الأزمة السياسية والاجتماعية
التدخل الأجنبي وتداعي النظام الاجتماعي-السياسي
الخديو يفقد السلطة
(١) الخراب المالي
ولسنا بصدد مناقشة أسباب تلك التطورات المالية مناقشةً تفصيلية — رغم ما ترتَّب عليها من نتائج خطيرة — كما أننا لن نأخذ في اعتبارنا المسئوليات الشخصية عن تلك التطورات، سواء كانت مسئولية البنوك أو إسماعيل أو مستشاريه الماليين، ولن نضع النظريات الخاصة بالإمبريالية موضع الاختبار في هذا المقام. كذلك سنتجنب الحديث عن حجم الأموال التي بُعثرت أو أُنفقت لمصلحة مصر في المدى البعيد على الأقل، ولكنَّنا نود أن نُشير إلى أن القروض المختلفة كانت ذات قيمة اسمية وحسب، فمن بين اﻟ ٦٨٫٤ مليونًا من الجنيهات التي تلقتها مصر فيما بين ١٨٦٢–١٨٧٣م لم يصل إلى يد إسماعيل منها سوى ما يقل عن الثلثين، وبذلك يُصبح التساؤل حول مسئولية هذه السياسة وطريقة استخدام هذه المبالغ لا محل لهما، إذا وضعنا في اعتبارنا المستفيد الحقيقي من تلك الصفقات. فقد استغل الممولون الأوروبيون مصر بلا استحياء؛ ففي عام ١٨٧٧م بلغت مصروفات مصر حوالي ٩٫٥ ملايين من الجنيهات خُصِّص منها مبلغ ٧٫٥ ملايين لسداد فوائد القروض، كما خُصِّصت منها مبالغ صغيرة نسبيًّا لاستهلاك الديون الأوروبية، وكان على البلاد أن تدفع من المليونين الآخرين جزية الباب العالي، وبذلك لم يتبقَّ لأوجه الإنفاق الأخرى إلا أقل القليل. وفي عام ١٨٧٨م خُصِّص مبلغ ٧٫٤ ملايين من الجنيهات من إجمالي ميزانية الإنفاق — البالغ قدرها ١٠٫١٥ ملايين — لسداد متطلبات الديون والجزية العثمانية والمطالب المدنية الأخرى. ونجم عن ذلك أن الإنفاق الحكومي على المدارس — الذي كان بالغ التواضع — بلغ في العامين المذكورين من عهد إسماعيل وخلال عهد توفيق أدنى مستوى له (٤١٢٦٧ جنيهًا عام ١٨٧٧م و٣٤٠٤٠ عام ١٨٧٨م).
وقام المجلس الخصوصي بصياغة مشروع قانون المقابلة، ثم رفعه إلى الخديو إسماعيل للتصديق عليه في ٢٨ أغسطس ١٨٧٦م، واعتمد مستشارو الخديو على المعلومات المقدمة من ناظر المالية والتي مؤداها أن نصف ضرائب الأطيان تكفي لسداد فوائد الديون الحكومية (التي بلغت عندئذٍ ثلاثين مليونًا من الجنيهات)؛ ولذلك رأوا إمكانية التخلص من الديون دفعةً واحدة بتجميع القوة المالية لجميع مُلاك الأراضي في البلاد؛ ومن ثَم يمكن الاستغناء عن نصف ضرائب الأطيان مستقبلًا ما دام يتم التخلص من فوائد الديون. وقد رأوا أن ديون الدولة يمكن أن تُستهلك إذا دفع مُلَّاك الأراضي مبلغًا يُعادل ستة أضعاف الضريبة السنوية على الأراضي على مدى ست سنوات مقدَّمًا بالإضافة إلى الضريبة السنوية، وقُدِّر دخل الدولة من ضريبة الأطيان عام ١٨٧١م بمبلغ ٥٫١٥ ملايين من الجنيهات، وبذلك كانت الحكومة تتوقَّع أن تحصل من المقابلة على نحو ٣١ مليونًا — بالإضافة إلى هذا المبلغ — وهو ما يُعادل قيمة المبالغ المستحقة للدائنين الأوروبيين.
وكانت توقُّعات الحكومة من وراء هذا القانون ذات بال إذ جاء فيه:
كما تضمَّن القانون تخفيض ضرائب الأطيان إلى النصف إلى الأبد مع التأكيد على إبقاء الضرائب في المستقبل عند الحد الذي يُعادل نصف قيمتها عام ١٨٧١م، مع الاستعداد الذي أبدته الحكومة لإعطاء حائزي الأطيان الخراجية التي تخضع للمقابلة حق الملكية التامة عليها.
ومن الصعوبة بمكان أن نقوم بأكثر من تخمين مدى اعتقاد واضعي القانون في إمكانية نجاحه، ومدى إخلاص إسماعيل عندما أصدر مرسومًا — في ٣٠ أغسطس ١٨٧١م — لوضع المشروع موضع التنفيذ؛ فقد جعل دفع المقابلة اختياريًّا، مما يوحي بأن احتمالات النجاح وإقبال جميع دافعي الضرائب على سدادها — بقدر كبير أو قليل من الحماس — من أجل تحرير البلاد من الأعباء التي ألقاها الحُكَّام على كواهلها، كان متوَقَّعًا، ولكن أولئك الذين اعتقدوا إمكانية نجاح المشروع عانَوا من خيبة أمل مريرة؛ لأنه فشل فشلًا ذريعًا.
ويرجع ذلك إلى المحاباة التي اتَّسم بها إسماعيل؛ فقد أمر بأن يتمتَّع الكثيرون من كبار المُلَّاك بمزايا المقابلة دون أن يدفعوا نصيبهم منها. ففي ظل القانون لم يدفع الكثيرون أكثر من ضرائبهم المتأخرة أو ضرائبهم العادية أو ما استُحِق عليهم من ديون للدولة أو سندات للخزانة، وعجز الآخرون عن الاستجابة لطلب الخديو لأنهم كانوا أنفسهم في رِبقة الدَّين، على حين فضَّل البعض الآخر أن يقتنوا أرضًا جديدةً بما لديهم من أموال. ولم يدفع المقابلة — أساسًا — إلا أولئك الذين أرادوا نَيل حق الملكية التامة لأراضيهم الخراجية، وأولئك الذين كانت حقوقهم على الأرض موضع شك.
ولكن، تُرى ما الذي زرع تلك الثقة في نفوس دافعي الضرائب من أهل البلاد؟ بالطبع لم تكن تأكيدات إسماعيل هي التي زرعت تلك الثقة في نفوسهم، ولا يمكننا أن نلومهم إذا قصر نظرهم عن الاستفادة بالمزايا التي كان يُتيحها المشروع لهم، فلتحقيق المشروع على أساس اختياري كان لا بد من توفُّر ضمانات سياسية ودستورية، وكانت مصر في حاجة إلى حاكم مسئول حتى يمكن تنفيذ هذا المشروع بواسطة قانون حاسم وبطريقة شرعية أو أمينة. وأنى لدافعي الضرائب أن يوقنوا أن هذا المشروع لم يكن أكثر من مناورة غير صادقة قام بها إسماعيل ومستشاروه لإتاحة مصدر جديد لجمع المال حين أغلقت الحرب الألمانية-الفرنسية أبواب سوق المال في باريس؟
لقد كان المُناخ الاجتماعي السياسي لمصر يجعل الفشل متوقَّعًا حتى لو كان حُسن النية متوفرًا في المشروع، وبذلك لم تكن النتيجة مفاجِئَة. ولم يدرك المزايا التي يوفِّرها قانون المقابلة إلا القليل من أصحاب الحظوة الذين رأوا أن يستفيدوا من تلك المزايا. وكانوا هم أنفسهم الذين قاوموا إلغاء القانون — فيما بعد — دِفاعًا عن مصالحهم الاقتصادية، ولأسباب أخرى. أما بالنسبة لعامة الناس، فكانت المقابلة ضريبةً جديدة تظهر في الموازنة في صورة مبالغ ثابتة، ولم يتمتَّع الفلاحون بأي قدر ملحوظ من التخفيض في الضرائب، أو بحقوق الملكية التامة على أراضيهم الخراجية، بل على النقيض من ذلك كانت مزايا المقابلة عندهم مجرد سراب.
ومهما كانت الإجراءات التي اتخذها إسماعيل بعد ذلك — كإصدار قرض داخلي إجباري بخمسة ملايين جنيه (دين الروزنامة) في ١٨٧٤م، وبيع أسهم قناة السويس لإنجلترا مقابل أربعة ملايين جنيه في ١٨٧٥م — فإن تلك الإجراءات كانت مجرد قطرات تقع في المحيط؛ لأن مصر كانت تندفع بشدة نحو اليوم الذي تُشهِر فيه إفلاسها.
وفي مايو ١٨٧٨م أصبح واضحًا استحالة استمرار الأوضاع على ما هي عليه، فكان لا بد من تخفيض فائدة الدين المُوحَّد أولًا عندما تبيَّن المعتدلون أهمية ذلك — عام ١٨٧٧م — ولكن بَدَا واضحًا أن الدائنين لن يقبلوا بذلك إلا بعد إجراء فحص شامل لمالية مصر للتأكد من قدرتها على السداد.
(٢) مصر في قبضة الدائنين
ومن أجل تخفيض فائدة الدين، اقترح إسماعيل نفسه تعيين لجنة تحقيق في خريف ١٨٧٧م. وحذَّر القنصل الفرنسي البارون دي ميشل من قَبول تشكيل مثل هذه اللجنة بالشروط التي حدَّدها الخديو، فأعطى انطباعًا بأن إسماعيل إنَّما يسعى لخداع أعضاء اللجنة في كل مديرية بحساباته الزائفة حلًّا لصعوباته المالية باستغلال الدوافع الإنسانية.
وأخيرًا بادر وكلاء الدائنين بإبلاغ ناظر المالية المصري — بخطاب صادر في ٩ يناير ١٨٧٨م — اقتراحهم بإجراء تحقيق شامل في أحوال مصر المالية، وعلى أيَّة حال كان الخديو مستعدًّا أن يسمح لهم بالتأكد من مستوى دخل البلاد فقط. في ٢٧ يناير ١٨٧٨م أصدر مرسومًا بتشكيل «لجنة التحقيق العليا» مُتجاهِلًا الاعتراضات التي أبداها وُكلاء الدائنين حول هذا الإجراء، وحدَّد عمل اللجنة بوضع أُسس إصلاح ميزانية الحكومة، والتحقيق في أسباب المفاسد المتعلقة بفرض الضرائب وعدم انتظام جبايتها، وتقدير موارد عام ١٨٧٨م مُقدَّمًا، وكان من حق اللجنة أن تستمد معلوماتها من أي جهة إدارية تشاء. ولم يُعيَّن أعضاء اللجنة إلا فيما بعد، ولكن كان واضحًا أن الخديو يعتزم تعيين جوردون باشا — حكمدار السودان عندئذٍ — رئيسًا للجنة.
وكان انضمام رياض إلى اللجنة نتيجة إصرار إسماعيل على تمثيل «العنصر المحلي» حتى لا يظل الخديو وحكومته بمنأًى عن أعمالها، غير أن رياضًا ما لبث أن تضامن مع أعضاء اللجنة مما جعله محل تقدير كرومر، ولكن كان من الضروري تقديم الضمانات له حتى لا يتعرَّض لبطش إسماعيل.
وشكا الخديو — من جانبه — إلى مُمثلي الدول من تصرفات اللجنة، زاعِمًا أن أعضاءها يُضمِرون له عداءً شخصيًّا، ويُحاوِلون المساس بما تبقَّى له من سلطة ومكانة، كما زعم أن اللجنة خلعت على نفسها سلطةً قضائية وأنها تسعى — بصورة واضحة — إلى إدانته، وإنَّه إذا كان لا بد من مثوله أمام محكمة، فلا يجب أن يكون ذلك أمام تلك التي أقامها بنفسه.
ولكن القناصل لم يُبدوا تعاطفهم مع إسماعيل، فراح يلتمس العون من غيرهم. ولمَّا كان رياض قد خيَّب الآمال التي عقدها الخديو عليه، ولم تُجدِ استقالة شريف نفعًا، تذكَّر الخديو نوبار — الذي مثَّل مصالحه أمام الدول في الستينيات والسبعينيات — رغم عدم مقدرته على مُعالَجة الصعاب الداخلية. وكان نوبار يُقيم بأوروبا منذ عام ١٨٧٦م، حيث قضى العديد من سنوات خدمته هناك، ولكن لعلَّه كان في وضع يسمح له بمدافعة الدائنين الأجانب والحد من غَلْوَاء ممثِّليهم المتغطرسين في مصر.
وكان إسماعيل قد استدعى نوبار من قبل — بعد أن أبعده بازدراء — ليُدافع عن مصالحه الخاصة باستبدال المحاكم المختلطة بالمحاكم القنصلية، ثم طرده إسماعيل فيما بعد عندما بدا نفوذه قويًّا أو كان في سبيله أن يصبح كذلك.
وعلى أيَّة حال، وجد الخديو نفسه، في حاجة إلى قدرات نوبار الدبلوماسية — على وجه التحديد — مرةً أخرى. وفي نهاية يونيو كلَّف إسماعيل ولده حسين أن يُعلِم نوبار أن سيده قد منحه الحظوة مرةً أخرى، وأنه برئ من الشكوك التي ثارت حول تآمره ضد إسماعيل قبل نفيه عام ١٨٧٦م، وأنه يستطيع أن يتولَّى أي منصب يشاء من مناصب الحكومة المصرية، فأَوفَد حسين تيجران بك إلى باريس لإبلاغ نوبار تلك الرسالة.
ووضع نوبار شرطين أساسيين؛ أولهما ذو طبيعة شخصية وهو تولية صديقه ولسون نظارة المالية، أما الشرط الثاني فكان فنيًّا؛ إذ طالب بوضع برنامج إصلاحي وضمان تنفيذه بدقة، قبل أن يتولَّى تشكيل الحكومة. وعلى أيَّة حال، طلب إسماعيل من نوبار العودة إلى مصر على جناح السرعة، فوصلها في ١٥ أغسطس، وفي لقائه الأول مع الخديو شكا له الأخير من التدخل الأوروبي، ومن النية المتجهة إلى تجريده وأسرته من أملاكهم الخاصة، فخيَّب نوبار أمله خيبةً مُرة عندما أبلغه أنه ليس أمامه من خيار سوى أن يستسلم للأمر.
كانت تلك اقتراحات الإصلاح بعيد المدى التي اقترحتها اللجنة، ولكن تنفيذها على هذا النحو، ووضع مصر تحت الرقابة الأوروبية، لا يمكن أن يتم إلَّا إذا أُنْقِصَت صلاحيات الخديو السياسية والاقتصادية إلى أدنى حدٍّ ممكن. وبذلك أكَّد الأوروبيون حقيقة أن المبادئ الأساسية للسياسة المصرية يجب أن تُقرَّر — من الآن فصاعدًا — بواسطة الدول المسيطرة والمتعاونين معهم على إقصاء إسماعيل. أضف إلى ذلك، نقل ملكية نصف أطيان العائلة الخديوية — الخالية من الرهونات — إلى الدولة، في مقابل مُخصَّصات مالية يحصلون عليها من الخزانة العامة. وبذلك يتم نزع السلطة السياسية والاقتصادية من الخديو، كما يتم الفصل بين القطاعين العام والخاص؛ إذ يجب أن تُصبح البلاد قادرةً على البقاء بمعزِل عن المصالح الخاصة للأسرة الحاكمة سياسيًّا واقتصاديًّا، كما يجب تحويل مصر من ضَيْعَة خاصة لإسماعيل خرَّبها سوء إداراته المالية، إلى مشروع مربح يُدار على أُسس اقتصادية أوروبية. وبذلك يطمئنُّ الفلاحون والمُوظَّفون إلى أن أحوالهم سوف تتحسَّن في ظل الإدارة الجديدة، حتى لو كان هدفها النهائي ضمان سداد الديون بشكل منتظم. وكان على الإدارة أن تتأكَّد من أن الفلاحين سيدفعون الضرائب بصورة منتظمة وبمُعدَّلات معقولة. أما بالنسبة للموظفين فكانت أُولى توصيات اللجنة تهدف إلى إيجاد تسوية مُرضية لمسألة الرواتب (ولكنَّها أعطت انطباعًا — في نفس الوقت — أن الموظفين الزائدين عن الحاجة يجب فصلهم)؛ ففي ١٢ مايو ١٨٧٨م نُشِر مرسوم بالوقائع المصرية بصرف رواتب جميع الموظفين الذين يحصلون على رواتبهم من الخزانة بانتظام اعتبارًا من أول مايو، وتقرَّر بالإضافة إلى ذلك صرف الرواتب المتأخرة تدريجيًّا.
(٣) الوزارة الأوروبية
استدعى إسماعيل نوبار الذي كان «مُمثِّله الدبلوماسي الخاص» لفترة طويلة لعله يستطيع أن يَحُول دون إقصاء إسماعيل بالتوسط بينه وبين الدول الأوروبية، ولكن نوبار لم يفعل مع القناصل ما هو أكثر من السخرية من الخديو الذي قال عنه إنَّه لم يتبقَّ له سوى أن يتألَّم لفقده دائرته. وبدلًا من التوسط لصالح الخديو، اقترح على إسماعيل برنامجًا من ثلاث نقاط يتفق مع المطالب الثلاثة التي تقدَّمت بها لجنة التحقيق هي: تطبيق الإصلاحات القضائية الخاصة بحماية الأهالي من بطش الحكومة، وتنازل الخديو وأسرته عن ملكياتهم الخاصة — غير المرهونة — للدولة، مقابل مُخصَّصات مالية تُصرف لهم. وهكذا اتخذ نوبار موقفًا مؤيدًا تمامًا لتقرير لجنة التحقيق، ونجح في حث إسماعيل على القَبول بالتقرير والبرنامج الذي اقترحه عليه قَبولًا تلقائيًّا، وهدَّد بأنه في حالة عجز الخديو عن القَبول بتلك المقترحات فإنَّ نوبار وولسون سوف يُغادران مصر في ٢٧ أغسطس ويتركان للدول حل المسألة كيفما تشاء.
