرة، وحثِّه لهم على معارضة وزارة نوبار. فقد لعب عبد السلام المويلحي وأخيه إبراهيم الدور الرئيسي في المعارضة، وكانا من أصفياء إسماعيل، كما كانا — أيضًا — على صلة بجمال الدين الأفغاني بحكم انتمائهما إلى الحركة الماسونية.
وفي ٢ يناير ١٨٧٩م، افتتح إسماعيل دور انعقاد مجلس شورى النواب٥٤ بخطاب مُقتضَب أبلغ فيه النواب بأن الغرض من دعوة المجلس إلى الانعقاد يكمن في رغبة النُّظَّار مناقشة بعض المسائل المالية والمسائل المتعلقة بالأشغال العمومية معهم، وجاء الرد على خطاب العرش — الذي قرأه عبد السلام المويلحي بقصر عابدين بعد بضعة أيام — بليغًا مؤثرًا إذ جاء فيه:

«نحن نواب الأمة المصرية ووكلاؤها، المدافعون عن حقوقها، الطالبون لمصلحتها التي هي — في نفس الأمر — مصلحة الحكومة، نرفع إلى مقام الحضرة الخديوية الفخمية الشكر الجميل، حيث عنيت بتشكيل مجلس شورى النواب، الذي هو أساس المدنية والنظام، وعليه مدار العمران، وهو السبب الموجب لنوال الحرية التي هي جوهر العدل وروح الإنصاف …»

وأبدى النواب شكرهم للخديو لتشكيله مجلس النظار الذي جعله «مسئولًا كافلًا أمام الأمة …»

فمن ناحية، اهتمَّ الرد بإبراز «مصلحة الأمة» و«منفعة الوطن» و«حقوق الرعية»، ومن ناحية أخرى وصف الخديو بأنه الذي يقود البلاد على طريق التقدم والمدنية التي تُنبئ بمطلع عصر جديد. وبرزت هُوية المصالح غير مرة، واقترنت واجبات النواب بنوايا الخديو، وختم المويلحي الرد على خطاب العرش بعبارة «فليحيَ الخديو المعظم»، و«لتحيَ الحرية تحت ظل رعايته وحمايته». ولا شك أن الحرية لا تستطيع أن تحيا حياةً عملية حقيقية في ظل مثل تلك الحماية.

ومن ثم يجب أن نُلاحظ أن النواب لم يعدُّوا أنفسهم المدافعين عن الحرية والممثِّلين لحقوق الشعب ومصالحه، بل جعلوا الخديو شريكهم في ذلك. وعلى كلٍّ لا يجب أن نهتم كثيرًا بمثل هذه الوثائق التي كُتبت للاحتفال بالمناسبات، كما أنه ليس من الحكمة أن نضع في اعتبارنا بعض المشاعر المعزولة وحدها. فمن بين سطور الرد على خطاب العرش تتضح تمامًا ملامح تلك الدورة من أدوار انعقاد المجلس؛ فلم تكن المعارضة الحامية الوطيس — التي قام بها النواب — موجهةً ضد الخديو بأي حال من الأحوال ولكنَّها كانت موجهةً ضد مجلس النُّظَّار عامةً وضد ولسون ودي بلنيير خاصة، لقد تحالف مع الخديو لمواجهة الوزارة «الأوروبية»، فيتركَّز احتجاجهم على إغفال مجلس النظار للحقوق التقليدية الشرعية للمجلس، ولكن كان عليهم أن يُناضلوا من أجل توسيع اختصاصات المجلس وإصدار اللائحة الدستورية الجديدة التي وعد بها الخديو؛ إذ لم يكن عزل الخديو قد وجَّه الأحداث وجهةً جديدة تمامًا.

وإذا ظنَّ نوبار أن باستطاعته كسب تأييد المجلس لوزارته لمُني بخيبة الأمل؛ لأن المعارضة ضد التدخل الأجنبي كانت عارمة، أضف إلى ذلك أن الوزيرين الأوروبيين والقناصل لم يكونوا ليقبلوا أن يجعلوا للمجلس صوتًا مسموعًا في سياسة البلاد؛ فقد شاركوا نوبار ورياضًا اعتقادهما بأن الأوتوقراطية هي أكثر النظم السياسية ملاءمةً لحكم مصر من أجل تحقيق الأهداف التي يصبون إليها، وكان الاختلاف بينهم يدور حول تحديد من يتولَّى مهمة الحاكم الأوتوقراطي: نوبار أم إسماعيل (على نحو ما حدث بين ولسون وفيفيان). ولكن، كيف يُخضعون الخمسة والسبعين نائبًا لسيطرتهم؟ إنَّه من السهولة بمكان ممارسة ضغط لحمل شخص واحد على التعقُّل، وفيما عدا تلك الاعتبارات العملية كانت سياستهم تستند إلى الاعتقاد بأن الشرق يجب أن يخضع لحكم استبدادي مستنير في المستقبل القريب، على أقل تقدير.

وهكذا دُعِيَ المجلس ليُضفي الصفة القانونية على الإجراءات التي من شأنها أن تُثير استياء كبار مُلَّاك الأراضي الزراعية، ولكن المجلس لم يحصل على شيء في مقابل ذلك، ومن ناحية أخرى، لم يُشجِّع إسماعيل النواب على اتخاذ موقف المعارضة فحسب، بل بذل لهم الوعود الدستورية حتى يُعاوِنوه على استرداد سلطته (على نحو ما سنرى)، ومن ثم يرتكب المجلس خطأً جسيمًا إذا قرَّر تأييد الوزارة ومعارضة الخديو.

فتميَّزت جلسات مجلس شورى النواب بالهجوم المستمر على نوبار والوزيرين الأوروبيين وخاصةً ولسون؛ لأن دي بلنيير — على الأقل — قدَّم مشروعاته إلى المجلس لمناقشتها، فبسط أمام المجلس خُطته لإعادة تنظيم الأشغال العمومية في مصر، وطلب رأي المجلس في مسائل بعينها، وحضر إلى المجلس ليُناقش ملاحظات الأعضاء على مشروعه (بمعاونة مترجم نظارته).

ودخل المجلسُ في صراع مع دي بلنيير لأنه كان ينوي أن يجعل العمل بالسخرة التزامًا عامًّا يخضع له جميع الفلاحين، على حين كان الفلاحون الذين يعملون بالعِزب والكفور والأبعاديات يُعفَوْن من الاشتغال بالسخرة — من قبل — حتى يتفرَّغوا تمامًا لخدمة كبار المُلَّاك. وكان دي بلنيير يسعى إلى وضع حد لهذا التمييز حتى قبل أن يُعيد تنظيم السخرة، واقترح أن يكون الإعفاء من السخرة مقابل بدل نقدي مُعيَّن يدفعه من يرغبون عنها. غير أن الاقتراح كان لا يعني إضافة عبء جديد إلى كواهل أولئك الفلاحين فحسب، بل إضافة عبء جديد يقع على عاتق كبار المُلَّاك الذين يستخدمون أولئك الفلاحين والذين كان عليهم أن يدفعوا البدل النقدي عن فلاحيهم؛ ومن ثَم عارض النواب النظام المقترح. كما كانت مشروعات دي بلنيير تعني — أيضًا — إضافة أعباء مالية جديدة على كواهل مُلاك الأطيان العشورية التي اقترح زيادة ضرائبها. وأعاد دي بلنيير شرح مشروعه أمام المجلس في ٣ فبراير دون أن يتبادر إلى ذهنه اعتراض النواب على ذلك المشروع.

ولكن معارضة المجلس كانت موجهةً — قبل كل شيء — إلى نوبار وولسون، اللذين لم يُبدِيَا أي استعداد للتعاون مع المجلس، وَبَدَا الأمر وكأن مجلس النُّظَّار قد دعا مجلس شورى النواب إلى الانعقاد ليخلق لنفسه أعداءً جُدُدًا. وكان ولسون يتوقَّع أن يُعارِض النواب مُخطَّطه الرامي إلى زيادة الضرائب، ولكنَّه لم يدخل في تقديره أن تلك المعارضة قد تُصبح أقل حدةً إذا أبدى استعداده لتسوية الأمور.

ففي ٥ يناير، وجَّه النواب خطابًا إلى ناظر الداخلية — بِناءً على اقتراح تقدَّم به محمود العطار — التمسوا فيه أن تتقدَّم نِظَارَتَا المالية والأشغال العمومية بخططهما إلى المجلس، وعلى حين استجاب دي بلنيير، أبلغهم ولسون أن خطة وزارته لم تكتمل بعد، وأنه يُسعده مناقشتها بمقر نظارته مع وفد يُمثِّل المجلس، فأرسل المجلس وفدًا من خمسة أعضاء إلى نظارة المالية على ألَّا يلتزم الوفد بشيء دون الرجوع إلى المجلس (استجابةً لاقتراح محمود العطار) وألَّا تعني تلك المحادثات غير الرسمية إعفاء ناظر المالية من طرح مشروعات نظارته أمام المجلس ككل للتداول بشأنها.

ورغم إصرار المجلس على مثول ولسون أمامه، لم يتحقَّق ذلك طوال ثلاثة أسابيع منذ بداية دور الانعقاد، حتى قام الأعضاء بفتح باب المناقشة في المسائل المالية على النحو الذي يرَونه، وجاءت نتيجة المناقشة في صورة عرض مُثير للأعباء الضريبية الثقيلة التي كان على البلاد أن تتحمَّلها، ومطالبة لمجلس النُّظار بالعمل على تخفيف تلك الأعباء. وطَرَحَ النواب للمناقشة المسائلَ المرتبطة بهم وبالتجارب التي واجهتهم في حياتهم، وبرهنوا باقتراحاتهم الخاصة بتخفيف الأعباء الضريبية على أنهم جديرون بالتحدث باسم الشعب وبتمثيل مصالحه المباشرة.

وطالب التاجران محمود العطار وعبد السلام المويلحي بإلغاء ضريبة «الدخولية» التي تُفرَض على البضائع في بعض المدن، وأيَّدهما خمسة من عُمد الدلتا في هذا الطلب، وأَطْلَعَ النائبان محمد راضي (بني سويف) وعبد الشهيد بطرس (جرجا) المجلسَ على ما يُعانيه الأهالي من جراء فرض «المقابلة» إجباريًّا، وطالَبَا بإيقاف جباية «المقابلة» في المناطق التي لا يرغب أهاليها في دفعها. وطالب أحمد عبد الصادق (أسوان) ومحمد سلطان (إسنا) وعبد الرحمن عرفة (الغربية) بتخفيض «عوائد النخيل»؛ لأن أعداد النخيل تناقصت نتيجة ارتفاع تلك العوائد. كما طالب بديني الشريعي (المنيا) وأحمد السرسي (المنوفية) وباخوم لطف الله بإلغاء ضريبة السدس، والزيادة التي أُضيفت إلى ضرائب الأطيان عام ۱۸۶۸م بما يُعادل سدس القيمة الضريبية، وحُدِّدت مدة هذه الزيادة بأربع سنوات، ولكنها استمرَّت تُجبَى بعد ذلك. وطالب حنا يوسف (المنيا) بإلغاء ضريبة الري وهي تُعادل ٪۱۰ من القيمة الضريبية فُرضت على المديريات الأربعة التي تقع على ترعة الإبراهيمية التي خُصِّصت مياهها — في حقيقة الأمر — لري أراضي الخديو الخاصة، كذلك طالب إبراهيم حسن أبو ليلة وعبد الشهيد بطرس (جرجا) بتخفيض ضريبة الملح. ولَفَتَ بعضُ نواب جرجا وقنا وإسنا أنظار المجلس إلى وضع أصحاب معاصر الزيوت بتلك المديريات الذين أصبحوا يعجزون عن منافسة مستوردي الزيوت بسبب ثقل عبء الضرائب الذي يقع على عاتقهم. وطالب نُواب آخرون بإلغاء عوائد السلخانة التي تُفرض على الذبائح.

وهكذا كان النواب يهتمون بالمشكلات الأساسية التي يُعاني منها أهالي مديرياتهم على نحو ما فعلوا في دورات الانعقاد السابقة؛ فقد كان المصريون يعرفون أنهم يدفعون الكثير وأن الضرائب باهظة، دون حاجة إلى لجنة تحقيق، وكان المجلس يضغط ضغطًا متواصلًا من أجل إصلاح النظام الضريبي إصلاحًا جذريًّا، وربما حاول ولسون أن يجد أرضيةً مشتركة تجمعه والنواب حول حلٍّ لتلك المشكلة، ولكن نجاحه في ذلك كان موضع شك في ضوء الظروف السائدة عندئذ.

ووقع الهجوم العام لمجلس شورى النواب على الوزارة «الأوروبية» في ٣ فبراير، ووُجِّه ذلك الهجوم ضد المرسوم الذي صدر قبل ذلك بأربعة أسابيع بضغطٍ من الوزيرين الأوروبيين رغم معارضة نوبار، والذي قضى بأن تُسند إلى لجنة التحقيق مهمة تقنين ومراجعة القوانين والأوامر الإدارية والمالية، كذلك أُسندت إلى اللجنة مهمة إعداد القوانين الجديدة في هذين المجالين ثم يتولَّى مجلس النظار بحثها، ويُصدِّق الخديو عليها وتُنشر في «الوقائع المصرية» لتُصبح قوانين نافذة المفعول.

فقام محمود العطار وعبد السلام المويلحي بصياغة احتجاج لم يُوجَّه ضد الحقيقة الماثلة في أن هناك بالإضافة إلى الوزيرَين الأوروبيَّين أوروبيين آخرين لهم حق اقتراح القوانين، بل وُجِّه ضد إغفال الحكومة لمجلس النواب (فكلمة «شورى» التي يتضمَّنها اسم المجلس لم تكن تُستخدم عندئذ، وهو أمر له مغزاه). وقد ضمَّن النواب ادعاءاتهم في رد المجلس على خطاب العرش عندما وصفوا أنفسهم بأنهم المدافعون عن حقوق الأمة المُمثِّلون لمصالحها، وها هي ذي تتخذ شكلًا مُحدَّدًا؛ إذ طالب المويلحي والعطار بألَّا يُبت في أمر يتعلَّق بالمصريين دون أن يُعرض على نُوابهم للنظر فيه. وكيف يخفى على رئيس النظار «أن للأمة المصرية نوابًا وهو يعلم دعوتهم للالتئام، وقد شهد يوم اجتماع المجلس، وحضر افتتاحه …؟» واعتبر النائبان المرسوم المُعتَرَض عليه انتهاكًا «لحقوق المجلس المقدسة»، وقد احترم الخديو تلك الحقوق فعرض معظم المسائل الهامة على المجلس منذ إنشائه، ولم يتخذ قرارات بشأنها قبل الوقوف على رأي المجلس. وهكذا تمَّت مواجهة نوبار الأوتوقراطي بإسماعيل الدستوري!

وكان على نوبار أن يرد على تلك التهم، فمثل أمام المجلس بعد أربعة أيام ولكنَّه لم يتناول تلك المسائل التي دُعي من أجلها؛ بحجة أن ما أثاره النواب يجب أن يُناقَش أولًا بمجلس النُّظَّار ثم يرفع المجلس إلى الخديو ما يراه بشأنها. واعترض عبد السلام المويلحي على ذلك بقوله إن أساس كل حكومة متقدمة وكل مملكة متقدمة يقوم على اشتراك ممثلي الشعب في مناقشة المسائل «الأساسية». ولمَّا كان نوبار يرفض مناقشة تلك النقطة، فقد عبَّر محمود العطار عن أمل المجلس في الحصول على حقوقه إذا عرض الأمر على الخديو.٥٥ وبعد ذلك الاجتماع باثني عشر يومًا اضطُر نوبار إلى الاستقالة من منصبه.

ولم تؤدِّ مظاهرة ١٨ فبراير وسقوط نوبار إلى تعطيل جلسات المجلس، فقد استمر النواب في مناقشة المسائل الضريبية، وفي ١٩ مارس — قبل تشكيل وزارة توفيق بثلاثة أيام — تقدَّم ٤٧ عضوًا بعريضة إلى المجلس، تضمَّنت الإشارة إلى أن ولسون لم يُبدِ استعداده للمثول أمام المجلس لمناقشة تلك المسائل؛ لذلك يرى النواب إرسال وجهة نظرهم إلى نظارة الداخلية.

وذكَّر هذا العملُ مجلسَ النظار بوجود مجلس شورى النواب فقرَّروا حله؛ فقد دعا المجلس لإقرار زيادة الضرائب العشورية، ولكن ولسون رفض التعاون معه، وكان من الصعب التوصُّل إلى تفسير لتلك السياسة المتخبطة المتناقضة. وكُلف رياض باشا بأن يُبلغ النواب أن فترة الثلاث السنوات المخصصة لدورة المجلس قد انقضت؛ ولذلك تقرر حل المجلس، ولكن رياضًا وُوجِه بما أثار دهشته!

إسماعيل واللائحة الوطنية، سقوط الوزارة «الأوروبية»

ولمَّا كان إسماعيل لم ينجح مطلقًا في تحقيق مقترحاته الخاصة بإعادة تشكيل الحكومة، ولمَّا كان قد استسلم — محتجًّا — لضغوط الدول الأوروبية، فقد عقد العزم على أن يطرد الوزيرين الأوروبيين وأشياعهما من الوزارة؛ ولسون ودي بلنيير ورياض وعلي مبارك؛ وذلك بمعاونة أصفيائه من الأتراك الجراكسة وأعيان البلاد. وبدأ أصفياؤه يبثون السخط على الأوضاع في نفوس الضباط والذوات والموظفين والنواب والتجار والعلماء، ذلك السخط الذي انصبَّ على أولئك الوزراء.

وتنبَّأ الأمير توفيق بوقوع اضطرابات خطيرة في البلاد. وفي ٢٤ مارس، وضع شريف باشا مذكرةً مُطوَّلة لفيفيان ذكر فيها أن الشعب «في حالة معقدة تُخِلُّ بمستقبل مصر»،٥٦ وأرجع الوضع الميئوس منه إلى كراهية نوبار للخديو وحقده عليه. وذكر أن نوبار شنَّ حربًا علنية كل يوم ضد إسماعيل، وأن تجربة إقامة وزارة «دولية» محكوم عليها بالفشل؛ لأن الوزيرين الأوروبيين لم يعتبرَا نفسيهما وزيرين مصريين بل تصرفَا كوزيرين إنجليزي وفرنسي، وأنهما سيستمران في ذلك، وأن نوبار كان أجنبيًّا أيضًا ومن ثم لم يتمتَّع بتقدير مواطنيه، وكان الوزيران المصريان (رياض وعلي مبارك) تحت حماية هؤلاء الأجانب الثلاثة؛ لذلك كرههما المصريون، ورغم أن إغفال تلك الوزارة للشعور الوطني وجرحها للكرامة الوطنية قد لقي الرد الشافي عليه في ١٨ فبراير، ورغم أن سلطة الوزارة أصبحت سلطةً وطنية، فإنَّهم ما زالوا يحتفظون بمناصبهم باستثناء نوبار.

لقد قامت وزارة نوبار بأعمال تخريبية لا نظير لها؛ فزادت من المصروفات الإدارية؛ لأن النظارات مُنِيَت بغزو الموظفين الأوروبيين ذوي الرواتب الكبيرة الذين حلُّوا محل الموظفين الوطنيين، وكاد الجيش أن يُحَل تمامًا، وأُغلقت المدارس والمؤسسات الخيرية، وأُجبِر الفلاحون على بيع محاصيلهم مُقدَّمًا بربع قيمتها لمواجهة متطلبات الضرائب، ولم يُصغِ مجلس النُّظَّار إلى تحذيرات ناظر الجهادية (الذي كان الرجل المثالي الوحيد!)، فإذا بقيت هذه الوزارة في السلطة تعرَّضت مصر للفوضى ولكن ذلك لا يخدم سوى مصالح إنجلترا إذا كانت تلعب حقًّا بفكرة احتلال قناة السويس — على الأقل — احتلالًا مؤقتًا، ومثل تلك المحاولة ستؤدي إلى حرب دموية شديدة العنف.

فما نوع الحكومة التي يجب أن تحل محل الوزارة «الأوروبية»؟ أكَّد شريف على أن الحكم الاستبدادي يجب أن يُلغى في الحاضر والمستقبل، على أن يمارس الخديو الحكم بالاتفاق مع مجلس نُظَّار يتكوَّن من المصريين الأكْفاء الشرفاء الذين يتمتَّعون باحترام الرأي العام. ويجب أن يكون النظار مسئولين أمام الخديو بأفرادهم ومجموعهم، وقد تلجأ الدول إلى فرض وزراء أجانب على البلاد، ولكن ذلك لم يتحقَّق على المدى البعيد إلَّا بالقوة العسكرية، فهل هذا ما يرمون إليه؟!

كان شريف يتحدَّث بلسان إسماعيل في تلك المذكرة، فكان يقصد ﺑ «الرجال الشرفاء» نفسه وحفنةً من «مماليك» الخديو الآخرين. ولم يُشِر إلى مجلس شورى النواب حتى مجرد إشارة فيما يتعلَّق بالنظام السياسي الجديد، وهو يرى أن يكون الوزراء مسئولين أمام الخديو وليس أمام المجلس! وعلى كلٍّ، لا يعني ذلك أن إسماعيل قد أغفل الاستعانة بالمجلس في إسقاط الوزارة.

وعندما أراد رياض أن يُرسل النواب إلى بلادهم — في ٢٧ مارس — بعبارات شكر رقيقة على ما قاموا به من عمل، قام النواب: عبد السلام المويلحي، ومحمد راضي، وبديني الشريعي، وباخوم لطف الله، بتوجيه النقد الشديد إليه بدلًا من العبارات المهذبة المعتادة في مثل تلك المناسبات. فاعتبر النواب عبارات الشكر غير ذات موضوع؛ فقد دُعِيَ المجلس لمناقشة المسائل المالية الراهنة، ولكن انقضت ثلاثة أشهر دون أن تحظى رغبات النواب وطلباتهم بأي الْتفات؛ ولذلك طالب المجلس بمَدِّ دور الانعقاد لمدة شهرين لمناقشة المسائل المالية، وتحدَّث عبد السلام المويلحي عن مسئولية مجلس النظار والتزامه بألَّا يُبرِم أمرًا دون الرجوع إلى المجلس. ورفض رياض الاعتراف بتلك المطالب التي لا تتفق مع أيٍّ من مواد القانون الأساسي للمجلس. وعلى أيَّة حال، فسَّر عبد السلام المويلحي القانون بصورة مختلفة، فرأى أن مراقبة عمل الحكومة تدخل في نطاق اختصاصات المجلس لوضع الحلول وتقديم القرارات إلى الخديو. وأُرسلت نسخة من مضبطة هذه الجلسة إلى القصر، وأخرى إلى مجلس النُّظَّار.

وفي نفس اليوم، قدَّم ولسون إلى الخديو مشروع قرار بإرجاء كوبون أول أبريل إلى أول مايو لأن صندوق الدين العام لا يملك المبلغ الكافي لسداد ذلك الكوبون، ولكن إسماعيل ردَّ ساخطًا بأن ذلك إعلان مُقنَّع بإفلاس مصر، وإذا بإسماعيل الذي كان يتحمَّس كثيرًا لفكرة إعلان إفلاس الدولة من أجل حل مشكلة الديون حلًّا نهائيًّا يتبنى الآن وجهة نظر الدائنين القائلة بأن مصر تستطيع الوفاء بالتزاماتها إذا توفر لديها الاستعداد لذلك؛ ومن ثم كان عليه أن يكسب تلك المجموعة القوية إلى صفه إذا شاء طرد الوزيرين الأوروبيين، وكان الدائنون الفرنسيون قد قدَّموا عريضةً إلى مجلس شورى النواب في ٢٧ يناير يشكون فيها من أن الحكومة المصرية حالت دون تنفيذ حكم للمحاكم المختلطة صدر ضدها. وعندما شاع أن ولسون قدَّم للخديو ولجنة التحقيق في ١٨ مارس مشروعًا لحل المشكلات المالية يتضمَّن إعلان إفلاس الحكومة المصرية، بينما كان الخديو — في نفس الوقت — يعد بإرضاء الدائنين إرضاءً تامًّا، فَقَدَ الوزيران الأوروبيان تأييد الجاليات الأوروبية ذاتها.

وتلقَّى الخديو عريضةً من مجلس النواب بعد يومين من تلك الجلسة الشهيرة، وسَوْرَة غضب إسماعيل في ٢٩ مارس. فعلى خلاف الحقيقة التاريخية، زعم المجلس أنه كان يهتم منذ سنة ١٨٦٦م بكل المسائل التي تتعلَّق بالبلاد، وأن الموازنة كانت تُقدَّم له في كل عام، وأن قراراته كانت تحظى دائمًا بتصديق الخديو، وأن «بعض الوزراء» في الوزارة الحالية قاموا — على عكس ذلك — بالتعدي على حقوق المجلس، وتجاهلوا آراء النواب، وأنهم يحتجون على مشروعات ولسون، ويُعارضون رغبته في إعلان إفلاس مصر وإلغاء المقابلة. وكان ما جاء بالعريضة من أن الحقوق المترتبة على دفع المقابلة سوف تضيع بهذه الطريقة، هو الإقرار الوحيد الصحيح جزئيًّا في تلك العريضة.