تُرى، ماذا يفعل إسماعيل بعدما أفقدته الظروف صوابه؟ فهل يتحدَّى الدول ولو أدَّى ذلك إلى التعرض لخطر التدخل العسكري؟ لقد كان موقف الباب العالي غير مضمون، كما أنه لم تعد لديه الأموال التي يرشو بها السلطات ومستشاريه ليقفوا إلى جانبه، تُرى، هل تظل مصر دولةً «متحضرة» إذا أصرَّ على التمسك بسلطته المطلقة وقاوم الدول مباشرةً أو عن طريق السلطان باتخاذ إجراءات حاسمة؟ لم يتبقَّ له سوى أن يستسلم للهوان، ويقبل به إلى حين، ثم ينتقم لنفسه فيما بعد، فاستعادته لسلطته مسألة وقت، فَلْيَدَع نوبار وولسون يُوجِّهان مصير البلاد إلى حين، فلن يلبث إسماعيل أن يُثبت أنه لا غِنى عنه، ويجمع زمام الأمور في يده باعتبار سلطته الفردية هي السلطة الوحيدة التي يمكن الركون إليها عندما تعم الفوضى، وعندئذٍ سيتوسَّلون إليه حتى تعود إليه السلطة.
وفي ٢٣ أغسطس، ألقى الخديو بيانًا رسميًّا في حضرة ولسون، كان نوبار قد أعدَّه من قبل. وكان من الطبيعي أن يتضمَّن ذلك البيان قَبوله بمقترحات لجنة التحقيق مؤكِّدًا أنه عندما طالب بهذا التحقيق كان يُفكِّر في مصلحة البلاد «فلم تعد بلادنا أفريقية؛ فقد حوَّلناها في الواقع إلى قطعة من أوروبا، فطبيعي أن نطرح الأخطاء جانبًا، وأن نسير على نظام يتفق وحالتنا الاجتماعية.»
وأنه قد عهد إلى نوبار باشا بتشكيل الحكومة وتنفيذ برنامج الإصلاح.
وإذا كان حلم إسماعيل بالحضارة والتقدُّم لم يبلغ مثل هذه الذروة الكلامية من قبل، فلم يكن ذلك بالتأكيد يعني أن مصر قد أصبحت — عندئذ — قطعةً من أوروبا على النحو الذي قُسمت به هذه العبارة في أكثر من مناسبة، فإذا أخذنا في اعتبارنا الخلفية التاريخية، نجد أن نوبار كتب هذه العبارة التي تحمل معاني السخرية المُرَّة. ولا ريب أن الخديو نجح في قراءة البيان كما لو كان يؤمن بما جاء به؛ فقد كان ماهرًا في التأقلم مع الأوضاع الجديدة. ولكن تُرى ماذا كانت حقيقة مشاعره عندئذ؟ إنَّه لم يرغب أبدًا في إقامة لجنة التحقيق، وكان يحلم بإمبراطورية أفريقية مصرية ذات قاعدة «متحضِّرة» تقوم على أرض مصر، وأن تولي القاهرة والإسكندرية وجهها الحضاري والاقتصادي صوب أوروبا، ولكن لم يكن يحلم بمصر على النحو الذي أصبحت عليه، يرتبط مصيرها بأوروبا.
وفي الأمر الذي وجَّهه إسماعيل إلى نوبار في ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م حاول أن يُحدِّد ما يُسمَّى بمبدأ «المسئولية الوزارية» فقال:
كان هذا المرسوم وثيقةً على قدرٍ كبير من الغموض من وِجهة نظر القانون الدستوري؛ فقد شَكَّلت الرقابة الثنائية للدولتين الأوروبيتين أساس نظام «المسئولية الوزارية» وأخذُ معظم المؤلفين بهذا الأمر قضيةٌ مُسلَّمة، ولكن تلك الحقيقة لم تظهر في الوثائق المصرية. وفي البيان الصادر في ٢٣ أغسطس، استخدم مصطلح «استقلال الوزراء»؛ فقد كان نوبار يسعى لتحقيق هذه الغاية ولا شيء سواها، وفي مرسوم ٢٨ أغسطس، تحدَّث إسماعيل عن تضامن الوزراء أيما كان مغزاه من الناحية العملية، حقًّا استُخدمت عبارة «المسئولية» في هذه الوثيقة، ولكن ذلك لم يكن في إطار قانوني سياسي دستوري: «ينعقد مجلس النظار تحت رئاستكم؛ لأني فوَّضت هذا التنظيم الجديد تحت عُهدتكم، وجعلت مسئوليته عليكم.»
وبعبارة أخرى، أراد إسماعيل ألَّا يكون له دخل في عمل المؤسسة الجديدة حتى لا يتحمَّل مسئولية فشلها، رغم أن المسألة بالنسبة له كانت مسألة وقت.
ولا يتضح لنا مقدار الحقوق التي بقيت للخديو بعد تشكيل هذه الوزارة، فلم يكن إسماعيل قد تنازل عن الحكم بعد، كما لا يزال يعتقد بقدرته على تحديد الاتجاه العام للسياسة المصرية. وإن كان نوبار قد حرمه من حق رئاسة مجلس النُّظَّار، ولم يعد لإسماعيل سوى أن يُوقِّع على قرارات المجلس لتكتسب الصفة القانونية. ولكن، ماذا يحدث لو رفض الخديو التوقيع على تلك القرارات على أساس أنها لا تتمشَّى مع السياسة العامة التي يراها؟ على كلٍّ نتيجةُ مِثلِ هذا الرفضِ لم تكن في الحسبان.
وبالطبع، لا يمكن أن يحتفظ نوبار بمنصبه على أساس بضع وُريقات، فإذا اقتصر دور الخديو على قراءة البيانات التي يصوغها رئيس مجلس النظار والتي يتضمَّنها خطاب العرش، فإن نوبار كان بحاجة إلى سلطة الخديو إلى جانبه؛ إذ لم يكن له أتباع بين الطبقة الحاكمة أو بين أعيان البلاد، كما لم يكن باستطاعته أن يجمع حوله مثل أولئك الأتباع إذا تحقَّقت الإصلاحات التي ينشدها. ومن ثم، كان يُعوِّل على التأييد الكامل لدولتي المراقبة وبخاصة بريطانيا. ومن ناحية أخرى، كان نوبار بحاجة إلى مجموعة من كبار الموظفين الأكْفَاء الذين لا يتردَّدون في التعاون معه.
وكان لنوبار عدد محدود من المؤيدين الذين يمكنه الاعتماد عليهم؛ فقد كسب بعض الخبراء الأوروبيين إلى جانبه وضمن تعاونهم معه، ولكن لم يكن هناك من يؤيِّده بمصر سوى الأرمن، فلا عجب إذا وجدناه يلجأ إلى المحسوبية فخصَّ ولده بوغوص بمنصب هام في إدارة السكك الحديدية، وأصبح رئيسًا لديوان الخديو، وأسند أمانة مجلس النُّظار إلى صهره تيجران بك.
وبدأ نوبار العمل بحماس كبير، ولكنَّه كان مُفرِطًا في تفاؤله فيما يتعلَّق بالأوضاع الاقتصادية للبلاد، فوضع خطةً نظرية تفصيلية لحل المشكلات المالية للبلاد، تضمَّنت تخفيض نسبة الفائدة على الدين العام، وزيادة ضرائب الأطيان العشورية، وإلغاء الامتيازات الضريبية التي تمتَّع بها الأوروبيون. غير أن موازنة عام ١٨٧٨م كانت تُعاني عجزًا كبيرًا؛ ففي مقابل مبلغ ١٠٫١٥ ملايين من الجنيهات خُصِّصت للمصروفات، كان حجم الإيرادات ٨٫٢٥ ملايين لا يزال تحصيلها موضع شك.
وغلب الظن أن وحدات الجيش لن تُثير العقبات في طريق تنفيذ تلك الإجراءات، فإن الجنود لا يشعرون بالسعادة إلَّا عندما يُلقون ببزاتهم العسكرية جانبًا ويُهرعون إلى قُرَاهم. ولكن كيف يتصرَّف الضُّبَّاط الذين سيُطردون من الخدمة العاملة (وعددهم ١٦٠٠ ضابطٍ)؟ إنَّهم لم يصرفوا رواتبهم منذ زمن بعيد، وكان الكثيرون منهم في ربقة الدَّين، وباع بعضهم ما كان يملكه لسد رمقه. وفي أوائل يوليو ١٨٧٨م تجمَّع بعض الضباط أمام نِظَارَة الحربية و«أثاروا الشغب» لأنهم لم يحصلوا على رواتبهم منذ سبعة أو ثمانية شهور. ونجحوا في الحصول على مرتب شهر واحد. ولكن النية تتجه الآن إلى طردهم من الخدمة حتى دون أن تُصرف لهم رواتبهم المتأخرة، ولكن الحكومة لم تُعِرِ التحذيرات التي وصلتها اهتمامًا، والتي أشارت إلى احتمال لجوء الضباط إلى المقاومة. ثم ما لبث نوبار وولسون أن تعرَّضَا للإهانة والإيذاء من جانب الضباط الذين تظاهروا أمام نِظَارَة المالية في ١٨ فبراير ١٨٧٩م. وعندما أُعيد النظام إلى نصابه في اليوم التالي نتيجة تدخُّل إسماعيل شخصيًّا، استجاب رئيس مجلس النُّظَّار لطلب إسماعيل وقدَّم استقالته الشخصية.
(٤) إسماعيل يُحاول عبثًا استرداد سلطته
إسماعيل ومظاهرة الضباط، سقوط نوبار
أُجبِر إسماعيل على أن يقبع خلف كواليس المسرح السياسي بعد تأسيس مجلس النُّظَّار المستقل في ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م، ولكنَّه عاد إلى تصدُّر المسرح مرةً أخرى اعتبارًا من ١٨ فبراير ١٨٧٩م، ووضع نفسه على رأس المعارضة المتنامية ضد التدخل الأوروبي والوزارة الأوروبية المزعومة منذ أزمة فبراير والحوادث التي تَلَتهَا، وحاول بالطبع أن يدعم مركزه أمام القناصل، وكانت العناصر النشطة في قيادة المعارضة من أتباع إسماعيل المنتمين إلى الأتراك-الجراكسة وبعض أعيان البلاد الذين كانوا يدينون له بالولاء، فقد خشي هؤلاء على امتيازاتهم السياسية والاقتصادية، وكانوا لا يريدون — في نفس الوقت — أن يروا مصر تهبط إلى مستوى المستعمرة الأوروبية دون أن يحرِّكوا ساكنًا، وقامت الصحافة الوطنية الجديدة بترويج الدعاية لهم وتأييدهم.
ففي ربيع وصيف ١٨٧٨م، تخلَّى رياض ثم نوبار عن إسماعيل، وبدلًا من أن يُدافعَا عن مصالحه في مواجهة الأوروبيين، تعاونا معهم ضده، ولكن شريفًا ظلَّ مُخلصًا له ولمصر، فلم يقبل المثول أمام لجنة التحقيق، كما رغب عن إقامة الصِّلات مع مجلس النُّظَّار. فكان باستطاعة الخديو الاعتماد على الأتراك-الجراكسة وخاصةً شريف؛ ففي ظل حكمه تولوا أرفع مناصب الدولة التي أصبحوا مُهدَّدين بفقدها؛ ومن ثَم لم يكن إسماعيل بحاجة للضغط عليهم حتى يقفوا في صف المعارضة.
وعندما بدأ الموقف السياسي يضطرب بعد اجتماع مجلس شورى النواب — في ٢ يناير ١٨٧٩م — عَزَا ذلك إلى تداخلات إسماعيل، وانتشرت إشاعة مؤداها أن الخديو اجتمع سرًّا بالشخصيات البارزة من أعضاء المجلس، ولمَّح لهم أنه لن يشعر بالاستياء إذا قاوموا التدخل الأوروبي المتزايد في شئون البلاد. وقد أنكر الخديو ذلك ولكنَّه أعلن أن وضعه لا يمكن التغاضي عنه؛ لأن مجلس النُّظَّار أغفل وجهات نظره من ناحية، ولأن إنجلترا وفرنسا اعتبرتاه مسئولًا عن كل شيء من ناحية أخرى، وأن الأمر يتطلب إعادة العمل بالمرسوم الصادر في ٢٨ أغسطس ١٨٧٢م، عندئذٍ يستطيع أن يتحمل مسئولية «إدارة جميع شئون البلاد»، كما طالب بأن يكون له مكان في مجلس النُّظَّار ليُدلي بآرائه ويشترك في رسم السياسات.
وكان فيفيان وجودو على استعداد للاستجابة لتلك المطالب التي كانت تتفق مع وجهات نظرهما، ولكن نوبار وولسون كانا يُعارضان في ذلك، وظهر إسماعيل في ١٨ فبراير بمظهر الضامن الوحيد للسلام والنظام ومن ثم يجب إعادة النظر في العلاقة بين أركان السلطة.
ورغم أنه يجب النظر إلى مظاهرة ١٨ فبراير ١٨٧٩م على أنها أكثر حوادث القرن التاسع عشر شهرة، نجد أن مُعظم الروايات المتعلقة بها تعوزها الدقة وينقصها التحليل؛ ففي معظم الروايات ذُكِر أن تلك كانت الطريقة التي دافع بها ٢٥٠٠ ضابط — فُصِلوا من خدمة الجيش — عن أنفسهم.
وفي بداية الأمر تقرَّر إنقاص عدد الضباط من نحو ٢٦٠٠ ضابط إلى ألف ضابط، أما اﻟ ١٦٠٠ ضابط فتقرَّر إحالتهم إلى الاستيداع حيث يحصلون — خلال فترة الاستيداع — على نصف رواتبهم فقط. وقد شارك في المظاهرة ما يتراوح بين ٣٠٠–٦٠٠ ضابط — بتشجيع من إسماعيل — وكانت أحوالهم المالية بالغة السوء، وقد أُحيلوا إلى الاستيداع دون أن يلوح لهم أمل العودة إلى الخدمة العاملة أو الالتحاق بوظائف مدنية؛ ومن ثَم اعتَبروا الوزارة «الأوروبية» مسئولةً عن مصيرهم.
وفي فبراير ١٨٧٩م كان الكثير من الضباط على حافة الفقر المُدقِع مرةً أخرى؛ فقد تأخَّرت رواتبهم ما بين شهرين و٢٤ شهرًا، وكانوا لا يعرفون كيف يعيشون بدون تلك الرواتب، ومع مطلع ذلك العام، قدَّموا العديد من العرائض إلى النُّظَّار المعنيين، كما قدَّم بعضهم عرائض إلى مجلس شورى النواب، دون أن يُحرِزوا أي قدر من النجاح. وعندما شاعت الإجراءات الاقتصادية التي تنوي الحكومة اتخاذها بلغ القلق داخل الجيش حدًّا سيئًا، ووُجِّه السخط نحو نوبار وولسون، ودعَوهما مسئولين عن التمهيد لتسليم البلاد إلى بريطانيا، وشاع الاعتقاد أن بريطانيا هي التي أملت على النُّظَّار قرار إنقاص قوة الجيش، فكيف يستطيع الضباط العيش — إذن — إذا كان عليهم أن يقبعوا في منازلهم؟ وكيف يُسددون ديونهم؟ لقد أُعِدوا ليكونوا ضباطًا ولا تتوافر لديهم الأموال لشراء الأطيان أو استخدام العمال. ويذكر بورج أن تلك الأحاديث دارت في غرف الحرس بقصر عابدين، وأعلن ضباط الحرس تأييدهم لزملائهم المفصولين دفاعًا عن أنفسهم.
ولكن النُّظَّار لم يأخذوا تلك التقارير مأخذ الجد، وانتهز إسماعيل الفرصة ليُبلغ القنصل البريطاني أن تردي الأوضاع إنَّما جاء نتيجةً لسياسة نوبار الرامية إلى إنقاص سلطات الخديو، وأنه لا يستطيع أن يتدخل لتهدئة ثائرة الجيش ما دام بقي محرومًا من حقه في الاشتراك في تقرير سياسة مصر. وحتى ١٧ فبراير، كان ولسون يُنكر أن ثمة استياءً أو تذمرًا خطرًا بين صفوف الجيش. وفي ١٨ فبراير — وقبل وقوع المظاهرة أمام نظارة المالية بنصف ساعة — ضحك رياض باشا عندما حدَّثه فيفيان عن احتمال وقوع تمرد في الجيش.
وفي ١٧ فبراير ١٨٧٩م، وُزِّعت عريضة في معسكرات العباسية تحمل توقيعات ما يتراوح بين ٤٠٠–٥٠٠ ضابط تتضمَّن أربعة مطالب:
-
(أ)
ضرورة صرف الرواتب المتأخرة.
-
(ب)
إسناد وظائف مدنية إلى الضباط المفصولين.
-
(جـ)
فصل الضباط وإحالتهم إلى الاستيداع لا يتم إلَّا وفق القوانين العسكرية.
-
(د)
معاملة الضباط معاملةً كريمة.
ورُفِعت تلك العريضة إلى الخديو الذي أحال أصحابها إلى الوزارة باعتبارها الجهة المختصة ببحث مطالبهم. وبناءً على ذلك، عقد الضباط اجتماعًا ألقى فيه لطيف سليم خطابًا مثيرًا شجَّع زملاء على أن يتولوا الدفاع عن مطالبهم بشجاعة وإقدام، فقرَّروا أن يقوموا بعملٍ ما.
ومروا أمام نظارة المالية، وفي تلك اللحظة كان نوبار باشا في طريقه لمقابلة ولسون لمناقشة ما جاء به عبد السلام المويلحي معه، فاستوقفه الضباط، وأهانوه، وألحوا في طلب رواتبهم المتأخرة. وحدث نفس الشيء لولسون الذي هُرع لنجدة نوبار، وأخيرًا احتُجز الاثنان بنظارة المالية حيث لحق بهما رياض وعلي مبارك.
وبعد تفريق المظاهرة، عاد إسماعيل إلى قصر عابدين حيث لحق به قناصل الدول لتهنئته على ما فعل. وخرج الخديو من ذلك الحادث بالنتائج التالية: إذا كان لا بد من إعادة القانون والنظام إلى نصابهما، يجب أن يُمسك بزمام أمور الحكم بيده؛ لأن وجود حاكم قوي يجعل الناس لا يُقدِمون على عمل كهذا ما داموا يعرفون عاقبة الإقدام عليه.
وفي صباح اليوم التالي، التقى نوبار وولسون ودي بلنيير بالقنصلين البريطاني والفرنسي — بعدما أفاقوا من الصدمة — للنظر في الخطوات التي يجب اتخاذها. وذكر نوبار بوضوح أنه لن يستطيع المُضي في تحمل مسئولية استتباب الأمن العام، وطالب القنصلين بحمايته وزملائه. وحاول فيفيان وجودو أن يستطلعا نية إسماعيل أولًا، فطلب الأخير استقالة نوبار كخطوة أولى على الطريق لإعادة الأمور إلى نصابها، فقُدِّمت الاستقالة، وتمَّ قَبولها في نفس اليوم (١٩ فبراير). وتولى الخديو رئاسة مجلس النُّظَّار.
وأكَّدت الطريقة التي عُومل بها قادةُ المظاهرة الافتراض الذي ذهب إليه معظم المراقبين المعاصرين من أن المظاهرة كانت — بدرجة ما — من تدبير إسماعيل؛ لأنها كانت تعني عودته إلى السلطة. وأبلغ الخديو القنصلين البريطاني والفرنسي أن ناظر الجهادية راتب باشا — رجله في الوزارة — كان قصير النظر لدعوته لعدد من فرق الجيش من مختلِف الحاميات بأنحاء البلاد إلى القاهرة، وبدعوته لجميع الضباط الذين اتجهت النية إلى الاستغناء عن خدماتهم، ولمَّا كان هؤلاء يُطالبون الآن بالعفو عن رفاقهم، فإنَّه (أي الخديو) لا يستطيع معاملة المدبِّرين بما يستحقون، ويُفضِّل إرجاء محاسبتهم على ما اقترفوه إلى وقت آخر.
ولم يتضمن تقرير المجلس الذي صدر في ٢٢ مارس توجيه أي اتهام إلى الضباط المعتقلين؛ ومن ثَم أُطلق سراحهم. وقام الأمير حسن — باعتباره القائد العام للجيش المصري — بتقديم اعتذار رسمي عن الحادث إلى القنصل البريطاني باسم الخديو والجيش؛ وبذلك اعتبر إسماعيل المسألة منتهية. وفي ٢٦، ٢٧ مارس، صُرِفت رواتب الضباط وأُحيلوا إلى الاستيداع — كما كان مقررًا من قبل — بعد أن حصلت الحكومة على قرض من روتشلد مقداره ٤٠٠ ألف جنيه لسداد تلك الرواتب، وعاد إسماعيل إلى استدعائهم للخدمة بعد ذلك بأيام معدودات.
وأعلن الخديو أن رئاسته لمجلس النظار مؤقتة، وأنه يريد التوصُّل إلى اتفاق مع الدول المعنية على أُسس إعادة تنظيم هيكل الحكومة؛ ولذلك قدَّم — بعد استقالة نوبار بأسبوع واحد — إلى قناصل الدول المقترحات التالية: تعيين ولي العهد توفيق وزيرًا بلا وزارة ورئيسًا لمجلس النُّظَّار، والتصديق على المبادئ الأساسية التي جاءت بمرسوم ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م الخاص بتحديد العلاقة بين الخديو ومجلس النظار (مع إعطاء الخديو حق دعوة مجلس النظار للاجتماع به في أي وقت)، وأن يقوم كل ناظر بنفسه بعرض القرارات التي تحتاج إلى التصديق على الخديو، ثم تُناقَش تلك القرارات بمجلس النظار برئاسة الخديو، ويتم تقريرها بأغلبية الأصوات.
وكانت الإشارة إلى مرسوم ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م إشارةً مضللة؛ ففي حقيقة الأمر كانت مقترحات إسماعيل تهدف إلى إلغاء الفصل التام بين الخديو ومجلس النظار، وبالتالي إلغاء ذلك المرسوم؛ ولذلك رفض الوزيران الأوروبيان الموافقة على تلك المقترحات، وأبدَيَا استعدادهما لقَبول اجتماع المجلس بالخديوي — بصفة غير رسمية — عندما يرغب الأخير في ذلك، وأن يتقدَّم الخديو إلى مجلس النظار بما شاء من مشروعات، على أن يتقدَّم مجلس النظار بمخططاته إلى الخديو قبل اتخاذ قرار بشأنها. وطالَبَا — بالإضافة إلى ذلك — بأن يؤخذ رأيهما فيمن يُعيَّن ناظرًا من المصريين. وفي أول مارس طلب قنصلا الدولتين — رسميًّا — عودة نوبار إلى الحكومة بحجة أن الحاكم الدستوري يجب أن يقبل التعامل مع الوزراء الذين لا يرتاح إليهم شخصيًّا. فأجاب إسماعيل بأن ذلك أمر مُسلَّم به إذا كان الوزراء منتخبين بواسطة الشعب، أما نوبار فكان أكثر الساسة افتقارًا إلى الشعبية في مصر.
ولمَّا كان إسماعيل قد ظلَّ مُتمسكًا بموقفه من فكرة عودة نوبار إلى الوزارة، وكان توفيق قد حذَّر من النتائج الخطيرة التي قد تترتَّب على إصرار الدولتين على مطلبهما، فإن الدولتين تنازلتا عن هذا المطلب، وراحتا تبحثان عن سبيل آخر لضمان استمرار النفوذ الإنجليزي الفرنسي داخل الحكومة المصرية. وفي ٩ مارس، قدَّم القنصلان إلى إسماعيل إعلانًا رسميًّا من جانب الدولتين تضمَّن ما يلي:
-
(١)
لا يجب أن يُشارك الخديو بأي حال من الأحوال في اجتماعات مجلس النظار.
-
(٢)
تعيين الأمير توفيق رئيسًا لمجلس النظار.
-
(٣)
يحصل الوزيران الأوروبيان معًا على حق الفيتو على القرارات التي لا تحظى بموافقتهما.
-
(٤)
تسحب الدولتان مطلبهما بعودة نوبار إلى مجلس النظار.
-
(٥)
يُعَد الخديو مسئولًا عن تنفيذ هذه القواعد.
فعبَّر إسماعيل عن شكره لهما لاستجابتهما له فيما يتعلَّق بنوبار، وقبل مقترحاتهما، ولكنَّه احتفظ لنفسه بحق دعوة النظارة إلى الاجتماع به فُرادى أو مجتمعين، ليبلغهم بوجهات نظره في المسائل المعروضة عليه للتصديق عليها، أو تلك التي يرغب أن يبحثها مجلس النظار.
وعلى أيَّة حال، لم يكن تشكيل الوزارة — الذي تأخَّر حتى ٢٢ مارس — من اختصاص توفيق؛ لأن الصراع حول تعيين النظار دار بصفة رئيسية بين الخديو والوزيرين الأوروبيين، فاحتفظ ولسون ودي بلنيير بمنصبيهما، فلم تكن النية متجهةً عندئذٍ إلى المساس بوضعهما، ولكن الخديو أراد أن يُسند إلى رياض نظارتَي الحقانية والخارجية — اللتين كان يتولاهما نوبار من قبل — وأن يضع رجلًا من خاصته في منصب ناظر الداخلية الذي كان يشغله رياض، وحتى تشعر المديريات بسطوة الخديو إذا كان عليه أن يتحمَّل مسئولية استتباب الأمن في البلاد، ولكن كل من رشَّحهم الخديو لشغل هذا المنصب رُفِضوا من جانب الوزيرين الأوروبيين، فاعترضا على راغب باشا لكبر سنه ولانحداره من أصل يوناني وجهله باللغات الأوروبية، وكان أحمد رشيد باشا موضع شكهما لأنه كان رئيسًا لمجلس شورى النواب كما كان من أخلص «مماليك» إسماعيل، كما رفضا أن يشغل توفيق هذا المنصب لأن ذلك يعني أن يُصبح الخديو نفسه مُسيطرًا على نظارة الداخلية، ولم يجرؤ إسماعيل على ترشيح شريف باشا لهذا المنصب لتأكُّده من اعتراض الدولتين عليه.
إسماعيل ومجلس شورى النواب (١٨٧٦–١٨٧٩م)
ففي ١٩ فبراير، أعلن إسماعيل للقناصل الذين دعاهم إلى الاجتماع به فلسفته السياسية بقوله إن البلد الشرقي الذي يقف على حافة الفوضى يحتاج إلى يد الحاكم القوية. وفي ٧ أبريل، أبلغ الخديو القناصل أنفسهم أنه يجب أن يخضع للإرادة الحرة لأمته وأن يُعيِّن وزارةً مصرية، وذهب الرافعي إلى أن تلك الإرادة الوطنية تمثَّلت جميعها — على نحو ما سنرى — في مجلس شورى النواب. فيذكر أن ذلك المجلس أصبح منذ عام ١٨٧٦م مركز المعارضة الموجَّهة ضد أوتوقراطية إسماعيل، وأنه أخذ الآن يُعارض التدخل الأجنبي في شئون البلاد. وعلينا أن نبحث في هذه المعلومات المتصلة بدور مجلس شورى النواب، في محاولة لإلقاء الأضواء على أحداث أبريل ١٨٧٩م.
فبالنسبة لغالبية أهالي البلاد، نتج عن طموح إسماعيل لإدخال الحضارة واستغلاله المنظم من جانب رجال الأعمال والمموِّلين الأوروبيين، نتيجةٌ ثورية واحدة تمثَّلت في الاستغلال المالي الذي تجاوز حدود المنطق الاقتصادي. وبدا ذلك في صورة زيادة الضرائب، وفرض الالتزامات المالية الجديدة على الأهالي، وعقد القروض الخارجية. ولعل الطريقة التي نُفذ بها قرض الروزنامة عام ١٨٧٤م في دمياط والبلاد المجاورة لها (وفق رواية نائب القنصل الفرنسي) تُبيِّن لنا كيف ساهم الأهالي في تحقيق تقدُّم البلاد. فعندما صدر المرسوم الخاص بذلك القرض، جمع المدير عُمد القرى وحدَّد المبالغ المطلوبة من كل قرية، وفي دمياط رأى تُجَّار المدينة أن الأسماء التي أُدرجت في قائمة المساهمين في القرض كافية، وبعد بضعة أسابيع جاء أحد الموظفين من القاهرة للتحقُّق من المبالغ التي جُمِعَت. ولكن نظرًا لأن أولئك الذين أُدرجت أسماؤهم كانوا لا يرغبون في المساهمة استخدم الكرباج لتذكيرهم بواجبهم، وعُوقب أحد شيوخ القرى المترددين في السداد بدق أذنه في باب ديوان المديرية بالمسمار. وأصبحت السنوات «١٨٦٦–١٨٧٩م» تُمثِّل العصر الذهبي للمرابين، وأحلك سنوات القرن التاسع عشر بالنسبة للفلاحين.
وعلى كلٍّ، كان أهالي البلاد تحت رحمة سياسة إسماعيل وما ترتب عليها من نتائج. وعلى نحو ما يذكر سرهنك، لم تكن هناك مجالس مستقلة تُوقِف الخديو عند حده، كما لم تكن هناك شخصية قوية بين المحيطين به تبذل النصح له؛ فقد أصاب الخوفُ الجميعَ بالشلل. وأقام ما أصاب ناظر المالية إسماعيل صديق — الذي مات مخنوقًا — الدليل على حكمة الصمت؛ فقد أمر الخديو بقتله لمعارضته له خلال مفاوضات بعثة جوبير وجوشن عام ١٨٧٦م. وفي مطلع نفس السنة، نُفِيَ نوبار باشا إلى الخارج لانتقاده بعض التصرفات التي أقدم عليها الخديو؛ فقد درج إسماعيل على عدم السماح لأحد بالتدخل في شئونه الخاصة؛ ومن ثَم لم يكن باستطاعة مجلس شورى النواب أن يتخذ قرارات حاسمة تتعلَّق بالسياسة المصرية تهدف إلى الوقوف في وجه الخراب المالي والتدخل الأجنبي، كما لم يكن المجلس في السنوات الأخيرة من حكم إسماعيل مركزًا مستقلًّا لصنع القرار.
وفي خطاب العرش الذي افتتح به الخديو دور الانعقاد العادي لمجلس شورى النواب في ٢٣ نوفمبر ١٨٧٦م، نافق إسماعيل النواب بقوله إن استمرار العمل بالمقابلة كان ثمرة قرارهم الصادر في ١٠ أغسطس، وكان بذلك يهدف إلى مواساتهم؛ لأن الاستمرار في دفع المقابلة لم يعد يُحقِّق لهم أي مزايا فورية. ولم يرتفع أي صوت بالاحتجاج ضد هذا الإجراء، ويرى الرافعي — خلال عرضه لأعمال هذا الدور من أدوار المجلس — أن ثمة «روحًا معارضة جديدة» برزت داخل المجلس، ولكن ما رآه الرافعي على أنه معارضة كان مجرد سراب؛ إذ كانت الإشاعات المفزعة حول مصير إسماعيل صديق تتردَّد عندئذٍ في القاهرة؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن يأتي رد المجلس على خطاب الخديو «في غاية الأدب» على نحو ما يذكر القنصل الفرنسي العام، كما أن الحقيقة الماثلة في موافقة المجلس في ذلك الدور على وقف دفع فوائد دين الروزنامة (٩٪ مبدئيًّا) لا تعني أن هناك جنوحًا نحو المعارضة.
كما أن روح المعارضة الجديدة لا تتضح في دور الانعقاد غير العادي الذي دعا إليه الخديو في نهاية أبريل ١٨٧٧م؛ فبعد اندلاع الحرب الروسية-التركية طلب السلطان من إسماعيل المساهمة في الحرب، فأجاب الخديو بأن مصروفات الدولة قد حُدِّدت من قبل، فلم يعد أمامه بُدٌّ من أن يدعو مجلس شورى النواب إلى الموافقة على فرض ضريبة جديدة لتغطية نفقات مساهمة مصر في الحرب. وفي الحقيقة، وافق النواب على زيادة الضرائب جميعًا بنسبة ١٠٪، وهنا يرى الرافعي أيضًا تقدمًا «وطنيًّا ودستوريًّا» يدعو إلى الإعجاب؛ لأن الضرائب كانت تُقرَّر من قبلُ دون الرجوع إلى المجلس، وهو ما يُمثِّل نصف الحقيقة؛ لأنه سبق أن طُولِب النواب بالموافقة على زيادة الضرائب، مثلما حدث عام ١٨٦٨م عندما وافقوا على زيادة الضرائب بمقدار السدس كما يذكر الرافعي.
أما دور الانعقاد العادي — من ٢٨ مارس حتى ٢٧ يونيو ١٨٧٨م — فقد انقضى دون أن يُقرر ما يستحق الذكر، حتى إن القناصل الأوروبيين أهملوا ذكره في تقاريرهم، وانصرف الاهتمام العام إلى لجنة التحقيق التي بدأت تُمارس عملها، ولم يُعلن المجلس الذي سادته «روح المعارضة» بأن يُقرِّر أن لجنة التحقيق تُعَد هدفًا مناسبًا. وكما حدث في نوفمبر ١٨٧٦م عبَّر النواب — في ردِّهم على خطاب العرش — عن مجرد الأمل في أن تُحَل مشكلة الديون المصرية حلًّا مُرضيًا. ولم يكن هذا الدور من أدوار الانعقاد يختلف كثيرًا عن أدوار انعقاد ١٨٦٧م وما بعدها.
ولكنَّنا يجب أن نُشير إلى موقف هام لتسعة من نواب أقاليم مصر الوسطى (الجيزة وبني سويف والمنيا وأسيوط) خلال ذلك الدور من أدوار الانعقاد، وكانت ضرائب عام ١٨٧٨م تُجبى — عندئذٍ — لسداد كوبون مايو، فبرهن أولئك النواب على أنهم يُمثِّلون أهالي بلادهم عندما تآزروا للبحث عن مخرج للمأزق الذي يُعاني منه الفلاحون الذين كانوا أمام أمرين: إمَّا أن يبيعوا محاصيلهم قبل نضجها، أو يقعوا في حبال المرابين، فطالب العُمُد التسعة بتوفير مصدر معقول للائتمان يوفِّر لهم قرضًا قيمته ٣٠٠ ألف جنيه يُخصَّص نصفها لسداد ضرائب أسيوط والنصف الآخر لسداد ضرائب بقية مديريات مصر الوسطى، ونجحوا في التوصُّل إلى ضامنين لهذا القرض هم: الأمراء محمد توفيق، وحسين كامل، وحسن، ومحمد حافظ وكيل دائرة والدة الخديو، وشاهين باشا مفتش أقاليم الدلتا، وعمر لطفي مفتش أقاليم الصعيد، الذين قبلوا التوقيع على العقد الخاص بهذا القرض مع بعض البنوك المحلية، وتعهَّد النواب بأن يُتابعوا بأنفسهم سداد قيمة القرض بعد جني المحصول، غير أن هذا كان تصرُّفًا خاصًّا من جانب بعض النواب، ولم يكن عملًا من أعمال المجلس.
وكان إسماعيل قد اكتشف مصدرًا آخر للمال قبل انعقاد المجلس في ٢٨ مارس؛ فقد طُولِب أعيان البلاد بالتبرع بالأموال من أجل جرحى الحرب، وكُلِّف المديرون وبعض اللجان الخاصة بجمع تلك الأموال التي بلغت ما يزيد على ١٠٠ ألف جنيه، واختُتمت جولة اللجان في ٢٨ فبراير بوليمة أُقيمت بطنطا.
ومن ثم يمكن القول إنَّه لم يحدث تغيير جوهري في موضوعات ونتائج مناقشات مجلس النواب. وكذلك في علاقتهم بالخديوي منذ افتتاح المجلس في ١٨٦٦م حتى افتتاح دور الانعقاد الجديد في ٢ يناير ١٨٧٩م. فلم يكن النواب يهتمون ﺑ «السياسات العليا» أو بمراقبة سلطة الخديو، ولكن كانوا يهتمون بتمثيل المصالح المالية والاقتصادية والثقافية لبلادهم، في إطار صلاحياتهم المحدودة.
وهذا لا يعني القول بأن النواب لم يرغبوا في إنهاء فترة «تلمذتهم» ليُصبحوا سياسيين في أسرع وقت ممكن، فربما تطوَّر وعيهم السياسي تبعًا لذلك، رغم أن عددًا كبيرًا منهم بدأ اتصاله بالحياة الثقافية في العاصمة لأول مرة، كما أن نحو ٦/٥ النواب دخلوا المجلس لأول مرة عام ١٨٧٦م، وعلى أيَّة حال لم يُعلن ذلك الوعي السياسي عن نفسه، ولكن النواب لم يكونوا في وضع يسمح لهم بالحصول على عطايا إسماعيل أو رفض منحه المالية حتى لو كانوا يرغبون في ذلك؛ فعلى أي قوة أو سلطة كانت ترتكز معارضتهم إذن؟ لقد كان السودان بعيدًا — من الناحية الجغرافية — ولكنَّه كان أقرب ما يكون بالنسبة لأولئك الذين يعترضون طريق إسماعيل، بل مات بعضهم وهم في الطريق إليه على نحو ما حدث لإسماعيل صديق المفتش.