وأعقب هذا أسبوع حافل بالنشاط، ومن الجلي أن إسماعيل قد طلب من الشيخ البكري خلال تشكيل الوزارة أن يؤكِّد بأن «الأمة» تُطالب باستقالة الوزراء المُشايعين لنوبار (رياض وعلي مبارك). وازدادت تلك الهجمات ضراوة، وقيل إن البكري قد كسب إلى جانبه الشيخ العدوي٥٧ الذي كان يخطب على منابر المساجد ضد رياض والوزيرين الأوروبيين. وحذَّر مأمور الضبطية رياضًا بأن حياته معرضة للخطر.
وأُشيع — لبعض الوقت — أنه كانت لدى إسماعيل خطة مالية مقابلة لمشروع ولسون، ويبدو أن سكرتيره الخاص الفرنسي «بارو باشا» هو صاحب تلك الخطة. وبمعاونة مؤيديه، نظَّم الخديو حركة جمع توقيعات على الخطة بواسطة ممثلي الفئات الاجتماعية التي كانت تُعتبر صاحبة الحق في التحدث باسم الشعب، وتولَّى تحريك العملية شريف باشا وشاهين باشا والشيخ البكري وراغب باشا وراتب باشا وأحمد رشيد باشا، وركَّز إبراهيم المويلحي — صديق إسماعيل الحميم — جهده للعمل على إسقاط الوزارة — بواسطة الأمة — وذكر أنه قام بنفسه بإحضار علماء وأعيان الإسكندرية — مع غيرهم — ليُوقِّعوا على الأوراق.٥٨ وعُقِدَت الاجتماعات لهذا الغرض بمنزلَي الشيخ البكري وراغب باشا. وطمأن رافاييل بورج — الذي كان على علم بما يجري — القنصل البريطاني بأنه لا مدعاة للخوف من وقوع ثورة؛ فأولئك الذين يحضرون الاجتماعات ليسوا ثوريين، ولكنَّهم من أكثر أعيان البلاد ثروةً وأوسعهم نفوذًا وهم على اتصال دائم بالخديوي. وفي ٢ أبريل، وُضعت اللائحة الوطنية — وهو الاسم الذي أُطلق على الخطة المضادة لخطة ولسون — في منزل راغب باشا بحضور شريف باشا وشاهين باشا وحسن راسم٥٩ وجعفر صادق باشا٦٠ والشيخ البكري والشيخ الخلفاوي والشيخ العدوي.
وتتفق المصادر المعاصرة في الإشارة إلى خلفية اللائحة، فيذكر سرهنك أن الخديو دعا أعيان البلاد وطلب منهم تقديم خطة مالية يستطيع على أساسها أن يلغي الإجراءات المفروضة عليه.٦١ ورغم أننا نتردد في اعتبار نينه Ninet شاهدًا أساسيًّا لتلك الحوادث، فإنَّنا لا نستطيع أن نتجاهل الروايتين اللتين يوردهما بهذا الصدد٦٢ إذ يذكر أن إسماعيل أمر «أتباعه»٦٣ بترتيب اجتماع لأعيان البلاد، ووجَّه إليهم الحديث باعتبارهم «قلب البلاد وحزبها الوطني الكبير»٦٤ ووعدهم بمكاسب دستورية إذا وضعوا توقيعاتهم على خطته المالية ومنحوها تأييدهم، وبذلك يُدافعون عن أنفسهم ضد التدخل الأوروبي، ولكن الخديو لم يكن ينوي الإخلاص فيما قدَّم لهم من وعود. ويذكر القنصل الفرنسي في تقريره أنه «يوجد بالبلاد حركة أعيان تستهدف تأييد وضمان المقترحات المالية للخديو ويُطالبون في المقابل بتحديد النظام السياسي القائم.»٦٥

ولا يعني التأكيد على دور الخديو أنه قد مارس ضغطًا شديدًا على الأعيان؛ فاللائحة تُعبِّر عن مصالحهم، وكبار المُلَّاك من بينهم يستطيعون تأييد مثل هذه المقترحات بسهولة لأن ولسون كان ينوي زيادة الضرائب على الأطيان العشورية، ولأنهم خشوا أن يفقدوا المزايا الأساسية للمقابلة. وكان توقيع العلماء على اللائحة يعني احتجاجهم ضد نفوذ الكفار في مصر الذي يُعرِّض الإسلام لخطر كدين وكأسلوب للحياة. وكان الموظفون يخشَون على مراكزهم لأن الوزارة جلبت الكثير من الأوروبيين إلى البلاد، وحتى رياض لم يستطع أن يمنع بعض موظفي نظارته من التوقيع على اللائحة. وبالنسبة للضباط كان التوقيع عليها واجبًا يستلزم الوقوف في وجه أعداء الجيش. ووافق الخديو على توسيع حقوق مجلس شورى النواب كمؤسسة دستورية ليضمن تأييدًا ثابتًا مخلصًا من جميع أعضائه.

وهكذا عندما قُدِّمت اللائحة إلى ممثلي الدول في ٧ أبريل ١٨٧٩م كانت تحمل توقيع ٧٣ «من الموظفين المدنيين الموجودين بالخدمة والمتقاعدين» (من الذوات) و٩٣ من كبار الضباط، و٦٠ من علماء القاهرة والإسكندرية ودمياط. بالإضافة إلى بطريرك الأقباط وحاخام اليهود، و٤١ من «تجار وأعيان» القاهرة ودمياط، و٦٠ عضوًا من أعضاء مجلس النواب.٦٦
وفي ٧ أبريل، استدعى الخديو قناصل الدول إلى القصر وبحضور شريف وشاهين وراغب وراتب وعلي البكري وعبد السلام المويلحي ومحمد راضي والسيد اللوزي وغيرهم،٦٧ أبلغ القناصل بعدم رضاء جميع طبقات الشعب عن الوزارة القائمة، وأن مشروعًا قُدِّم إليه يُعبِّر عن وجهات النظر السائدة في البلاد، وطالب القناصل بأن ينقلوا ذلك إلى حكوماتهم. ولمَّا كان الجميع يطالبون بحكومة وطنية فإن الأمير توفيق لم يقبل أن يقف في وجه «الشعور الوطني» واستقال من منصبه، وإن شريف باشا قد كُلِّف بتشكيل حكومة جديدة.

وبعد ذلك تحدَّث الرئيس المرتقب لمجلس النُّظار فأرجع سخط البلاد إلى الخطة المالية التي وضعها ولسون وخاصةً ما يتعلَّق منها بإلغاء المقابلة وإعلان إفلاس مصر الذي يمس بكرامة البلاد، كما أن الأمة رأت أن الطريقة التي عومل بها مجلس النواب كانت إهانةً لنوابها لأنهم دُعُوا إلى الانفضاض دون أن يُؤخذ رأيهم في شئون البلاد.

وعندما سأل القنصل النمساوي عمَّا إذا كان الموقِّعون على الخطة على استعداد لضمان تنفيذها بأملاكهم الخاصة، أجاب الخديو بأنه ليس ثمة ما يدعو إلى ذلك؛ فإن الأمر لا يحتاج إلى ضمان يُعتد به أكثر من تصميم الأمة كلها — من أكبر رأس فيها إلى أقل أفرادها شأنًا — على تقديم كل التضحيات اللازمة لتفادي إعلان الإفلاس الوطني.

وتضمَّنت اللائحة الوطنية٦٨ أربع وثائق منفصلة:
  • (١)

    نسخة من العريضة المرفوعة من مجلس شورى النواب إلى الخديو بتاريخ ٢٩ مارس.

  • (٢)

    عريضة من أعيان البلاد يُطالبون فيها بإصلاح النظام السياسي.

  • (٣)

    إعلان رسمي صادر من الخديو في ٥ أبريل.

  • (٤)

    الخطة المالية المضادة نفسها.

وبيَّن الأعيان في عريضتهم أنهم فحصوا خطة ولسون المالية (ولم يكن باستطاعتهم الحصول على نسخة منها إلَّا عن طريق الخديو)، وأنهم خرجوا من ذلك باستنتاج أن تلك الخطة تُضر بمصالح مصر وتُسيء إلى كرامتها؛ ولذلك أعدوا خطةً مالية مقابلة تقوم على حقيقة أن مصر في وضع يسمح لها بالوفاء بكل التزاماتها المالية.

ورأوا أن الشرط الهام الذي يجب توفُّره لنجاح هذه الخطة هو أن ينال مجلس شورى النواب نفس الحقوق والصلاحيات في تقرير السياسة المالية والداخلية التي تتمتَّع بها البرلمانات الأوروبية؛ ولذلك يجب أن يصدر قانون انتخابي جديد يُنسَج على منوال القوانين الأوروبية ويتولَّى الخديو تعيين رئيس النظار، كما يجب أن يُوافق على الوزراء (الذين يختارهم رئيس النُّظار)، ولكن يجب أن يكون مجلس النظار مسئولًا أمام مجلس النواب فيما يتعلَّق بالمسائل المتصلة بالسياسة الداخلية والمالية.

وفي إعلانه الصادر في ١٥ أبريل، رفض الخديو رفضًا قاطعًا الاعتراف بإفلاس مصر وقدَّم تأكيدات رسميةً بأنه «لا ينوي العودة إلى نظام الحكم الفردي»، ولكنَّه لم يذكر شيئًا حول إمكانية توسيع حقوق مجلس النواب فيما يتصل بالمسائل المالية والسياسة الداخلية، غير أنه قبل أن يحكم «بواسطة ومن خلال مجلس للنظار مسئول مسئوليةً حقيقية أمام مجلس النواب».

وأكَّد القسم المالي من اللائحة على الإجحاف الشديد الناتج عن إلغاء المقابلة والاقتراحات الخاصة بتعويض من دفعوا المقابلة التي اعتُبِرَت غير كافية تمامًا. وناقش الفكرة القائلة بأن الحكومة قد تستفيد من إلغاء المقابلة بعد عام ١٨٨٦م فقط، بينما استمرار العمل بالمقابلة يؤدي إلى تسديد جانب من ديون الحكومة بالأموال التي تأتي من المقابلة حتى ذلك التاريخ. كذلك تضمَّنت اللائحة تخفيض سعر الفائدة على الدين الموحَّد إلى ٥٪. وبهذا الإجراء — الذي اتخذه الخديو من جانب واحد — بدأ النشاط الدبلوماسي للحكومات الأوروبية الذي أدى إلى عزل إسماعيل.

ولم يشتمل الجانب المالي من اللائحة على مقترحات خاصة بإصلاح النظام الضريبي الذي كان بارزًا في خطة ولسون وموضع مناقشات دارت في مجلس النواب. ولم تُعِر اللائحة اهتمامًا لمطالب النواب الخاصة بإلغاء بعض الضرائب الخاصة والعوائد الصغيرة. وعلى عكس ما طالبت به اللائحة، كان مجلس النواب قد أقرَّ من قبلُ إيقافَ العمل بالمقابلة استجابةً لرغبات ممولي الضرائب. فإذا كان ثمة شكًّا، فإن تلك الحقائق تؤكِّد أن الخطة المالية المضادة لم تكن من وضع مجلس النواب، على نحو ما يذكر الرافعي ويُحاول أن يُقنع الناس به. أضِف إلى ذلك أن اللائحة — مقارنةً بخطة ولسون — لم تتضمَّن تحديد مخصَّصات مالية للخديو وعائلته أو تحقيق المساواة في الأعباء الضريبية بين الأطيان العشورية والأطيان الخراجية، فلم تتضمَّن الخطة المالية للأعيان ما يمس المصالح المادية للخديو والطبقة الممتازة.

وعلى العكس من ذلك، كانت خطة ولسون — التي عدَّلتها لجنة التحقيق — التي قدَّمها في ٨ أبريل؛ أي بعد اللائحة بيوم واحد، تقترح تحديد مُخصَّصات مالية سنوية لعائلة الخديو قيمتها ثلاثمائة ألف جنيه،٦٩ وزيادة الضرائب على الأطيان العشورية بمقدار ١٥٠ ألف جنيه سنويًّا على أن ينتهي التمييز بين الأطيان العشورية والأطيان الخراجية بالانتهاء من إجراء المساحة الجديدة للأطيان، واعتبار المبالغ التي فُرِضَت باسم «الروزنامة» ضريبةً خاصة، مع إلغائها من قائمة ديون الحكومة، وإلغاء المقابلة مع تعويض أولئك الذين خُفضت ضرائب أطيانهم وفقًا لقانون المقابلة، وإلغاء عدد من الضرائب والعوائد الصغرى التي تجلب دخلًا قدره ٤٠٠ ألف جنيه سنويًّا.
وعلى كلٍّ، حاول إسماعيل أن يُفوِّت الأمر على القناصل الأوروبيين، فأبلغهم أنه «باعتباره رئيسًا للحكومة وباعتباره مصريًّا» كلَّف شريف باشا في اليوم السابق بتشكيل مجلس نظار جديد «يتكوَّن من عناصر مصرية حقيقية». واعتُبرت استقالة توفيق استقالةً لمجلس النظار جميعه، دون استشارة النظار، كما اعتبر إسماعيل أن «من واجباته المقدسة أن يتبع رأي الأمة»، على أن يظل مرسوم ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م أساسًا للتعاون بين الخديو ومجلس النظار الجديد، كما أنهم «مُكلَّفون بالمسئولية لدى مجلس الأمة الذي سيجري انتخاب أعضائه وتعيين مأموريته بوجه كافٍ للقيام بتأدية ما يلزم للحالة الداخلية ومرغوب الأمة نفسها».٧٠
وأصدر إسماعيل مرسومًا في ٨ أبريل بتعيين مجلس النظار من «المصريين الحقيقيين»، فأصبح شريف باشا رئيسًا لمجلس النظار وناظرًا للداخلية والخارجية، وعاد راغب باشا — الذي خدم من قبلُ كناظر للمالية — إلى تولي نفس المنصب، كما أصبح شاهين باشا ناظرًا للجهادية مرةً أخرى، وذو الفقار باشا ناظرًا للحقانية، وثابت باشا٧١ ناظرًا للمعارف والأوقاف، وزكي باشا٧٢ ناظرًا للأشغال العمومية، وعمر لطفي مفتشًا لعموم الوجهين البحري والقبلي على أن يكون له مقعد بمجلس النظار وأن يكون له حق التصويت فيه (ومن خلال هذا المنصب كان مسئولًا عن فرض الضرائب في جميع أنحاء البلاد).
وفي المنشور الصادر في ١٠ أبريل، أبلغ شريف القناصل أن مجلس النظار «يستند إلى مشاعر الأمة وحكمة الخديو.»٧٣ ولم يكن الجزء الثاني من هذه العبارة موضع شك من أحد لأن النظار الجدد كانوا من أصفياء الخديو. وعلى حد قول فون كريمز: «كان من السخف ألَّا نجد من بينهم مصريًّا واحدًا»٧٤ إذ كانوا جميعًا من الأتراك-الجراكسة الذين نزحوا إلى مصر من مختلِف أنحاء الدولة العثمانية.٧٥ ولذلك نجد قائمة أسماء النظار لا تُمثِّل الفئات التي وقَّعت على اللائحة — كما كان متوقَّعًا — فليس بينهم عضو من أعضاء مجلس شورى النواب؛ إذ احتفظ «المماليك» بهذه المناصب الرفيعة مما جعل القناصل الأوروبيين يخشون عودة «النظام القديم» نظام «الباشاوات».

وبينما كان «المماليك» يحتلون مناصبهم الوزارية، قام تجار وعلماء القاهرة — الذين لعبوا الدور الرئيسي في تغيير الوزارة — بالاحتفال بما حققوا من نجاح بطريقتهم الخاصة؛ ففي ۸ أبريل تجمعوا في بيت الشيخ البكري ثم توجَّهوا إلى قصر عابدين، حيث قابل الخديويَّ كلٌّ من التجار والعلماء على حدة. وقدَّم الشيخ البكري والشيخ الخلفاوي الشكر للخديو، وامتدحاه لما قدَّمه من أجل «الوطن والحرية»، وأقام الشيخ البكري وليمةً في بيته — في ٩ أبريل — دعا إليها الأعيان والتجار وبطريرك الأقباط، ومنح الخديو نقيب الأشراف شرف الجلوس على مائدته لمدة خمس وعشرين دقيقةً مكافأة له على خدماته المخلصة! وقام التجار: إبراهيم المويلحي ومحمود العطار ومحمد السيوفي بتزيين منازلهم ابتهاجًا بالمناسبة، تمامًا كما يفعلون بمناسبة الاحتفال بمولد الأولياء. وكُوفئ إبراهيم المويلحي على الدور الذي لعبه بتعيينه رئيسًا لأحد أقسام نظارة المالية التي أُسندت إلى راغب باشا.

عزل إسماعيل

أصبح واضحًا لإسماعيل أن أعماله تحتاج إلى تدعيم، وأن بقاءه على العرش — وربما بقاء استقلال مصر النسبي — بات في كف القدر. وكان الوزيران الأوروبيان قد أوصيَا قبل طردهما من الوزارة بخلع إسماعيل كسبيل وحيد لتفادي وقوع أزمة جديدة، غير أن إسماعيل عقد العزم على الدفاع عن سلطته التي عادت إليه بكل الوسائل السياسية والدبلوماسية والعسكرية المتاحة له، وكان عليه أن يُرضي الدائنين ويستميل الدول الأوروبية ويكسب السلطان إلى جانبه، وفي نفس الوقت يحتفظ بتأييد الأعيان له.

وبدأ إسماعيل بوضع الجيش على أُهبة الاستعداد، فيذكر عرابي أنه بعد أن أسدلت لجنة التحقيق الستار على أحداث ١٨ فبراير (تقرير ٢٢ مارس وقرار صرف المرتبات الصادر في ٢٦، ٢٧ مارس) دُعِيَ جميع الضباط من رتبة البكباشي فصاعدًا إلى قصر عابدين حيث استقبلهم الخديو بالحفاوة، وفي تلك المناسبة عُيِّنَ عرابي ومحمد النادي٧٦ وعلي الروبي بوظيفة ياوران،٧٧ ثم بعد أسبوع تعيَّن علي الروبي رئيسًا لمجلس مديرية الدقهلية، وتعيَّن محمد النادي قائدًا للآلاي الثاني البيادة المستجد وأُرسل إلى الإسكندرية بآلايه. وتعيَّن عرابي نفسه قائدًا للآلاي الرابع البيادة المستجد أيضًا، واستُدْعِيَ جميع الضباط من الاستيداع إلى الخدمة، وأُعيد فتح المدارس العسكرية وبدأ العمل على زيادة قوة الجيش بصورة جدية، وأُقيمت المناورات العسكرية، وأعدَّ شاهين باشا ناظر الجهادية خطةً للدفاع عن البلاد تضع في اعتبارها إغلاق مواني البحر المتوسط وقناة السويس بالسفن الغارقة، وإغراق شمال الدلتا إلى الجنوب من ساحل البحر المتوسط أيضًا.
وفي ١٠ أبريل، دعا شريف باشا مجلس شورى النواب إلى متابعة اجتماعاته، وفي ١٧ مايو قدَّم للمجلس مشروع الدستور٧٨ الذي أعده بمساعدة مستشاره الخاص ووكيله الدكتور كيلر Keller وهو محامٍ من مدينة برسبورج وعضو سابق بالرايخستات النمساوي المجري. وناقشت المشروع لجنة من مجلس شورى النواب مُكوَّنة من خمسة عشر عضوًا برئاسة عبد السلام المويلحي. كما قُدِّم للجنة مشروع قانون انتخاب جديد أحالته الحكومة إلى المجلس في ٢ يونيو.٧٩ وكان مشروع الدستور مُلفِتًا للنظر من عدة نواحٍ، ولكن نظرًا لفض دور انعقاد مجلس شورى النواب في ٦ يوليو عندما كان مشروع الدستور قيد البحث حتى بُعِثَ من جديد على يد شريف عند عودته للحكم في سبتمبر ١٨٨١م، فسوف نرجئ الحديث عنه إلى حين تناولنا لتلك الأحداث.

وعندما قدَّم أعضاء لجنة التحقيق وغيرهم من كبار الموظفين الأوروبيين استقالاتهم (فيما عدا وكلاء صندوق الدين العام)، حاول إسماعيل أن يُقنع الدول أنه لم يرغب في الإطاحة بالرقابة المالية الأوروبية، ولكنَّه — على العكس — رغب في «إحكام الرقابة على الإدارة المالية» على أساس المرسوم الصادر في ١٨ نوفمبر ١٨٧٦م، على نحو ما جاء باللائحة الوطنية؛ ولذلك طلب شريف من كلٍّ من الحكومتين الإنجليزية والفرنسية تعيين مراقب عام من قِبَلها.

وعلى كلٍّ، أمر إسماعيل — في ٢٢ أبريل — بوضع الخطة المالية الوطنية موضع التنفيذ بغضِّ النظر عن خطة ولسون التي عدَّلتها لجنة التحقيق، وحتى يُطَمْئن الدول على مصالحها أصدر في اليوم التالي مرسومًا بإنشاء مجلس للدولة على نمط مجلس الدولة الفرنسي، على أن يتولَّى رئاسته رئيس مجلس النظار، وإلى جانبه نائبان أوروبيان وثمانية مستشارين وأربعة من موظفي التحقيقات (أوروبيان ومصريان)، وسكرتير عام، ويتولَّى المجلس إعداد القوانين، وتقديم المشورة القانونية، ويُمارس قدرًا محدودًا من السلطة القضائية الإدارية، ووافق شريف على تعيين إنجليزي وفرنسي كنائبَين للرئيس.

وفي خطاب مُوجَّه إلى القنصل البريطاني في ٤ مايو، ذكر إسماعيل أن تغيير مجلس النظار (ولم يكن يريد أن يعطي أهميةً كبرى للتغييرات الأخرى) تمَّ بضغطٍ من الرأي العام. وأنه لا يحمل أي ضغينة للحكومة البريطانية، وقام الشيخ البكري وشريف باشا بشرح أسباب التغيير للقنصل.

فزار البكري فيفيان في نفس اليوم (٤ مايو) وتقمَّص شخصية الروح الموجِّهة للأحداث الأخيرة. وقصَّ على القنصل البريطاني قصةً خلَّابة أخذها فيفيان — على ما يبدو — على عِلَّاتها، فذكر أن الآلاف من أبناء الشعب طلبوا منه أن يُنظِّم المقاومة ضد تسليم مصر للأوروبيين، وأن الخديو لم يجد مفرًّا من الخضوع لنُواب الشعب الذين جعلوه يُقسم على القرآن بأن يحكم من الآن فصاعدًا حكمًا دستوريًّا، وهدَّدوه بخلعه من منصبه إذا حنث بقَسَمه.

وفي ٧ مايو، أعدَّ شريف باشا مذكرةً مطوَّلة مفصَّلة لفيفان حول الأخطاء التي ارتكبتها الوزارة «الأوروبية»، وذكر فيها أن وزارة نوبار تجاهلت الخديو وأغفلت مرسوم ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م، وأهملت تحذيرات الخديو وناظر الجهادية من احتمال وقوع تمرد بالجيش (وفي نهاية الأمر قرَّر الضباط أن يستخلصوا حقوقهم بأيديهم)، وتجاهلت الوزارة المجاعة التي وقعت بالصعيد، واستخدمت عددًا كبيرًا من الموظَّفين الأوروبيين برواتب ضخمة، وقامت بجباية نصف الضرائب مُقدَّمًا في ١٨٧٩م دون مراعاة الحالة الاقتصادية المتدهورة للأهالي، كما فرضت الضرائب على زراعة الدخان، أضف إلى ذلك أن مجلس شورى النواب قد عُومِل بالاحتقار من جانب ولسون ودي بلنيير (رغم أن الحكومة هي التي رأت دعوة المجلس إلى الانعقاد)، وأدخلت حق الفيتو للوزيرين الأوروبيين، وبذلك ظلَّ النُّظار الذين تنصَّلوا من مسئولياتهم في ١٨ فبراير يعملون تحت الضغط الأوروبي، وأبدى أولئك النظار عداءً متزايدًا للخديو، كما أقدمت الوزارة على حل مجلس شورى النواب في الوقت الذي كانت فيه خطة ولسون موضع المناقشة، وأخيرًا، عقدت الوزارة العزم على إعلان إفلاس مصر وإلغاء المقابلة … كل ذلك جعل تغيير الوزارة أمرًا ضروريًّا. فلم يكن هناك من يرغب في التخلُّص من الأوروبيين، ولكن معاونتهم كانت مطلوبة — بالشروط المصرية — لتنظيم الأمور المالية، بقدر أكبر من المراعاة لمصالح الأمة (أو مصالح الطبقة الممتازة منها!).

وعلى أيَّة حال، كانت الدول الأوروبية تُشكِّل سياستها بمعيار آخر؛ فالجهود الدبلوماسية التي بدأت في مايو وأدَّت إلى الإطاحة بإسماعيل، كانت مبادرةً من جانب الحكومة الألمانية؛ فقد كان بسمارك يرغب في إلهاء الدول الغربية بمصر حتى لا تُوجِّه أنظارها نحو مسرح السياسة الأوروبية. ففي منتصف مايو احتج القنصل العام الألماني يسانده زميله النمساوي سورما Saurma على تعديل الاتفاقية المالية من جانب واحد بموجب مرسوم ٢٧ أبريل. وفي نفس الوقت، اقترح سورما أن يتنازل الخديو عن السلطة لابنه كحل «للمسألة المصرية».

وفي ظل تلك الأوضاع بذل إسماعيل محاولةً يائسة للوصول إلى اتفاق مع الدول، فأبدى استعداده للقَبول بأي شيء فيما عدا عودة الوزيرَين الأوروبيَّين إلى الوزارة المصرية. وفي النصف الأول من يونيو تتابعت الاحتجاجات الرسمية على مرسوم أبريل من جانب فرنسا وبريطانيا وروسيا وإيطاليا، واقترحت الحكومة المصرية أن تُعيد تقديم مشروع المرسوم إلى الدول للموافقة عليه أولًا قبل إصداره، ولكن الحكومات الأوروبية كانت قد اتخذت قرارًا آخر.

ففي ١٤ يونيو وجَّه القنصل البريطاني النصح إلى الخديو بالتنازل عن عرشه لولده حتى يتحاشى إقدام السلطان على عزله وتعيين حليم خلفًا له، وبعد قليل تبع القنصل الفرنسي زميله البريطاني في تقديم النصيحة ذاتها. وكان توفيق يُداهن الدول؛ ففي ١١ يونيو — على سبيل المثال — شكا لفيفيان من تصرفات والده، ذاكرًا أن زيادة عدد الجيش إلى ٣٦ ألف رجل تُعد تبذيرًا، وأن والده لم يُراعِ مرسوم ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م. ولمَّح شريف إلى أن مجلس النظار لن يعترض طريق خلع إسماعيل، ولكنَّه لن يقبل حليمًا خلفًا له خشية عودة مصر إلى وضع الولاية العثمانية. ويذكر محمد عبده أن شريفًا اتخذ هذا الموقف استجابةً لضغوط «الحزب الوطني الحر» الذي أسَّسه جمال الدين الأفغاني، وكان ذلك الحزب على صلة بتوفيق ويسعى إلى استبدال إسماعيل بولي العهد.٨٠

وفي ١٩ يونيو، تقدَّمت الحكومتان البريطانية والفرنسية بطلب رسمي — من خلال ممثليها — يدعو الخديو للتنازل عن العرش ومغادرة البلاد، ووعدت الدولتان بضمان مخصَّصات كافية له وتولية توفيق خلفًا له إذا استجاب للطلب، أما إذا اضطُرت الدول إلى الاستعانة بالسلطان لخلعه، فلا تضمن الدولتان له شيئًا. وما لبث قناصل ألمانيا والنمسا وإيطاليا أن تقدَّموا للخديو بنصائح مماثلة، ولكنَّ إسماعيل رفض أن يتخذ موقفًا لأنه كان قد عرض الأمر على السلطان بنفسه، وكان في انتظار الرد. وبذلك أصبح مصيره الآن بيد الباب العالي.