ومهما بلغ مقدار ما منحه إسماعيل لرعاياه، فقد كان ذلك من تلقاء نفسه وليس استجابةً لضغط من أسفل؛ فلم يجبره أحد على تأسيس المجلس، غير أنه راح في طيات النسيان بعد مارس ١٨٧٣م. ولكن ضغوط الأزمة المالية بعد تأسيس صندوق الدين العام، جعلت الخديو يتذكَّر مجلس شورى النواب من جديد، فقد يُساعده المجلس على إيجاد مصادر جديدة للمال، وعلى إضفاء الصفة القانونية على تخفيض الامتيازات المالية، ويتوسط بينه وبين الدائنين الأوروبيين إذا دعت الحاجة إلى ذلك. كل ذلك يمكن أن يتحقَّق دون أن يُقدِّم إسماعيل في مقابله شيئًا، ودون أن يُطالب بشيء. وعلى كلٍّ، تغيَّر ذلك عندما سلبت الوزارة «الأوروبية» سلطة الخديو فالتمس الأخير في النواب حليفًا (كما فعل مع بقية أعيان البلاد).
ولم يكن الخديو بحاجة إلى أكثر من مجرد التشجيع وإبداء الارتياح حتى يضع مجلسَ شورى النواب على طريق معارضة الوزارة «الأوروبية» عندما دعا المجلس إلى الانعقاد في ٢ يناير ١٨٧٩م، وكان مجلس النظار قد اتخذ قرار دعوة المجلس للانعقاد — كما ذكرنا من قبل — ظنًّا منه أن مجلس شورى النواب هو الذي يستطيع وحده أن يُوافق على زيادة ضرائب الأطيان العشورية (وربما يمكن الحصول على موافقة المجلس على سداد الضرائب مقدمًا). فلم يكن الخديو هو الذي بادر بدعوة المجلس إلى الانعقاد، بل كان مُنفِّذًا لقرار مجلس النظار، على نحو ما ذكر فيفيان؛ فقد كان يُوقِّع جميع القرارات التي تُقدَّم إليه للتصديق عليها دون أي تعليق. ولكن إسماعيل اتجه الآن إلى التحالف مع الأعيان ليضع حدًّا للنظام السياسي الذي فُرِض عليه وعلى مصر. وفي ضوء ما نعرفه عن خلفية الحوادث التي وقعت بين مارس ويونيو ١٨٧٩م يمكن الاعتماد على معلومات رافاييل بورج، الذي يذكر أن الخديو طلب من الأعضاء البارزين بالمجلس معارضة الوزارة «الأوروبية».
«نحن نواب الأمة المصرية ووكلاؤها، المدافعون عن حقوقها، الطالبون لمصلحتها التي هي — في نفس الأمر — مصلحة الحكومة، نرفع إلى مقام الحضرة الخديوية الفخمية الشكر الجميل، حيث عنيت بتشكيل مجلس شورى النواب، الذي هو أساس المدنية والنظام، وعليه مدار العمران، وهو السبب الموجب لنوال الحرية التي هي جوهر العدل وروح الإنصاف …»
وأبدى النواب شكرهم للخديو لتشكيله مجلس النظار الذي جعله «مسئولًا كافلًا أمام الأمة …»
فمن ناحية، اهتمَّ الرد بإبراز «مصلحة الأمة» و«منفعة الوطن» و«حقوق الرعية»، ومن ناحية أخرى وصف الخديو بأنه الذي يقود البلاد على طريق التقدم والمدنية التي تُنبئ بمطلع عصر جديد. وبرزت هُوية المصالح غير مرة، واقترنت واجبات النواب بنوايا الخديو، وختم المويلحي الرد على خطاب العرش بعبارة «فليحيَ الخديو المعظم»، و«لتحيَ الحرية تحت ظل رعايته وحمايته». ولا شك أن الحرية لا تستطيع أن تحيا حياةً عملية حقيقية في ظل مثل تلك الحماية.
ومن ثم يجب أن نُلاحظ أن النواب لم يعدُّوا أنفسهم المدافعين عن الحرية والممثِّلين لحقوق الشعب ومصالحه، بل جعلوا الخديو شريكهم في ذلك. وعلى كلٍّ لا يجب أن نهتم كثيرًا بمثل هذه الوثائق التي كُتبت للاحتفال بالمناسبات، كما أنه ليس من الحكمة أن نضع في اعتبارنا بعض المشاعر المعزولة وحدها. فمن بين سطور الرد على خطاب العرش تتضح تمامًا ملامح تلك الدورة من أدوار انعقاد المجلس؛ فلم تكن المعارضة الحامية الوطيس — التي قام بها النواب — موجهةً ضد الخديو بأي حال من الأحوال ولكنَّها كانت موجهةً ضد مجلس النُّظَّار عامةً وضد ولسون ودي بلنيير خاصة، لقد تحالف مع الخديو لمواجهة الوزارة «الأوروبية»، فيتركَّز احتجاجهم على إغفال مجلس النظار للحقوق التقليدية الشرعية للمجلس، ولكن كان عليهم أن يُناضلوا من أجل توسيع اختصاصات المجلس وإصدار اللائحة الدستورية الجديدة التي وعد بها الخديو؛ إذ لم يكن عزل الخديو قد وجَّه الأحداث وجهةً جديدة تمامًا.
وإذا ظنَّ نوبار أن باستطاعته كسب تأييد المجلس لوزارته لمُني بخيبة الأمل؛ لأن المعارضة ضد التدخل الأجنبي كانت عارمة، أضف إلى ذلك أن الوزيرين الأوروبيين والقناصل لم يكونوا ليقبلوا أن يجعلوا للمجلس صوتًا مسموعًا في سياسة البلاد؛ فقد شاركوا نوبار ورياضًا اعتقادهما بأن الأوتوقراطية هي أكثر النظم السياسية ملاءمةً لحكم مصر من أجل تحقيق الأهداف التي يصبون إليها، وكان الاختلاف بينهم يدور حول تحديد من يتولَّى مهمة الحاكم الأوتوقراطي: نوبار أم إسماعيل (على نحو ما حدث بين ولسون وفيفيان). ولكن، كيف يُخضعون الخمسة والسبعين نائبًا لسيطرتهم؟ إنَّه من السهولة بمكان ممارسة ضغط لحمل شخص واحد على التعقُّل، وفيما عدا تلك الاعتبارات العملية كانت سياستهم تستند إلى الاعتقاد بأن الشرق يجب أن يخضع لحكم استبدادي مستنير في المستقبل القريب، على أقل تقدير.
وهكذا دُعِيَ المجلس ليُضفي الصفة القانونية على الإجراءات التي من شأنها أن تُثير استياء كبار مُلَّاك الأراضي الزراعية، ولكن المجلس لم يحصل على شيء في مقابل ذلك، ومن ناحية أخرى، لم يُشجِّع إسماعيل النواب على اتخاذ موقف المعارضة فحسب، بل بذل لهم الوعود الدستورية حتى يُعاوِنوه على استرداد سلطته (على نحو ما سنرى)، ومن ثم يرتكب المجلس خطأً جسيمًا إذا قرَّر تأييد الوزارة ومعارضة الخديو.
فتميَّزت جلسات مجلس شورى النواب بالهجوم المستمر على نوبار والوزيرين الأوروبيين وخاصةً ولسون؛ لأن دي بلنيير — على الأقل — قدَّم مشروعاته إلى المجلس لمناقشتها، فبسط أمام المجلس خُطته لإعادة تنظيم الأشغال العمومية في مصر، وطلب رأي المجلس في مسائل بعينها، وحضر إلى المجلس ليُناقش ملاحظات الأعضاء على مشروعه (بمعاونة مترجم نظارته).
ودخل المجلسُ في صراع مع دي بلنيير لأنه كان ينوي أن يجعل العمل بالسخرة التزامًا عامًّا يخضع له جميع الفلاحين، على حين كان الفلاحون الذين يعملون بالعِزب والكفور والأبعاديات يُعفَوْن من الاشتغال بالسخرة — من قبل — حتى يتفرَّغوا تمامًا لخدمة كبار المُلَّاك. وكان دي بلنيير يسعى إلى وضع حد لهذا التمييز حتى قبل أن يُعيد تنظيم السخرة، واقترح أن يكون الإعفاء من السخرة مقابل بدل نقدي مُعيَّن يدفعه من يرغبون عنها. غير أن الاقتراح كان لا يعني إضافة عبء جديد إلى كواهل أولئك الفلاحين فحسب، بل إضافة عبء جديد يقع على عاتق كبار المُلَّاك الذين يستخدمون أولئك الفلاحين والذين كان عليهم أن يدفعوا البدل النقدي عن فلاحيهم؛ ومن ثَم عارض النواب النظام المقترح. كما كانت مشروعات دي بلنيير تعني — أيضًا — إضافة أعباء مالية جديدة على كواهل مُلاك الأطيان العشورية التي اقترح زيادة ضرائبها. وأعاد دي بلنيير شرح مشروعه أمام المجلس في ٣ فبراير دون أن يتبادر إلى ذهنه اعتراض النواب على ذلك المشروع.
ولكن معارضة المجلس كانت موجهةً — قبل كل شيء — إلى نوبار وولسون، اللذين لم يُبدِيَا أي استعداد للتعاون مع المجلس، وَبَدَا الأمر وكأن مجلس النُّظَّار قد دعا مجلس شورى النواب إلى الانعقاد ليخلق لنفسه أعداءً جُدُدًا. وكان ولسون يتوقَّع أن يُعارِض النواب مُخطَّطه الرامي إلى زيادة الضرائب، ولكنَّه لم يدخل في تقديره أن تلك المعارضة قد تُصبح أقل حدةً إذا أبدى استعداده لتسوية الأمور.
ففي ٥ يناير، وجَّه النواب خطابًا إلى ناظر الداخلية — بِناءً على اقتراح تقدَّم به محمود العطار — التمسوا فيه أن تتقدَّم نِظَارَتَا المالية والأشغال العمومية بخططهما إلى المجلس، وعلى حين استجاب دي بلنيير، أبلغهم ولسون أن خطة وزارته لم تكتمل بعد، وأنه يُسعده مناقشتها بمقر نظارته مع وفد يُمثِّل المجلس، فأرسل المجلس وفدًا من خمسة أعضاء إلى نظارة المالية على ألَّا يلتزم الوفد بشيء دون الرجوع إلى المجلس (استجابةً لاقتراح محمود العطار) وألَّا تعني تلك المحادثات غير الرسمية إعفاء ناظر المالية من طرح مشروعات نظارته أمام المجلس ككل للتداول بشأنها.
ورغم إصرار المجلس على مثول ولسون أمامه، لم يتحقَّق ذلك طوال ثلاثة أسابيع منذ بداية دور الانعقاد، حتى قام الأعضاء بفتح باب المناقشة في المسائل المالية على النحو الذي يرَونه، وجاءت نتيجة المناقشة في صورة عرض مُثير للأعباء الضريبية الثقيلة التي كان على البلاد أن تتحمَّلها، ومطالبة لمجلس النُّظار بالعمل على تخفيف تلك الأعباء. وطَرَحَ النواب للمناقشة المسائلَ المرتبطة بهم وبالتجارب التي واجهتهم في حياتهم، وبرهنوا باقتراحاتهم الخاصة بتخفيف الأعباء الضريبية على أنهم جديرون بالتحدث باسم الشعب وبتمثيل مصالحه المباشرة.
وطالب التاجران محمود العطار وعبد السلام المويلحي بإلغاء ضريبة «الدخولية» التي تُفرَض على البضائع في بعض المدن، وأيَّدهما خمسة من عُمد الدلتا في هذا الطلب، وأَطْلَعَ النائبان محمد راضي (بني سويف) وعبد الشهيد بطرس (جرجا) المجلسَ على ما يُعانيه الأهالي من جراء فرض «المقابلة» إجباريًّا، وطالَبَا بإيقاف جباية «المقابلة» في المناطق التي لا يرغب أهاليها في دفعها. وطالب أحمد عبد الصادق (أسوان) ومحمد سلطان (إسنا) وعبد الرحمن عرفة (الغربية) بتخفيض «عوائد النخيل»؛ لأن أعداد النخيل تناقصت نتيجة ارتفاع تلك العوائد. كما طالب بديني الشريعي (المنيا) وأحمد السرسي (المنوفية) وباخوم لطف الله بإلغاء ضريبة السدس، والزيادة التي أُضيفت إلى ضرائب الأطيان عام ۱۸۶۸م بما يُعادل سدس القيمة الضريبية، وحُدِّدت مدة هذه الزيادة بأربع سنوات، ولكنها استمرَّت تُجبَى بعد ذلك. وطالب حنا يوسف (المنيا) بإلغاء ضريبة الري وهي تُعادل ٪۱۰ من القيمة الضريبية فُرضت على المديريات الأربعة التي تقع على ترعة الإبراهيمية التي خُصِّصت مياهها — في حقيقة الأمر — لري أراضي الخديو الخاصة، كذلك طالب إبراهيم حسن أبو ليلة وعبد الشهيد بطرس (جرجا) بتخفيض ضريبة الملح. ولَفَتَ بعضُ نواب جرجا وقنا وإسنا أنظار المجلس إلى وضع أصحاب معاصر الزيوت بتلك المديريات الذين أصبحوا يعجزون عن منافسة مستوردي الزيوت بسبب ثقل عبء الضرائب الذي يقع على عاتقهم. وطالب نُواب آخرون بإلغاء عوائد السلخانة التي تُفرض على الذبائح.
وهكذا كان النواب يهتمون بالمشكلات الأساسية التي يُعاني منها أهالي مديرياتهم على نحو ما فعلوا في دورات الانعقاد السابقة؛ فقد كان المصريون يعرفون أنهم يدفعون الكثير وأن الضرائب باهظة، دون حاجة إلى لجنة تحقيق، وكان المجلس يضغط ضغطًا متواصلًا من أجل إصلاح النظام الضريبي إصلاحًا جذريًّا، وربما حاول ولسون أن يجد أرضيةً مشتركة تجمعه والنواب حول حلٍّ لتلك المشكلة، ولكن نجاحه في ذلك كان موضع شك في ضوء الظروف السائدة عندئذ.
ووقع الهجوم العام لمجلس شورى النواب على الوزارة «الأوروبية» في ٣ فبراير، ووُجِّه ذلك الهجوم ضد المرسوم الذي صدر قبل ذلك بأربعة أسابيع بضغطٍ من الوزيرين الأوروبيين رغم معارضة نوبار، والذي قضى بأن تُسند إلى لجنة التحقيق مهمة تقنين ومراجعة القوانين والأوامر الإدارية والمالية، كذلك أُسندت إلى اللجنة مهمة إعداد القوانين الجديدة في هذين المجالين ثم يتولَّى مجلس النظار بحثها، ويُصدِّق الخديو عليها وتُنشر في «الوقائع المصرية» لتُصبح قوانين نافذة المفعول.
فقام محمود العطار وعبد السلام المويلحي بصياغة احتجاج لم يُوجَّه ضد الحقيقة الماثلة في أن هناك بالإضافة إلى الوزيرَين الأوروبيَّين أوروبيين آخرين لهم حق اقتراح القوانين، بل وُجِّه ضد إغفال الحكومة لمجلس النواب (فكلمة «شورى» التي يتضمَّنها اسم المجلس لم تكن تُستخدم عندئذ، وهو أمر له مغزاه). وقد ضمَّن النواب ادعاءاتهم في رد المجلس على خطاب العرش عندما وصفوا أنفسهم بأنهم المدافعون عن حقوق الأمة المُمثِّلون لمصالحها، وها هي ذي تتخذ شكلًا مُحدَّدًا؛ إذ طالب المويلحي والعطار بألَّا يُبت في أمر يتعلَّق بالمصريين دون أن يُعرض على نُوابهم للنظر فيه. وكيف يخفى على رئيس النظار «أن للأمة المصرية نوابًا وهو يعلم دعوتهم للالتئام، وقد شهد يوم اجتماع المجلس، وحضر افتتاحه …؟» واعتبر النائبان المرسوم المُعتَرَض عليه انتهاكًا «لحقوق المجلس المقدسة»، وقد احترم الخديو تلك الحقوق فعرض معظم المسائل الهامة على المجلس منذ إنشائه، ولم يتخذ قرارات بشأنها قبل الوقوف على رأي المجلس. وهكذا تمَّت مواجهة نوبار الأوتوقراطي بإسماعيل الدستوري!
ولم تؤدِّ مظاهرة ١٨ فبراير وسقوط نوبار إلى تعطيل جلسات المجلس، فقد استمر النواب في مناقشة المسائل الضريبية، وفي ١٩ مارس — قبل تشكيل وزارة توفيق بثلاثة أيام — تقدَّم ٤٧ عضوًا بعريضة إلى المجلس، تضمَّنت الإشارة إلى أن ولسون لم يُبدِ استعداده للمثول أمام المجلس لمناقشة تلك المسائل؛ لذلك يرى النواب إرسال وجهة نظرهم إلى نظارة الداخلية.
وذكَّر هذا العملُ مجلسَ النظار بوجود مجلس شورى النواب فقرَّروا حله؛ فقد دعا المجلس لإقرار زيادة الضرائب العشورية، ولكن ولسون رفض التعاون معه، وكان من الصعب التوصُّل إلى تفسير لتلك السياسة المتخبطة المتناقضة. وكُلف رياض باشا بأن يُبلغ النواب أن فترة الثلاث السنوات المخصصة لدورة المجلس قد انقضت؛ ولذلك تقرر حل المجلس، ولكن رياضًا وُوجِه بما أثار دهشته!