وفي نفس الوقت، حاول إسماعيل أن يسترضي الدائنين وأن يضمن تأييد الجيش له؛ ليقنع العالم كله — وقبل كل شيء، السلطان — أنه يتمتع بشعبية تامة في البلاد، وأرسل شاهين وعمر لطفي إلى الأقاليم عقب تشكيل وزارة شريف ليجمعَا الأموال اللازمة لسداد كوبون مايو، ويذكر عرابي أن الحكومة قد حصلت على خمسمائة ألف جنيه من بعض المصارف المحلية مقابل رهن سبعمائة ألف أردب من الغلال التي أنتجتها أقاليم مصر الوسطى والصعيد. وبذلك تكرَّرت صفقة العام السابق. كذلك حاولت لجنة خاصة بالقاهرة الحصول على الأموال النقدية من خلال بيع بعض ممتلكات الحكومة بصفة أساسية.

وكان على الشيخ البكري أن يضمن التزام العلماء والتجار بيمين الولاء للخديو، وكما فعل شاهين باشا، نظَّم الشيخ البكري حملة جمع التوقيعات على عرائض تُطالب الخديو بالبقاء في منصبه، وقَّع عليها — أيضًا — ضُباط حاميات القاهرة والإسكندرية، وقد ذكرت صحيفة الفارد ألكسندري — لسان حال إسماعيل — في ٢٦ يونيو أن أكثر من عشرين ألف توقيع قد جُمِعَت على عريضة رُفِعَت إلى الباب العالي، وتلقَّى عبد السلام المويلحي أمرًا بحشد مجلس شورى النواب لتأييد الخديو.

وكان إسماعيل قد حاول منذ أبريل أن يضمن ولاء ضباط الجيش، ورغم ذلك ذهب أحد ضباط المدفعية إلى رافابيال بورج — متنكرًا — في ٢٤ يونيو، وأبلغه أن الضباط لن يعارضوا خلع إسماعيل على يد السلطان وتعيين توفيق خلفًا له، ولكن الجيش المصري سوف يؤيد الخديو في مواجهة أي جيش أوروبي. وبذلك انقسم الموقِّعون على اللائحة الوطنيون إلى معسكرين: فكان هناك فريق أيَّد إسماعيل دون قيد أو شرط، وفريق آخر أيَّد توفيق. وكان هناك مَن يؤيِّدون حليم بالآستانة وباريس، أما في القاهرة فلم يُؤيِّده أحد بشكل علني — على الأقل — فيما عدا بعض الماسونيين.

تُرى، ما القرار الذي قد يتخذه السلطان؟ لقد كتب إبراهام ممثل الخديو بالآستانة — وصهر نوبار — في ۱۳ أبريل يقول إن الدول الأوروبية لم تتقدَّم إلى الباب العالي بطلب رسمي — حتى ذلك الحين — لخلع الخديو، ولكنَّه أشار إلى ما يُثير القلق، عندما ذكر أن حليم باشا يتردَّد على قصر السلطان يوميًّا ويمكث بحضرة السلطان ساعات طوال.

وفي أول مايو، أرسل إسماعيل مذكرةً إلى إبراهام لتقديمها إلى الصدر الأعظم، اتهم فيها الوزراء المبعَدين — ضمن تهم أخرى — باتخاذ مواقف معادية للأتراك، وقد هنَّأ الصدر الأعظم (خير الدين التونسي) الخديو — في رَدِّه — بنجاحه في إنهاء الاحتلال المقنَّع لمصر، وطمأنه على تأييد حكومة السلطان له.

عندئذٍ أراد الخديو أن يُعبِّر عن ولائه للدولة، فأمر إبراهام أن يطلب مقابلة السلطان وأن يُبلغه أن نوبار أراد أن يُعمِّم ما يُسمَّى بالمسئولية الوزارية في الدولة كلها! ولكن إسماعيل كان مُخطئًا في الاعتقاد بأن ولاءه الكاذب قد يُنقذه؛ لأن السلطان كان قد قرَّر خلعه بالفعل، ووجد في حليم مرشحًا أكثر ولاءً من إسماعيل، كما كان خير الدين يُناصر حليمًا، وكانت المشكلة تكمن في كيفية فرضه على الدول التي كانت تُرشِّح توفيقًا الذي قد يكون أسلس قيادًا — بالنسبة لهم — من إسماعيل أو حليم.

وحتى ساعة متأخرة من ليلة ٢٤ يونيو، كان يبدو أن الدول لن تستطيع فرض إرادتها إلَّا بالقوة؛ فقد تلقَّى تريكو — القنصل الفرنسي — برقيةً من الآستانة مفادها أن السلطان سوف يعزل إسماعيل عند ظُهر اليوم التالي ويُعيِّن حليمًا بدلًا منه، دبَّر القنصل أمر إبلاغ نص البرقية إلى إسماعيل، فجاءه الرد بعد منتصف الليل على يد السكرتير الخاص للخديو بأن الأخير يُفضِّل انتظار وصول حليم. وقيل إن الخديو أصدر أمرًا خلال تلك الساعات بزيادة عدد الجيش إلى ١٥٠ ألف رجل. وحتى الساعة الثالثة صباحًا، حاول القناصل الإنجليزي والفرنسي والألماني — بالتعاون مع شريف باشا — إقناع إسماعيل بالتنازل عن العرش لولده، ولكنَّه ظلَّ صامدًا.

وكان طبيعيًّا أن يستسلم السلطان لضغوط الدول في ٢٦ يونيو، فتلقَّى كلٌّ من إسماعيل وتوفيق برقيةً من الصدر الأعظم تُفيد خلع الخديو وتولية ولي العهد، وأخذ شريف وراغب يُعدان الترتيبات اللازمة على الفور. وبعد الظهر كان الأعيان يُقسمون يمين الولاء بالقلعة للخديو الجديد الذي لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره. وفي ٣٠ يونيو، أبحر إسماعيل إلى منفاه بنابولي على ظهر يخته «المحروسة»، وبذلك تبع إسماعيل رياضًا ونوبار اللذين نُفِيَا من مصر قبل ذلك بوقت قصير، وكانا يخشيان على حياتهما — بعد ١٨ فبراير — ولم يشعرَا أنهما بمأمن من انتقام الخديو إلَّا بعد أن أظلَّتهما الدول بحمايتها؛ فقد حذَّر القناصل: الإنجليزي والفرنسي والألماني إسماعيل من إلحاق الأذى بهما، ولكن عندما استعاد إسماعيل سلطته، لم تعد حماية القناصل تكفي لتأمينهما، وازداد شعورهما بالقلق، حتى قبلا نصيحة إسماعيل لهما بمغادرة البلاد، فغادرها رياض في ٢٩ أبريل، ونوبار في ٢٠ مايو.

(٥) حرمان الذوات من نفوذهم السياسي والاقتصادي

تشكيل وزارة جديدة متعاونة مع الدول

كانت الإطاحة بإسماعيل تُشكِّل — بالنسبة للدول — الخطوة الأولى على طريق إعادة تحكمهم في البلاد. ولمَّا كانت الوزارة «الوطنية» لا تزال في الحكم، فقد سألت الدول الخديو الجديد — في أول يوليو — عمَّا ينوي عمله بصدد تغيير الوزارة، فأجاب توفيق بسذاجة بما يُفيد رضاه عن النُّظار لأنهم من خيرة رجال مصر. فلو كان الأمر على هذا النحو، لاقتضى دعوة رجال الإدارة الأوروبيين — ببساطة — لوضع حد للأحداث التي وقعت في الربيع.

وفهم توفيق مغزى السؤال، فقدَّم شريف استقالته في اليوم التالي، ولكن الخديو كلَّفه على الفور بتشكيل وزارة جديدة، واستهل خطاب التكليف الصادر في ۳ يوليو بقوله: «لا أزيدك بحقيقة الحال علمًا … فالمقام صعب»، ورسم في الخطاب الخطوط العريضة للسياسة المصرية في المستقبل على النحو التالي:

«وذلك بتقرير الاقتصاد الحق القانوني في نفقات الحكومة، ورعاية الأمانة والاستقامة في الخدم العمومية، وإصلاح شئون الهيئة القضائية والهيئة الإدارية. تلك هي الوسائل الأولى التي يهمني اتخاذها لتقوى بها البلاد على استرجاع قوتها وتوسيع موارد ثروتها وإنجاز وعودها ووفاء وعودها.»٨١
وفيما عدا شريف باشا نفسه الذي أراد أن يستمر في الاضطلاع بمهام نظارتَي الداخلية والخارجية، لم ينضم إلى الوزارة الجديدة أحد من العناصر التي نشطت بصورة خاصة في أواخر مارس وأوائل أبريل. وقد جاء جميع النظار كسابقيهم من الطبقة الحاكمة: فأصبح إسماعيل أيوب٨٢ وكيل المالية ناظرًا لتلك النظارة، وأصبح علي غالب٨٣ مدير المنوفية ناظرًا للجهادية، ومحمود سامي البارودي٨٤ ناظر ضبطية مصر ناظرًا للمعارف والأوقاف، ومصطفى فهمي٨٥ محافظ الإسكندرية ناظرًا للأشغال العمومية، ومراد حلمي٨٦ رئيس محكمة القاهرة المختلطة ناظرًا للحقانية.

وكان أولئك النُّظَّار الجدد من أصدقاء شريف الذي كان يوليهم ثقته التامة، رغم أن توفيقًا كان يثق بهم بدرجة أقل، ولم يثق القناصل بهم قيد أنملة، ولكنَّهم لم يستطيعوا أن يأخذوا عليهم شيئًا لأنهم كانوا في معظمهم من الرجال غير المعروفين. ونظرًا لأنهم لم يبرهنوا على قدرتهم على التعاون مع الدول من قبل، فقد اعتُبِروا «غير أكْفاء» شأنهم في ذلك شأن من تقلَّدوا الحكم في مارس وأبريل. وكان القناصل لا يرون بين الساسة المصريين من يفوق نوبار ورياضًا كفاءة، غير أنهما كانا في أوروبا؛ ومن ثَم يجب استدعاؤهما إن عاجلًا أو آجلًا، ولا يمكن اعتبار الوزارة الجديدة إلَّا وزارةً انتقالية. وانسحب هذا أيضًا على شريف نفسه، وخاصةً أن وجهات نظر شريف وتوفيق لم تكن متطابقة، ومن ثم كان تغيير رئاسة الوزارة ضروريًّا إذا كان لا بد من «بداية جديدة» إذا قُدِّر لسياسة نوبار أن تستمر.

وقرَّر الخديو أن يتفادى الاصطدام بالدول؛ فقد كان يعتقد أن حكمه لن يحظى بالاستقرار إذا وقف في وجه أوروبا، لذلك ملك زمام المبادرة، وأعلن رضاه بأي لجنة تحقيق أو تصفية ترى الدول تشكيلها، كما أعلن موافقته على عودة الرقابة المالية، على ألَّا ينال الوزيران الأوروبيان أي منصب كبير حتى لا يؤدي ذلك إلى تحطيم مكانته في البلاد. ولم يُبْقِ توفيق هذا الموقف سرًّا، فأعلن أمام الأعيان بمدينة طنطا في ٣١ يوليو أنه يجب الحصول على ثقة الدول الأوروبية قبل كل شيء.

وحاول شريف أن يُقوي مركزه باعتباره مُمثِّلًا ﻟ «الائتلاف الوطني» وأن يجمع حوله المُوقِّعين على اللائحة الوطنية بتنفيذ الوعود الدستورية التي قطعها إسماعيل من قبل، وبذلك يتألَّق إلى جانب الخديو العديم الخبرة ويُمتَدح كزعيم وطني وسياسي ليبرالي. ولم يكن الدستور في نظر هذا التابع المخلص لإسماعيل يعني أكثر مما كان يعنيه عند سيده، مجرد سمة من سمات التمدن.

وحتى توضع هذه السياسة موضع التنفيذ، كان لا بد من بقاء خصميه نوبار ورياض خارج البلاد. ومن ثم صدر على الفور قرار رسمي يُحرِّم عودة نوبار، ولكن نفوذ شريف كان قد بلغ أقصى مداه، وتحت ضغط القناصل ألغى توفيق قرار الحظر السالف الذكر، واستُدعي رياض أيضًا من أوروبا، فلم يكن باستطاعة توفيق أن يلعب نفس الدور الذي لعبه والده، دور حامل لواء المعارضة الوطنية أو أن يظل واقفًا موقفًا سلبيًّا؛ ولذلك فضَّل شريف الاستقالة وترتيب فرصة ملائمة لانسحابه بدلًا من الوقوف وراء توفيق حتى لا يُوصم بالتبعية للدول، ومن ثَم يُحطم مستقبله السياسي، ومن الصعوبة بمكان تفسير الأحداث التي تلت ذلك على غير هذا النحو.٨٧

ففي ٦ يوليو فضَّ شريف مجلس النواب، بعدما كان قد قدَّم للمجلس — في ١٧ مايو — مشروع لائحة دستورية جديدة، كما قدَّم في ٢ يونيو مشروع قانون انتخاب جديد كان منذئذٍ موضع دراسة لجنة نيابية تضم خمسة عشر عضوًا. وقد أبلغ النواب الآن أن مناقشاتهم كانت بطيئةً للغاية، ولم يُكرِّر النواب احتجاج ٢٧ مارس فانفض المجلس دون أي احتجاج ودون أن يُصوِّت على اللائحة الدستورية وقانون الانتخاب. وقبل انفضاض المجلس بيوم واحد، نشرت الوقائع المصرية مرسومًا صادرًا من الخديو إلى مجلس النظار أعلن فيه توفيق أن حقوق الشورى والمسئولية الوزارية هي أساس سياسته، وأعرب عن اعتزامه توسيع حقوق مجلس شورى النواب. لقد كانت أحداث القاهرة في تلك الأيام عسيرة الفهم على أي إنسان.

وأخيرًا استقالت وزارة شريف الجديدة في ١٧ أغسطس، في نفس اليوم الذي غادر فيه مصرَ المندوبون الأتراك الذين حملوا إلى توفيق فرمان التولية٨٨ الذي كان ينتظره بفارغ الصبر. وكتب محمود فهمي يقول إن «الله وحده يعلم»٨٩ سبب هذه الاستقالة؛ فقد بدت خطوة شريف مبهمةً «دون أسباب واضحة».٩٠ ولكن التخمينات التي تواترت أصابت كبد الحقيقة، فقد قدَّم شريف إلى الخديو مشروع الدستور للموافقة عليه، ولكن الأخير رفضه، أو أن الخديو لم يوافق على مشروع تعيين دي بلنيير وبارنج مراقبَين عامَّين، فلعل إحدى هاتين الحقيقتَين كانت سببًا في استقالة الوزارة.

فبمجرد تدعيم فرمان التولية لمركز توفيق، صمَّم الأخير على ألَّا يدع زمام الأمور يفلت من يده، ولعله كان يأمل في أن يُعيد للخديوية مجدها السابق بتسوية الأمور مع الدول وتركيز السلطة التنفيذية في يد البلاط. وعلى أيَّة حال، وجَّه توفيق ضربةً قاضية إلى التطلعات الدستورية لشريف؛ فلا نعرف شيئًا عن مشروع الدستور الذي قدَّمه شريف إلى الخديو (ولعله كان مطابقًا لذلك الذي قدَّمه إلى مجلس شورى النواب في مايو)، وفضلًا عن ازدراء توفيق للمشروع ووصفه له بأنه «ديكور مسرحي»، فإنَّه لم يُرِد أن يختفي وراء مؤسسات غير حقيقية أو زائفة.

وألغى الخديو مبدأ استقلال مجلس النظار الذي أُعلِن في العام السابق، وأقام مجلسًا شخصيًّا، احتفظ فيه بمصطفى فهمي كناظر للخارجية، ومحمود سامي البارودي كناظر للأوقاف. كما أسند النظارات الأخرى إلى «ذوي الخبرة» من الأتراك الجراكسة، فأصبح عثمان رفقي٩١ ناظرًا للجهادية، ومحمد المرعشلي ناظرًا للأشغال العمومية،٩٢ وذو الفقار ناظرًا للحقانية، واستدعى رياض باشا من أوروبا ليُسنِد إليه نظارة الداخلية التي أوكل أمورها — في نفس الوقت — إلى صهره منصور يَكَن، وعيَّن خليل يَكَن وكيلًا لنظارة الداخلية، وقريبه حيدر يَكَن — ابن عم منصور — ناظرًا للمالية، ولكنَّه عيَّن مصريًّا ناظرًا للمعارف هو علي إبراهيم٩٣ الذي كان عضوًا بمحكمة الاستئناف المختلطة بالإسكندرية.

ورغم أن المرء لا يملك تخمين الأسباب الحقيقية لاستقالة شريف الذي كان في نظر الرأي العام ضحية استبداد الحاكم وضغوط الدول، فإنَّه استطاع أن يُقيم الدليل مستقبَلًا على أنه رجل دولة ليبرالي وطني، واعتزل إلى حين في ضَيْعَته.

وكان تصرف الخديو على هذا النحو واستقالة شريف موضع ترحيب الدول، ولكنَّهم لم ينظروا بعين الارتياح إلى ما يُمثِّله ذلك من نُذُر تحوُّل توفيق إلى صورة مُصغَّرة من إسماعيل. ورأت الدول وجوب إقامة مجلس نُظَّار «مستقل»؛ فقد وصل رياض باشا إلى مصر في ٣ سبتمبر وهو على استعداد للتعاون مع الدول، وكان في حكم المُقرَّر — أصلًا — أن يتولى رياض نظارة الداخلية، غير أن الخديو كانت لديه بعض أسباب الشكوى من طموح رياض المتزايد عندما كان لا يزال بأوروبا؛ فقد ذكر توفيق للقنصل البريطاني أنه سمع أن رياضًا يرغب في العودة «ليتولَّى حكم البلاد»، فإذا لم يعدل عن موقفه فلن يُسنَد إليه منصب على الإطلاق.

ونصَّب الخديو من نفسه محاميًا عن نظامه، فصاغ بنفسه نظامًا واهنًا لعمل مجلس النُّظار، قرأه بزهوٍ على لاسل Lascelles يجتمع بموجبه مجلس النُّظار برئاسته أيام الخميس والسبت، حيث يطرح كل ناظر المسائل للمناقشة، ويكون مسئولًا عن تنفيذ القرارات المتعلقة به.
ولكن، كما أن توفيقًا عجز عن الحيلولة دون عودة دي بلنيير إلى منصب المراقب العام، عجز أيضًا عن منع رياض من إحراز نفوذ نسبي. فلم يُعمِّر مجلس النظار الشخصي الذي شكَّله توفيق طويلًا، فما لبث أن أقاله بنفسه، وكتب إلى رياض٩٤ في ٢١ سبتمبر مُشيرًا إلى أنه عندما تولى رئاسة مجلس النظار كان يهدف إلى مواجهة متطلبات الساعة، وأن ما جاء بمرسوم ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م من النص على «الحكم بواسطة ومن خلال مجلس النظار» إنَّما يُعبِّر تمامًا عن أفكاره، وعلى هذا الأساس كُلِّف رياض بتشكيل الوزارة. ولكن توفيقًا احتفظ لنفسه بحق أنكره من قبلُ على والده إسماعيل، وهو حق حضور اجتماعات المجلس ورئاسة تلك الاجتماعات كلما رأى ذلك ضروريًّا.
ووافق الخديو على قائمة النظار التي أعدَّها رياض فور تقديمها إليه، وقد احتفظ فيها كلٌّ من مصطفى فهمي، وعثمان رفقي، وعلي إبراهيم، ومحمود سامي بنظاراتهم، ولكن أقارب ومستشاري توفيق — آل يكن وذو الفقار ومحمد المرعشلي — أُسقطوا من القائمة واحتفظ رياض لنفسه بنظارتَي الداخلية والمالية، وعيَّن صديقه علي مبارك ناظرًا للأشغال العمومية على نحو ما فعل أيام الوزارة «الأوروبية»، ورقَّى إلى منصب ناظر الحقانية حسين فخري٩٥ الذي كان مُحاميًا شابًّا في الخامسة والعشرين من عمره.

وأخيرًا، وصل عمل نوبار بعد نصف عام من الانقطاع «المزعج» وكانت النقاط الثلاث الرئيسية في برنامج وزارة رياض تتمثَّل في التغلُّب على الصعوبات المالية، وتطوير التعليم العام، وإصلاح المحاكم الأهلية، وكانت النقطة الثانية جديدةً مقارنةً ببرنامج نوبار في السنة السابقة.

وبعد الإعلان الذي أصدره رياض في ٧ أكتوبر باسم مجلس النظار والذي نصَّ على أن مرسوم إسماعيل الصادر في ٢٢ أبريل «باطل المفعول»، وبعد صدور المرسوم الخاص بتحديد اختصاص المراقبين العامين، عادت المراقبة بصورة فعَّالة. وحصل دي بلنيير وبارنج — زميلا رياض في لجنة التحقيق ووزارة نوبار — على «مكانة ووضع» في مجلس النظار (ولكنَّه وضع استشاري) باعتبارهما رقيبين عامَّين، كما حصلا على سلطات واسعة في الرقابة على مالية البلاد. ولكنَّ رياضًا كان شديد الاهتمام بألَّا يظهر بمظهر التابع لأوروبا، فطلب إلى الخديو أن يُصدر مرسومًا نصَّ على أنه: «في الوقت الراهن، لا يُمارس الرقيبان العامَّان سلطة توجيه الخدمات الإدارية والمالية … إلَّا من خلال الاتصال بنا أو بناظرنا، على أن تُوضع الملاحظات التي يتوصَّلان إليها موضع الاعتبار.»٩٦

(٦) إسكات معارضة المثقفين

جمال الدين الأفغاني

وبعودة المراقبة والتعاون مع الدول، انتهى كل ما تحقَّق في الربيع أواخر أيام حكم إسماعيل. وقد استفادت الطبقة صاحبة الامتيازات — من الضباط والمثقفين وغيرهم — من إسباغ الخديو حمايته على المقاومة الموجهة ضد الوزارة «الأوروبية» ومن تأييده الحيوي لها. غير أن التحالف مع إسماعيل لم يُؤدِّ — دائمًا — إلى إيجاد نوع من التقدير والحب للحاكم؛ ففي ذلك الوقت كان الضباط والمثقفون يُفكِّرون في التخلُّص من الطغيان؛ ولذلك لم يقترن خلع إسماعيل بشعور الأمة بالأسى، بل على العكس لقي تنصيب توفيق مكانه ترحيب جميع الفئات الاجتماعية، ورغم أن التوقعات التي نجمت عن تغيير الحاكم تباينت تبايُنًا كبيرًا. وكان الخديو الجديد — بشكل عام — مُصلِحًا ليبراليًّا مُخلصًا، ولكن حتى لو صح ذلك، فإن توقُّع الكثير منه كان يعني زيادة تقدير قدراته على العمل في مواجهة التدخل الأوروبي. وبتشكيل وزارة رياض تناقصت الإصلاحات الدستورية وتقرير المصير الوطني إلى أدنى حدود الإمكانية. وأصبح النضال موجَّهًا الآن ضد رياض بصفة رئيسية دون الارتكان إلى الخديو ودون أن يتجه النضال — بالضرورة — ضده، فمن يكون توفيق هذا حتى يولوه اهتمامهم؟

وفور استقالة شريف باشا التي اقترن بها انتشار الشعور بخيبة الأمل في الخديو، نُظِّمَت حملة صحفية ضد التطورات الجديدة. وردَّ توفيق على ذلك بفرض حظر على الصحف وطرد الرجل الذي كان بمثابة اليد المُحرِّكة للصحفيين الذين شنوا تلك الحملة، ونعني به جمال الدين (الأفغاني).

وليس هنا مجال الحديث عن مواهب جمال الدين وأفكاره الفلسفية والسياسية (وكان في الحقيقة فارسيًّا شيعيًّا)، ولكنَّنا نستطيع أن نُقدِّم — فقط — بعض الإشارات إلى دوره في مصر في السنوات ١٨٧١‏–‏١٨٧٩م الذي لم يُسجَّل تسجيلًا دقيقًا بعدُ حتى في أكثر السير التي كُتبت عنه – التزامًا بالنقد — ويرجع السبب في ذلك إلى أن جمال الدين وضع «الخطوط العريضة» لذلك الدور قبل القبض عليه وترحيله من مصر (٢٤ أغسطس ١٨٧٩م) بوقت قصير من ناحية، كما يرجع إلى إبعاده عن مصر من ناحية أخرى، كما أن ما سُجل من أفكاره السياسية والفلسفية خلال تلك السنوات قليل؛ فتحليل تلك الأفكار يستند إلى ما كتبه جمال الدين بعد مغادرته مصر.

وكان جمال الدين قد أقام بمصر عام ١٨٦٩م إقامةً قصيرة، وعندما اضطُر إلى مغادرة الآستانة عام ١٨٧١م بسبب بعض الآراء التي اعتُبِرَت ضربًا من ضروب الهرطقة وأثارت موجةً من الغضب ضده، عاد إلى مصر مرةً أخرى. فطلب منه رياض باشا أن يبث أفكاره الإصلاحية في القاهرة، كما أمر الخديو إسماعيل بتخصيص راتب شهري له قدره ألف قرش، وحتى بعد طرده من مصر ووقوع البلاد تحت الاحتلال البريطاني، ظلَّ جمال الدين يعتبر رياض باشا سندًا له يستطيع اللجوء إليه طلبًا للعون.

وفي عام ١٨٧١م، عندما قام إسماعيل بتعيين جمال الدين شيخًا بالأزهر لم يكن من الصعب إقناعه بإضفاء حمايته على هذا الفيلسوف الناقد. ولكن العلماء المتزمتين — وخاصةً الشيخ عليش والشيخ البحراوي والشيخ الرفاعي — ثاروا ضد البدع التي يُروِّج لها جمال الدين، وقيل إن الحجارة كانت تُلقى من النوافذ عليه وعلى تلاميذه المخلصين: ومن بينهم الشيخ محمد عبده، وعبد الكريم سليمان، وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وإبراهيم الهلباوي، أثناء اجتماعه بهم في منزله.

وما كانت تلك المجموعة الصغيرة — الموصومة بالهرطقة والتي كان «الكثير من المؤمنين يَزْوَرُّون عنها» على حد قول عبد الله النديم٩٧ — لتحظى بالشهرة لو لم تُركِّز نشاطها على الأمور السياسية والاجتماعية بقيادة السيد جمال الدين، وذلك في مجالَي الصحافة والحركة الماسونية، فكانوا يُناضلون ضد التدخل الأوروبي، ويُناضلون من أجل الإصلاح لتقوية مصر ومن أجل وحدة البلاد الشرقية.

وحتى ذلك الحين كانت الماسونية في مصر موضع اهتمام الأوروبيين وبعض الشوام وقليل من الأفراد المتأثرين بالثقافة الأوروبية ممن ينتمون إلى الطبقة الحاكمة، فكانت اللغات الأوروبية هي أداة الحديث داخل المحافل الماسونية، وعندما حاول الأمير حليم باشا استخدام المحافل الماسونية لتدعيم أطماعه السياسية في السلطة، عمل الماسونيون — مؤقتًا — ضد إسماعيل، ولكنَّه ما لبث أن أضفى حمايته على المحافل الماسونية بعدما أكَّدت له عدم ميلها إلى التدخل في سياسة البلاد. وقدَّم هذا التأكيد للحكومة المصرية، الإيطالي زولا المعلم الأعظم «لمحفل الشرق الأعظم الوطني المصري» في ٢٩ أبريل ١٨٧٣م باعتباره الممثل الرسمي للحركة الماسونية في مصر.

وأراد جمال الدين أن يستخدم المحافل الماسونية لتحقيق أهدافه الخاصة؛ فبعد تأسيس أول محفل للناطقين بالعربية، انضمَّ إليه جمال الدين وأصبح ماسونيًّا في ١٨٧٦م، وشجَّع تلاميذه أيضًا على الانضمام إلى عضوية المحفل. وفي ١٨٧٨م انتُخِبَ جمال الدين رئيسًا لمحفل «كوكب الشرق» (الإنجليزي) وقيل إنَّه ما لبث أن دخل في صراعٍ مع الماسونيين القُدامى لأنه أراد تحويل المحافل إلى خلايا للنشاط السياسي.

غير أن الماسونيين لم يوافقوا على تلك السياسة، وقام وفد تألَّف من خمسةٍ من أعضاء «محفل الشرق الأعظم الوطني المصري» برئاسة رافاييل بورج — نائب القنصل البريطاني بالقاهرة — بمقابلة توفيق في ١٧ أغسطس ١٨٧٩م، وطمأنوه — مرةً أخرى — إلى أن الماسونيين المصريين ليست لهم تطلُّعات سياسية أو دينية، وأنهم لا يُعنَون إلَّا بتقدُّم البلاد وتمدُّنها. ومن ثَم أكَّد لهم توفيق أنه سوف يستمر في حمايتهم وإبداء حسن النوايا تجاههم كما فعل أبوه من قبل.

ووفقًا للمعلومات التي أوردها القنصل البريطاني في مصر (التي حصل عليها من رافاييل بورج بكل تأكيد)، طُرد جمال الدين من المحفل لإنكاره وجود المخلوق الأعظم، ويذكر جمال الدين نفسه — فيما بعد — أن الماسونيين المؤيدين لحليم انقلبوا ضده في نفس اللحظة التي دعا فيها إلى استبدال إسماعيل بتوفيق، فترك «محفل كوكب الشرق» — الذي رأسه لمدة عامين — مع بعض مؤيدي ولي العهد. ومن ثم تقع مسئولية نفيه من مصر على عاتق أعدائه من الماسونيين، فتذكر صحيفة الفارد ألكسندري في عددها الصادر في ٢ سبتمبر ١٨٧٩م أن السبب الحقيقي لنفي «الفيلسوف الأفغاني المدَّعِي» تكمن في الصراعات داخل الحركة الماسونية.

ومهما كانت الحقيقة الكامنة وراء نفيه، فإن الأسباب المُعلَنة لنفي جمال الدين من مصر هي القيام بنشاط سياسي غير مرغوب فيه وتهمة الهرطقة. وذكر توفيق للقنصل البريطاني أن جمال الدين كان يدعو إلى الثورة ويُروِّج للفوضوية، واتُّهم رسميًّا بالتآمر سرًّا ونشر العقائد المفسدة للدولة والدين.

وقد اتُّخذ قرار القبض على جمال الدين ونفيه خارج البلاد في اجتماع لمجلس النُّظار برئاسة الخديو وحضور محمود سامي البارودي، اللذين كانا حاميَي جمال الدين، وكان الفيلسوف الطَّموح يبني عليهما الآمال، والزعم بأن القرار جاء بِناءً على طلب القنصل البريطاني يبدو مجرد أسطورة، فوفقًا للتقرير الذي أرسله لاسيل (القنصل البريطاني) إلى لندن يذكر القنصل أنه علم بنبأ نفي جمال الدين من الخديو بعد أن تم تنفيذ القرار بالفعل.

وعلى أيَّة حال، يبدو أن الطموح السياسي للأفغاني أصبح يُثير أعصاب توفيق. وقد تعاون جمال الدين مع شريف باشا قبل وبعد تغيير الخديو، وبعد رفض الخديو للمشروع الدستوري الذي تقدَّم به شريف واستقالة الوزارة التي أعقبت ذلك، لا بد أن يكون الخديو قد أدرك أن محاولات التعاون مع الدول أصبحت عرضةً للخطر. وربما كانت الآراء الدينية لجمال الدين (أو ما شاع عنها) قد أثارت شكوك الخديو إلى حد بعيد، وهو الذي عُرف بتديُّنه.

وخلال سنواته الأخيرة في مصر، لم يقتصر «سيد الشرق» على تعليم الفلسفة للأزهريين الشبان في بيته، ولكنَّه اجتذب إلى حلقته مثقفين من دوائر مختلفة تمامًا، من بينهم مسيحيان من الشام هما أديب إسحاق٩٨ وسليم النقَّاش٩٩ (اللذان نشطَا بالمسرح السكندري، وكان إسماعيل يعاونهما ماليًّا)، واليهودي القاهري يعقوب صنوع١٠٠ «موليير مصر»، وهو من مهرجي البلاط، خالط الطبقات الدنيا من الشعب وانبهر الحكام به، وكذلك عبد الله النديم البوهيمي المصري الذي كان يتعاون دائمًا مع تلاميذ جمال الدين، رغم أنه لم يعتبر نفسه واحدًا منهم.

ولا بد أن يكون علماء الأزهر — خاصة — قد استاءوا من قيام جمال الدين بالتدريس بأحد المقاهي القريبة من الأوبرا، حيث كان يقضي معظم وقته هناك محاطًا «بالشبان المصريين» والثائرين على الأزهر، ومن يترددون على المقهى عَرَضًا، «حيث كان يطرح أمامهم القضايا التي يعتبرها مناسبةً للعصر» على نحو ما يذكر مراسل التيمس (اللندنية) إثر مقابلة أجراها مع السيد في ٢٠ أغسطس ١٨٧٩م.

وكانت القضية الأساسية في ذلك الوقت — عند جمال الدين — هي النضال ضد التدخل الأوروبي، ولمَّا كان توفيق لا يؤمن بجدوى تلك القضية فقد طرد من نصَّب نفسه صانعًا للملوك والوزراء.

الصحافة

وفي نفس الوقت الذي نُفِي فيه الفارسي الذي لا يعرف الاستقرار أُبعِد محمد عبده — ظله المصري — إلى قريته بالبحيرة، أما بقية تلاميذه فقد تُرِكوا وشأنهم، ولكنهم ما لبثوا أن استفزوا السلطات بما كانوا يبثونه من دعاية لآرائهم وآراء محمد عبده في الصحف القائمة وإصدارهم للصحف الجديدة التي شجَّعهم جمال الدين على إصدارها.

ولم يكن ثمة صُحف سياسية عربية مستقلة بمصر بأي مقياس من المقاييس قبل عام ١٨٧٦م، وكانت «وادي النيل» هي الصحيفة الوحيدة التي صدرت لفترة طويلة نسبيًّا (١٨٦٦‏–‏١٨٧٢م) التي موَّلها إسماعيل لتنطق بلسانه وتبث الدعاية لأفكاره السياسية. ورغم أن إبراهيم المويلحي كان يحظى بدعم إسماعيل، فقد اضطُر أن يعدل عن إصدار مجلة «نزهة الأفكار» التي لم يصدر منها سوى عددين في عام ١٨٦٩م وتولَّى تحريرها بالاشتراك مع عثمان جلال؛ لأن شاهين باشا حذَّر الخديو من الطبيعة السياسية للمجلة وما قد يترتَّب على ذلك من أخطار. أما صحيفة «البروجريه إجبسيان» فكانت تُوصف أحيانًا بأنها «صحيفة المعارضة» في تلك السنوات، ولكنَّها كانت تصدر بالفرنسية فقط.

وكان من بين العوامل الهامة في التطور اللاحق للصحافة منذ عام ١٨٧٦م حماية إسماعيل لمجموعة من المثقفين المسيحيين الشوام الذين علَّق عليهم الآمال في إعطاء دفعة قوية للحياة الثقافية في مصر. وفي ديسمبر ١٨٧٥م حصل سليم تقلا على ترخيص لإصدار صحيفة تعهَّدت بعدم التدخل في السياسة، وفي ١٨٧٦م اشترك مع أخيه بشارة في تأسيس «الأهرام» أقدم الصحف المصرية التي لا تزال تصدر حتى الآن.١٠١
وأدرك جمال الدين — على الفور — أهمية الفرص التي تُتيحها تلك المبادرة، وقد بدأ تلميذه محمد عبده نشاطه الصحفي بخمس مقالات نشرها في تلك الصحيفة الجديدة خلال ١٨٧٦م،١٠٢ تُقدِّم نظرةً متعمقة لأفكار المجموعة التي تحلَّقت حول جمال الدين.

وكان العرفان بفضل إسماعيل في تطوير التعليم بالبلاد وتحقيق رفاهيتها لا يعدو أن يكون أكثر من أداءٍ للواجب؛ ففي تلك المقالات أشار محمد عبده إلى ماضي مصر العظيم والمستوى الفريد لحضارتها التي بلغت الذروة في الغرب، وتعود الآن إلى وطنها الأصلي وأكَّد على أهمية الأدب والصحافة بالنسبة للتطور الثقافي والسياسي والديني للأمة. وانتقد العلماء الذين أغلقوا عقولهم أمام العلوم الحديثة التي كان تطبيقها مسئولًا عن رخاء وتفوق الدول الأوروبية، فمن لا يستأسِد بين الأسود كان مصيره الهلاك.

ولكن مجموعة جمال الدين كانت بحاجة إلى أن تكون لها صحفها الخاصة بها حتى تنشر أفكارها السياسية بصورة مباشرة؛ ولذلك طلب السيد من بعض الأدباء من تلاميذه نشر صحف خاصة بهم، وكانت علاقة جمال الدين برياض باشا ذات نفع كبير في تيسير الحصول على التراخيص اللازمة.

ففي عام ١٨٧٧م أسَّس أديب إسحاق وسليم النقَّاش صحيفة «مصر»، وفي عام ١٨٧٨م أسَّسا جريدة «التجارة». وانتقلت رئاسة تحرير «مرآة الشرق» إلى إبراهيم اللقاني — أحد تلاميذ جمال الدين — في أبريل ١٨٧٩م، وكان قد أسَّسها سليم العنحوري١٠٣ في فبراير من نفس العام بمعونة إسماعيل، وشجَّع الفيلسوف — أيضًا — تلميذه يعقوب صنوع على إصدار صحيفة هزلية باسم «أبو نضارة» (عام ١٨٧٧م)، ولكن أُوقِفَ صدورها بعد خمسة عشر عددًا بسبب نقدها اللاذع للأوضاع السياسية والاجتماعية في مصر، ونُفِي محررها إلى الخارج بعد حصول الحكومة على موافقة القنصل الإيطالي (كان يعقوب صنوع يتمتَّع بالحماية الإيطالية)، ولكن الصحيفة عادت إلى الصدور في باريس وكانت تُهرَّب إلى مصر، فلم ترتح الحكومة لذلك وشدَّدت التعليمات على رجال الجمارك بالتيقُّظ في مراقبة البريد وخاصةً البريد الوارد من سوريا.
ومن بين الصحف الهامة الجديدة يجب أن نذكر صحيفة «الوطن» التي أُسِّست عام ١٨٧٧م على يد معلم قبطي هو ميخائيل عبد السيد، ويبدو أن الصحيفة قد صدرت ببادرة من الأقباط. وفي أوائل عام ١٨٧٩م، وصف القنصل الفرنسي «الوطن»١٠٤ بأنها أهم الصحف العربية بالقاهرة. ومن الملفت للنظر أن الصحافة المصرية العربية السياسية المستقلة نسبيًّا قامت — في مرحلة نشأتها (١٨٧٦‏–‏١٨٨٠م) — على جهود أفراد من الأقليات غير الإسلامية والعناصر الاجتماعية الهامشية التي كان بعضها يتمتع بحماية الدول الأوروبية.

ولمَّا كانت تلك الصحف قد استطاعت البقاء تحت حكم إسماعيل، فإن ذلك يعني أن تلك الصحف قد التزمت بالاتجاه السياسي العام في اختيار الموضوعات التي عالجتها. وعلى حين أدت مقالات يعقوب صنوع ذات النبرة الانتقادية الاجتماعية والسياسية العالية إلى نفي صاحبها إلى خارج البلاد، نالت الصحف الأخرى التي ركَّزت مقالاتها حول التقدُّم والتمدُّن ومراقبة «الخطر الأوروبي» قَبولًا تامًّا من جانب إسماعيل.

وكان الموضوع الرئيسي في الصحافة — حتى منتصف عام ١٨٧٨م — هو الحرب الروسية التركية وآثارها على الإمبراطورية العثمانية ومصر. ولكن عندما غُلَّت يد إسماعيل وشُكِّلت الوزارة «الأوروبية» ركَّزت الصحافة انتباهها حول السياسة الداخلية التي وفَّرت مجالًا رحبًا لكُتَّاب الصحف، فبانتقادهم لسوء الإدارة وامتداحهم للإصلاحات التي يجب إدخالها، يمكنهم أن يُعوِّلُوا على تأييد نوبار وولسون ودي بلنيير لهم، وبتعرُّضهم للنظام الجديد بالنقد، ومعارضتهم للتدخل الأجنبي وتزايد أعداد الموظفين الأجانب في الإدارة المصرية يحظون برضا إسماعيل.

ومنذ ديسمبر ١٨٧٨م حتى أبريل ١٨٧٩م، كان اهتمام الصحافة مُنصَبًّا على تأييد مجلس شورى النواب ضد الوزارة «الأوروبية»، وفي ظروف بعينها نال هذا الاتجاه تأييد إسماعيل، ولكنَّه جر الصحافة إلى الدخول في صراع مع مجلس النظار الذي كان يمسك — عندئذٍ — بمقاليد السلطة الفعلية في البلاد.

وكانت الأنباء المتعلقة بنشاط الأعضاء البارزين في مجلس شورى النواب ترد في الصحف بأسلوب حماسي، وأعلنت التجارة أن «عهدًا جديدًا» قد بدأ، وأنها تثق في إدراك النواب لواجباتهم ولحقوق الأمة الواجبة. وردَّ البعض أن مندوبي الصحف قد يحضرون جلسات مجلس شورى النواب، ولكن ذلك كان مجرد إشاعة.١٠٥
وأبدت «الوطن» اعتقادها أن عبارة «المسئولية الوزارية» يجب أن تُصبح ذات دلالة؛ فأمام مَن كان الوزراء مسئولين حتى الآن؟ وذكرت أن مجلس شورى النواب لا يجب أن يظل أداة الحكومة في الاستغلال للفلاحين، وأن الإصلاحات التي وعد بها ولسون ولم يتم تنفيذها بعدُ يجب أن تُوضع موضع التنفيذ، كما يجب أن تتوقَّف سياسته الضريبية التي تؤدي إلى الخراب، غير أنها رأت أن ثمة جانبًا إيجابيًّا في وجود ولسون إذ تمتَّعت الصحافة والشعب بحرية أكبر — تحت تأثير نفوذه — في التعبير عن آرائهم.١٠٦

ومن ثَم كانت تصرفات الوزارة «الأوروبية» موضع اهتمام الصحافة قبل كل شيء، وعندما أصر الوزيران الأوروبيان على تجاهل مجلس شورى النواب، هاجمتهما الصحافة بضراوة لموقفهما المتعجرف ولاعتزامهما طرد غالبية الضباط من الخدمة العاملة.

وفي مقال نُشر في أول فبراير ١٨٧٩م،١٠٧ قامت «الوطن» بالرد على اتهام مجلس شورى النواب بعدم الكفاية والتكاسل، واتهمت ولسون بالغطرسة وتجاهل نواب الشعب، ونصحته بالتعاون مع المجلس إذا أراد خيرًا؛ فرب الدار أدرى من الغريب بما فيه! فالأجانب في مصر لا يرون الأمور رؤيةً واضحة مهما بلغوا من الذكاء، ولم ينجُ دي بلنيير من الهجوم، وكان النقد الأساسي الذي يُوجَّه إلى الوزيرَين أنهما يتصرفان في مصر بصورة تختلف عمَّا يفعلانه في أوروبا. وتساءلت الصحيفة: أليس البرلمان هو صانع القوانين؟ وحتى إذا كان المجلسُ من قبلُ أداةً طيعة في يد الحكومة (وهو ما لا يقبل به النواب بكل تأكيد)، فإن الوضع قد تغيَّر تغيرًا أساسيًّا، وهو ما يجب أن يُؤخذ في الاعتبار. وقد أُوقِف صدور «الوطن» و«التجارة» — اللتين اتبعتا هذا الخط — مدة خمسة عشر يومًا بسبب مهاجمة الحكومة.
وبعد طرد وزارة نوبار، كان من الطبيعي أن تجد المطالب الدستورية للمجلس والتحالف بين الأعيان والخديو كل تأييد من جانب الصحافة. وفي الخطبة التي ألقاها جمال الدين بالإسكندرية ونشرتها صحيفة «مصر»، امتدح جمال الدين وزارة شريف لأنها تسعى إلى إقامة «حكومة شورية»،١٠٨ رغم أنه كان يدعو في فبراير بقيام حكم «مستبد متنور رحيم» باعتباره النموذج الذي يُلائم العصر،١٠٩ ولذلك ظلَّ بمَعزِل عن الجدل الذي دار حول حقوق مجلس شورى النواب.

وبعد استقالة شريف ونفي جمال الدين، شنَّ تلاميذ الأخير حملةً صحفية ضد السياسة القمعية الجديدة، مما أدَّى إلى تعطيل «مرآة الشرق» لمدة شهر واحد وإنذار «التجارة». وفي أوائل سبتمبر، أوقفت الحكومة صدور «مرآة الشرق» لمدة خمسة شهور هذه المرة، واتهمت الجريدة بالخوض في أمور ليس من شأنها الخوض فيها ونشر أخبار لا أساس لها من الصحة.

ولمَّا كانت الصحافة التي تستمد إلهامها من جمال الدين قد وقفت إلى جانب شريف بطريق مباشر أو غير مباشر، فقد نشط رياض للعمل ضدها بعد امتلاكه زمام السلطة، فأصدر الإنذارات إلى صحف «مصر» و«التجارة» ثم أمر بإغلاق الصحيفتين نهائيًّا في أوائل نوفمبر، وعلى حين أرسل شريف باشا أديب إسحاق إلى باريس ليُتابع نشاطه الصحفي هناك، رغب سليم النقَّاش في أن يبدأ في مصر من جديد، وفي أوائل يناير ١٨٨٠م أصدر صحيفتَي «المحروسة» و«العصر الجديد» لتقومَا مقام الجريدتين المُصادَرتين، ولكنَّ «المحروسة» أُوقِفَت عن الصدور لمدة خمسة عشر يومًا كإجراء وقائي، وذلك بعد صدور عددها الأول، بالإضافة إلى ذلك، أُنذِرت مرتين جريدة لا ريفوم La Réforme لسان حال شريف باشا — التي كانت تصدر بالفرنسية.

مصر الفتاة

وأخيرًا قامت مجموعة من المثقفين من شباب الشوام المقيمين بمصر، أطلقت على نفسها اسم «جمعية مصر الفتاة» بالوقوف في وجه استبداد وزارة رياض، وكانت تلك الجمعية قد تأسَّست بالإسكندرية في أواخر أيام إسماعيل وبتأثير واضح من جمال الدين، فقد ورد اسم كل من أديب إسحاق وسليم نقَّاش بين أسماء الصف الأول من أعضاء الجمعية في كتابه (مصر للمصريين)، وقيل أيضًا إن عبد الله النديم قد ارتبط بتلك الجمعية بعض الوقت، ثم ما لبث أن أدار لها ظهره لأنه لم يوافق على الطابع السري للجمعية.

ويشير محمد عبده — بازدراء — إلى أنه لم يكن بين أعضاء الجمعية «مصري حقيقي» وأن أعضاء الجمعية كانوا في غالبيتهم من اليهود.١١٠ وتصف بعض التقارير المعاصرة أعضاء الجمعية بأنهم من زهرة شباب الإسكندرية من أبناء عائلات التجار المسيحية واليهودية المنتمية إلى بلاد شرق المتوسط والمتمتِّعة بحماية الدول الأوروبية.١١١ وأنهم «عدد محدود من شباب الإسكندرية، كلهم من اليهود والشوام واليونانيين والكريتيين وغيرهم … يتمتع جميعهم بالحماية الأوروبية»١١٢ من بينهم ستة أو سبعة من اليونانيين وملطي واحد وبقيتهم من المتمتِّعين بالحماية الأجنبية،١١٣ وغالبية أولئك الشباب من أبناء العائلات الطيبة بالمدينة «ومعظمهم من الشوام».١١٤

وقد اختلفت التقارير في تحديد الشخصية التي أظلَّت تلك الجمعية بحمايتها، فقد ذكر البعض أنهم كانوا على صلة بشريف الذي أيَّد توفيق خديويًّا لمصر، بينما يذكر البعض الآخر أن أعضاءها يُعدُّون من المؤيدين للأمير حليم، وهذا الاختلاف حول ولاء الجمعية يمكن أن نُفسِّره بأن الجمعية قد تغيَّرت ميولها نحو توفيق، بعد أن خابت الآمال التي عُقِدت عليه، فتحوَّلت إلى تأييد حليم. ومن ناحية أخرى، ظلَّ أديب إسحاق (عضو مصر الفتاة) مواليًا لشريف ولجماعة حلوان التي كان يتزعَّمها الأخير، والتي كان أعضاؤها الرئيسيون من «مماليك» إسماعيل، ولعل ذلك من أسباب الخلط بين جمعية مصر الفتاة وجماعة حلوان.

ولذلك لا نُدهش أمام وجود تلك الجماعات السرية — التي كانت في حقيقة الأمر بعيدةً عن السرية — عندما نجد «أبو نضارة» يرى أن لمصر ثلاثة خديويين: سابق هو إسماعيل، وحالٌّ هو توفيق، ولاحق هو حليم. وكذلك عندما نجد تلك الجماعات السياسية وصراعات السلطة تقوم على برامج دون أن تلتزم بالضرورة باتباعها. ولا نُدهش أيضًا أن نجد العديد من الصيغ المُضلِّلة تدور حول «جمعية مصر الفتاة».

وفي أوائل سبتمبر بدأت الجمعية نشاطها العلني بمشروع إصلاح١١٥ كُتِب بالفرنسية قدَّمه وفد من أعضائها إلى الخديو توفيق وقدَّموا أنفسهم على أنهم مجموعة من الشباب رأت في توفيق خديويًّا مُصلحًا تتوقع منه الكثير، وأنهم يريدون أن يعملوا معه من أجل مستقبل أفضل لمصر.

وتشبه النشرة التي تضمَّنت مشروع الإصلاح بصورة ملفتة للنظر تقارير لجنة التحقيق التي يظهر تحليلها للأوضاع العامة في مصر ومقترحاتها للإصلاح ضمن مشروع مصر الفتاة، أضف إلى ذلك أن المشروع يتضمَّن المطالب الدستورية ومطالب أخرى تتعلَّق بالتعليم والحقوق السياسية والحرية الفردية، وحرية الصحافة، وحرية الشعب في اختيار نوابه، وهو ما وُصِف بالمشروع بالسلطة النيابية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة التشريعية (ورأوا أن تكون السلطة التشريعية قسمةً بين الخديو ونواب الشعب).

وأصدرت الجمعية صحيفةً ثنائية اللغة بعنوان «مصر الفتاة» La Jeune Egypte طالبت فيها بإصلاحات داخلية سياسية بالدرجة الأولى. وكان القسم الفرنسي هو أصل الجريدة، أما القسم العربي منها فكان ترجمةً لمادتها الفرنسية يقوم بها أديب إسحاق، وهذا يؤكِّد أن «مصر الفتاة» لم تكن بحال من الأحوال عملًا عربيًّا مصريًّا.

لم يكن رياض يهتم بالفلسفة السياسية أو الممارسة النيابية، فأنذر الصحيفة أولًا، ثم صادرها في منتصف نوفمبر، مما دفع مديرها المسيو جوسيو إلى مقاضاته ولكن دون جدوى.

وفي أواخر ديسمبر، ردَّت الجمعية على تلك الإجراءات القمعية بتوزيع نشرة ثنائية اللغة «عربية-فرنسية» طالبت فيها بحرية الصحافة — التي سبق أن تضمَّنها مشروعها للإصلاح — وعادت لتؤكِّد عليها بصورة أساسية.١١٦ وكانت تلك النشرة تعكس الثقافة الأوروبية الكلاسيكية من خلال الأسلوب الفلسفي الذي برَّرت به مطالبها. أما القسم الثاني من النشرة الذي تضمَّن مناقشةً لحرية الصحافة من الوِجهة القانونية فكان يُشبه نصًّا من القانون الدستوري، ويبدو أن كاتبها كان يستند إلى بحث قانوني فرنسي عند قيامه بالكتابة … تُرى، ما الذي كان يمكن أن يجده رجل كعبد الله النديم أو أحمد عرابي عند مثل هذه الجماعة؟

كان توزيع النشرة التي تناولت موضوع حرية الصحافة هي آخر نشاط علني لتلك الشرذمة من الشباب، ويبدو أنهم — أو أن غالبيتهم على الأقل — قد نُفوا من البلاد باعتبارهم من أتباع حليم.

نهاية الامتيازات، إصلاحات من أجل الدائنين والفلاحين

لقد أخرس النظام المتعاون مع الدول الانتقادات التي وُجِّهت إليه، بعدما رأى كلٌّ من توفيق ورياض أن سياستهما الرامية إلى التعاون مع الدولتين اللتين تتوليان مراقبة مالية البلاد، وإلى إجراء إصلاحات داخلية بدون التجربة الدستورية، تتعرض للخطر من جانب المثقفين؛ ولذلك قامَا بتكميمهم، وظنَّ رياض أن باستطاعته الآن متابعة عمله دون أن يزعجه أحد.

وكان برنامجه يتضمَّن — في معظمه — النتائج التي توصَّلت إليها لجنة التحقيق التي كان ينتمي إليها. فإذا كان يُنفِّذ من الناحية الشكلية سياسةً مالية فرضتها الدول عليه وبرنامج إصلاحي مُملًى عليه إملاءً، فإن إجراءاته كانت — من الناحية الموضوعية — إجراءات تقدمية.١١٧ فقد احترم المراقبان العامَّان رغبة رياض في أن يكون مستقلًّا، فاستطاعا بسلوكهما أن يجعلا بإمكان رياض أن يعتبر الإصلاحات من صنع يديه. وكما يقول لورد كرومر: «كان الأمل في النجاح يكمن في إنكار المراقبين للذات، فكان عليهما أن يشُدَّا الخيوط التي تُحرِّك المشهد، ولا يظهرَا على المسرح إلَّا لأقل وقت ممكن.»١١٨

وفي المرحلة الأولى من عهد وزارة رياض — من أكتوبر ١٨٧٩م حتى مارس ١٨٨٠م — نفَّذ رياض القرارات الخاصة بالإصلاح الضريبي الجذري بهمة ملحوظة؛ ففي الإدارة المركزية عمل جنبًا إلى جنب مع الأوروبيين الذين كانوا يخدمون بالإدارة المصرية، والمتخصصين المعروفين من أبناء البلاد الذين تلقَّوا جانبًا من تعليمهم بأوروبا، والذين أسند رياض إليهم مراكز المسئولية في النِّظَارات ومختلِف لجان الخبراء. واحتفظ «الباشاوات» المنتمون إلى المدرسة القديمة بمناصب المديرين أو عُيِّنوا حديثًا بها وكانوا على استعداد تام لتنفيذ سياسة رياض في الأقاليم دون قيد أو شرط.