إسماعيل واللائحة الوطنية، سقوط الوزارة «الأوروبية»
ولمَّا كان إسماعيل لم ينجح مطلقًا في تحقيق مقترحاته الخاصة بإعادة تشكيل الحكومة، ولمَّا كان قد استسلم — محتجًّا — لضغوط الدول الأوروبية، فقد عقد العزم على أن يطرد الوزيرين الأوروبيين وأشياعهما من الوزارة؛ ولسون ودي بلنيير ورياض وعلي مبارك؛ وذلك بمعاونة أصفيائه من الأتراك الجراكسة وأعيان البلاد. وبدأ أصفياؤه يبثون السخط على الأوضاع في نفوس الضباط والذوات والموظفين والنواب والتجار والعلماء، ذلك السخط الذي انصبَّ على أولئك الوزراء.
لقد قامت وزارة نوبار بأعمال تخريبية لا نظير لها؛ فزادت من المصروفات الإدارية؛ لأن النظارات مُنِيَت بغزو الموظفين الأوروبيين ذوي الرواتب الكبيرة الذين حلُّوا محل الموظفين الوطنيين، وكاد الجيش أن يُحَل تمامًا، وأُغلقت المدارس والمؤسسات الخيرية، وأُجبِر الفلاحون على بيع محاصيلهم مُقدَّمًا بربع قيمتها لمواجهة متطلبات الضرائب، ولم يُصغِ مجلس النُّظَّار إلى تحذيرات ناظر الجهادية (الذي كان الرجل المثالي الوحيد!)، فإذا بقيت هذه الوزارة في السلطة تعرَّضت مصر للفوضى ولكن ذلك لا يخدم سوى مصالح إنجلترا إذا كانت تلعب حقًّا بفكرة احتلال قناة السويس — على الأقل — احتلالًا مؤقتًا، ومثل تلك المحاولة ستؤدي إلى حرب دموية شديدة العنف.
فما نوع الحكومة التي يجب أن تحل محل الوزارة «الأوروبية»؟ أكَّد شريف على أن الحكم الاستبدادي يجب أن يُلغى في الحاضر والمستقبل، على أن يمارس الخديو الحكم بالاتفاق مع مجلس نُظَّار يتكوَّن من المصريين الأكْفاء الشرفاء الذين يتمتَّعون باحترام الرأي العام. ويجب أن يكون النظار مسئولين أمام الخديو بأفرادهم ومجموعهم، وقد تلجأ الدول إلى فرض وزراء أجانب على البلاد، ولكن ذلك لم يتحقَّق على المدى البعيد إلَّا بالقوة العسكرية، فهل هذا ما يرمون إليه؟!
كان شريف يتحدَّث بلسان إسماعيل في تلك المذكرة، فكان يقصد ﺑ «الرجال الشرفاء» نفسه وحفنةً من «مماليك» الخديو الآخرين. ولم يُشِر إلى مجلس شورى النواب حتى مجرد إشارة فيما يتعلَّق بالنظام السياسي الجديد، وهو يرى أن يكون الوزراء مسئولين أمام الخديو وليس أمام المجلس! وعلى كلٍّ، لا يعني ذلك أن إسماعيل قد أغفل الاستعانة بالمجلس في إسقاط الوزارة.
وعندما أراد رياض أن يُرسل النواب إلى بلادهم — في ٢٧ مارس — بعبارات شكر رقيقة على ما قاموا به من عمل، قام النواب: عبد السلام المويلحي، ومحمد راضي، وبديني الشريعي، وباخوم لطف الله، بتوجيه النقد الشديد إليه بدلًا من العبارات المهذبة المعتادة في مثل تلك المناسبات. فاعتبر النواب عبارات الشكر غير ذات موضوع؛ فقد دُعِيَ المجلس لمناقشة المسائل المالية الراهنة، ولكن انقضت ثلاثة أشهر دون أن تحظى رغبات النواب وطلباتهم بأي الْتفات؛ ولذلك طالب المجلس بمَدِّ دور الانعقاد لمدة شهرين لمناقشة المسائل المالية، وتحدَّث عبد السلام المويلحي عن مسئولية مجلس النظار والتزامه بألَّا يُبرِم أمرًا دون الرجوع إلى المجلس. ورفض رياض الاعتراف بتلك المطالب التي لا تتفق مع أيٍّ من مواد القانون الأساسي للمجلس. وعلى أيَّة حال، فسَّر عبد السلام المويلحي القانون بصورة مختلفة، فرأى أن مراقبة عمل الحكومة تدخل في نطاق اختصاصات المجلس لوضع الحلول وتقديم القرارات إلى الخديو. وأُرسلت نسخة من مضبطة هذه الجلسة إلى القصر، وأخرى إلى مجلس النُّظَّار.
وفي نفس اليوم، قدَّم ولسون إلى الخديو مشروع قرار بإرجاء كوبون أول أبريل إلى أول مايو لأن صندوق الدين العام لا يملك المبلغ الكافي لسداد ذلك الكوبون، ولكن إسماعيل ردَّ ساخطًا بأن ذلك إعلان مُقنَّع بإفلاس مصر، وإذا بإسماعيل الذي كان يتحمَّس كثيرًا لفكرة إعلان إفلاس الدولة من أجل حل مشكلة الديون حلًّا نهائيًّا يتبنى الآن وجهة نظر الدائنين القائلة بأن مصر تستطيع الوفاء بالتزاماتها إذا توفر لديها الاستعداد لذلك؛ ومن ثم كان عليه أن يكسب تلك المجموعة القوية إلى صفه إذا شاء طرد الوزيرين الأوروبيين، وكان الدائنون الفرنسيون قد قدَّموا عريضةً إلى مجلس شورى النواب في ٢٧ يناير يشكون فيها من أن الحكومة المصرية حالت دون تنفيذ حكم للمحاكم المختلطة صدر ضدها. وعندما شاع أن ولسون قدَّم للخديو ولجنة التحقيق في ١٨ مارس مشروعًا لحل المشكلات المالية يتضمَّن إعلان إفلاس الحكومة المصرية، بينما كان الخديو — في نفس الوقت — يعد بإرضاء الدائنين إرضاءً تامًّا، فَقَدَ الوزيران الأوروبيان تأييد الجاليات الأوروبية ذاتها.
وتلقَّى الخديو عريضةً من مجلس النواب بعد يومين من تلك الجلسة الشهيرة، وسَوْرَة غضب إسماعيل في ٢٩ مارس. فعلى خلاف الحقيقة التاريخية، زعم المجلس أنه كان يهتم منذ سنة ١٨٦٦م بكل المسائل التي تتعلَّق بالبلاد، وأن الموازنة كانت تُقدَّم له في كل عام، وأن قراراته كانت تحظى دائمًا بتصديق الخديو، وأن «بعض الوزراء» في الوزارة الحالية قاموا — على عكس ذلك — بالتعدي على حقوق المجلس، وتجاهلوا آراء النواب، وأنهم يحتجون على مشروعات ولسون، ويُعارضون رغبته في إعلان إفلاس مصر وإلغاء المقابلة. وكان ما جاء بالعريضة من أن الحقوق المترتبة على دفع المقابلة سوف تضيع بهذه الطريقة، هو الإقرار الوحيد الصحيح جزئيًّا في تلك العريضة.
ولا يعني التأكيد على دور الخديو أنه قد مارس ضغطًا شديدًا على الأعيان؛ فاللائحة تُعبِّر عن مصالحهم، وكبار المُلَّاك من بينهم يستطيعون تأييد مثل هذه المقترحات بسهولة لأن ولسون كان ينوي زيادة الضرائب على الأطيان العشورية، ولأنهم خشوا أن يفقدوا المزايا الأساسية للمقابلة. وكان توقيع العلماء على اللائحة يعني احتجاجهم ضد نفوذ الكفار في مصر الذي يُعرِّض الإسلام لخطر كدين وكأسلوب للحياة. وكان الموظفون يخشَون على مراكزهم لأن الوزارة جلبت الكثير من الأوروبيين إلى البلاد، وحتى رياض لم يستطع أن يمنع بعض موظفي نظارته من التوقيع على اللائحة. وبالنسبة للضباط كان التوقيع عليها واجبًا يستلزم الوقوف في وجه أعداء الجيش. ووافق الخديو على توسيع حقوق مجلس شورى النواب كمؤسسة دستورية ليضمن تأييدًا ثابتًا مخلصًا من جميع أعضائه.
وبعد ذلك تحدَّث الرئيس المرتقب لمجلس النُّظار فأرجع سخط البلاد إلى الخطة المالية التي وضعها ولسون وخاصةً ما يتعلَّق منها بإلغاء المقابلة وإعلان إفلاس مصر الذي يمس بكرامة البلاد، كما أن الأمة رأت أن الطريقة التي عومل بها مجلس النواب كانت إهانةً لنوابها لأنهم دُعُوا إلى الانفضاض دون أن يُؤخذ رأيهم في شئون البلاد.
وعندما سأل القنصل النمساوي عمَّا إذا كان الموقِّعون على الخطة على استعداد لضمان تنفيذها بأملاكهم الخاصة، أجاب الخديو بأنه ليس ثمة ما يدعو إلى ذلك؛ فإن الأمر لا يحتاج إلى ضمان يُعتد به أكثر من تصميم الأمة كلها — من أكبر رأس فيها إلى أقل أفرادها شأنًا — على تقديم كل التضحيات اللازمة لتفادي إعلان الإفلاس الوطني.
-
(١)
نسخة من العريضة المرفوعة من مجلس شورى النواب إلى الخديو بتاريخ ٢٩ مارس.
-
(٢)
عريضة من أعيان البلاد يُطالبون فيها بإصلاح النظام السياسي.
-
(٣)
إعلان رسمي صادر من الخديو في ٥ أبريل.
-
(٤)
الخطة المالية المضادة نفسها.
وبيَّن الأعيان في عريضتهم أنهم فحصوا خطة ولسون المالية (ولم يكن باستطاعتهم الحصول على نسخة منها إلَّا عن طريق الخديو)، وأنهم خرجوا من ذلك باستنتاج أن تلك الخطة تُضر بمصالح مصر وتُسيء إلى كرامتها؛ ولذلك أعدوا خطةً مالية مقابلة تقوم على حقيقة أن مصر في وضع يسمح لها بالوفاء بكل التزاماتها المالية.
ورأوا أن الشرط الهام الذي يجب توفُّره لنجاح هذه الخطة هو أن ينال مجلس شورى النواب نفس الحقوق والصلاحيات في تقرير السياسة المالية والداخلية التي تتمتَّع بها البرلمانات الأوروبية؛ ولذلك يجب أن يصدر قانون انتخابي جديد يُنسَج على منوال القوانين الأوروبية ويتولَّى الخديو تعيين رئيس النظار، كما يجب أن يُوافق على الوزراء (الذين يختارهم رئيس النُّظار)، ولكن يجب أن يكون مجلس النظار مسئولًا أمام مجلس النواب فيما يتعلَّق بالمسائل المتصلة بالسياسة الداخلية والمالية.
وفي إعلانه الصادر في ١٥ أبريل، رفض الخديو رفضًا قاطعًا الاعتراف بإفلاس مصر وقدَّم تأكيدات رسميةً بأنه «لا ينوي العودة إلى نظام الحكم الفردي»، ولكنَّه لم يذكر شيئًا حول إمكانية توسيع حقوق مجلس النواب فيما يتصل بالمسائل المالية والسياسة الداخلية، غير أنه قبل أن يحكم «بواسطة ومن خلال مجلس للنظار مسئول مسئوليةً حقيقية أمام مجلس النواب».
وأكَّد القسم المالي من اللائحة على الإجحاف الشديد الناتج عن إلغاء المقابلة والاقتراحات الخاصة بتعويض من دفعوا المقابلة التي اعتُبِرَت غير كافية تمامًا. وناقش الفكرة القائلة بأن الحكومة قد تستفيد من إلغاء المقابلة بعد عام ١٨٨٦م فقط، بينما استمرار العمل بالمقابلة يؤدي إلى تسديد جانب من ديون الحكومة بالأموال التي تأتي من المقابلة حتى ذلك التاريخ. كذلك تضمَّنت اللائحة تخفيض سعر الفائدة على الدين الموحَّد إلى ٥٪. وبهذا الإجراء — الذي اتخذه الخديو من جانب واحد — بدأ النشاط الدبلوماسي للحكومات الأوروبية الذي أدى إلى عزل إسماعيل.
ولم يشتمل الجانب المالي من اللائحة على مقترحات خاصة بإصلاح النظام الضريبي الذي كان بارزًا في خطة ولسون وموضع مناقشات دارت في مجلس النواب. ولم تُعِر اللائحة اهتمامًا لمطالب النواب الخاصة بإلغاء بعض الضرائب الخاصة والعوائد الصغيرة. وعلى عكس ما طالبت به اللائحة، كان مجلس النواب قد أقرَّ من قبلُ إيقافَ العمل بالمقابلة استجابةً لرغبات ممولي الضرائب. فإذا كان ثمة شكًّا، فإن تلك الحقائق تؤكِّد أن الخطة المالية المضادة لم تكن من وضع مجلس النواب، على نحو ما يذكر الرافعي ويُحاول أن يُقنع الناس به. أضِف إلى ذلك أن اللائحة — مقارنةً بخطة ولسون — لم تتضمَّن تحديد مخصَّصات مالية للخديو وعائلته أو تحقيق المساواة في الأعباء الضريبية بين الأطيان العشورية والأطيان الخراجية، فلم تتضمَّن الخطة المالية للأعيان ما يمس المصالح المادية للخديو والطبقة الممتازة.
وبينما كان «المماليك» يحتلون مناصبهم الوزارية، قام تجار وعلماء القاهرة — الذين لعبوا الدور الرئيسي في تغيير الوزارة — بالاحتفال بما حققوا من نجاح بطريقتهم الخاصة؛ ففي ۸ أبريل تجمعوا في بيت الشيخ البكري ثم توجَّهوا إلى قصر عابدين، حيث قابل الخديويَّ كلٌّ من التجار والعلماء على حدة. وقدَّم الشيخ البكري والشيخ الخلفاوي الشكر للخديو، وامتدحاه لما قدَّمه من أجل «الوطن والحرية»، وأقام الشيخ البكري وليمةً في بيته — في ٩ أبريل — دعا إليها الأعيان والتجار وبطريرك الأقباط، ومنح الخديو نقيب الأشراف شرف الجلوس على مائدته لمدة خمس وعشرين دقيقةً مكافأة له على خدماته المخلصة! وقام التجار: إبراهيم المويلحي ومحمود العطار ومحمد السيوفي بتزيين منازلهم ابتهاجًا بالمناسبة، تمامًا كما يفعلون بمناسبة الاحتفال بمولد الأولياء. وكُوفئ إبراهيم المويلحي على الدور الذي لعبه بتعيينه رئيسًا لأحد أقسام نظارة المالية التي أُسندت إلى راغب باشا.
عزل إسماعيل
أصبح واضحًا لإسماعيل أن أعماله تحتاج إلى تدعيم، وأن بقاءه على العرش — وربما بقاء استقلال مصر النسبي — بات في كف القدر. وكان الوزيران الأوروبيان قد أوصيَا قبل طردهما من الوزارة بخلع إسماعيل كسبيل وحيد لتفادي وقوع أزمة جديدة، غير أن إسماعيل عقد العزم على الدفاع عن سلطته التي عادت إليه بكل الوسائل السياسية والدبلوماسية والعسكرية المتاحة له، وكان عليه أن يُرضي الدائنين ويستميل الدول الأوروبية ويكسب السلطان إلى جانبه، وفي نفس الوقت يحتفظ بتأييد الأعيان له.
وعندما قدَّم أعضاء لجنة التحقيق وغيرهم من كبار الموظفين الأوروبيين استقالاتهم (فيما عدا وكلاء صندوق الدين العام)، حاول إسماعيل أن يُقنع الدول أنه لم يرغب في الإطاحة بالرقابة المالية الأوروبية، ولكنَّه — على العكس — رغب في «إحكام الرقابة على الإدارة المالية» على أساس المرسوم الصادر في ١٨ نوفمبر ١٨٧٦م، على نحو ما جاء باللائحة الوطنية؛ ولذلك طلب شريف من كلٍّ من الحكومتين الإنجليزية والفرنسية تعيين مراقب عام من قِبَلها.
وعلى كلٍّ، أمر إسماعيل — في ٢٢ أبريل — بوضع الخطة المالية الوطنية موضع التنفيذ بغضِّ النظر عن خطة ولسون التي عدَّلتها لجنة التحقيق، وحتى يُطَمْئن الدول على مصالحها أصدر في اليوم التالي مرسومًا بإنشاء مجلس للدولة على نمط مجلس الدولة الفرنسي، على أن يتولَّى رئاسته رئيس مجلس النظار، وإلى جانبه نائبان أوروبيان وثمانية مستشارين وأربعة من موظفي التحقيقات (أوروبيان ومصريان)، وسكرتير عام، ويتولَّى المجلس إعداد القوانين، وتقديم المشورة القانونية، ويُمارس قدرًا محدودًا من السلطة القضائية الإدارية، ووافق شريف على تعيين إنجليزي وفرنسي كنائبَين للرئيس.
وفي خطاب مُوجَّه إلى القنصل البريطاني في ٤ مايو، ذكر إسماعيل أن تغيير مجلس النظار (ولم يكن يريد أن يعطي أهميةً كبرى للتغييرات الأخرى) تمَّ بضغطٍ من الرأي العام. وأنه لا يحمل أي ضغينة للحكومة البريطانية، وقام الشيخ البكري وشريف باشا بشرح أسباب التغيير للقنصل.
فزار البكري فيفيان في نفس اليوم (٤ مايو) وتقمَّص شخصية الروح الموجِّهة للأحداث الأخيرة. وقصَّ على القنصل البريطاني قصةً خلَّابة أخذها فيفيان — على ما يبدو — على عِلَّاتها، فذكر أن الآلاف من أبناء الشعب طلبوا منه أن يُنظِّم المقاومة ضد تسليم مصر للأوروبيين، وأن الخديو لم يجد مفرًّا من الخضوع لنُواب الشعب الذين جعلوه يُقسم على القرآن بأن يحكم من الآن فصاعدًا حكمًا دستوريًّا، وهدَّدوه بخلعه من منصبه إذا حنث بقَسَمه.
وفي ٧ مايو، أعدَّ شريف باشا مذكرةً مطوَّلة مفصَّلة لفيفان حول الأخطاء التي ارتكبتها الوزارة «الأوروبية»، وذكر فيها أن وزارة نوبار تجاهلت الخديو وأغفلت مرسوم ٢٨ أغسطس ١٨٧٨م، وأهملت تحذيرات الخديو وناظر الجهادية من احتمال وقوع تمرد بالجيش (وفي نهاية الأمر قرَّر الضباط أن يستخلصوا حقوقهم بأيديهم)، وتجاهلت الوزارة المجاعة التي وقعت بالصعيد، واستخدمت عددًا كبيرًا من الموظَّفين الأوروبيين برواتب ضخمة، وقامت بجباية نصف الضرائب مُقدَّمًا في ١٨٧٩م دون مراعاة الحالة الاقتصادية المتدهورة للأهالي، كما فرضت الضرائب على زراعة الدخان، أضف إلى ذلك أن مجلس شورى النواب قد عُومِل بالاحتقار من جانب ولسون ودي بلنيير (رغم أن الحكومة هي التي رأت دعوة المجلس إلى الانعقاد)، وأدخلت حق الفيتو للوزيرين الأوروبيين، وبذلك ظلَّ النُّظار الذين تنصَّلوا من مسئولياتهم في ١٨ فبراير يعملون تحت الضغط الأوروبي، وأبدى أولئك النظار عداءً متزايدًا للخديو، كما أقدمت الوزارة على حل مجلس شورى النواب في الوقت الذي كانت فيه خطة ولسون موضع المناقشة، وأخيرًا، عقدت الوزارة العزم على إعلان إفلاس مصر وإلغاء المقابلة … كل ذلك جعل تغيير الوزارة أمرًا ضروريًّا. فلم يكن هناك من يرغب في التخلُّص من الأوروبيين، ولكن معاونتهم كانت مطلوبة — بالشروط المصرية — لتنظيم الأمور المالية، بقدر أكبر من المراعاة لمصالح الأمة (أو مصالح الطبقة الممتازة منها!).
وفي ظل تلك الأوضاع بذل إسماعيل محاولةً يائسة للوصول إلى اتفاق مع الدول، فأبدى استعداده للقَبول بأي شيء فيما عدا عودة الوزيرَين الأوروبيَّين إلى الوزارة المصرية. وفي النصف الأول من يونيو تتابعت الاحتجاجات الرسمية على مرسوم أبريل من جانب فرنسا وبريطانيا وروسيا وإيطاليا، واقترحت الحكومة المصرية أن تُعيد تقديم مشروع المرسوم إلى الدول للموافقة عليه أولًا قبل إصداره، ولكن الحكومات الأوروبية كانت قد اتخذت قرارًا آخر.
وفي ١٩ يونيو، تقدَّمت الحكومتان البريطانية والفرنسية بطلب رسمي — من خلال ممثليها — يدعو الخديو للتنازل عن العرش ومغادرة البلاد، ووعدت الدولتان بضمان مخصَّصات كافية له وتولية توفيق خلفًا له إذا استجاب للطلب، أما إذا اضطُرت الدول إلى الاستعانة بالسلطان لخلعه، فلا تضمن الدولتان له شيئًا. وما لبث قناصل ألمانيا والنمسا وإيطاليا أن تقدَّموا للخديو بنصائح مماثلة، ولكنَّ إسماعيل رفض أن يتخذ موقفًا لأنه كان قد عرض الأمر على السلطان بنفسه، وكان في انتظار الرد. وبذلك أصبح مصيره الآن بيد الباب العالي.
وفي نفس الوقت، حاول إسماعيل أن يسترضي الدائنين وأن يضمن تأييد الجيش له؛ ليقنع العالم كله — وقبل كل شيء، السلطان — أنه يتمتع بشعبية تامة في البلاد، وأرسل شاهين وعمر لطفي إلى الأقاليم عقب تشكيل وزارة شريف ليجمعَا الأموال اللازمة لسداد كوبون مايو، ويذكر عرابي أن الحكومة قد حصلت على خمسمائة ألف جنيه من بعض المصارف المحلية مقابل رهن سبعمائة ألف أردب من الغلال التي أنتجتها أقاليم مصر الوسطى والصعيد. وبذلك تكرَّرت صفقة العام السابق. كذلك حاولت لجنة خاصة بالقاهرة الحصول على الأموال النقدية من خلال بيع بعض ممتلكات الحكومة بصفة أساسية.
وكان على الشيخ البكري أن يضمن التزام العلماء والتجار بيمين الولاء للخديو، وكما فعل شاهين باشا، نظَّم الشيخ البكري حملة جمع التوقيعات على عرائض تُطالب الخديو بالبقاء في منصبه، وقَّع عليها — أيضًا — ضُباط حاميات القاهرة والإسكندرية، وقد ذكرت صحيفة الفارد ألكسندري — لسان حال إسماعيل — في ٢٦ يونيو أن أكثر من عشرين ألف توقيع قد جُمِعَت على عريضة رُفِعَت إلى الباب العالي، وتلقَّى عبد السلام المويلحي أمرًا بحشد مجلس شورى النواب لتأييد الخديو.
وكان إسماعيل قد حاول منذ أبريل أن يضمن ولاء ضباط الجيش، ورغم ذلك ذهب أحد ضباط المدفعية إلى رافابيال بورج — متنكرًا — في ٢٤ يونيو، وأبلغه أن الضباط لن يعارضوا خلع إسماعيل على يد السلطان وتعيين توفيق خلفًا له، ولكن الجيش المصري سوف يؤيد الخديو في مواجهة أي جيش أوروبي. وبذلك انقسم الموقِّعون على اللائحة الوطنيون إلى معسكرين: فكان هناك فريق أيَّد إسماعيل دون قيد أو شرط، وفريق آخر أيَّد توفيق. وكان هناك مَن يؤيِّدون حليم بالآستانة وباريس، أما في القاهرة فلم يُؤيِّده أحد بشكل علني — على الأقل — فيما عدا بعض الماسونيين.
تُرى، ما القرار الذي قد يتخذه السلطان؟ لقد كتب إبراهام ممثل الخديو بالآستانة — وصهر نوبار — في ۱۳ أبريل يقول إن الدول الأوروبية لم تتقدَّم إلى الباب العالي بطلب رسمي — حتى ذلك الحين — لخلع الخديو، ولكنَّه أشار إلى ما يُثير القلق، عندما ذكر أن حليم باشا يتردَّد على قصر السلطان يوميًّا ويمكث بحضرة السلطان ساعات طوال.
وفي أول مايو، أرسل إسماعيل مذكرةً إلى إبراهام لتقديمها إلى الصدر الأعظم، اتهم فيها الوزراء المبعَدين — ضمن تهم أخرى — باتخاذ مواقف معادية للأتراك، وقد هنَّأ الصدر الأعظم (خير الدين التونسي) الخديو — في رَدِّه — بنجاحه في إنهاء الاحتلال المقنَّع لمصر، وطمأنه على تأييد حكومة السلطان له.
عندئذٍ أراد الخديو أن يُعبِّر عن ولائه للدولة، فأمر إبراهام أن يطلب مقابلة السلطان وأن يُبلغه أن نوبار أراد أن يُعمِّم ما يُسمَّى بالمسئولية الوزارية في الدولة كلها! ولكن إسماعيل كان مُخطئًا في الاعتقاد بأن ولاءه الكاذب قد يُنقذه؛ لأن السلطان كان قد قرَّر خلعه بالفعل، ووجد في حليم مرشحًا أكثر ولاءً من إسماعيل، كما كان خير الدين يُناصر حليمًا، وكانت المشكلة تكمن في كيفية فرضه على الدول التي كانت تُرشِّح توفيقًا الذي قد يكون أسلس قيادًا — بالنسبة لهم — من إسماعيل أو حليم.
وحتى ساعة متأخرة من ليلة ٢٤ يونيو، كان يبدو أن الدول لن تستطيع فرض إرادتها إلَّا بالقوة؛ فقد تلقَّى تريكو — القنصل الفرنسي — برقيةً من الآستانة مفادها أن السلطان سوف يعزل إسماعيل عند ظُهر اليوم التالي ويُعيِّن حليمًا بدلًا منه، دبَّر القنصل أمر إبلاغ نص البرقية إلى إسماعيل، فجاءه الرد بعد منتصف الليل على يد السكرتير الخاص للخديو بأن الأخير يُفضِّل انتظار وصول حليم. وقيل إن الخديو أصدر أمرًا خلال تلك الساعات بزيادة عدد الجيش إلى ١٥٠ ألف رجل. وحتى الساعة الثالثة صباحًا، حاول القناصل الإنجليزي والفرنسي والألماني — بالتعاون مع شريف باشا — إقناع إسماعيل بالتنازل عن العرش لولده، ولكنَّه ظلَّ صامدًا.
وكان طبيعيًّا أن يستسلم السلطان لضغوط الدول في ٢٦ يونيو، فتلقَّى كلٌّ من إسماعيل وتوفيق برقيةً من الصدر الأعظم تُفيد خلع الخديو وتولية ولي العهد، وأخذ شريف وراغب يُعدان الترتيبات اللازمة على الفور. وبعد الظهر كان الأعيان يُقسمون يمين الولاء بالقلعة للخديو الجديد الذي لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره. وفي ٣٠ يونيو، أبحر إسماعيل إلى منفاه بنابولي على ظهر يخته «المحروسة»، وبذلك تبع إسماعيل رياضًا ونوبار اللذين نُفِيَا من مصر قبل ذلك بوقت قصير، وكانا يخشيان على حياتهما — بعد ١٨ فبراير — ولم يشعرَا أنهما بمأمن من انتقام الخديو إلَّا بعد أن أظلَّتهما الدول بحمايتها؛ فقد حذَّر القناصل: الإنجليزي والفرنسي والألماني إسماعيل من إلحاق الأذى بهما، ولكن عندما استعاد إسماعيل سلطته، لم تعد حماية القناصل تكفي لتأمينهما، وازداد شعورهما بالقلق، حتى قبلا نصيحة إسماعيل لهما بمغادرة البلاد، فغادرها رياض في ٢٩ أبريل، ونوبار في ٢٠ مايو.
(٥) حرمان الذوات من نفوذهم السياسي والاقتصادي
تشكيل وزارة جديدة متعاونة مع الدول
كانت الإطاحة بإسماعيل تُشكِّل — بالنسبة للدول — الخطوة الأولى على طريق إعادة تحكمهم في البلاد. ولمَّا كانت الوزارة «الوطنية» لا تزال في الحكم، فقد سألت الدول الخديو الجديد — في أول يوليو — عمَّا ينوي عمله بصدد تغيير الوزارة، فأجاب توفيق بسذاجة بما يُفيد رضاه عن النُّظار لأنهم من خيرة رجال مصر. فلو كان الأمر على هذا النحو، لاقتضى دعوة رجال الإدارة الأوروبيين — ببساطة — لوضع حد للأحداث التي وقعت في الربيع.
وفهم توفيق مغزى السؤال، فقدَّم شريف استقالته في اليوم التالي، ولكن الخديو كلَّفه على الفور بتشكيل وزارة جديدة، واستهل خطاب التكليف الصادر في ۳ يوليو بقوله: «لا أزيدك بحقيقة الحال علمًا … فالمقام صعب»، ورسم في الخطاب الخطوط العريضة للسياسة المصرية في المستقبل على النحو التالي:
وكان أولئك النُّظَّار الجدد من أصدقاء شريف الذي كان يوليهم ثقته التامة، رغم أن توفيقًا كان يثق بهم بدرجة أقل، ولم يثق القناصل بهم قيد أنملة، ولكنَّهم لم يستطيعوا أن يأخذوا عليهم شيئًا لأنهم كانوا في معظمهم من الرجال غير المعروفين. ونظرًا لأنهم لم يبرهنوا على قدرتهم على التعاون مع الدول من قبل، فقد اعتُبِروا «غير أكْفاء» شأنهم في ذلك شأن من تقلَّدوا الحكم في مارس وأبريل. وكان القناصل لا يرون بين الساسة المصريين من يفوق نوبار ورياضًا كفاءة، غير أنهما كانا في أوروبا؛ ومن ثَم يجب استدعاؤهما إن عاجلًا أو آجلًا، ولا يمكن اعتبار الوزارة الجديدة إلَّا وزارةً انتقالية. وانسحب هذا أيضًا على شريف نفسه، وخاصةً أن وجهات نظر شريف وتوفيق لم تكن متطابقة، ومن ثم كان تغيير رئاسة الوزارة ضروريًّا إذا كان لا بد من «بداية جديدة» إذا قُدِّر لسياسة نوبار أن تستمر.
وقرَّر الخديو أن يتفادى الاصطدام بالدول؛ فقد كان يعتقد أن حكمه لن يحظى بالاستقرار إذا وقف في وجه أوروبا، لذلك ملك زمام المبادرة، وأعلن رضاه بأي لجنة تحقيق أو تصفية ترى الدول تشكيلها، كما أعلن موافقته على عودة الرقابة المالية، على ألَّا ينال الوزيران الأوروبيان أي منصب كبير حتى لا يؤدي ذلك إلى تحطيم مكانته في البلاد. ولم يُبْقِ توفيق هذا الموقف سرًّا، فأعلن أمام الأعيان بمدينة طنطا في ٣١ يوليو أنه يجب الحصول على ثقة الدول الأوروبية قبل كل شيء.
وحاول شريف أن يُقوي مركزه باعتباره مُمثِّلًا ﻟ «الائتلاف الوطني» وأن يجمع حوله المُوقِّعين على اللائحة الوطنية بتنفيذ الوعود الدستورية التي قطعها إسماعيل من قبل، وبذلك يتألَّق إلى جانب الخديو العديم الخبرة ويُمتَدح كزعيم وطني وسياسي ليبرالي. ولم يكن الدستور في نظر هذا التابع المخلص لإسماعيل يعني أكثر مما كان يعنيه عند سيده، مجرد سمة من سمات التمدن.
ففي ٦ يوليو فضَّ شريف مجلس النواب، بعدما كان قد قدَّم للمجلس — في ١٧ مايو — مشروع لائحة دستورية جديدة، كما قدَّم في ٢ يونيو مشروع قانون انتخاب جديد كان منذئذٍ موضع دراسة لجنة نيابية تضم خمسة عشر عضوًا. وقد أبلغ النواب الآن أن مناقشاتهم كانت بطيئةً للغاية، ولم يُكرِّر النواب احتجاج ٢٧ مارس فانفض المجلس دون أي احتجاج ودون أن يُصوِّت على اللائحة الدستورية وقانون الانتخاب. وقبل انفضاض المجلس بيوم واحد، نشرت الوقائع المصرية مرسومًا صادرًا من الخديو إلى مجلس النظار أعلن فيه توفيق أن حقوق الشورى والمسئولية الوزارية هي أساس سياسته، وأعرب عن اعتزامه توسيع حقوق مجلس شورى النواب. لقد كانت أحداث القاهرة في تلك الأيام عسيرة الفهم على أي إنسان.
فبمجرد تدعيم فرمان التولية لمركز توفيق، صمَّم الأخير على ألَّا يدع زمام الأمور يفلت من يده، ولعله كان يأمل في أن يُعيد للخديوية مجدها السابق بتسوية الأمور مع الدول وتركيز السلطة التنفيذية في يد البلاط. وعلى أيَّة حال، وجَّه توفيق ضربةً قاضية إلى التطلعات الدستورية لشريف؛ فلا نعرف شيئًا عن مشروع الدستور الذي قدَّمه شريف إلى الخديو (ولعله كان مطابقًا لذلك الذي قدَّمه إلى مجلس شورى النواب في مايو)، وفضلًا عن ازدراء توفيق للمشروع ووصفه له بأنه «ديكور مسرحي»، فإنَّه لم يُرِد أن يختفي وراء مؤسسات غير حقيقية أو زائفة.
ورغم أن المرء لا يملك تخمين الأسباب الحقيقية لاستقالة شريف الذي كان في نظر الرأي العام ضحية استبداد الحاكم وضغوط الدول، فإنَّه استطاع أن يُقيم الدليل مستقبَلًا على أنه رجل دولة ليبرالي وطني، واعتزل إلى حين في ضَيْعَته.
وكان تصرف الخديو على هذا النحو واستقالة شريف موضع ترحيب الدول، ولكنَّهم لم ينظروا بعين الارتياح إلى ما يُمثِّله ذلك من نُذُر تحوُّل توفيق إلى صورة مُصغَّرة من إسماعيل. ورأت الدول وجوب إقامة مجلس نُظَّار «مستقل»؛ فقد وصل رياض باشا إلى مصر في ٣ سبتمبر وهو على استعداد للتعاون مع الدول، وكان في حكم المُقرَّر — أصلًا — أن يتولى رياض نظارة الداخلية، غير أن الخديو كانت لديه بعض أسباب الشكوى من طموح رياض المتزايد عندما كان لا يزال بأوروبا؛ فقد ذكر توفيق للقنصل البريطاني أنه سمع أن رياضًا يرغب في العودة «ليتولَّى حكم البلاد»، فإذا لم يعدل عن موقفه فلن يُسنَد إليه منصب على الإطلاق.
وأخيرًا، وصل عمل نوبار بعد نصف عام من الانقطاع «المزعج» وكانت النقاط الثلاث الرئيسية في برنامج وزارة رياض تتمثَّل في التغلُّب على الصعوبات المالية، وتطوير التعليم العام، وإصلاح المحاكم الأهلية، وكانت النقطة الثانية جديدةً مقارنةً ببرنامج نوبار في السنة السابقة.
(٦) إسكات معارضة المثقفين
جمال الدين الأفغاني
وبعودة المراقبة والتعاون مع الدول، انتهى كل ما تحقَّق في الربيع أواخر أيام حكم إسماعيل. وقد استفادت الطبقة صاحبة الامتيازات — من الضباط والمثقفين وغيرهم — من إسباغ الخديو حمايته على المقاومة الموجهة ضد الوزارة «الأوروبية» ومن تأييده الحيوي لها. غير أن التحالف مع إسماعيل لم يُؤدِّ — دائمًا — إلى إيجاد نوع من التقدير والحب للحاكم؛ ففي ذلك الوقت كان الضباط والمثقفون يُفكِّرون في التخلُّص من الطغيان؛ ولذلك لم يقترن خلع إسماعيل بشعور الأمة بالأسى، بل على العكس لقي تنصيب توفيق مكانه ترحيب جميع الفئات الاجتماعية، ورغم أن التوقعات التي نجمت عن تغيير الحاكم تباينت تبايُنًا كبيرًا. وكان الخديو الجديد — بشكل عام — مُصلِحًا ليبراليًّا مُخلصًا، ولكن حتى لو صح ذلك، فإن توقُّع الكثير منه كان يعني زيادة تقدير قدراته على العمل في مواجهة التدخل الأوروبي. وبتشكيل وزارة رياض تناقصت الإصلاحات الدستورية وتقرير المصير الوطني إلى أدنى حدود الإمكانية. وأصبح النضال موجَّهًا الآن ضد رياض بصفة رئيسية دون الارتكان إلى الخديو ودون أن يتجه النضال — بالضرورة — ضده، فمن يكون توفيق هذا حتى يولوه اهتمامهم؟
وفور استقالة شريف باشا التي اقترن بها انتشار الشعور بخيبة الأمل في الخديو، نُظِّمَت حملة صحفية ضد التطورات الجديدة. وردَّ توفيق على ذلك بفرض حظر على الصحف وطرد الرجل الذي كان بمثابة اليد المُحرِّكة للصحفيين الذين شنوا تلك الحملة، ونعني به جمال الدين (الأفغاني).