وكان رياض — في بداية تولية الوزارة — قد ناشد كبار الموظفين بالإدارة المركزية والأقاليم أن يؤيِّدوه بكل قواهم في تنفيذ الإصلاحات من أجل «الصالح العام لوطننا العزيز»، والوطنية التي كان يفهمها رياض تعني تحقيق الرخاء المادي للشعب.

ولكن رياضًا وجد أن خزانة الحكومة خاوية، مثلما حدث لنوبار قبل ذلك بعام واحد، غير أن رياضًا كان أكثر نجاحًا في التغلُّب على المشكلة المالية، فلم تُدفع جزية الباب العالي بالكامل ربما للمرة الأولى، ولمَّا كانت مخصصات الروزنامة محدودةً فلم تُصرف معاشات الدولة، واستدانت الحكومة أولًا مبلغ ١٥٠ ألف جنيه لتُسدِّد جانبًا من المعاشات المتأخرة، ثم أفرجت لجنة التصفية بعد ذلك عن ٣٥٠ ألف جنيه لتسوية حساب متأخرات الجزية و٦٠٠ ألف جنيه لصرف المعاشات والرواتب، وقنع الدائنون بفائدة قدرها ٤٪ على الدين الموحَّد بدلًا من فائدة اﻟ ٦٪ التي كانت مُقرَّرةً من قبل، ورحَّب القناصل بذلك فقد كانوا يرون ضرورة تخفيض نسبة الفائدة إلى ٤٪ وإلغاء الكوبونات التي تأخَّر تسديدها من قبل.

حقيقة أن الحكومة اضطُرت في منتصف أكتوبر ١٨٧٩م أن تُصدر إنذارًا نهائيًّا بضرورة سداد ضرائب العام الحالي في خلال أسبوعين، لتسد حاجتها المُلِحَّة إلى السيولة النقدية. ولكنَّها لم تأمر باتباع الوسائل التي جرت العادة باتباعها من قبلُ عند تحصيل الأموال، فطُلِبَ من الجُباة أن يترفَّقوا في تعاملهم مع عامة الناس وأن يقفوا موقفًا حازمًا لا مرونة فيه تجاه أولئك الذين ظلُّوا مُميَّزين عن غيرهم حتى ذلك الحين وهم: نظَّار الدوائر والأعيان والأجانب.

وعندما تلقَّى رياض عرائضَ من بعض شيوخ وعمد قرى الفيوم اشتكوا فيها من الأساليب المجحفة التي يتبعها جباة الضرائب، أرسل رياض منشورًا دوريًّا إلى مديري المديريات قرَّر فيه أن المبدأ العام الذي يجب اتباعه عند جباية الضرائب ألَّا يُترك دافع الضرائب دون مستوى الكفاف. وعلى كلٍّ، أصدر رياض في ١٥ أكتوبر ١٨٧٩م منشورًا آخر إلى المديرين وجباة الضرائب بالأقاليم يأمرهم فيه بجباية الضرائب السنوية التي يدين بها الدوائر والأعيان والأوروبيين خلال خمسة عشر يومًا مع اتباع أسلوب التهديد (مصادرة الأطيان أو بيع المحصول) الذي لم يكن يُتَّبع — حتى ذلك الحين — إلَّا مع الفلاحين العاجزين عن السداد.

وفي ٧ فبراير حثَّ رياض المديرين على أن يجبوا خلال شهر واحد — بنفس الطريقة — الضرائب المتأخرة عن السنوات من ١٨٧٦م حتى ١٨٧٨م (وكانت جميع متأخرات الضرائب السابقة على أول يناير ١٨٧٦م قد أُلغيت). ورأى رياض أن المديرين لن يجدوا صعوبةً مع الأعيان، وفيما يتعلَّق بالأجانب، دُرِست المشكلة دراسةً دقيقة، ثم استقرَّ الرأي على ضرورة قيام المديرين باتخاذ أشد الإجراءات ضدهم أيضًا دون تردُّد، وفي حالة الاستيلاء على ملكية الأجنبي يجب إخطار القنصل التابع له أولًا، كما يجب أن يحضر ممثِّل للقنصلية عند اتخاذ إجراءات الاستيلاء.

وأصدر ناظر الداخلية أمرًا (في ٢٨ فبراير ١٨٨٠م)، ألغى فيه امتياز اختيار الجهة التي يُسدِّد إليها أصحاب الأطيان العشورية ضرائبهم؛ إذ كانوا يُخيَّرون بين سداد ضرائبهم لخزانة المديرية أو إلى نظارة المالية مباشرةً أو صندوق الدين العام، فأصبح سداد ضرائب الأطيان — سواء كانت خراجية أو عشورية — لصراف الناحية التي تقع بها الأطيان (وكانت الأطيان العشورية — حتى ذلك الحين — تُدرَج بسجلات المديرية ولا تُدرَج في قوائم صيارفة القرى). كما أصدر رياض منشورًا في نفس اليوم إلى المديرين بصفته ناظرًا للمالية أكَّد فيه على ضرورة جباية الضرائب دون استثناء من الطبقة «التي كانت تتمتَّع بالامتيازات، وأعني بذلك الدوائر وكبار المُلَّاك والأوروبيين»، وقدَّم المنشور وصفًا تفصيليًّا لأنواع المحاباة التي كانت تُعامَل بها تلك الطبقة من قبل. وأخيرًا وُضعت في ٢٨ مارس ١٨٨٠م قواعد الإجراءات التي يجب اتباعها والتي تُحدِّد كيفية التعامل مع دافعي الضرائب المماطلين (مصادرة وبيع الملكيات المنقولة وغير المنقولة).

ولكن سحب امتيازات الصفوة الصغيرة من المُلَّاك لم ينسحب على أساليب جباية الضرائب وحسب، بل امتد أيضًا إلى مقدار الضرائب التي يدفعونها؛ فقد جرت محاولة لتحقيق توازن في الأعباء الضريبية، بحيث يزداد ثقل عبء الضرائب على الفئات الممتازة، ويُخفَّف عبؤها عن ذوي الدخول المتواضعة.

وجاءت البداية في صورة أمر صدر في ٣١ ديسمبر ١٨٧٩م ألغى إلزام الأهالي بشراء قدر معيَّن من الملح لكل فرد، الذي بدأ العمل به في ١٨٧٣م (وكانت في حقيقة الأمر نوعًا من ضريبة الرأس)، ولكن استمرَّ احتكار الدولة لتجارة الملح. وألغى الأمر الصادر في ١٧ يناير ١٨٨٠م تسعًا وعشرين من الضرائب والعوائد التي كانت إمَّا غير ذات أهمية بالنسبة للخزانة العامة وإمَّا غير مُربِحة لها، وكان الأهالي يعدونها نوعًا من العسف، وأُدخِل الإصلاح على أسلوب جباية ثلاثٍ وعشرين ضريبةً أخرى. وكان جانب كبير منها ضرائب محلية لا تُحصَّل على مستوى البلاد جميعًا، وجاء هذا الإصلاح تنفيذًا لتوصيات لجنة التحقيق، وموافِقًا للمطالب التي نادى بها مجلس شورى النواب وجمعية مصر الفتاة وجماعة حلوان.

ولكن النص على ضرورة إخطار الفلاح بالموعد المحدَّد لجباية الضرائب وعلى ضرورة جباية الضرائب في المواسم الملائمة للفلاح، كان لا يقل أهميةً عن تخفيف أعباء الضرائب عن كواهل الفلاحين. فتمَّ توزيع مواعيد جباية ضرائب الأطيان وعوائد النخيل على السنة كلها، على أن يُجبَى القسط الأكبر من تلك الضرائب بعد مواسم الحصاد، وبذلك لم يعد الفلاحون بحاجة إلى المرابين. وتقرَّرت المبالغ التي تُجبَى من الأقاليم شهريًّا على ضوء تقديرات الميزانية التي ترتكز على خبرات السنوات السابقة، ثم تُوزَّع تلك المبالغ على الفلاحين ويُخطَر كلٌّ منهم بالمبلغ الذي عليه أن يدفعه من واقع سجلات الضرائب. كما تقرَّر إلغاء عادة جباية الضرائب عينًا التي كانت شائعة في بعض جهات الصعيد تخلُّصًا من المظالم التي ارتبطت بها، وأصبحت الضرائب تُدفع نقدًا بتلك الجهات، وأُبلغت الشئون الحكومية بالامتناع عن قَبول الغِلال أو غيرها من المحاصيل الزراعية.

ولذلك، بينما استهدف الإصلاح الضريبي التخفيف عن كواهل عامة الناس، فقدت الطبقة الممتازة المزايا المالية الأخرى بإلغاء قانون المقابلة (الأمر الصادر في أول يناير ١٨٨٠م)؛ فقد أُلغِي تخفيض الضرائب، ولكن حقوق الملكية التامة للأرض لمن دفعوا المقابلة بعد الفراغ من إعداد سجلات الأطيان الجديدة. وقدَّم رياض شرحًا تفصيليًّا لهذا الإجراء في خطاب رفعه إلى الخديو (في ٢٤ ديسمبر ١٨٧٩م)، وكانت أهم الحجج التي أثارها لتبرير إلغاء المقابلة أن بلدًا زراعيًّا كمصر لا يستطيع أن يضع حدودًا اختيارية على أهم مصدر للدخل، وأن المقابلة قد تحوَّلت — في حقيقة الأمر — إلى ضريبة عادية؛ ولذلك لم تعد متقبَّلةً عند الناس.١١٩
ولم تُشِر تلك المبرِّرات — بالطبع — إلى الطبقة المتميِّزة من مُلَّاك الأراضي، فبفضل المقابلة استطاعوا أن يضمنوا حقوق الملكية التامة للأطيان، أو أن يستهلكوا سندات الدولة،١٢٠ أو يشتروا حق تخفيض نصف ضرائب أطيانهم،١٢١ وعلى كلٍّ كانت المقابلة لا تحظى حقًّا بشعبية بين الفلاحين،١٢٢ ففي ربيع عام ١٨٧٩م قُدِّم التماس في مجلس شورى النواب بإعادة العمل بمبدأ الدفع الاختياري للمقابلة، وكانت الغالبية العظمى تأخذ في اعتبارها إلغاء مشروع المقابلة — على نحو ما ذكر رياض — للمزيد من تخفيف أعباء الضرائب، بينما كان إلغاء المقابلة يعني بالنسبة لكبار المُلَّاك فقدانًا جديدًا لامتيازاتهم.

ولكن هذا لم يكن نهاية المطاف؛ ففي ١٨ يناير أُضيف مبلغ ١٥٠ ألف جنيه إلى القيمة الإجمالية للضرائب العشورية، أضف إلى ذلك الأمر الذي صدر في العام السابق والذي نصَّ على خضوع جميع الفلاحين لنظام السخرة بغضِّ النظر عن أماكن إقامتهم وعمَّن يعملون في خدمتهم.

وكما سنرى، دافع الذين تأثَّروا بتلك الإجراءات عن امتيازاتهم الاقتصادية المفقودة، ولم يتوقَّع رياض غير ذلك؛ فقد كان يعلم جيدًا أنه سوف يجلب لنفسه عداء الباشاوات وكراهيتهم له؛ ولذلك حاول أن يتحاشى كل ما من شأنه أن يُؤدي إلى استياء الفلاحين. كما أنه كان يريد أن يُضفي قناعًا على المراقبة الأوروبية حتى ولو تظاهر بالهجوم عليها؛ إذ كان مثل هذا الهجوم رمزيًّا، فقام بطرد مدير ومفتش عام الجمارك من منصبَيهما، وكانا أوروبيَّين، وعيَّن بدلًا منهما اثنين من المصريين، وأسند إدارة المساحة إلى محمد رستم، يعاونه محمود الفلكي١٢٣ وروسو وكلفن. وكانت تلك الإدارة قد تأسَّست في ١٠ أغسطس ١٨٧٩م برئاسة الجنرال ستون لإعداد ربط جديد لضرائب الأطيان مع مساحة الأراضي وإعداد سجلات جديدة لها. كذلك رأس محمد رستم اللجنة التي تشكَّلت في ٢٧ ديسمبر ١٨٧٩م لتجميع القرارات والأوامر الخاصة بضرائب الأطيان وإجراءات تحصيل أموالها، وتسجيل مظاهر عدم المساواة وعدم الانتظام والإفادة بما يتم إنجازه من سجلات الأطيان. وكان على هذه اللجنة أن تُعِد مشروعات القرارات واللوائح التي تكفل تحقيق المساواة في توزيع أعباء الضرائب وحماية دافعي الضرائب من الابتزاز. فلم يكن رياض يريد أن يبني إجراءاته على أساس التقرير الذي أعَدَّته لجنة التحقيق، ولكنَّه أراد أن يسمع مرةً أخرى آراء الخبراء المصريين وأولئك الذين تأثروا بتلك الإجراءات. وانضمَّ إلى عضوية تلك اللجنة بطرس غالي١٢٤ سكرتير عام نظارة الحقانية، واثنان من كبار المُلَّاك هما: محمد سلطان١٢٥ وسليمان أباظة،١٢٦ كذلك وضع رياض خبراء من أبناء البلاد على رأس لجانٍ إصلاحية أخرى، كان الأجانب مجرَّد أعضاء بها. وكوَّن لجنةً ثلاثية بنِظارة المالية برئاسة واصف عزمي١٢٧ لفحص الشكاوى الخاصة بالضرائب. ورأس علي إبراهيم ناظر المعارف لجنةً اختصت بالنظر في إصلاح وتوسيع نطاق نظام التعليم، وكان عبد الله فكري١٢٨ وسليم باشا١٢٩ من أعضاء تلك اللجنة، كذلك شُكِّلت لجنة برئاسة حسين فخري ناظر الحقانية للنظر في أوضاع المحاكم الأهلية وضمَّت تلك اللجنة أعضاءً من المصريين من مختلِف المحاكم (عبد الله سامي، ومحمد قدري،١٣٠ وإبراهيم خليل، ومحمود حمدي) وبعض موظفي النظارة (بطرس غالي السكرتير العام لنظارة الحقانية وكحيل سكرتير مجلس النُّظار، وتيجران سكرتير عام الخارجية).١٣١ وعلى كلٍّ، تولَّى ولسون رئاسة اللجنة التي شُكِّلت (في ٣١ مارس ١٨٨٠م) لإعداد قانون التصفية على أساس تقرير لجنة التحقيق (٨ أبريل ١٨٧٩م)، يُعاونه مصري واحد هو بطرس غالي. وكانت هذه اللجنة تحظى باهتمام الرأي العام لأنه كان عليها أن تتخذ قرارًا مُحدَّدًا بشأن مشكلة المقابلة ومسألة التعويضات التي كانت موضع هجوم عام من جانب معارضي رياض ضد وزارته المتعاونة مع الدول، وخاصةً من جانب ما كان يُسمَّى بجماعة حلوان.

إخماد معارضة الذوات، جماعة حلوان

بتشكيل الوزارة الأوروبية في أغسطس ١٨٧٨م، تحوَّل ممثلو الطبقة الحاكمة في عهد إسماعيل إلى الصف الثاني، ثم ما لبثوا أن استعادوا مراكزهم السابقة في أبريل ١٨٧٩م، وفي سبتمبر من نفس العام فقدوها مرةً أخرى بتشكيل وزارة رياض، وخلال فترة قصيرة جدًّا أفلت زمام السلطة من بين أصابعهم، وحدَّد رحيل إسماعيل من مصر نهاية عصر أيضًا بالنسبة لكل واحد منهم. وسارع شريف باشا «رئيس جماعة الأتراك القدامى»١٣٢ بتقدير الموقف على وجه السرعة، وأخذ فرصته كمُصلِح دستوري، وضَمنَ لنفسه تأييد جماعة من الأتباع ذوي النفوذ، وفي الخريف بدأ بدايةً جديدة، ولكن كوطني هذه المرة.

وقضى الأتراك-الجراكسة — الذين أُبعِدوا عن السلطة — الصيف في ضِياعهم أو على شواطئ البحر المتوسط. تُرى، ماذا يكون عليه مستقبلهم السياسي؟ ففي الخريف، احتلَّ عدد ملحوظ من الأوروبيين والمصريين المتعاونين معهم المناصب التي كانت لهم من قبل، وبعد أن سلب النظام الجديد سلطة الأتراك-الجراكسة راح يُهدِّدهم بالإنقاص من امتيازاتهم الاجتماعية والاقتصادية انتقاصًا شديدًا؛ فالإجراءات التي اتخذتها أو من المتوقع أن تتخذها وزارة رياض لم تترك مجالًا للشك؛ فلا بد من القيام بعمل ما لمواجهتها.

وفي أوائل أكتوبر، عاد شريف باشا إلى القاهرة من ضَيعَته، وفي بداية نوفمبر وزَّع بالقاهرة منشورًا بعنوان «بيان الحزب الوطني المصري»١٣٣ طُبِع بالفرنسية ويحمل تاريخ ٤ نوفمبر ١٨٧٩م. وعلى نقيض النشرتين اللتين صدرتَا عن «جمعية مصر الفتاة» لم يكن المنشور بحثًا في الفلسفة السياسية أو النظرية الدستورية والقانون العام، ولكنه ببساطة يرمي القُفَّاز في وجه التدخل الأوروبي ورياض باعتباره أداة هذا التدخل، فقد كان «مماليك» إسماعيل يحتجون على فقدهم لمناصبهم السياسية وتهديد مراكزهم الاجتماعية والاقتصادية، مُدَّعين لأنفسهم حق التحدُّث باسم الشعب كله.
ولسوء الحظ، لا يوجد سوى شاهد عيان واحد لا يمكن الاعتماد عليه في هذه الناحية، هو جون نينه John Ninet١٣٤ يتحدث عن أصول هذا البيان، ويزعم أنه صاغ ترجمته الفرنسية عن أصل باللغة العربية. ولكن النص العربي لم يُطبَع أو يُوزَّع أبدًا حتى لو كان قد وُجِد فعلًا،١٣٥ ولا يزعم أحد غير نينه أن النص العربي موجود. ويبدو أن «الحزب الوطني» رأى أنه فضَّل أن تستمع إليه الدول والمتعاونون معها على أن تستمع إليه الأمة.
ولسوء الحظ لم يستطع نينه أن ينشر نصًّا واحدًا فقط من «اكتشافه»؛ ففي عام ١٨٨٣م كتب نينه يقول إن بيان ٩ نوفمبر ١٨٧٩م وُضِع بمعرفة سلطان باشا وسامي باشا١٣٦ وعلي باشا يمني،١٣٧ وإسماعيل باشا يُسري وعثمان باشا لطفي،١٣٨ وشريف باشا، وأنه قد تمَّ توزيع ستة آلاف نسخة من البيان.١٣٩ وبعد ذلك بعام، ذكر نينه أن البيان صدر في ٤ نوفمبر ١٨٧٩م (وهو التاريخ الصحيح)، وأنه قد طُبِعت منه عشرون ألف نسخة، وأن مُعارضي رئيس النُّظار كان يقودهم شريف باشا وعمر باشا لطفي وراغب باشا، «ولا نستطيع أن نصفهم بأنهم كانوا — على وجه الدقة — من الوطنيين فيما عدا سلطان، ولم يكونوا من الفلاحين، وجميعهم أُبعِدوا من الحياة العامة فيما عدا الأخير، وهم يتطلَّعون إلى العودة إليها»؛ ولهذا الغرض أيضًا أوفدوا أديب إسحاق إلى باريس ليُصدر صحيفةً عربية يتولَّون تمويلها لتهاجم رياضًا.١٤٠

ولذلك يجب أن نتسلَّح بالحذر الشديد عندما نُعالج روايات نينه العديدة المتناقضة، ونشرات الدعاية لحليم التي أراد أن يُضفي على نفسه إحساسًا بالأهمية على نحوِ ما فعل زميله يعقوب صنوع. ورغم ذلك، كثيرًا ما يقع الاختيار على هذه الرواية أو تلك مما يذكره نينه وتُقدَّم على أنها حقيقة تاريخية، ولكن قبل أن تستغرقنا مشكلة التحقُّق من النصوص يجب أن نعالج البيان نفسه.

فقد اعتذر أصحاب البيان في مطلعه عن إخفائهم لأسمائهم «لأن هيئة الحكومة القائمة في مصر تَحُول دون مشاركة الوطنيين فيها، تستطيع بمعاونة الدول وبكلمة واحدة دون اتخاذ إجراءات ودون ضجة أن تنفي الوطنيين الذين وحَّدهم الحزب الوطني تحت علم واحد وتسحقهم وتشرِّد عائلاتهم»؛ وبذلك لا يستطيع أولئك الشهداء العمل من أجل القضية التي يتصدَّون لها. ولذلك ناشدوا حكومات «العالم الحر المتمدن» وعلى رأسهم بسمارك أن تُوفِّر لهم الحماية من بطش الحكومة المصرية بالوسائل الدبلوماسية حتى يستطيعوا الإعلان عن أنفسهم.

وأهم موضوعَين عالجهما البيان: التدخل الأجنبي وديون الحكومة المصرية؛ فهو لم يتباكَ على تَرِكة نظام إسماعيل لأنه أورد البلاد موارد التهلكة، ولكنَّه دعا إلى «الحزب الوطني المصري» في وقت الحاجة المُلحَّة لإنقاذه وإنقاذ عائلته. والنظام الحالي سوف يؤدي بالبلاد إلى الخراب بنفس الطريقة، ولا يستطيع أن يَحُول دون ذلك سوى الأمة المصرية ذاتها التي يُمثِّلها «الحزب الوطني»، وذلك وفقًا للمراحل التاريخية من حياة الأمم الأوروبية التي تنعم اليوم بالحريات التي تتطلَّع إليها مصر على أساس «نفس المبادئ التي قامت عليها عظمة أوروبا».

وأشار البيان إلى أن وزارة رياض لا تُمثِّل المصالح المصرية، فالحزب الوطني «لا يَعدُّ الحكومةَ التي تشكَّلت تحت النفوذ الأجنبي مُعبِّرةً عن أهالي البلاد الذين لم يقوموا باختيارها، كما أنها لا تضم مصريين حقيقيين؛ فهي بذلك لا تقوم على أساس سليم، والدول وحدها هي المسئولة عن تشكيلها، فلا قيمة لها في نظر الأمة، ورغم وجود خديوي يحكم في القاهرة فإن إدارة دفة الأمور ليست بيده أو بيد وزرائه … وأمة وادي النيل لا تقبل بتلك الأوضاع التي تُهدِّد استقلالها الذاتي بالخطر، ولا تستطيع أن تترك ثرواتها تُستغل على يد عناصر أجنبية غير مسئولة تتمتَّع بالمزايا والامتيازات التي لم تُشارك «في صنعها» … والحزب الوطني يعني بذلك — بوضوح وبساطة — جميع العناصر الأجنبية التي تشغل المناصب الإدارية الكبرى، وتتقاضى الرواتب الضخمة التي تستنزف الكثير من الموارد العامة».

ولكن ثمة حالة واحدة يمكن للحزب فيها أن يتغاضى عن مبدأ عدم التدخل في شئون مصر الداخلية، هي تلك التي تتدخل فيها الدول لإتاحة الفرصة أمام «الحزب الوطني» ليُمارس نشاطًا علنيًّا، ولم يُشِر البيان إلى رفض الحزب الاستماع إلى مشورة الخبراء الأوروبيين.

وفيما يتعلَّق بمسألة ديون الحكومة، أعلن البيان بدقة إفلاس مصر (مثلما حدث في الخطة المالية المعلَنة في أبريل السابق)، ولكن حتى إذا كانت مسئولية الديون غير مقبولة فإن هناك تصميمًا قويًّا على سدادها، غير أن وسائل تحقيق هذه الغاية تختلف عن تلك التي اتبعتها وزارة رياض وفقًا لما استقرَّ عليه رأي الدول.

وأعلن البيان المطالب التالية:

  • (١)

    عودة وظائف الإدارة المصرية إلى المصريين لتظل بأيديهم وحدهم.

  • (٢)

    انتقال ملكيات إسماعيل التي كوَّنها بعد توليه السلطة إلى ملكية الدولة.

  • (٣)

    إلغاء الرهن المباشر لموارد الدولة (مثل السكك الحديدية والممتلكات الخديوية السابقة).

  • (٤)

    توحيد الديون على اختلاف أنواعها في دين واحد وتُحدَّد نسبة الفائدة ﺑ ٤٪ سنويًّا.

  • (٥)

    تعيين لجنة دولية مكوَّنة من ثلاثة أعضاء، تُعيِّنهم الدول وتُصدِّق الحكومة المصرية على هذا التعيين؛ لتتولى الإشراف على خدمة الديون ولكن دون أن يكون لها حقٌّ في التدخل في الإدارة المصرية.

وبقية بنود البيان لا تقل تنميقًا عن غيرها من بنود البيان الأخرى فتنص على أن:

  • (١)

    الحزب الوطني يُعادي أساليب التطرف والعنف.

  • (٢)

    ويسعى لتحسين أحوال «الجماهير» عن طريق إقامة نظام تعليمي متقدم.

  • (٣)

    ويُطالب بإصلاح نظام الضرائب مع تخفيض قيمتها.

وفي هجومهم على وزارة رياض اقتبس أصحاب البيان الحجج والأفكار التي سبق أن استُخدِمت في الحملة التي قادها شريف باشا ضد نوبار، واتفق البيان مع الخطة المالية التي أُعلِنت في الربيع، فنادى برفض إعلان الإفلاس والمطالبة بتخفيض سعر الفائدة على ديون الدولة الذي كان يبلغ ٥٪ عندئذٍ. ولم يتضمَّن البيان الإشارة إلى وضع مصالح الأسرة الخديوية موضع الاعتبار على نحو ما جاء باللائحة الوطنية التي أُعِدَّت تحت إشراف إسماعيل، غير أن ذلك لم يعد ضروريًّا الآن. وكان الطابع العام لبيان نوفمبر هو الرفض التام لكل تدخل أوروبي في الإدارة السياسية المصرية.