وليس هنا مجال الحديث عن مواهب جمال الدين وأفكاره الفلسفية والسياسية (وكان في الحقيقة فارسيًّا شيعيًّا)، ولكنَّنا نستطيع أن نُقدِّم — فقط — بعض الإشارات إلى دوره في مصر في السنوات ١٨٧١–١٨٧٩م الذي لم يُسجَّل تسجيلًا دقيقًا بعدُ حتى في أكثر السير التي كُتبت عنه – التزامًا بالنقد — ويرجع السبب في ذلك إلى أن جمال الدين وضع «الخطوط العريضة» لذلك الدور قبل القبض عليه وترحيله من مصر (٢٤ أغسطس ١٨٧٩م) بوقت قصير من ناحية، كما يرجع إلى إبعاده عن مصر من ناحية أخرى، كما أن ما سُجل من أفكاره السياسية والفلسفية خلال تلك السنوات قليل؛ فتحليل تلك الأفكار يستند إلى ما كتبه جمال الدين بعد مغادرته مصر.
وكان جمال الدين قد أقام بمصر عام ١٨٦٩م إقامةً قصيرة، وعندما اضطُر إلى مغادرة الآستانة عام ١٨٧١م بسبب بعض الآراء التي اعتُبِرَت ضربًا من ضروب الهرطقة وأثارت موجةً من الغضب ضده، عاد إلى مصر مرةً أخرى. فطلب منه رياض باشا أن يبث أفكاره الإصلاحية في القاهرة، كما أمر الخديو إسماعيل بتخصيص راتب شهري له قدره ألف قرش، وحتى بعد طرده من مصر ووقوع البلاد تحت الاحتلال البريطاني، ظلَّ جمال الدين يعتبر رياض باشا سندًا له يستطيع اللجوء إليه طلبًا للعون.
وفي عام ١٨٧١م، عندما قام إسماعيل بتعيين جمال الدين شيخًا بالأزهر لم يكن من الصعب إقناعه بإضفاء حمايته على هذا الفيلسوف الناقد. ولكن العلماء المتزمتين — وخاصةً الشيخ عليش والشيخ البحراوي والشيخ الرفاعي — ثاروا ضد البدع التي يُروِّج لها جمال الدين، وقيل إن الحجارة كانت تُلقى من النوافذ عليه وعلى تلاميذه المخلصين: ومن بينهم الشيخ محمد عبده، وعبد الكريم سليمان، وإبراهيم اللقاني، وسعد زغلول، وإبراهيم الهلباوي، أثناء اجتماعه بهم في منزله.
وحتى ذلك الحين كانت الماسونية في مصر موضع اهتمام الأوروبيين وبعض الشوام وقليل من الأفراد المتأثرين بالثقافة الأوروبية ممن ينتمون إلى الطبقة الحاكمة، فكانت اللغات الأوروبية هي أداة الحديث داخل المحافل الماسونية، وعندما حاول الأمير حليم باشا استخدام المحافل الماسونية لتدعيم أطماعه السياسية في السلطة، عمل الماسونيون — مؤقتًا — ضد إسماعيل، ولكنَّه ما لبث أن أضفى حمايته على المحافل الماسونية بعدما أكَّدت له عدم ميلها إلى التدخل في سياسة البلاد. وقدَّم هذا التأكيد للحكومة المصرية، الإيطالي زولا المعلم الأعظم «لمحفل الشرق الأعظم الوطني المصري» في ٢٩ أبريل ١٨٧٣م باعتباره الممثل الرسمي للحركة الماسونية في مصر.
وأراد جمال الدين أن يستخدم المحافل الماسونية لتحقيق أهدافه الخاصة؛ فبعد تأسيس أول محفل للناطقين بالعربية، انضمَّ إليه جمال الدين وأصبح ماسونيًّا في ١٨٧٦م، وشجَّع تلاميذه أيضًا على الانضمام إلى عضوية المحفل. وفي ١٨٧٨م انتُخِبَ جمال الدين رئيسًا لمحفل «كوكب الشرق» (الإنجليزي) وقيل إنَّه ما لبث أن دخل في صراعٍ مع الماسونيين القُدامى لأنه أراد تحويل المحافل إلى خلايا للنشاط السياسي.
غير أن الماسونيين لم يوافقوا على تلك السياسة، وقام وفد تألَّف من خمسةٍ من أعضاء «محفل الشرق الأعظم الوطني المصري» برئاسة رافاييل بورج — نائب القنصل البريطاني بالقاهرة — بمقابلة توفيق في ١٧ أغسطس ١٨٧٩م، وطمأنوه — مرةً أخرى — إلى أن الماسونيين المصريين ليست لهم تطلُّعات سياسية أو دينية، وأنهم لا يُعنَون إلَّا بتقدُّم البلاد وتمدُّنها. ومن ثَم أكَّد لهم توفيق أنه سوف يستمر في حمايتهم وإبداء حسن النوايا تجاههم كما فعل أبوه من قبل.
ووفقًا للمعلومات التي أوردها القنصل البريطاني في مصر (التي حصل عليها من رافاييل بورج بكل تأكيد)، طُرد جمال الدين من المحفل لإنكاره وجود المخلوق الأعظم، ويذكر جمال الدين نفسه — فيما بعد — أن الماسونيين المؤيدين لحليم انقلبوا ضده في نفس اللحظة التي دعا فيها إلى استبدال إسماعيل بتوفيق، فترك «محفل كوكب الشرق» — الذي رأسه لمدة عامين — مع بعض مؤيدي ولي العهد. ومن ثم تقع مسئولية نفيه من مصر على عاتق أعدائه من الماسونيين، فتذكر صحيفة الفارد ألكسندري في عددها الصادر في ٢ سبتمبر ١٨٧٩م أن السبب الحقيقي لنفي «الفيلسوف الأفغاني المدَّعِي» تكمن في الصراعات داخل الحركة الماسونية.
ومهما كانت الحقيقة الكامنة وراء نفيه، فإن الأسباب المُعلَنة لنفي جمال الدين من مصر هي القيام بنشاط سياسي غير مرغوب فيه وتهمة الهرطقة. وذكر توفيق للقنصل البريطاني أن جمال الدين كان يدعو إلى الثورة ويُروِّج للفوضوية، واتُّهم رسميًّا بالتآمر سرًّا ونشر العقائد المفسدة للدولة والدين.
وقد اتُّخذ قرار القبض على جمال الدين ونفيه خارج البلاد في اجتماع لمجلس النُّظار برئاسة الخديو وحضور محمود سامي البارودي، اللذين كانا حاميَي جمال الدين، وكان الفيلسوف الطَّموح يبني عليهما الآمال، والزعم بأن القرار جاء بِناءً على طلب القنصل البريطاني يبدو مجرد أسطورة، فوفقًا للتقرير الذي أرسله لاسيل (القنصل البريطاني) إلى لندن يذكر القنصل أنه علم بنبأ نفي جمال الدين من الخديو بعد أن تم تنفيذ القرار بالفعل.
وعلى أيَّة حال، يبدو أن الطموح السياسي للأفغاني أصبح يُثير أعصاب توفيق. وقد تعاون جمال الدين مع شريف باشا قبل وبعد تغيير الخديو، وبعد رفض الخديو للمشروع الدستوري الذي تقدَّم به شريف واستقالة الوزارة التي أعقبت ذلك، لا بد أن يكون الخديو قد أدرك أن محاولات التعاون مع الدول أصبحت عرضةً للخطر. وربما كانت الآراء الدينية لجمال الدين (أو ما شاع عنها) قد أثارت شكوك الخديو إلى حد بعيد، وهو الذي عُرف بتديُّنه.
ولا بد أن يكون علماء الأزهر — خاصة — قد استاءوا من قيام جمال الدين بالتدريس بأحد المقاهي القريبة من الأوبرا، حيث كان يقضي معظم وقته هناك محاطًا «بالشبان المصريين» والثائرين على الأزهر، ومن يترددون على المقهى عَرَضًا، «حيث كان يطرح أمامهم القضايا التي يعتبرها مناسبةً للعصر» على نحو ما يذكر مراسل التيمس (اللندنية) إثر مقابلة أجراها مع السيد في ٢٠ أغسطس ١٨٧٩م.
وكانت القضية الأساسية في ذلك الوقت — عند جمال الدين — هي النضال ضد التدخل الأوروبي، ولمَّا كان توفيق لا يؤمن بجدوى تلك القضية فقد طرد من نصَّب نفسه صانعًا للملوك والوزراء.
الصحافة
وفي نفس الوقت الذي نُفِي فيه الفارسي الذي لا يعرف الاستقرار أُبعِد محمد عبده — ظله المصري — إلى قريته بالبحيرة، أما بقية تلاميذه فقد تُرِكوا وشأنهم، ولكنهم ما لبثوا أن استفزوا السلطات بما كانوا يبثونه من دعاية لآرائهم وآراء محمد عبده في الصحف القائمة وإصدارهم للصحف الجديدة التي شجَّعهم جمال الدين على إصدارها.
ولم يكن ثمة صُحف سياسية عربية مستقلة بمصر بأي مقياس من المقاييس قبل عام ١٨٧٦م، وكانت «وادي النيل» هي الصحيفة الوحيدة التي صدرت لفترة طويلة نسبيًّا (١٨٦٦–١٨٧٢م) التي موَّلها إسماعيل لتنطق بلسانه وتبث الدعاية لأفكاره السياسية. ورغم أن إبراهيم المويلحي كان يحظى بدعم إسماعيل، فقد اضطُر أن يعدل عن إصدار مجلة «نزهة الأفكار» التي لم يصدر منها سوى عددين في عام ١٨٦٩م وتولَّى تحريرها بالاشتراك مع عثمان جلال؛ لأن شاهين باشا حذَّر الخديو من الطبيعة السياسية للمجلة وما قد يترتَّب على ذلك من أخطار. أما صحيفة «البروجريه إجبسيان» فكانت تُوصف أحيانًا بأنها «صحيفة المعارضة» في تلك السنوات، ولكنَّها كانت تصدر بالفرنسية فقط.
وكان العرفان بفضل إسماعيل في تطوير التعليم بالبلاد وتحقيق رفاهيتها لا يعدو أن يكون أكثر من أداءٍ للواجب؛ ففي تلك المقالات أشار محمد عبده إلى ماضي مصر العظيم والمستوى الفريد لحضارتها التي بلغت الذروة في الغرب، وتعود الآن إلى وطنها الأصلي وأكَّد على أهمية الأدب والصحافة بالنسبة للتطور الثقافي والسياسي والديني للأمة. وانتقد العلماء الذين أغلقوا عقولهم أمام العلوم الحديثة التي كان تطبيقها مسئولًا عن رخاء وتفوق الدول الأوروبية، فمن لا يستأسِد بين الأسود كان مصيره الهلاك.
ولكن مجموعة جمال الدين كانت بحاجة إلى أن تكون لها صحفها الخاصة بها حتى تنشر أفكارها السياسية بصورة مباشرة؛ ولذلك طلب السيد من بعض الأدباء من تلاميذه نشر صحف خاصة بهم، وكانت علاقة جمال الدين برياض باشا ذات نفع كبير في تيسير الحصول على التراخيص اللازمة.
ولمَّا كانت تلك الصحف قد استطاعت البقاء تحت حكم إسماعيل، فإن ذلك يعني أن تلك الصحف قد التزمت بالاتجاه السياسي العام في اختيار الموضوعات التي عالجتها. وعلى حين أدت مقالات يعقوب صنوع ذات النبرة الانتقادية الاجتماعية والسياسية العالية إلى نفي صاحبها إلى خارج البلاد، نالت الصحف الأخرى التي ركَّزت مقالاتها حول التقدُّم والتمدُّن ومراقبة «الخطر الأوروبي» قَبولًا تامًّا من جانب إسماعيل.
وكان الموضوع الرئيسي في الصحافة — حتى منتصف عام ١٨٧٨م — هو الحرب الروسية التركية وآثارها على الإمبراطورية العثمانية ومصر. ولكن عندما غُلَّت يد إسماعيل وشُكِّلت الوزارة «الأوروبية» ركَّزت الصحافة انتباهها حول السياسة الداخلية التي وفَّرت مجالًا رحبًا لكُتَّاب الصحف، فبانتقادهم لسوء الإدارة وامتداحهم للإصلاحات التي يجب إدخالها، يمكنهم أن يُعوِّلُوا على تأييد نوبار وولسون ودي بلنيير لهم، وبتعرُّضهم للنظام الجديد بالنقد، ومعارضتهم للتدخل الأجنبي وتزايد أعداد الموظفين الأجانب في الإدارة المصرية يحظون برضا إسماعيل.
ومنذ ديسمبر ١٨٧٨م حتى أبريل ١٨٧٩م، كان اهتمام الصحافة مُنصَبًّا على تأييد مجلس شورى النواب ضد الوزارة «الأوروبية»، وفي ظروف بعينها نال هذا الاتجاه تأييد إسماعيل، ولكنَّه جر الصحافة إلى الدخول في صراع مع مجلس النظار الذي كان يمسك — عندئذٍ — بمقاليد السلطة الفعلية في البلاد.
ومن ثَم كانت تصرفات الوزارة «الأوروبية» موضع اهتمام الصحافة قبل كل شيء، وعندما أصر الوزيران الأوروبيان على تجاهل مجلس شورى النواب، هاجمتهما الصحافة بضراوة لموقفهما المتعجرف ولاعتزامهما طرد غالبية الضباط من الخدمة العاملة.
وبعد استقالة شريف ونفي جمال الدين، شنَّ تلاميذ الأخير حملةً صحفية ضد السياسة القمعية الجديدة، مما أدَّى إلى تعطيل «مرآة الشرق» لمدة شهر واحد وإنذار «التجارة». وفي أوائل سبتمبر، أوقفت الحكومة صدور «مرآة الشرق» لمدة خمسة شهور هذه المرة، واتهمت الجريدة بالخوض في أمور ليس من شأنها الخوض فيها ونشر أخبار لا أساس لها من الصحة.
مصر الفتاة
وأخيرًا قامت مجموعة من المثقفين من شباب الشوام المقيمين بمصر، أطلقت على نفسها اسم «جمعية مصر الفتاة» بالوقوف في وجه استبداد وزارة رياض، وكانت تلك الجمعية قد تأسَّست بالإسكندرية في أواخر أيام إسماعيل وبتأثير واضح من جمال الدين، فقد ورد اسم كل من أديب إسحاق وسليم نقَّاش بين أسماء الصف الأول من أعضاء الجمعية في كتابه (مصر للمصريين)، وقيل أيضًا إن عبد الله النديم قد ارتبط بتلك الجمعية بعض الوقت، ثم ما لبث أن أدار لها ظهره لأنه لم يوافق على الطابع السري للجمعية.
وقد اختلفت التقارير في تحديد الشخصية التي أظلَّت تلك الجمعية بحمايتها، فقد ذكر البعض أنهم كانوا على صلة بشريف الذي أيَّد توفيق خديويًّا لمصر، بينما يذكر البعض الآخر أن أعضاءها يُعدُّون من المؤيدين للأمير حليم، وهذا الاختلاف حول ولاء الجمعية يمكن أن نُفسِّره بأن الجمعية قد تغيَّرت ميولها نحو توفيق، بعد أن خابت الآمال التي عُقِدت عليه، فتحوَّلت إلى تأييد حليم. ومن ناحية أخرى، ظلَّ أديب إسحاق (عضو مصر الفتاة) مواليًا لشريف ولجماعة حلوان التي كان يتزعَّمها الأخير، والتي كان أعضاؤها الرئيسيون من «مماليك» إسماعيل، ولعل ذلك من أسباب الخلط بين جمعية مصر الفتاة وجماعة حلوان.
ولذلك لا نُدهش أمام وجود تلك الجماعات السرية — التي كانت في حقيقة الأمر بعيدةً عن السرية — عندما نجد «أبو نضارة» يرى أن لمصر ثلاثة خديويين: سابق هو إسماعيل، وحالٌّ هو توفيق، ولاحق هو حليم. وكذلك عندما نجد تلك الجماعات السياسية وصراعات السلطة تقوم على برامج دون أن تلتزم بالضرورة باتباعها. ولا نُدهش أيضًا أن نجد العديد من الصيغ المُضلِّلة تدور حول «جمعية مصر الفتاة».
وتشبه النشرة التي تضمَّنت مشروع الإصلاح بصورة ملفتة للنظر تقارير لجنة التحقيق التي يظهر تحليلها للأوضاع العامة في مصر ومقترحاتها للإصلاح ضمن مشروع مصر الفتاة، أضف إلى ذلك أن المشروع يتضمَّن المطالب الدستورية ومطالب أخرى تتعلَّق بالتعليم والحقوق السياسية والحرية الفردية، وحرية الصحافة، وحرية الشعب في اختيار نوابه، وهو ما وُصِف بالمشروع بالسلطة النيابية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية والسلطة التشريعية (ورأوا أن تكون السلطة التشريعية قسمةً بين الخديو ونواب الشعب).
لم يكن رياض يهتم بالفلسفة السياسية أو الممارسة النيابية، فأنذر الصحيفة أولًا، ثم صادرها في منتصف نوفمبر، مما دفع مديرها المسيو جوسيو إلى مقاضاته ولكن دون جدوى.
كان توزيع النشرة التي تناولت موضوع حرية الصحافة هي آخر نشاط علني لتلك الشرذمة من الشباب، ويبدو أنهم — أو أن غالبيتهم على الأقل — قد نُفوا من البلاد باعتبارهم من أتباع حليم.