ولم يكن رياض يجهل معرفة قادة هذه الجماعة وواضعي البيان، فيذكر نينه أن «الذين كانوا موضع الشك بأنهم وراء إصدار البيان اعتكفوا في حلوان، حيث ظلُّوا هناك تحت رقابة صارمة»؛١٤١ ولهذا السبب يُعرف «مماليك» إسماعيل السابقين الذين عارضوا وزارة رياض المتعاونة مع الدول باسم «جمعية حلوان»؛ ففي هذا المنتجع الصحي (حيث العيون الكبريتية) الذي يقع إلى الجنوب الغربي من القاهرة والذي ربطه بالعاصمة خط حديدي منذ عام ١٨٧٦م، التمسوا العزلة وليس الاستشفاء؛ لأن حلوان كانت تُعاني الكساد عندئذٍ «فقد بدت حلوان عام ١٨٧٩م مقفرة … لا يُشاهَد أي غريب في شوارعها المُترَّبة، وتوقَّفت حركة البناء فيها، وترك الطبيب الوحيد هذا المكان الذي لا يعرف المرضى الطريق إليه، وبلغ الكساد ذروته عندما أغلقت الصيدلية الوحيدة في حلوان أبوابها.»١٤٢
وليس ثمة حدث في التاريخ المصري في تلك السنوات كان موضع تفاوت في وجهات النظر مثلما حدث بالنسبة للروايات المتداوَلة عن «تجمُّع» باشاوات المعارضة. ووجدت مجلة الأورينت مودرنو Oriente Moderno في هذا الغموض التاريخي مَخرَجًا، فقد جاء بمقال نُشِر بتلك المجلة،١٤٣ أنه قد تأسس أول حزب سياسي مصري في عام ١٨٧٨م بحلوان، وكان ينتمي إلى ذلك الحزب مُمثلون لثلاث فئات مختلفة: تلاميذ جمال الدين (محمد عبده، وسعد زغلول، وحفني ناصف، وإبراهيم اللقاني، وعبد الله النديم، وإبراهيم الهلباوي)، والأعيان المتأثرين بجمال الدين (محمد سلطان، وشريف باشا، وعمر لطفي)، والضباط (أحمد عرابي، وعلي فهمي، وعبد العال حلمي، ومحمود سامي البارودي)، وتتبَّع كاتب المقال نشاط «الحزب» حتى وقوع الاحتلال البريطاني. ويكفي هذا النموذج للدلالة على هذا الخلط، وهناك المزيد من تلك الروايات التي لا يُحقِّق عرضها أي غاية.
ولكن يجب أن نُلقي نظرةً على بعض من تتردَّد أسماؤهم في تلك الروايات باعتبارهم من أعضاء «جمعية حلوان»، فبعد نفي جمال الدين من مصر أُبعِد محمد عبده إلى قريته، ولكنه ما لبث أن عاد إلى القاهرة لعدم تحمله النفي، غير أنه يذكر في حديثه لبلنت: «نصحني الجميع بالبقاء (بالقرية) حتى لا يُظنَّ أنِّي قد جئت (إلى القاهرة) لعلاقتي بجمعية سرية شكَّلها شاهين باشا وعمر لطفي وغيرهما من المشايعين لإسماعيل للعمل ضد رياض؛ ولذلك عدت إلى قريتي مرةً أخرى.»١٤٤ وفي تلك الذكريات لا يذكر محمد عبده شيئًا عن «المشايعين لإسماعيل» يزيد عمَّا عرفه من كتاب نينه «عرابي باشا»١٤٥ ولمَّح من طرف خفي إلى أنه لم يُوافق على نشاطهم لأنه كان مُوجَّهًا ضد رياض الذي كان يُضفي عليه حمايته. ومن المفترض أن يكون عبد الله النديم قد انضمَّ إلى «جمعية حلوان» من خلال التحالف بينها وبين «جمعية مصر الفتاة» (وهو ما لم يتم فعلًا)، ولكن عبد الله النديم كان قد أدار ظهره لأولئك الشُّبَّان الشوام، وأصبح منذئذٍ مشغولًا بنشاط «الجمعية الخيرية الإسلامية» التي قام بتأسيسها. وما كان باستطاعة محمود سامي البارودي أن يتوجَّه إلى منتجع حلوان الذي كان خاضعًا لرقابة صارمة، ويظل — في نفس الوقت — بالقاهرة حيث وزارة رياض التي كان من بين أعضائها. أما أحمد عرابي فلم يكن ثمة ما يُذكِّره بجمعية حلوان سوى أنها نشرت بيانًا بالصحف الفرنسية، ولم يتذكَّر شيئًا سوى أسماء «أشياع إسماعيل» الثلاثة: شاهين باشا، وحافظ باشا،١٤٦ ومحمد نشأت.١٤٧ ومن الواضح أنه لم يسمع شيئًا مما قيل عن عضويته بالجمعية.١٤٨ أما سلطان باشا فلم يُوضع تحت رقابة البوليس مثلما فعل رياض مع المتآمرين عليه، بل كان عضوًا بإحدى اللجان الإصلاحية (التي شكَّلها رياض)، وهو ما يُفسِّر حقيقة غياب توقيع سلطان من الوثيقة الوحيدة التي قدَّمها معارضو رياض حول إلغاء المقابلة في مايو ١٨٨٠م، وهو دليل آخر على عدم انتماء سلطان لجمعية حلوان.
وما بقي من «أول حزب سياسي مصري» ليس سوى حفنة من وزراء إسماعيل السابقين الذين فقدوا نفوذهم. ووفقًا للمصادر المعاصرة كان شريف باشا، وشاهين، وعمر لطفي، وإسماعيل راغب،١٤٩ هم أبرز أعضاء جمعية حلوان. وقد ذكر شريف — فيما بعدُ — أنه المؤسس الحقيقي ﻟ «الحزب الوطني»، وأنه كان رئيسًا له.١٥٠
ولا ينطبق مصطلح الحزب السياسي — بالمفهوم الذي نعرفه — على أي جماعة سياسية مصرية في ذلك العصر. وحتى مجلس شورى النواب لم يُكوِّن أيَّة أحزاب سياسية أو مجموعات برلمانية، على نحو ما يذكر القنصل الفرنسي. وكان يُطلق على النوادي، والجماعات المختلفة في مصر — في ذلك الوقت — اسم «الجمعية»، واستُخْدِمَت كلمة «الحزب» لتعني رابطة الولاء التي لا تستدعي وجود بناء تنظيمي، ومصطلح «الحزب الوطني» كان يعني تلك الجماعة من المصريين التي نادت باستقلال البلاد تحت شعار «مصر للمصريين»، على حد تعبير أديب إسحاق وغيره من المنفيين في باريس. وفي مواجهة «الحزب الوطني» كان هناك «حزب التدخليين» الذين يقبلون بالتعاون مع الدول تحت قيادة رياض١٥١ وأُطلق فيما بعدُ اسم «الحزب العسكري» على الذين أيَّدوا ضباط الجيش. وخلال الحرب (ضد الإنجليز) أُطلق مصطلح «حزب الله» على أولئك الذين كانوا يُجاهدون ضد المعتدين الكفار.

وبعد إيضاح هذه النقطة، هل من المناسب أن نُشير إلى «جمعية حلوان» باسم «الحزب الوطني» لأن ذلك هو الاسم الذي أطلقوه على أنفسهم؟ وعلى كلٍّ لم تستمر هذه الجماعة أو غيرها من الجماعات في ممارسة نشاطها على المسرح السياسي تحت اسم «الحزب الوطني» الذي كانت تتبناه باستمرار شخصيات وجماعات جديدة. وقد ظهرت جماعات مختلفة في أوقات مختلفة ذات مصالح وأهداف متباينة، كانوا يتحدثون بلسان الشعب المصري باعتبارهم رُوَّاد العمل ضد التدخل الأجنبي والمتعاونين معه، فإذا اعتبرناهم جميعًا «الحزب الوطني» يصعب علينا فهم أحداث ذلك العصر.

وعندما يعود مصطلح «الحزب الوطني إلى الظهور، وخاصةً في عامَي ١٨٨١‏-‏١٨٨٢م، يجب ألَّا نظن أنه كان يُمثِّل حزبًا منظمًا له أعضاؤه وبرامجه ولوائحه التنظيمية وكوادره».١٥٢ وعلى حد قول نينه: «كان الحزب الوطني يعني مصر كلها.»١٥٣ كما وصفه أحد المتحمسين الأوروبيين الآخرين بأنه يُمثِّل «شعورًا مشتركًا» وأنه يُعبِّر عنها؛ «الرغبة المُلحَّة في تغيير إدارة البلاد.»١٥٤ ويُحذِّرنا أحمد رفعت١٥٥ — وهو واحد من أكثر زعماء العرابيين ذكاءً — بقوله:
«يقع الأوروبيون في خطأ شديد عندما يُحاولون فهم الشرق في ضوء الأفكار المسبقة التي جاءت نتاجًا لثقافة من نوع آخر، ولأوضاع اجتماعية مختلفة تمامًا … فليس هناك سوى حزب وطني واحد سواء في هذا البلد أو غيره من بلاد الشرق، وسوف أُسمِّيه (حزب الباحثين عن العدالة) … فَهُم جميعًا يريدون أن ينالوا نصيبًا من الفوائد التي تعود من وراء مؤسسات سياسية كتلك التي تملكها أوروبا.»١٥٦
ورأت جمعية حلوان «تلك العدالة في ضوء مصالحها السياسية والاقتصادية. وبعد نشر البيان كان كل شيء هادئًا حول أشياع إسماعيل»،١٥٧ ولكن عندما بدأت لجنة التصفية ممارسة عملها عادوا إلى النشاط مرةً أخرى لأن مراكزهم الاجتماعية والاقتصادية كانت عُرضةً للخطر، فبدءوا للوهلة الأولى نضالهم ضد تسوية مشروع المقابلة وزيادة ضرائب الأطيان العشورية.

وكان نوبار باشا هو أول من قدَّم التماسًا خاصًّا بالمقابلة إلى لجنة التصفية، ولم يكن — بكل تأكيد — ثمة شك في انتمائه إلى مجموعة «الحزب الوطني» المتآمرة، وكان قد عاد من أوروبا في ٢٧ نوفمبر ١٨٧٩م بعدما ألغى توفيق قرار الحظر الذي كان مفروضًا عليه، في وقت كان لا يزال فيه شريف باشا رئيسًا لمجلس النظار، ولم يحمل التماس نوبار سوى توقيعه وحده. ونظَّم حسن موسى العقاد، داعية حليم، والتاجر بالقاهرة وعضو مجلس شورى النواب (١٨٧٠‏–‏١٨٧٣م)، حملةً لجمع التوقيعات على التماس جماعي قُدِّم إلى ولسون في ٤ مايو ١٨٨٠م أعلن فيه الموقعون احتجاجهم على إلغاء المقابلة وزيادة ضرائب الأطيان العشورية واتهموا وزارة رياض بالاستبداد.

وعلى كلٍّ فإن الالتماس الذي تقدَّم به الباشاوات في ١٦ مايو ١٨٨٠م، أثار قدرًا أكبر من المتاعب؛ فقد رأوا التسوية المقترحة للمقابلة تُعد مُنافِيةً للعدالة والشرعية١٥٨ وهاجموا الحكومة لإخلالها بالتزاماتها بعدم زيادة ضرائب الأطيان عن معدَّلها في ١٨٧٦م متجاهلين في ذلك القرار الخاص بإلغاء المقابلة والذي كان قد صدر بالفعل، ورأوا أن ذلك الإخلال قد جاء في صورة فرض ضريبة إضافية على الأطيان العشورية، وفي القانون الجديد الخاص بالسُّخرة الذي يُعَد ضريبةً جديدة، وذكروا أن رياضًا يهتم بمصالح بيت روتشيلد أكثر من اهتمامه بمصالح مُلاك الأراضي الوطنيين، وأن الحكومة النيابية هي التي تملك حق فرض ضرائب جديدة أو زيادة الضرائب رغم قانون المقابلة، ولكن ذلك يجب ألَّا يتم بطريقة استبدادية، وعدُّوا الوعود الغامضة التي قطعها مرسوم ٦ يناير ١٨٨٠م غير كافية تمامًا، وطالبوا لجنة التصفية باعتبار دَين المقابلة دَينًا ممتازًا، وذكروا أنهم اضطُروا إلى اقتراض الأموال لدفع المقابلة وقيمة سندات الروزنامة والتبرعات للحرب التي طُلِب منهم دفعها.
ووقَّع هذا الالتماس أربعة وثمانون شخصًا ممن عانوا خسارةً مادية جسيمة من وراء إلغاء المقابلة بعدما كانوا يَجنُون من ورائها فوائد جمة. وكان أعضاء «جمعية حلوان» في مقدمة الموقِّعين على الالتماس وهم الذين كانوا قد أسقطوا في السنة السابقة — بقيادة إسماعيل — وزارةً لمسائل تتعلق بالنواحي المالية والضرائب، ومنهم شريف باشا، وإسماعيل راغب، وثابت باشا، وشاهين باشا، وعمر لطفي،١٥٩ ويجب أن نذكر أنه كان من بين الموقعين على الالتماس الأميران إبراهيم وأحمد أبناء عمومة الخديو توفيق، وإبراهيم أدهم،١٦٠ وعبد الشهيد بطرس وهو أحد كبار المُلَّاك بجرجا وعضو مجلس شورى النواب، ووكيل راتب باشا، والشيخ السادات. ويمكننا أن نُطلق على هذه الوثيقة اسم «التماس الأتراك»؛ لأنه كان من بين كبار المُلَّاك ونُظَّار الدوائر وكبار الموظفين والضباط الموقِّعين عليها عدد كبير من الأسماء التركية، كما كان من بين تلك التوقيعات بعض الأسماء اليهودية من بينها بعض العائلات اليهودية المصرية المعروفة ونُظَّار دوائر الحاخام.

أما الالتماسات الفردية التي تلقَّتها لجنة التصفية، فلم تكن ذات وزن سياسي. وعلى كلٍّ كانت تلك الالتماسات من الكثرة لدرجة أن لجنة التصفية لم تعد تُعنَى بترجمتها ترجمةً كاملة ولكنَّها اكتفت بملخَّصاتها.

وفي نفس الوقت قُدِّم التماس آخر إلى ناظر الحربية أعَدَّه محمد فاني — أحد رؤساء الأقلام بنظارة المالية — ووقَّع عليه عدد من ضباط الجيش،١٦١ أشار إلى تناقص الولاء للباب العالي الذي يبدو ملحوظًا في الصحافة المحلية، مؤكِّدًا أنه إذا أُهمِلَت الرابطة المقدسة التي تربط مصر بالدولة العلية، فإن مصر ستقع تحت رحمة الدول الأجنبية، وطالب أصحاب الالتماس بمصادَرة الصُّحف التي تُهاجم الباب العالي، ووجَّهوا اللوم إلى الحكومة لأنها سمحت بعودة الأموال التي حصلت عليها من بيت روتشيلد إلى أوروبا مباشرةً دون أن ينال منها المصريون شيئًا، سواء في ذلك أصحاب دين المقابلة أو أرباب المعاشات أو اليتامى، رغم أن الدولة حظرت ذلك تمامًا، كما أن الكثيرين من الأوروبيين يُستخدَمون في الإدارة المصرية برواتب ضخمة على حين طُرِد الضباط ذوو العائلات الكبيرة من وظائفهم وحُرموا من أرزاقهم. وأعلنوا أن الوقت قد حان لاستنكار الخضوع للأوروبيين.
وانضمَّت جريدة لا ريفوم — التي كان يُحرِّرها سانتر دي بوف صاحب ترجمة شريف باشا — إلى معركة الصراخ ضد رياض بعد أن أُنذِرت مرتين خلال الخريف، فأعلنت احتقارها لرياض وأشادت باحتجاج الباشاوات على إلغاء المقابلة، وطالبت بالامتناع عن دفع الضرائب وتنبَّأت بسقوط الوزارة بسبب موقفها من المقابلة.١٦٢ وسخرت الجريدة من الإصلاحات التي أُدخِلت لإصلاح حال الفلاح، وعرَّضت ﺑ «مُصلحي مصر».١٦٣

ولم يجد رياض صعوبةً في إلزام المعارضة حدود الصمت مرةً أخرى، فصودرت صحيفة «لا ريفورم» في ٢٥ مايو، وأُنذِرت صحيفة «الفارد ألكسندري» وأُمر رياض بإلقاء القبض على محمد فاني موظف المالية السالف الذكر، وحسن موسى العقَّاد، وحُكِم على الأول بالسجن مدة عامين، وعلى الثاني بالنفي إلى فازوغلي مدة خمس سنوات، وحاول العقاد — عبثًا — أن ينال الرعوية الفرنسية، وحاول أن يطلب من بورج — نائب القنصل البريطاني — أن يتوسَّط من أجل إطلاق سراحه دون جدوى، وفشلت زوجته في حث الحكومة البريطانية على التدخل لإنقاذ زوجها، وقد أعاده شريف من منفاه بعد أن تولَّى السلطة في سبتمبر ١٨٨١م. وبالإضافة إلى ذلك، قيل إن بقية الموظفين والضباط قد نُقِلوا من وظائفهم أو طُرِدوا من الخدمة أو سُجِنوا لاشتراكهم في موجة الاحتجاج.

وكانت طريقة التصرف مع الباشاوات تُمثِّل مشكلة كبرى؛ فقد أراد رياض نفي شريف وشاهين وراغب الذين اعتبرهم زعماء للمعارضة وأن ينفي معهم نوبار، ولكن القنصل الفرنسي تدخل تدخُّلًا حاسمًا ضد مثل هذا الإجراء؛ ولذلك أُنذِروا ووُضِعوا تحت مراقبة البوليس، وزعم توفيق أنه قام بتوبيخ الأميرين إبراهيم وأحمد وبعض الباشاوات، وحزم نوبار حقائبه وسافر إلى الخارج، ورأى قادة «الحزب الوطني» أن من الحكمة التخلي عن المعارضة، فغادر شريف باشا القاهرة لتفقد مزارع القطن الخاصة به في الدلتا، وأراد شاهين باشا التوجُّه إلى نابولي ليبقى بجوار إسماعيل الذي حصل له على الجنسية الإيطالية تحسُّبًا للمستقبل، وعلى كلٍّ، عندما شاع ذلك تَقرَّر — في ١٤ يونيو ١٨٨٠م — حرمان شاهين باشا من ألقابه ورُتَبه وطرده من الجيش المصري، ومُنع من العودة إلى البلاد، وقُرِئ عليه هذا القرار على ظهر الباخرة التي أقلَّته إلى الخارج في ١٥ يونيو، ويذكر أحمد عرابي أن حافظ باشا ومحمد نشأت قد نجحا في الحصول على الحماية النمساوية.

أهو عصر جديد؟

قضى رياض على المعارضة بلا رحمة، فأسكت الصحفيين أولًا، ثم الباشاوات، وكانت وسائله في ذلك مصادرة الصحف والنفي إلى السودان، ولمَّا كان لا يُزعجه أحد الآن، فقد شرع يستكمل الأساس القانوني الذي سيُنهي به الأزمة المالية، فقد شرع يستكمل الأساس القانوني الذي سيُنهي به الأزمة المالية، وفقًا لرغبات الدول واعتمادًا على تأييدها، فالإصلاحات الداخلية المكثفة قد تُعلن بداية عصر جديد، وقد ينجح رياض حيث فشل نوبار، فيدخل التاريخ باعتباره منقذًا لمصر، والرجل الذي استطاع أن يُنظِّف «إسطبلات إسماعيل العفنة» بالعزيمة والإصرار. وقد بهتت صورة الخديو الحسن الطوية والضعيف — توفيق — إلى جانب وزيره الأعظم رياض. كانت تلك القناعة تُلازم رياضًا الذي درج على أن يبدأ حديثه دائمًا بالقول: «نحن وسعادة الخديو.»

وعلى نحو ما رأينا، كان الخبراء الأوروبيون والمصريون المتعلمون يقفون وراءه متحمسين، من أمثال: علي مبارك، وعلي إبراهيم، وحسين فخري، وبطرس غالي، وعبد الله فكري، وسالم سالم، ومحمود الفلكي، وإسماعيل الفلكي. وكان زملاء علي مبارك يهتمون بالبنية الأساسية للبلاد أكثر من اهتمامهم بالبنية السياسية العلوية؛ فلم يكن من بين الخبراء المصريين الذين تعلَّموا في أوروبا مَن ظهر في عام ١٨٨٢م على المسرح السياسي ليلعب دور «الثوري».

أضف إلى ذلك أن رياضًا كسب إلى صفه تلاميذ صنيعته السابق جمال الدين من المصريين وخاصةً محمد عبده، ولعل ذلك من أكثر تحركات رياض مهارة؛ فعندما أنكر محمد عبده أفكار الفيلسوف المنفي — على نحو ما يذكر القنصل الفرنسي — ضمَّه رياض إلى هيئة تحرير «الوقائع المصرية» في خريف ١٨٨٠م وما لبث أن أصبح رئيسًا للتحرير،١٦٤ وسمح له أن يُلحِق بهيئة التحرير بعض تلاميذ جمال الدين السابقين وهم: سعد زغلول وعبد الكريم سلمان، وإبراهيم الهلباوي، والسيد وفا، ومحمد خليل. ووقع على عاتقهم تقديم سياسات رياض للرأي العام وشرح إصلاحاته، ففعلوا ذلك. ففي مقالات ثلاث تناول محمد عبده إجراءات رياض، وما ترمي إليه من تحسين أحوال «إخواننا الفلاحين» وخاصةً علاقتهم بالحكومة والذوات.١٦٥
وقد أبدى محمد عبده في تلك الفترة — وفي السنوات التالية كما هو معروف — تحمُّسه لنظام مؤقت يقوم على ما أسماه كرومر ﺑ «الاستبداد الرحيم» أو الحكم الأوتوقراطي المستنير. فيذكر في مذكراته أن الكثير من المثقفين قد وافقوا على سياسة رياض الخاصة بتجاهل مجلس شورى النواب الذي اعتبره عقبة في طريق الإصلاح.١٦٦ ولم يكتب محمد عبده مقالاته عن الشورى — التي كثيرًا ما يرجع المؤرخون إليها — إلَّا بعد سقوط رياض، وبمناسبة افتتاح مجلس شورى النواب في ٢٦ ديسمبر ١٨٨١م، بعدما أصبح مُهيَّئًا للقَبول بالنواب كمتحدثين بلسان الرأي العام المستنير في البلاد الذي يُعد وجوده شرطًا أساسيًّا لقيام الجهود المشتركة بين الحكام والمحكومين من أجل الصالح العام. ولم يضع في اعتباره إمكانية قيام صراع خطير بين المصالح المتناقضة، وقارن بين توفيق والخليفة عمر بن الخطاب الذي اقتبس كلماته الشهيرة. ولكنَّه — على نقيض سعد زغلول — لم يرجع إلى الشريعة لتبرير مبدأ الشورى؛ لأنه كان يعتقد أن هذا النموذج للنظام السياسي سيفرض نفسه في مرحلة معينة من مراحل تطور المجتمع،١٦٧ «فالذكاء الجماعي صحَّح أخطاء الحكمة الفردية.»١٦٨
وما دام رياض في السلطة — أي حتى ٩ سبتمبر ١٨٨١م — أكَّد محمد عبده صعوبة ووعورة الطريق الذي يقود إلى نظم سياسية كتلك التي تقوم في الدول الأوروبية؛ فقد كان «خطأ المثقفين» يكمن في الاعتقاد بأنهم يستطيعون أن يفرضوا على مصر نسخةً من النظام الاجتماعي والسياسي الأوروبي قبل أن يُقدِّم التعليم أساسًا لذلك؛١٦٩ فالقوانين لا بد أن تُعبِّر عن أوضاع المجتمع، وتلك الأوضاع لا يمكن أن تتغير إلَّا من خلال تغيُّر الأخلاق والأفكار والعادات الخاصة بأفراد المجتمع.١٧٠
ولكن، عندما فرض الجيش دعوة مجلس شورى النواب في ٩ سبتمبر ١٨٨١م، أصبحت الشورى هي قانون الساعة عند محمد عبده؛ ففي ظل حكم رياض، كان يرى أن من الضروري احترام القوانين والقرارات الحكيمة التي تُصدرها الحكومة الرشيدة، ووضعها موضع التنفيذ من أجل سعادة البلاد؛ لأن هدفها الوحيد هو الصالح العام.١٧١
وقد صدرت جميع القرارات الإصلاحية الهامة عندما كان محمد عبده وزملاؤه ضمن هيئة تحرير «الوقائع المصرية»، فاعتبر قانون التصفية — الذي وقَّعه توفيق دون اعتراض في ١٧ يوليو ١٨٨٠م — حدًّا فاصلًا بين الماضي البغيض والمستقبل المشرق.١٧٢ وتحدَّد سعر الفائدة للدين الممتاز ﺑ ٥٪ سنويًّا، وخُصِّصت إيرادات السكك الحديدية والتلغرافات وميناء الإسكندرية لاستهلاك هذا النوع من الديون، وخُصِّصت إيرادات الجمارك والضريبة على واردات الدخان وضرائب مديريات الغربية والمنوفية والبحيرة وأسيوط لسداد فوائد واستهلاك الدين الموحد، وتحدَّد سعر الفائدة لذلك الدين ﺑ ٤٪ سنويًّا، وخُصِّص مبلغ ١٥٠ ألف جنيه سنويًّا ولمدة خمسين عامًا لتعويض دين المقابلة، ويوازي هذا المبلغ الزيادة المؤقتة التي فُرِضت على ضريبة الأطيان العشورية. وفي ٢٧ يوليو تأكَّدت — مرةً أخرى — حقوق الملكية التامة للأطيان التي دُفِعت عنها المقابلة كلها أو بعضها. وكان الجانب الوحيد المقبول عند المصريين من قانون التصفية هو تحديد المبلغ اللازم للإنفاق على إدارة البلاد بما يُعادل نصف الإيرادات السنوية، ويذهب النصف الآخر وما قد تحقَّق من فائض في الموازنة إلى الدائنين الأوروبيين.

ولكن، رغم ذلك كله أُعلن يوم ١٧ يوليو عيدًا وطنيًّا، ودُعِي جميع أعيان البلاد إلى قصر رأس التين بالإسكندرية، وفي المساء أُقيم عرض عسكري وعُزِفت الموسيقى العسكرية، وسار في موكب الشعلة تلاميذ مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية وأعضاء هذه الجمعية التي أسَّسها عبد الله النديم، واستقبلهم الخديو. وأُطلِق على اليوم اسم «عيد ١٧ يوليو» واحتُفل به بنفس الطريقة في كثير من المدن المصرية، وانتهى في الإسكندرية بإطلاق الألعاب النارية المبهرة نحو البحر.

وبعد شهر، أخطر ناظر المالية المديرين في منشور دوري بأن يؤكِّدوا في جميع نواحي مديرياتهم أن تُقدَّم دعاوى من دفعوا المقابلة إلى دواوين المديريات إمَّا تحريريًّا أو شفويًّا في موعد غايته أول يناير ١٨٨١م.

وأخيرًا، يجب أن نُشير إلى القرارات التي نصَّت على حظر السخرة في الأعمال الخاصة، وإلغاء استخدام الكرباج، وضمان توزيع مياه الري بالعدل، واعتَبَر محمد عبده هذه القرارات ذات أهمية خاصة. وفي ٣١ يوليو أصبح التجنيد العسكري يقوم على أُسس قانونية جديدة تُمثِّل دَفعةً في الطريق إلى العدالة والمساواة حتى لو كان ذلك على الورق. كما مدَّت الحكومة العمل باتفاقية المحاكم المختلطة — التي كانت مدتها خمس سنوات — سنةً أخرى (تنتهي في أول فبراير ١٨٨٢م)؛ حتى تستطيع لجنة الإصلاح الدولية التي شُكِّلت لمراجعة لوائحها أن تُنجِز عملها.

وبدا أن ثمة عصرًا جديدًا قد بدأ في مصر، وعندما قام الخديو بثلاث جولات في الأقاليم استُقْبِلَ بالحفاوة والترحيب. وفي ٨ يناير ١٨٨٠م قام بزيارة الفيوم مدة ثلاثة أيام، فانبهر من الطريقة التي استقبله بها أهالي الأقاليم، وذكر للقنصل النمساوي أنه لن ينسى تلك الأيام الطيبة.

وفي ٢١ يناير توجَّه حشد من الناس يضم أصحاب المحلات والحرفيين يتقدَّمهم الموسيقيون الجائلون إلى قصر الإسماعيلية بالقاهرة ليشكروا الخديو على القرار الجديد الذي صدر لتخفيف الضرائب عن كواهلهم، وهتف الحشد لتوفيق عندما خرج إلى شرفة القصر لتحيتهم. ولم يكن هناك ما يُحفِّز الطبقة العليا (الكبراء) على المشاركة في مظاهر الشكر هذه، على نحو ما لاحظ محمد عبده.١٧٣

وفي اليوم التالي، غادر توفيق القاهرة في رحلة إلى الصعيد استغرقت ثلاثة أسابيع، وقد أخذ الخديو الشاب عندما بدت الرحلة كموكب النصر، وفي ٢٧ يناير أبرق إلى رياض يقول:

«نحن الآن في أسيوط، ومن الصعب أن نصف مظاهر الابتهاج التي أبداها الأهالي من الجيزة حتى هنا، والترحيب البالغ الذي قابلَنا به الشعب، فهذا الابتهاج يقوم على الثقة العامة. ولكن الثقة لا توجد إلَّا حيث تسود العدالة والأمانة، ونحن نرى رعايانا الآن يستقبلوننا وقد ملأهم الأمل والثقة، وهذه النعمة العظيمة تستوجب منَّا المُضِي على طريق العدالة والإخلاص اللذين بدأنا السير فيهما حتى تزداد محبة الرعايا لنا وثقتهم بنا. كَلَّل الله مساعينا بالنجاح.»١٧٤

وأخيرًا، قام توفيق بجولة في الدلتا والمدن الساحلية — من ١٠ أبريل إلى ٤ مايو — حيث استُقبِل استقبالًا حارًّا. وخلال جولاته تلك كان يزور المساجد والمصانع، وكان يسير مع حاشيته في شوارع المدن ويزور منازل أعيان البلاد. وكوفئ رياض على عمله، وبناءً على طلب توفيق أنعم عليه السلطان برتبة المشير في ٢٦ يونيو.

ولم يكن هذا الابتهاج مصطنعًا؛ فخلال أبريل ومايو قام المندوبون الذين أوفدهم المراقبان العامَّان بالإشراف على تطبيق الإصلاحات في الأقاليم، وتناولت تقارير نواب القناصل بالأقاليم التحسن الملحوظ في أحوال الفلاحين خلال الستة شهور الأخيرة؛ فقد كان المحصول جيدًا، وجاءت الطريقة الجديدة لجباية الضرائب لتُساهم في ذلك التحسُّن. وتناقصت أسعار الفائدة التي كان يحصل عليها المرابون تناقصًا شديدًا، وارتفعت قيمة الأطيان بنفس المعدلات، واختفى الكرباج كأداة لتحصيل الضرائب، ولكن أهالي الصعيد أبدوا استياءهم من النظام الجديد الذي منعهم من سداد الضرائب عينًا، كما أن التغيُّر لم يكن محسوسًا فيما يتعلَّق بعدالة توزيع مياه الري والعمل بالسخرة، فظلَّ الأعيان — على هذا النحو — يحتفظون بوضعهم الممتاز إلى حد كبير.

لقد بزغ — على ما يبدو — فجر حقبة جديدة، وبدت غالبية الأهالي أكثر شعورًا بالرضا من ذي قبل، فيُشير بلنت إلى ملاحظاته بعد عودته إلى مصر في أواخر ١٨٨٠م قائلًا:

«زرت بعض القرى التي كنت أعلم أنها تُعاني ضائقةً شديدة منذ خمس سنوات، فوجدت أن المساوئ التي أثَّرت على وضعها قد توقفت، ورغم أن الفلاحين كانوا لا يزالون فقراء مُثقَلون بالضرائب، إلَّا أن الشعور باليأس الذي كان سائدًا بينهم والذي جعلهم يشكون تاريخ همومهم لي عندما جئت إليهم كأجنبي متعاطف معهم قد تلاشى؛ فالأهالي كانوا يشكون من أوضاعهم١٧٥ بمرارة في السنوات السابقة، أصبحوا الآن يمتدحون الخديو وإدارته.»

هذه الانطباعات أدَّت إلى افتراض خاطئ مؤداه أن مركز الرقابة الأوروبية ووزارة رياض قد أصبح راسخًا، وأن ليس ثمة ما يدعو إلى الالتفات إلى القلعة الساخطة ما دامت غالبية سكان البلاد يزداد شعورهم بالارتياح. ولكن هذا البناء الأسطوري هزَّه تمرُّد قام به الجيش في أول فبراير ١٨٨١م وأدت نتائجه في نهاية الأمر إلى انهيار ذلك البناء.

١  Cromer, Vol. 1, p. 21.
٢  وُلِد نوبار باشا بأزمير في ١٨٢٥م لأسرة أرمنية محترمة، وتلقَّى تعليمه بسويسرا وفرنسا، واستطاع عمه بوغوص بك — ناظر خارجية محمد علي — أن يُلحقه بالإدارة المصرية في ١٨٤٢م وترقَّى بسرعة في الوظائف في عهود إبراهيم وعباس وسعيد، ثم ما لبث أن أصبح من أبرز وزراء إسماعيل وأقرب الناس إليه فجعله مبعوثه إلى الآستانة ومفاوضًا باسمه هناك.
انظر: Holynski, Bertrand, Archarouni, Tager: Portrait Psychologique de Nubar Pacha; Moberly Bell: Khedives and Pashas, pp. 145–60.
٣  لا يتضح من المصادر ما إذا كانت الإشارة إلى الجنيه المصري أو الجنيه الإسترليني وإن كان الفرق بينهما — عندئذٍ — بسيطًا.
٤  ورد النص في: Reformen im Verwaltungs-und Finanzwesen Egyptene, pp. 45–62.
وكذلك في الوقائع المصرية، ٨ يناير ١٨٨٠م.
٥  الوقائع المصرية، ٨ يناير ١٨٨٠م.
٦  Reformen im Verwaltungs-und Finanzwesen Egyptene, pp. 37, 40.
٧  Sammarco, p. 336.
٨  Mommsen, p. 38.
٩  وُلِد مصطفى رياض في ١٨٣٤م، وكان والده إسماعيل الوزان ناظرًا لدار سك العملة، وتُشير المصادر الأوروبية المعاصرة إلى أن أسرته تنحدر من أصل يهودي؛ فقد كانت أسرة الوزان أسرةً يهودية معروفة بأزمير، ولكن الرافعي ينفي ذلك تمامًا دون أن يستند إلى دليل قاطع. وبغضِّ النظر عن ملامحه (التي قيل إنَّها كانت تُشبه — إلى حد كبير — ملامح اليهود الشوام)، لم يبدُ من رياض ما يشي بأصله اليهودي؛ فقد وُصِف بأنه مسلم متزمِّت لا يُهمل الصلاة، وكان يسكن منزلًا متواضعًا بمنطقة القلعة، ولم يكن مصطفى رياض يتحدث قط عن أصله أو حياته؛ فحياته تبدأ — بالنسبة له — بتولِّيه الوزارة في عهد إسماعيل، ولزم من ترجموا له الصمتَ حول أصله وفترة شبابه وأرَّخوا له من بداية توليه منصب مدير الجيزة في ١٨٧٣م، ولكنَّه كان مديرًا لهذه المديرية منذ ١٨٥٤م وكان يبلغ — عندئذٍ — العشرين من عمره، وكان يشغل وظائف بالقصر أو إدارة المديريات في عهدَي عباس وسعيد، ودخل دائرة السلطة في عهد إسماعيل فأصبح من كبار وزرائه ومن المقربين إليه.
انظر: الأيوبي، ج٢، ص١٩٧‏–‏٢١٠؛ زاخورا، ج١، ص٧٤‏–‏٧٦؛ آصاف، ج١، ص٢١١‏–‏٢١٤؛ أمين سامي، ج٣ / ١، ص٦١؛ الرافعي: الثورة العرابية، ص٤٥‏–‏٤٨.
Cromer, Vol. 2, pp. 342–45, F. O. 78. Vol. 3321 Cairo 7 Feb. 1881.
١٠  Milner, p. 54.
١١  MAE, Corr. Polit., t. 60 (Le Caire, 1 Feb. 1878).
١٢  MAE, Corr. Polit., t. 60 (Le Caire, 26 Feb. 1878).
١٣  MAE, Corr. Polit., t. 61 (Le Caire, 8 June 1878).
١٤  الوقائع المصرية، ٣١ مارس ١٨٧٨م.
١٥  وُلِد محمد شريف بالقاهرة في ١٨٢٦م، وكان ابنًا لقاضي قضاة مصر محمد شريف، وبعد انتهاء ولاية والده عادت الأسرة إلى إسطنبول، ثم عُيِّن أبوه قاضيًا للحجاز، وقضى بعض الوقت بمصر في طريقه إلى مقر عمله الجديد فعرض عليه محمد علي أن يترك ولده في رعايته ليتولَّى تعليمه، فدخل محمد شريف الصغير مدرسة ضُبَّاط الأركان بالخانكة. وفي ١٨٤٤م أُوفِد ضمن بعثة الأمراء إلى فرنسا حيث التحق بالأكاديمية العسكرية هناك، وبعد عودته من البعثة في ١٨٤٩م عمل ضابطَ أركانِ حربٍ مع سليمان باشا الفرنساوي (وفي ١٨٥٦م تزوَّج إحدى بنات الأخير)، ثم التحق بعد ذلك بخدمة حليم باشا، وبعد ولاية سعيد أصبح شريف قائدًا لحرسه الخاص. وفي ١٨٥٧م عُيِّن ناظرًا للخارجية، وفي عهد إسماعيل وتوفيق أصبح ثالث كبار الوزراء بالإضافة إلى نوبار ورياض. ولكنَّه — على نقيض رياض ونوبار — لم يلحق به غضب إسماعيل ونقمته، بل عيَّنه إسماعيل قائم مقام خديوي عندما سافر إلى الخارج في ١٨٦٥م، وَدُعِي هو وإسماعيل صديق لحفل زفاف الأمير توفيق، وقدَّره القناصل الأجانب ورأوا فيه خيرة الأتراك-الجراكسة، وأكثر «مماليك» إسماعيل ولاءً له.
انظر: F. O. 78, Vol. 2855 (Cairo 8 June 1878), Cromer, Vol. 2, p. 334.
الرافعي: عصر إسماعيل، ج٢، ص٢٠٦‏–‏٢٢٣؛ زاخورا، ج١، ص١٢٥–١٢٩.
Moberly Bell: Khedives and Pashas, pp. 163–181.
١٦  Austrian Archives, Box 14 (Alexandria, 8 June 1878).
١٧  F. O. 141, Vol. 115 (Paris, 2 July 1878).
١٨  Tager: Portrait Psychologique, p. 368.
١٩  F. O. 141, Vol. 115 (Paris, 2 July 1878).
٢٠  Austrian Archives, Box. 106, Nubar to von Kremer (Paris, 16 July 1879).
٢١  Commission supérieure d’Enquête, Rapport Préliminaire Adressé a S. A. Le Khédive., Alexandrie 1878, p. 148 (in F. O. 78, Vol. 2857); “Conclusions” in Moniteur Egyptien, 24, Aug. 1878.
٢٢  الوقائع المصرية، ٢٤ أغسطس ١٨٧٨م.
٢٣  MAE, Corr. Polit., t. 61 (Alexandrie, 24 Aug. 1878).
٢٤  Lamba: Droit Publique, Annexe XXXI.
٢٥  مقتبس من: Cromer, Vol. 2, p. 269.
٢٦  Cromer, Vol. 2, p. 269.
٢٧  وُلِد علي مبارك في قرية برنبال (دقهلية) عام ١٨٢٣م، وفيما يتعلق بالتفاصيل المتعلقة به راجع: زيدان: تراجم مشاهير الشرق، ج٢، ص٣٣‏–‏٣٩؛ زاخورا، ج١، ص٧٩‏–‏٩٢؛ الأيوبي، ج ٢، ص١٩٢‏–‏١٩٦.
٢٨  MAE, Corr. Polit., t. 61 (Alexandrie, 4 Sep, 1878).
٢٩  MAE, Corr. Polit., t. 61 (Alexandrie, 29 Sep. 1878).
٣٠  وُلِد محمد راتب لأب جركسي وجارية سوداء، ونشأ كأحد مماليك سعيد باشا، الذي أوفده للدراسة العسكرية بفرنسا، وقد أهانه سعيد يومًا ففكَّر في التخلص من حياته ووضع مسدسًا في فمه وأطلق الرصاص على نفسه، ولكن الرصاصة اخترقت خده وتركته مشوَّه الوجه بقية حياته، وبعد هذا الحادث هرب راتب إلى الآستانة، وعاد إلى مصر بعد تولي إسماعيل الحكم، فأكرمه إسماعيل وعيَّنه سردارًا للجيش المصري في ١٨٦٧م، وكانت تربطه علاقة مصاهرة بشريف باشا، وكانت وفاته في ١٩٢٠م.
انظر: الأيوبي، ج٢، ص٨٩‏-‏٩٠؛ زكي، ص١١٢‏-‏١١٣.
٣١  كان ذلك يُمثِّل المساحة غير المرهونة من أملاكه، وكان إسماعيل قد رهن ٤٨٥١٣١ فدانًا من أملاكه الخاصة.
F. O. 78, Vol. 2855 (Alexandria, 29 June 1878).
٣٢  كان عمر لطفي من «المماليك» الموالين لإسماعيل، وينتمي إلى حاشيته التركية-الجركسية، وبعد نفي إسماعيل خدم ولده توفيق بنفس الولاء، انظر ما يتعلق بشخصيته في: Moberly Bell: Khedives and Pashas, pp. 200–6.
٣٣  Cromer, Vol. 1, p. 65.
٣٤  F. O. 78 Vol. 2998 (Cairo, 11 January 1879).
٣٥  Sammarco, p. 336.
٣٦  Chafik, L’Egypte Moderne, p. 78.
٣٧  خطاب خاص في ٧ سبتمبر ١٨٨٢م.
٣٨  شاهين باشا من أصل كردي، رأى فيه الأوروبيون المعاصرون أخطر وأعنف ممثل للصفوة التركية-الجركسية، ونال حظوة إسماعيل عندما تزوج ابنته الخامسة جميلة بنت إسماعيل، وبعد نفي إسماعيل بقي شاهين في مصر كوكيل له حتى لحق به في منفاه بنابولي، ومات بعد ذلك بقليل.
انظر: سرهنك، ج٢، ص٣٧٣.
٣٩  Kremer, Vol. 1. p. 81.
٤٠  Cromer, Vol. 1, p. 80, No. 1.
٤١  كشف الستار، ص٤٣‏-‏٤٤.
٤٢  كان أحمد رشيد وعبد السلام المويلحي — كما سنرى — من أصفياء إسماعيل. ومن ثم كانا يعلمان بتدبير المظاهرة.
٤٣  وُلِدَ عبد القادر حلمي بسوريا في ١٢٥٣ﻫ (١٨٣٧ / ١٨٣٨م)، حيث كان والده يُحارب هناك مع إبراهيم باشا، وبعد عودة والده إلى مصر التحق بالمدارس الحكومية، فأوفده عباس في ١٨٥١م لدراسة الطب بفيينا حيث مكث ثلاث سنوات، ولكن سعيدًا أراد أن يجعله ضابطًا بالجيش، وعندما تولى إسماعيل الحكم ألحقه بالبلاط، وفيما بين ١٨٦٨‏–‏١٨٧٣م كان ياوره الخاص، وفي السنوات التالية لذلك أسند إليه الخديو عددًا كبيرًا من المناصب الهامة مثل منصب السر تشريفاتي وناظر ضبطية مصر.
انظر: آصاف، ج١، ص٢٢٧‏–‏٢٣٢؛ زاخورا، ج٢، ١٥٠‏–‏١٥٢.
Heyworth-Dunne, p. 306.
٤٤  ذكر عرابي لبلنت أنه ناقش فكرة خلع إسماعيل مع صديقه محمد النادي وعلي الروبي، ولكن أحدًا لم يجرؤ على تولي قيادة الخطة. وفكَّر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده من جانبهما في اغتيال الخديو أثناء مروره يوميًّا على كوبري قصر النيل.
انظر: Blunt: Secret History, pp. 369, 375.
٤٥  كشف الستار، ص٤٤‏-‏٤٥.
Blunt: Secret History, p. 369.
٤٦  يُشير عرابي إلى هذه الواقعة بمرارة لأنه ومحمد النادي وعلي الروبي اتُّهموا بالاشتراك فيها، ولكن أعضاء المحكمة العسكرية كانوا يعرفون الحقيقة، انظر: كشف الستار، ص٤٥‏–‏٤٧.
٤٧  الوقائع المصرية، ٢٣ مارس ١٨٧٩م.
٤٨  وُلِد إسماعيل راغب باليونان في ١٨١٩م، واختلفت المصادر حول المدينة التي وُلِد بها، ثم اختُطف وبيع في الأناضول، وجيء به إلى مصر كمملوك لإبراهيم باشا في ١٨٣١م حيث اعتنق الإسلام، وبعد أن تلقى تعليمه بالمدارس، عيَّنه محمد علي بالإدارة المالية، وطرده عباس من منصبه ليُعيده سعيد إلى المالية بعد توليه الحكم، ومنذ ١٨٥٤م أصبح من أبرز المستشارين والوزراء (وخاصة في المسائل المالية) لسعيد ثم إسماعيل، وأصبح من أغنى «مماليك» مصر في ذلك العهد، ومات في ١٨٨٥م.
انظر: زاخورا، ج٢، ص١٤١‏–‏١٤٣؛ الأيوبي، ج٢، ص٢٥٩‏–‏٢٦٣.
Ninet: Arabi Pacha, p. 135, McCoan: Egypt as it is, p. 104.
٤٩  وُلِد حسن أفلاطون في ١٨٢٠م لأسرة جركسية، وبعد أن تلقى تعليمًا عسكريًّا في عهد محمد علي أُوفد إلى باريس في عام ١٨٤٤م، وبعد عودته من البعثة التحق بخدمة الجيش وأصبح أميرالايًا في ١٨٦٩م، ثم عُيِّن ناظرًا.
انظر: زكي، ص٨٦‏-‏٨٧.
Heyworth-Dunne, p. 255.
٥٠  كان ذو الفقار — على حد قول نينه — من أصل يوناني، وُلِد عام ١٨١٥م وجاء إلى مصر وهو في العشرين من عمره ليخدم بالبحرية، وفي ١٨٤٤م أصبح وكيلًا لدائرة سعيد باشا الذي أسند إليه نظارة المالية بعد توليه الحكم، وعندما تولى ذو الفقار نظارة الخارجية ثلاث مرات كان يُمثِّل الطبقة الحاكمة الأجنبية أصدق تمثيل، وتقلَّب في العديد من المناصب الكبرى، لم يمكث في كل منها طويلًا، وكانت وظائف إدارية وعسكرية وقضائية.
انظر: آصاف، ج١، ص٢١٩‏–‏٢٢٢؛ زاخورا، ج١، ص٩٣‏-‏٩٤.
٥١  سليم النقَّاش: ج٩، ص٧٩٧.
٥٢  Abdel-Malek: Idéologie et Renaissance Nationale p. 269.
٥٣  كانت عائلة المويلحي من أبرز العائلات المشتغلة بتجارة الحرير، وهم ينتسبون إلى مويلح (مدينة ساحلية بالحجاز)، ومنذ أسَّست العائلة وكالتها بالقاهرة في ١٧٧٥م أصبح لها فرعان: أحدهما عربي والآخر مصري، وفي القاهرة أصبح آل المويلحي من أشهر التجار وأبرز المثقفين في مصر. وكان عبد الخالق المويلحي سر تُجار القاهرة في عهد محمد علي، وكانت تُصنع كسوة الكعبة في وكالته، وكان ولداه عبد السلام تاجر الحرير والمشتغل بصناعته، وإبراهيم الأديب اللامع يحظيان بعطف إسماعيل، وعندما تعرَّضَا لأزمة مالية نتيجة خسارتهما في الرهان على الخيول أنقذهما إسماعيل من تلك الأزمة (فمنحهما ١٣٠٠ جنيه في عام ١٨٧١م وفقًا لما يذكره أمين سامي)، وعندما خسرَا ٨٠ ألف جنيه في سوق الأوراق المالية منحهما إسماعيل ٦٠٠٠ جنيه، وأمر إسماعيل حريمه بألَّا يرتدوا ثيابًا إلَّا من حرير المويلحي. وحفظ الأخوان الجميل لإسماعيل، فتعاونَا معه في تنظيم المعارضة ضد التدخل الأجنبي في النصف الأول من عام ١٨٧٩م. وصحب إبراهيم إسماعيل عند خروجه من مصر باختياره حيث عمل سكرتيرًا له بنابولي. وفي ١٨٨١ و١٨٨٢م أرسل لولده محمد — الذي بقي بمصر — النشرات والمطبوعات المؤيِّدة للعرابيين والمعارِضة للتدخل الأجنبي ليتولى توزيعها بمصر. وكان محمد إبراهيم المويلحي تلميذًا لإبراهيم القاني واستمد أفكاره السياسية منه، وعُوقِب على تشيُّعه لعرابي في ١٨٨٢م بنفيه خارج البلاد فلحق بأبيه في نابولي. أما عبد السلام فهرب إلى سوريا بعد «مذبحة» الإسكندرية وعاد إلى القاهرة بعد هزيمة عرابي وتعاون مع الاحتلال.
انظر: زيدان، تراجم مشاهير الشرق، ج٢، ص١١٣‏–‏١١٨.
Brockelmann: Geschichte der Arabischen Literatur, a. Supplementary Volume, p. 194, Berque: L’Egypte, pp. 113-114.
٥٤  انظر المناقشات التي دارت خلال دور الانعقاد (٢ يناير–‏٦ يوليو ١٨٧٩م) في الرافعي، ج٢، ص١٥٩‏–‏٢٠٠، وقد أخذنا كل الاقتباسات عن هذا المرجع.
٥٥  نُكرِّر هنا أن نشاط المجلس لم يكن موجَّهًا ضد إسماعيل، ويفتقر القول بغير ذلك إلى دليل، ومحاولة الربط بين عرابي والمجلس عندئذٍ تحميل للحقائق التاريخية أكثر مما تحتمل (انظر: كشف الستار، ص٤٥‏–‏٥٠).
٥٦  عثرنا على هذه الوثيقة في أرشيف الخارجية الفرنسية، ولا وجود لها في الوثائق البريطانية؛ انظر: MAE, Corr. Polit., t. 63 (Le Caire, 4 April 1879).
٥٧  الشيخ حسن العدوي (١٨٠٦‏–‏١٨٨٦م) كان عالمًا أزهريًّا يحظى باحترام شديد، بدأ يُلقي دروسه بالأزهر منذ ١٨٢٨م، كما كان ثريًّا خيِّرًا، وعلى نقيض زملائه من العلماء البارزين، لم يكن العدوي مدينًا للأسرة الحاكمة بالفضل، ولكنَّه ناضل في صف إسماعيل ضد استعلاء «الكفار» في مصر، وتحالف بعد ذلك مع العرابيين عندما انضم توفيق إلى الإنجليز، وبعد الاحتلال أُبعِد عن القاهرة وأُجبِر على الإقامة في قريته.
انظر: مبارك: الخطط، ج١٤، المجاهد، عدد ٣٩٦.
Brockelmann: Geschichte der Arabischen Litteratur, Vol. 2, p. 638: Broadley, pp. 365-66, 370, 419.
٥٨  Afshar, Mahdavi: Facsimile 101.
٥٩  حسن راسم من أصفياء إسماعيل، كان مفتشًا عامًّا للأقاليم، ثم مفتشًا للدائرة السنية، عُيِّن رئيسًا لمجلس النواب في مايو ١٨٧٩م خَلَفًا لأحمد رشيد الذي أصابه مرض عُضال.
انظر: الرافعي: عصر إسماعيل، ج٢، ص١٠٣، ١٩٢.
٦٠  انحدر جعفر صادق من أصل جركسي، تلقَّى تعليمه في مدارس محمد علي العسكرية، وعاش حياة «المماليك» التقليدية ضمن الطبقة الحاكمة، ترقَّى في مناصب الجيش ثم شغل العديد من الوظائف العسكرية والإدارية والقضائية.
انظر: المجاهد، عدد ٢٤٠، زكي، ص٨٣‏-‏٨٤.
٦١  سرهنك، ج٢، ص٣٦١.
٦٢  Ninet: Origin of the National Party, p. 129: Arabi Pacha, pp. 30-31.
٦٣  يذكر نينه أسماء شاهين باشا، وعمر باشا لطفي، وشريف باشا وراغب باشا، وذو الفقار باشا، وعبد القادر حلمي.
٦٤  مذكرات محمد عبده، ص٩‏–‏٢٥، ٣٦‏–‏٣٨، ٧٤-‏٧٥، ١٢٩‏–‏٢٢٤.
٦٥  MAE, Corr. Polit., t. 63 (Le Caire, 3 April 1879).
٦٦  هذه الأرقام تختلف عمَّا ذكره الرافعي في عصر إسماعيل، ج٢، ص١٨٤، وما ذكره لانداو، ص٨٩، وقد أخذنا هذه الأرقام من النسخة الخطية للائحة الموجودة بالأرشيف الفرنسي والبريطاني.
٦٧  كان الأخيران عضوين بمجلس النواب عن بني سويف ودمياط على التوالي.
٦٨  Printed copy in MAE, Corr. Polit., t. 63 (Plan Financier Déliberé et Proposé par les Notables, les Hauts Dignitaires Religieux, Civils et Militaires d’Egypte par le Gouvernement de Son Altesse le Khedive, Paris 1879).
٦٩  Commission Supérieur d’Enquête, Rapport Concernant le Réglement Provisoire de la Situation Financiere, Le Caire 1879, (In F. O. 78, Vol. 3000).
٧٠  نص الخطاب في Lamba, Droit Public, Annexe XXXIII والنص العربي في ذكريات وتقريرات، ص٧٢.
٧١  محمد ثابت (١٨٢٠–١٩٠١م) من أصل جركسي، كان مملوكًا لمحمد علي وارتبط معه بعلاقة مصاهرة، قضى سنوات بالآستانة للتدريب قبل أن يبدأ عمله بمصر، وأوفده توفيق فيما بعدُ ممثِّلًا له لدى الباب العالي، ويذكر كريمر أنه من أصل يوناني.
انظر: المجاهد، عدد ١٣٥.
Austrian Archives, Box. 110 (Cairo April 1879).
٧٢  محمد زكي ينحدر — وفقًا لكريمر — من أصل ألباني، وقد بقي قريبًا من الطبقة الحاكمة التركية-الجركسية لعلاقته الوثيقة بالبلاط، وقد قدَّره برودلي تقديرًا سلبيًّا (ص١٥٤) بينما قدَّره موبرلي بل تقديرًا إيجابيًّا نوعًا ما بسبب إقباله على العمل (Khedives and Pashas, pp. 206–8).
٧٣  ورد النص في: F. O. 78, Vol. 3000.
٧٤  Austrian Archives, Box 110 (Cairo, 11 April 1879).
٧٥  كان شريف تركيًّا، وراغب يونانيًّا، وشاهين كرديًّا، وذو الفقار يونانيًّا، وثابت جركسيًّا أو يونانيًّا، وزكي ألبانيًّا، وعمر لطفي جركسيًّا.
٧٦  محمد النادي (وُلِدَ بالمنصورة في ١٨٣٦م)، كان ضابطًا «فلاحًا» ترقى في عهد سعيد ولم يصل إلَّا إلى رتبة القائم مقام في عهد إسماعيل تقديرًا لدوره في حرب الحبشة، ولا نعرف شيئًا عن تدرجه الوظيفي بعد ذلك. وعلى الأقل لم يظهر على المسرح السياسي والعسكري في ١٨٨١‏-١٨٨٢م.
انظر: آصاف، ج١، ص٣٥٩‏-‏٣٦٠؛ زكي، ص١٨١؛ مبارك، الخطط، ج١٥، ص٩٢.
٧٧  كان علي الروبي — في رواية الأوروبيين — المؤسس الأول للجمعية السرية للضباط «الفلاحين» وينتمي إلى الفيوم، والتحق بالأزهر في سن الخامسة عشرة، ولكنَّه ما لبث أن استُدْعِيَ في عهد سعيد للخدمة العسكرية (لمة أولاد العمد)، ولم يترقَّ إلى الرتب العليا إلَّا في عهد إسماعيل، فحصل على رتبة القائم مقام تقديرًا لجهوده في حرب الحبشة، ثم أُسندت إليه بعض الوظائف الإدارية، ولعب دورًا رئيسيًّا في ١٨٨٢م كمسئول عن نظارة السودان، ثم أصبح قائدًا لمنطقة التل الكبير.
انظر: الرافعي، الثورة العرابية، ص٥٨٧‏–‏٥٨٩، المجاهد، عدد ١٩٦.
٧٨  الرافعي، عصر إسماعيل، ج۲، ص١٩٥‏–‏٢٠٠ نقلًا عن الأهرام ١٢ / ٦ / ١٨٧٩م.
٧٩  نفس المرجع، ص١٩١‏–‏١٩٤.
٨٠  مذكرات محمد عبده، ص٥١‏-‏٥٢.
٨١  الوقائع المصرية، ٣ يوليو ١٨٧٩م.
٨٢  إسماعيل أيوب كان من أهم مماليك إسماعيل، الذي عيَّنه حاكمًا عامًّا للسودان وعضوًا بالمجلس الخصوصي.
انظر: Le Phare d’Alexandrie, 3 July 1829.
٨٣  علي غالب، ضابط جركسي برتبة لواء، ظلَّ بالخدمة العاملة حتى ١٨٧٢م، وخدم في آلاي شريف باشا، وبعد تركه خدمة الجيش تولَّى مناصب إدارية بالأقاليم.
انظر: زكي، ص١٠٢‏-‏١٠٣، Broadley, p. 154.
٨٤  حول محمود سامي، انظر: الحديدي، محمود سامي البارودي، ص١٥‏–‏٩٢.
٨٥  حول مصطفى فهمي، انظر: الرافعي، الثورة العرابية، ص١٤٩؛ مذكرات قليني فهمي باشا، ج١، ص١٣، Cromer, 2. p. 346.
٨٦  مراد حلمي: ضابط جركسي برتبة لواء، أُوفد إلى باريس في ١٨٤٤م ضمن البعثة التي كان شريف باشا من أعضائها، وكان صهرًا لسليمان باشا الفرنساوي. وبعد عودته من باريس خدم كضابط أركان حرب. وفي عهد إسماعيل تقلَّد الوظائف الإدارية والقضائية.
انظر: Hayworth-Dunne, p. 256.
٨٧  وردت بالنقَّاش، ج٤، ص١١-‏١٢؛ والرافعي: الثورة العرابية، ص٢٩‏–‏٣١.
٨٨  حول هذه الفرمانات راجع: Cromer, Vol. 1, pp. 155–59.
٨٩  محمود فهمي، ج١، ص٢٠٤.
٩٠  Zind, p. 195.
٩١  عثمان رفقي (١٨٣٩‏–‏١٨٨٦م)، وُلد بالقوقاز، وبدأ حياته بمصر طالبًا عسكريًّا في الثانية عشرة من عمره، وفي ١٨٧٦م حصل على رتبة الفريق. وفي ربيع ١٨٧٩م أصبح وكيلًا للجهادية لفترة قصيرة.
انظر: الفارد السكندري، ١٩ أغسطس، ٢ سبتمبر ١٨٧٩م.
٩٢  كان محمد مرعشلي ضابطًا أيضًا، ولكنَّه كان مهندسًا يصلح تمامًا لهذا المنصب (الفارد السكندري، ١٩ أغسطس ١٨٧٩م).
٩٣  علي إبراهيم (١٨٢٦‏–‏١٨٩٩م)، ينتمي إلى أسيوط، أُوفد إلى باريس في ١٨٤٤م ضمن بعثة الأمراء، وعاد في ١٨٤٩م بعدما أتمَّ دراسته بنجاح كبير، وحظي بتقدير جميع الولاة، فتقلَّب في وظائف التعليم والهندسة والقضاء، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يلي فيها منصبًا رفيعًا.
انظر: زاخورا، ج١، ص٩٥‏–‏٩٩؛ آصاف، ج١، ص٢٣٣‏–‏٢٣٧.
٩٤  الخطاب الرسمي منشور في Lamba, Droir Public, Annexe XXXIV.
٩٥  حسين فخري (١٨٤٣‏–‏١٩٢٠م)، هو ابن الفريق جعفر صادق، بدأ حياته الوظيفية بالإدارة المدنية، ثم درس في باريس ١٨٥٧‏–‏١٨٧٤م، وعندما أصبح وزيرًا للحقانية وصنيعةً لرياض باشا، كان قد حقَّق خبرةً طويلة بالوظائف القانونية.
انظر: زاخورا، ج١، ص٨٣‏–‏٨٥؛ آصاف، ج١، ص٢٢٢‏–‏٢٢٧؛ زكي فهمي، ص٢٢٦‏–‏٢٣٣.
Le Phare d’Alexandrie, 23-9-1879.
٩٦  الوقائع المصرية، ١٦، ١٧ نوفمبر ١٨٧٩م.
٩٧  خلف الله: عبد الله النديم ومذكراته السياسية، ص٥٢ (وسنُشير إليه فيما بعدُ باسم مذكرات النديم).
٩٨  أديب إسحاق (١٨٥٦–١٨٨٥م)، وُلِدَ بدمشق وتعلَّم بإحدى مدارس الإرساليات، وعندما نزحت عائلته إلى بيروت وجد لنفسه مكانًا بدوائرها الثقافية، وكان له نشاط أدبي في ميدان ترجمة المسرحيات الفرنسية، وانتقل إلى مصر في ١٨٧٦م تلبيةً لنصيحة صديقه سليم النقَّاش ليعمل معه بالمسرح العربي. كان مُقرَّبًا عند إسماعيل، كما قرَّبته صلته بجمال الدين الأفغاني من رياض باشا. وكما سنرى فيما بعد أسَّس بالتعاون مع سليم النقَّاش وجمال الدين جريدتَي مصر والتجارة، وساند شريف باشا فيما بعد، فنشر لحسابه صحيفةً بباريس بعنوان «مصر القاهرة» هاجمت سياسة حكومة رياض، وبعدما أسكتت المعارضة ضد حكومة رياض نفسها، عاد أديب إسحاق إلى بلاده مرةً أخرى، ليعود إلى مصر مرةً أخرى كمؤيد للخديو توفيق وللمتعاونين مع الاحتلال البريطاني، ولكنَّه ما لبث أن طُرِد من مصر بعد ذلك.
انظر: زيدان، تراجم مشاهير الشرق، ص٧٥‏–‏٨٠؛ إبراهيم عبده: أعلام الصحافة العربية، ص١١٦‏–‏١٢٤؛ الرافعي: عصر إسماعيل، ج١، ص٢٦٠.
٩٩  سليم خليل النقَّاش (مات بالإسكندرية في ١٨٨٤م)، انحدر من عائلة بيروتية مسيحية كانت تشتغل بالتجارة اشتهرت بدعمها للمسرح العربي، وعندما أسَّس إسماعيل الأوبرا اجتذب ذلك الحدث سليمًا إلى مصر، ومنذ ١٨٧٦م اشتغل بالتمثيل المسرحي بالإسكندرية (انظر: عاشور، ص١١٧، ١٢١؛ الشيال، ص٧٣-٧٤).
١٠٠  وُلِدَ يعقوب صنوع (١٨٣٩‏–‏١٩١٢م) بالقاهرة لأسرة يهودية مصرية من أصل إيطالي، وتلقَّى تعليمه في إيطاليا ١٨٥٢‏–‏١٨٥٥م على نفقة أحمد يَكَن، وبعد ذلك اشتغل مُعلِّمًا خاصًّا لمدة ثماني سنوات، ثم مُعلِّمًا فنيًّا لمدة ست سنوات، وبمعاونة إسماعيل أسَّس «مسرح الشعب»، ولكنَّ إسماعيل نقم عليه بسبب نقده الاجتماعي اللاذع، ورغم قيام خيري باشا بالتوسط له عند الخديو حتى صفح عنه، نُفِي إلى الخارج في ١٨٧٨م وجعل من إسماعيل أضحوكةً على صفحات مجلة «أبو نضارة»، وأقام بباريس لمتابعة نشاطه الصحفي حيث شنَّ حملةً على التدخل الأوروبي في مصر، وبث الدعاية لتولي حليم خديوية مصر. وكان يتلقَّى معونات مالية من الباب العالي وحليم. ويبدو أن صنوعًا كان مريضًا بحب الظهور، فزعم أنه أول من سكَّ شعار «مصر للمصريين» وأسَّس أول محفل ماسوني في مصر بأمر من عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي (!). ولمَّا كانت مجلة «أبو نضارة» تُوزِّع ربع مليون نسخة، فقد زعم أنه القائد الحقيقي للحزب الوطني وللثورة العرابية.
انظر: Baignieres, pp. 11, 15, 101-2؛ إبراهيم عبده: أبو نضارة وأعلام الصحافة، ص٥٠–٥٧.
Ninet: Origin, pp. 127-128.
١٠١  سليم تقلا (١٨٤٩‏–‏١٨٩٢م) وبشارة تقلا (١٨٥٣‏–‏١٩٠١م)، مارونيان من إحدى القرى القريبة من بيروت، تمتعَا — في البداية — برعاية إسماعيل في مصر، ثم ما لبثا أن دخلا في صراع مع إسماعيل بسبب التعليقات التي وردت بجريدة «صدى الأهرام» التي كانت تصدر يوميًّا إلى جانب «الأهرام» مثل «الوطن» و«ليجيت» والتي أيَّدت رياضًا والمراقبة. ولكنَّهما غيَّرَا خطهما السياسي بانتهازية ملحوظة عندما تولى شريف الوزارة وعندما أمسك العرابيون بمقاليد الأمور، وانسحبا إلى بيروت عندما بلغت الأزمة ذروتها قبيل الاحتلال البريطاني، وعادا إلى مصر بعد هزيمة التل الكبير باعتبارهما من مُعارضي عرابي المنتصرين. وقد لعِبَا دور المُدافع عن المصالح العثمانية فكرَّمهما السلطان ودعمهما ماليًّا بعد الاحتلال (وهي معلومات حصلت عليها من بطرس أبو مانع الذي حصل عليها بدوره من الوثائق التركية).
انظر: زاخورا، ج٣، ص٥٤٤‏–‏٥٤٩؛ زيدان: تراجم مشاهير الأمة، ج٢۲، ص٩٩‏–‏١٠٤؛ إبراهيم عبده: أعلام الصحافة، ص١٠٧‏–‏١١٥.
Zolondek: Al-Ahram and Westernization, Also, Ash-Shach in Arabic Political Literature of the 19th Century.
١٠٢  جمعها رياض، ج٢، ص١٥‏–‏٤٨.
١٠٣  سليم العنحوري، صديق أديب إسحاق، جاء من دمشق وقابل إسماعيل أثناء زيارته لمصر في ١٨٧٨م فشجَّعه على الإقامة، وتأسيس «مرآة الشرق»، ولكنَّه ما لبث أن عاد إلى سوريا (انظر المجاهد، عدد ٨٤٠).
١٠٤  في تقرير لأحد المراسلين بالقاهرة في ۲۰ أغسطس، ذكر أن هناك نحو ١٢ جريدةً عربية في مصر تُوزِّع كلٌّ منها ما يتراوح بين ألف وخمسمائة نسخة.
انظر: The Times, 30 Aug. 1879.
١٠٥  التجارة، ٢٣ ديسمبر ١٨٧٨م.
١٠٦  الوطن، ٢١، ٢٨ ديسمبر ١٨٧٨م؛ ٤، ١٨ يناير ١٨٧٩م.
١٠٧  انظر الترجمة بالوثائق الفرنسية: MAE, Corr. Polit., t. 62 (Le Caire 13, 2, 1879).
١٠٨  مصر، ٢٤ مايو ١٨٧٩م.
١٠٩  مقال بعنوان «الحكومة الاستبدادية» في مصر ١٥ / ٢ / ١٨٧٩م.
Kenny, pp. 19–27.
١١٠  مذكرات محمد عبده، ص٥٤؛ رشيد رضا، تاريخ الإمام، ج١، ص٧٥.
١١١  Jerrold: The Belgium of the East, pp. 114–117.
١١٢  Charmes: L’Insurrection Militaire en Égypte, p. 761.
١١٣  إستانبول، ٦ أبريل ١٨٨٠م.
١١٤  Le Phare d’Alexandrie, 11, 9, 1879.
١١٥  Projet de Réformes Présenté a son Altesse Tewfick 1er, Khédive d’Egypte, par L’union de la Jeunesse Egyptienne, Alexandrie 1879.
١١٦  La Liberté de la Presse, par L’Union de la Jeunesse Egyptienne, Dec, 1879, Le Phare d’Alexandrie 26 Dec. 1879.
١١٧  كانت هذه الحقيقة مقبولةً عند محمد عبده، مذكرات عبده، ص٦٦‏–‏٧٩، ٨٢‏-‏٨٣.
١١٨  Cromer, Vol. 1. p. 186.
١١٩  الوقائع المصرية ٨ / ١ / ١٨٨٠م؛ فيليب جلاد، ج٢، ص٣٩١‏–‏٣٩٣؛ ذكريات وتقريرات، ص١٣١‏–‏١٣٨.
١٢٠  انظر ما كتبه رياض لتوفيق.
١٢١  دُفِعَت المقابلة عن ٢٤٠ ألف فدان فقط من الأطيان الخراجية البالغ مساحتها ٣٣٨٧٠٠ فدان، وعن ٤٧٩٦٤٩ من الأطيان العشورية البالغ مساحتها ١٣٢٣٠٠٠ فدان.
١٢٢  وعلى حين دفع أفراد قلائل من كبار الملاك المقابلة، قام نحو خمسة أسداس صغار الفلاحين بدفع المقابلة.
١٢٣  محمود الفلكي (١٨١٥‏–‏١٨٨٥م)، كان وتلميذه إسماعيل الفلكي (١٨٢٥‏–‏١٩٠١م) من أكبر علماء الفلك والرياضيين ورسامي الخرائط بمصر بالقرن التاسع عشر، وكان محمود من أبناء الغربية، تلقى دراسته بالمدارس المصرية واشتغل بالتدريس فيها، ثم أُوفِد إلى فرنسا — كتلميذه إسماعيل — حيث قضى سنوات طوالًا … انظر: الرافعي، عصر إسماعيل، ج١، ص٢٥٤‏–‏٢٦٩، ص١٦٩‏–‏١٧٢.
١٢٤  ينتمي بطرس غالي (١٨٤٥‏–‏١٩١٠م) إلى أسرة من أعيان الأقباط في بني سويف، تعلَّم بمدرسة البطرخانة القبطية بالقاهرة، ودرس بأوروبا، وكان مُتعدِّد النشاط في المجالين القضائي والقبطي، وفي ١٩٠٨م أصبح أول رئيس وزراء قبطي واغتيل في ١٩١٠م.
انظر: زاخورا، ج١، ص٨٦‏–‏٨٩؛ زكي فهمي، ص٥٦٧‏–‏٥٩٤.
١٢٥  حول حياة محمد سلطان راجع قليني فهمي، ج١، ص٢٠‏–‏٢٣، ٣٢‏-‏٣٣؛ تيمور، ص٣١‏–‏٣٩؛ الرافعي: الثورة العرابية، ص٥٩٠‏–‏٥٩٤.
١٢٦  حول آل أباظة راجع: علي مبارك، الخطط، ج١٤، ص٣‏–‏٥.
Bear: The Settlement of the Beduins, pp. 6–9.
١٢٧  واصف عزمي قبطي درس القانون بفرنسا ١٨٥٥‏–‏١٨٦٠م، وأصبح كبيرًا للتشريفاتية في عهد إسماعيل. انظر: Hayworth-Dunne, p. 327.
١٢٨  حول حياة عبد الله فكري راجع: مبارك، الخطط، ج٢، ص٤٦‏–‏٥٧؛ الرافعي: عصر إسماعيل، ج١، ص٢٥٨‏-‏٢٥٩؛ حجازي، ص٩٦‏–‏٩٩.
١٢٩  سليم سالم، كان ابنًا لأحد علماء الأزهر من الشرقية، أُوفد إلى ميونخ لدراسة الطب، وعمل طبيبًا للبلاط والأمراء، ثم أصبح مديرًا للإدارة الطيبة.
انظر: ترجمة الذاتية في مبارك، الخطط، ج١٤، ص١٢٥‏–‏١٢٨.
١٣٠  محمد قدري (١٨٢١‏–‏١٨٨٦م)، وُلِد لأب تركي وأم مصرية، وكان من أبرز رجال القانون في عصره، درس بمدارس الحكومة والأزهر، وساهَمَ في ترجمة وصياغة معظم اللوائح القانونية الحديثة وألَّف عددًا من الكتب القانونية، اختير معلمًا خاصًّا لتوفيق ثم عُيِّن مستشارًا بمحكمة الاستئناف المختلطة.
انظر: الرافعي، عصر إسماعيل، ج١، ص٢٧٨‏-‏٢٧٩؛ حجازي، ص٨٦‏–‏٨٩.
Moberly Bell: Khedives and Pashas, pp. 199-200.
١٣١  تيجران (١٨٤٨‏–‏١٩٠٤م)، أصبح ناظرًا للخارجية فيما بعد، أرمني كان صِهرًا لنوبار، درس في إيطاليا. انظر: Cromer, Vol. 2, pp. 221–25.
١٣٢  Charmes: Un Essai de Gouvernement Européen en Egypt, p. 783.
١٣٣  Manifeste du Parti National Egyptien, Le Caire, 4/11/1879.
١٣٤  جون نينه، سويسري جاء إلى مصر لأول مرة عام ١٨٣٩م، عمل بتجارة القطن لحساب محمد علي لمدة خمس سنوات، ثم اشتغل بزراعة القطن مدة سبع سنوات، وفي عهد إسماعيل كان نينه أحد المُغامرين الذين أرادوا جمع المال بسرعة من خلال التجارة والخدمات، ثم تحوَّل إلى داعٍ مأجور لحليم، وقد أشار إلى صداقته لحليم في كتابه: Origin of the National Party, pp. 117–119.
١٣٥  هذه النظرية يدعمها النقَّاش (ج٤، ص٧٩) وعرابي (كشف الستار، ص١٤٨) بأنهما لم يَعلَمَا سوى بالنسخة الفرنسية للبرنامج والبيان الصادر بالصحافة الفرنسية.
١٣٦  نعني بذلك بوضوح محمود سامي البارودي.
١٣٧  كان علي اليمني عمدةً بالفيوم وعضوًا بمجلس النواب من ١٨٧٠م حتى ١٨٧٣م.
١٣٨  يقصد بذلك عمر لطفي.
١٣٩  Ninet, Origin, p. 131.
١٤٠  Ninet, Arabi Pacha, pp. 38-39.
١٤١  Ninet, Origin, pp. 131-32.
١٤٢  Rae, p. 106.
١٤٣  الحسني، ص٣٥٣‏–‏٣٦٢.
١٤٤  Blunt: Secret History, p. 378.
١٤٥  يورد صبري الاقتباس من المخطوط الأصلي (انظر: La Genése, p. 173)، وبينما يذكر محمد عبده شاهين إلى جانب شريف وعمر لطفي وراغب وسلطان.
١٤٦  محمد حافظ (١٨١٧‏–‏١٨٨٩م)، جاء إلى مصر من البوسنة، كان مُعلِّمًا لإسماعيل، وناظرًا لعدد من الدوائر للعائلة الخديوية، أوكل إليه إسماعيل إدارة مزارع بناته. انظر: مبارك، الخطط، ج٩، ص٦٦‏-٦٧؛ زاخورا، ج٢، ص٣٢٢‏–‏٣٢٦.
١٤٧  كان محمد نشأت في الواقع صِهرًا لمحمد حافظ وليس ابنًا له على نحو ما يُشير عرابي. انظر: زاخورا، ج٢، ص٣٢٨.
١٤٨  كشف الستار، ص١٤٨‏–‏١٥٠.
١٤٩  يذكر بعض الكُتَّاب المعاصرين شاهين باعتباره «عميل إسماعيل». انظر سرهنك، ص٣٧٣؛ شاروبيم، ص٢٢٣.
١٥٠  انظر على سبيل المثال: Broadley, pp. 49, 357; Malortie, pp. 197, 302.
١٥١  إسحاق، ص١٦٨‏–‏١٧١.
١٥٢  يستخدم جنزييه — على سبيل المثال — هذا المصطلح!
١٥٣  Arabi Pacha, p. 165.
١٥٤  William Gregory, p. 380.
١٥٥  أحمد رفعت، شاب تركي مثقف ثقافةً فرنسية، أصبح فيما بعدُ سكرتيرًا لمجلس النظار ومديرًا للمطبوعات في وزارة محمود سامي، صرَّح لجريدة فرنسية بقوله: «لم أكن عميلًا لأحد؛ فلست كأبناء الشرق، أحب قبل كل شيء بلادي كما أحب الحق، وأود أن أرى بلادي مثل أوروبا، بمساعدة فرنسا من خلال مبادئ الإخاء والمساواة وتبادل الرأي لا من خلال تبادل إطلاق النار وسقوط الشهداء.»
Le Temps, 16/8/1882.
١٥٦  Broadley, pp. 204-205.
١٥٧  لعل هجومهم على إسماعيل كان من قبيل المناورة.
١٥٨  انظر النص في الوثائق الفرنسية: MAE, Corr. Polit., t. 66, Le Caire 17/5/1880.
١٥٩  من بين الشخصيات الرئيسية في هذا العمل غاب كل من راتب باشا الذي تبع سيده في منفاه بنابولي، وإبراهيم المويلحي الذي خشي من انتقام رياض، فهرب إلى إسماعيل، والشيخ البكري المسن الذي ما لبث أن مات.
١٦٠  إبراهيم أدهم، كردي من حاشية إسماعيل، كان وكيلًا لدائرة إحدى بنات الخديو. انظر: مبارك، الخطط ج٩، ص٩١.
MAE, Corr. Polit., t. 66 (Le Caire 25/5/1880).
١٦١  النص بالوثائق الفرنسية: MAE, Corr. Polit., t. 66 (Le Caire 25/5/1880).
١٦٢  La Réforme, 17/5/1880.
١٦٣  La Réforme, 24/5/1880.
١٦٤  دار الوثائق التاريخية القومية، محفظة ٢٠، ملف ٢٠٩.
١٦٥  انظر مقالات ٢٥ نوفمبر ١٨٨٠م و٢٩ يناير ١٨٨١م في رشيد رضا: ج٢، ص٥٦‏–‏٦٨.
١٦٦  مذكرات محمد عبده، ٨٦.
١٦٧  انظر مقالَي ٢٤، ٢٥ ديسمبر ١٨٨١م في رشيد رضا: ج٢، ص١٩٧‏–‏٢٠٥.
١٦٨  Kerr, p. 134.
١٦٩  مقالات أبريل ١٨٨١م في رشيد رضا، ج٢، ص١١٩‏–‏١٣٢.
١٧٠  مقال ١٩ يونيو ١٨٨١م في نفس المرجع، ص١٥٧‏–‏١٦٣.
١٧١  مقال ٣١ أكتوبر ١٨٨٠م في نفس المرجع، ص٥٢‏–‏٥٤.
١٧٢  ملحق الوقائع المصرية ١٨‏-‏١٩ / ٧ / ١٨٨٠م؛ النقَّاش ج٤، ص٦٢‏–‏٧٨.
١٧٣  النقَّاش، ج٤، ص٧٩؛ مذكرات محمد عبده، ص٦٨‏-‏٦٩.
١٧٤  النقَّاش، ج٤، ص٢٣‏-٢٤.
١٧٥  Blunt: Secret History, pp. 73-74.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