نهاية الامتيازات، إصلاحات من أجل الدائنين والفلاحين
لقد أخرس النظام المتعاون مع الدول الانتقادات التي وُجِّهت إليه، بعدما رأى كلٌّ من توفيق ورياض أن سياستهما الرامية إلى التعاون مع الدولتين اللتين تتوليان مراقبة مالية البلاد، وإلى إجراء إصلاحات داخلية بدون التجربة الدستورية، تتعرض للخطر من جانب المثقفين؛ ولذلك قامَا بتكميمهم، وظنَّ رياض أن باستطاعته الآن متابعة عمله دون أن يزعجه أحد.
وفي المرحلة الأولى من عهد وزارة رياض — من أكتوبر ١٨٧٩م حتى مارس ١٨٨٠م — نفَّذ رياض القرارات الخاصة بالإصلاح الضريبي الجذري بهمة ملحوظة؛ ففي الإدارة المركزية عمل جنبًا إلى جنب مع الأوروبيين الذين كانوا يخدمون بالإدارة المصرية، والمتخصصين المعروفين من أبناء البلاد الذين تلقَّوا جانبًا من تعليمهم بأوروبا، والذين أسند رياض إليهم مراكز المسئولية في النِّظَارات ومختلِف لجان الخبراء. واحتفظ «الباشاوات» المنتمون إلى المدرسة القديمة بمناصب المديرين أو عُيِّنوا حديثًا بها وكانوا على استعداد تام لتنفيذ سياسة رياض في الأقاليم دون قيد أو شرط.
وكان رياض — في بداية تولية الوزارة — قد ناشد كبار الموظفين بالإدارة المركزية والأقاليم أن يؤيِّدوه بكل قواهم في تنفيذ الإصلاحات من أجل «الصالح العام لوطننا العزيز»، والوطنية التي كان يفهمها رياض تعني تحقيق الرخاء المادي للشعب.
ولكن رياضًا وجد أن خزانة الحكومة خاوية، مثلما حدث لنوبار قبل ذلك بعام واحد، غير أن رياضًا كان أكثر نجاحًا في التغلُّب على المشكلة المالية، فلم تُدفع جزية الباب العالي بالكامل ربما للمرة الأولى، ولمَّا كانت مخصصات الروزنامة محدودةً فلم تُصرف معاشات الدولة، واستدانت الحكومة أولًا مبلغ ١٥٠ ألف جنيه لتُسدِّد جانبًا من المعاشات المتأخرة، ثم أفرجت لجنة التصفية بعد ذلك عن ٣٥٠ ألف جنيه لتسوية حساب متأخرات الجزية و٦٠٠ ألف جنيه لصرف المعاشات والرواتب، وقنع الدائنون بفائدة قدرها ٤٪ على الدين الموحَّد بدلًا من فائدة اﻟ ٦٪ التي كانت مُقرَّرةً من قبل، ورحَّب القناصل بذلك فقد كانوا يرون ضرورة تخفيض نسبة الفائدة إلى ٤٪ وإلغاء الكوبونات التي تأخَّر تسديدها من قبل.
حقيقة أن الحكومة اضطُرت في منتصف أكتوبر ١٨٧٩م أن تُصدر إنذارًا نهائيًّا بضرورة سداد ضرائب العام الحالي في خلال أسبوعين، لتسد حاجتها المُلِحَّة إلى السيولة النقدية. ولكنَّها لم تأمر باتباع الوسائل التي جرت العادة باتباعها من قبلُ عند تحصيل الأموال، فطُلِبَ من الجُباة أن يترفَّقوا في تعاملهم مع عامة الناس وأن يقفوا موقفًا حازمًا لا مرونة فيه تجاه أولئك الذين ظلُّوا مُميَّزين عن غيرهم حتى ذلك الحين وهم: نظَّار الدوائر والأعيان والأجانب.
وعندما تلقَّى رياض عرائضَ من بعض شيوخ وعمد قرى الفيوم اشتكوا فيها من الأساليب المجحفة التي يتبعها جباة الضرائب، أرسل رياض منشورًا دوريًّا إلى مديري المديريات قرَّر فيه أن المبدأ العام الذي يجب اتباعه عند جباية الضرائب ألَّا يُترك دافع الضرائب دون مستوى الكفاف. وعلى كلٍّ، أصدر رياض في ١٥ أكتوبر ١٨٧٩م منشورًا آخر إلى المديرين وجباة الضرائب بالأقاليم يأمرهم فيه بجباية الضرائب السنوية التي يدين بها الدوائر والأعيان والأوروبيين خلال خمسة عشر يومًا مع اتباع أسلوب التهديد (مصادرة الأطيان أو بيع المحصول) الذي لم يكن يُتَّبع — حتى ذلك الحين — إلَّا مع الفلاحين العاجزين عن السداد.
وفي ٧ فبراير حثَّ رياض المديرين على أن يجبوا خلال شهر واحد — بنفس الطريقة — الضرائب المتأخرة عن السنوات من ١٨٧٦م حتى ١٨٧٨م (وكانت جميع متأخرات الضرائب السابقة على أول يناير ١٨٧٦م قد أُلغيت). ورأى رياض أن المديرين لن يجدوا صعوبةً مع الأعيان، وفيما يتعلَّق بالأجانب، دُرِست المشكلة دراسةً دقيقة، ثم استقرَّ الرأي على ضرورة قيام المديرين باتخاذ أشد الإجراءات ضدهم أيضًا دون تردُّد، وفي حالة الاستيلاء على ملكية الأجنبي يجب إخطار القنصل التابع له أولًا، كما يجب أن يحضر ممثِّل للقنصلية عند اتخاذ إجراءات الاستيلاء.
وأصدر ناظر الداخلية أمرًا (في ٢٨ فبراير ١٨٨٠م)، ألغى فيه امتياز اختيار الجهة التي يُسدِّد إليها أصحاب الأطيان العشورية ضرائبهم؛ إذ كانوا يُخيَّرون بين سداد ضرائبهم لخزانة المديرية أو إلى نظارة المالية مباشرةً أو صندوق الدين العام، فأصبح سداد ضرائب الأطيان — سواء كانت خراجية أو عشورية — لصراف الناحية التي تقع بها الأطيان (وكانت الأطيان العشورية — حتى ذلك الحين — تُدرَج بسجلات المديرية ولا تُدرَج في قوائم صيارفة القرى). كما أصدر رياض منشورًا في نفس اليوم إلى المديرين بصفته ناظرًا للمالية أكَّد فيه على ضرورة جباية الضرائب دون استثناء من الطبقة «التي كانت تتمتَّع بالامتيازات، وأعني بذلك الدوائر وكبار المُلَّاك والأوروبيين»، وقدَّم المنشور وصفًا تفصيليًّا لأنواع المحاباة التي كانت تُعامَل بها تلك الطبقة من قبل. وأخيرًا وُضعت في ٢٨ مارس ١٨٨٠م قواعد الإجراءات التي يجب اتباعها والتي تُحدِّد كيفية التعامل مع دافعي الضرائب المماطلين (مصادرة وبيع الملكيات المنقولة وغير المنقولة).
ولكن سحب امتيازات الصفوة الصغيرة من المُلَّاك لم ينسحب على أساليب جباية الضرائب وحسب، بل امتد أيضًا إلى مقدار الضرائب التي يدفعونها؛ فقد جرت محاولة لتحقيق توازن في الأعباء الضريبية، بحيث يزداد ثقل عبء الضرائب على الفئات الممتازة، ويُخفَّف عبؤها عن ذوي الدخول المتواضعة.
وجاءت البداية في صورة أمر صدر في ٣١ ديسمبر ١٨٧٩م ألغى إلزام الأهالي بشراء قدر معيَّن من الملح لكل فرد، الذي بدأ العمل به في ١٨٧٣م (وكانت في حقيقة الأمر نوعًا من ضريبة الرأس)، ولكن استمرَّ احتكار الدولة لتجارة الملح. وألغى الأمر الصادر في ١٧ يناير ١٨٨٠م تسعًا وعشرين من الضرائب والعوائد التي كانت إمَّا غير ذات أهمية بالنسبة للخزانة العامة وإمَّا غير مُربِحة لها، وكان الأهالي يعدونها نوعًا من العسف، وأُدخِل الإصلاح على أسلوب جباية ثلاثٍ وعشرين ضريبةً أخرى. وكان جانب كبير منها ضرائب محلية لا تُحصَّل على مستوى البلاد جميعًا، وجاء هذا الإصلاح تنفيذًا لتوصيات لجنة التحقيق، وموافِقًا للمطالب التي نادى بها مجلس شورى النواب وجمعية مصر الفتاة وجماعة حلوان.
ولكن النص على ضرورة إخطار الفلاح بالموعد المحدَّد لجباية الضرائب وعلى ضرورة جباية الضرائب في المواسم الملائمة للفلاح، كان لا يقل أهميةً عن تخفيف أعباء الضرائب عن كواهل الفلاحين. فتمَّ توزيع مواعيد جباية ضرائب الأطيان وعوائد النخيل على السنة كلها، على أن يُجبَى القسط الأكبر من تلك الضرائب بعد مواسم الحصاد، وبذلك لم يعد الفلاحون بحاجة إلى المرابين. وتقرَّرت المبالغ التي تُجبَى من الأقاليم شهريًّا على ضوء تقديرات الميزانية التي ترتكز على خبرات السنوات السابقة، ثم تُوزَّع تلك المبالغ على الفلاحين ويُخطَر كلٌّ منهم بالمبلغ الذي عليه أن يدفعه من واقع سجلات الضرائب. كما تقرَّر إلغاء عادة جباية الضرائب عينًا التي كانت شائعة في بعض جهات الصعيد تخلُّصًا من المظالم التي ارتبطت بها، وأصبحت الضرائب تُدفع نقدًا بتلك الجهات، وأُبلغت الشئون الحكومية بالامتناع عن قَبول الغِلال أو غيرها من المحاصيل الزراعية.
ولكن هذا لم يكن نهاية المطاف؛ ففي ١٨ يناير أُضيف مبلغ ١٥٠ ألف جنيه إلى القيمة الإجمالية للضرائب العشورية، أضف إلى ذلك الأمر الذي صدر في العام السابق والذي نصَّ على خضوع جميع الفلاحين لنظام السخرة بغضِّ النظر عن أماكن إقامتهم وعمَّن يعملون في خدمتهم.
إخماد معارضة الذوات، جماعة حلوان
وقضى الأتراك-الجراكسة — الذين أُبعِدوا عن السلطة — الصيف في ضِياعهم أو على شواطئ البحر المتوسط. تُرى، ماذا يكون عليه مستقبلهم السياسي؟ ففي الخريف، احتلَّ عدد ملحوظ من الأوروبيين والمصريين المتعاونين معهم المناصب التي كانت لهم من قبل، وبعد أن سلب النظام الجديد سلطة الأتراك-الجراكسة راح يُهدِّدهم بالإنقاص من امتيازاتهم الاجتماعية والاقتصادية انتقاصًا شديدًا؛ فالإجراءات التي اتخذتها أو من المتوقع أن تتخذها وزارة رياض لم تترك مجالًا للشك؛ فلا بد من القيام بعمل ما لمواجهتها.
ولذلك يجب أن نتسلَّح بالحذر الشديد عندما نُعالج روايات نينه العديدة المتناقضة، ونشرات الدعاية لحليم التي أراد أن يُضفي على نفسه إحساسًا بالأهمية على نحوِ ما فعل زميله يعقوب صنوع. ورغم ذلك، كثيرًا ما يقع الاختيار على هذه الرواية أو تلك مما يذكره نينه وتُقدَّم على أنها حقيقة تاريخية، ولكن قبل أن تستغرقنا مشكلة التحقُّق من النصوص يجب أن نعالج البيان نفسه.
فقد اعتذر أصحاب البيان في مطلعه عن إخفائهم لأسمائهم «لأن هيئة الحكومة القائمة في مصر تَحُول دون مشاركة الوطنيين فيها، تستطيع بمعاونة الدول وبكلمة واحدة دون اتخاذ إجراءات ودون ضجة أن تنفي الوطنيين الذين وحَّدهم الحزب الوطني تحت علم واحد وتسحقهم وتشرِّد عائلاتهم»؛ وبذلك لا يستطيع أولئك الشهداء العمل من أجل القضية التي يتصدَّون لها. ولذلك ناشدوا حكومات «العالم الحر المتمدن» وعلى رأسهم بسمارك أن تُوفِّر لهم الحماية من بطش الحكومة المصرية بالوسائل الدبلوماسية حتى يستطيعوا الإعلان عن أنفسهم.
وأهم موضوعَين عالجهما البيان: التدخل الأجنبي وديون الحكومة المصرية؛ فهو لم يتباكَ على تَرِكة نظام إسماعيل لأنه أورد البلاد موارد التهلكة، ولكنَّه دعا إلى «الحزب الوطني المصري» في وقت الحاجة المُلحَّة لإنقاذه وإنقاذ عائلته. والنظام الحالي سوف يؤدي بالبلاد إلى الخراب بنفس الطريقة، ولا يستطيع أن يَحُول دون ذلك سوى الأمة المصرية ذاتها التي يُمثِّلها «الحزب الوطني»، وذلك وفقًا للمراحل التاريخية من حياة الأمم الأوروبية التي تنعم اليوم بالحريات التي تتطلَّع إليها مصر على أساس «نفس المبادئ التي قامت عليها عظمة أوروبا».
وأشار البيان إلى أن وزارة رياض لا تُمثِّل المصالح المصرية، فالحزب الوطني «لا يَعدُّ الحكومةَ التي تشكَّلت تحت النفوذ الأجنبي مُعبِّرةً عن أهالي البلاد الذين لم يقوموا باختيارها، كما أنها لا تضم مصريين حقيقيين؛ فهي بذلك لا تقوم على أساس سليم، والدول وحدها هي المسئولة عن تشكيلها، فلا قيمة لها في نظر الأمة، ورغم وجود خديوي يحكم في القاهرة فإن إدارة دفة الأمور ليست بيده أو بيد وزرائه … وأمة وادي النيل لا تقبل بتلك الأوضاع التي تُهدِّد استقلالها الذاتي بالخطر، ولا تستطيع أن تترك ثرواتها تُستغل على يد عناصر أجنبية غير مسئولة تتمتَّع بالمزايا والامتيازات التي لم تُشارك «في صنعها» … والحزب الوطني يعني بذلك — بوضوح وبساطة — جميع العناصر الأجنبية التي تشغل المناصب الإدارية الكبرى، وتتقاضى الرواتب الضخمة التي تستنزف الكثير من الموارد العامة».
ولكن ثمة حالة واحدة يمكن للحزب فيها أن يتغاضى عن مبدأ عدم التدخل في شئون مصر الداخلية، هي تلك التي تتدخل فيها الدول لإتاحة الفرصة أمام «الحزب الوطني» ليُمارس نشاطًا علنيًّا، ولم يُشِر البيان إلى رفض الحزب الاستماع إلى مشورة الخبراء الأوروبيين.
وفيما يتعلَّق بمسألة ديون الحكومة، أعلن البيان بدقة إفلاس مصر (مثلما حدث في الخطة المالية المعلَنة في أبريل السابق)، ولكن حتى إذا كانت مسئولية الديون غير مقبولة فإن هناك تصميمًا قويًّا على سدادها، غير أن وسائل تحقيق هذه الغاية تختلف عن تلك التي اتبعتها وزارة رياض وفقًا لما استقرَّ عليه رأي الدول.
وأعلن البيان المطالب التالية:
-
(١)
عودة وظائف الإدارة المصرية إلى المصريين لتظل بأيديهم وحدهم.
-
(٢)
انتقال ملكيات إسماعيل التي كوَّنها بعد توليه السلطة إلى ملكية الدولة.
-
(٣)
إلغاء الرهن المباشر لموارد الدولة (مثل السكك الحديدية والممتلكات الخديوية السابقة).
-
(٤)
توحيد الديون على اختلاف أنواعها في دين واحد وتُحدَّد نسبة الفائدة ﺑ ٤٪ سنويًّا.
-
(٥)
تعيين لجنة دولية مكوَّنة من ثلاثة أعضاء، تُعيِّنهم الدول وتُصدِّق الحكومة المصرية على هذا التعيين؛ لتتولى الإشراف على خدمة الديون ولكن دون أن يكون لها حقٌّ في التدخل في الإدارة المصرية.
وبقية بنود البيان لا تقل تنميقًا عن غيرها من بنود البيان الأخرى فتنص على أن:
-
(١)
الحزب الوطني يُعادي أساليب التطرف والعنف.
-
(٢)
ويسعى لتحسين أحوال «الجماهير» عن طريق إقامة نظام تعليمي متقدم.
-
(٣)
ويُطالب بإصلاح نظام الضرائب مع تخفيض قيمتها.
وفي هجومهم على وزارة رياض اقتبس أصحاب البيان الحجج والأفكار التي سبق أن استُخدِمت في الحملة التي قادها شريف باشا ضد نوبار، واتفق البيان مع الخطة المالية التي أُعلِنت في الربيع، فنادى برفض إعلان الإفلاس والمطالبة بتخفيض سعر الفائدة على ديون الدولة الذي كان يبلغ ٥٪ عندئذٍ. ولم يتضمَّن البيان الإشارة إلى وضع مصالح الأسرة الخديوية موضع الاعتبار على نحو ما جاء باللائحة الوطنية التي أُعِدَّت تحت إشراف إسماعيل، غير أن ذلك لم يعد ضروريًّا الآن. وكان الطابع العام لبيان نوفمبر هو الرفض التام لكل تدخل أوروبي في الإدارة السياسية المصرية.
وبعد إيضاح هذه النقطة، هل من المناسب أن نُشير إلى «جمعية حلوان» باسم «الحزب الوطني» لأن ذلك هو الاسم الذي أطلقوه على أنفسهم؟ وعلى كلٍّ لم تستمر هذه الجماعة أو غيرها من الجماعات في ممارسة نشاطها على المسرح السياسي تحت اسم «الحزب الوطني» الذي كانت تتبناه باستمرار شخصيات وجماعات جديدة. وقد ظهرت جماعات مختلفة في أوقات مختلفة ذات مصالح وأهداف متباينة، كانوا يتحدثون بلسان الشعب المصري باعتبارهم رُوَّاد العمل ضد التدخل الأجنبي والمتعاونين معه، فإذا اعتبرناهم جميعًا «الحزب الوطني» يصعب علينا فهم أحداث ذلك العصر.
وكان نوبار باشا هو أول من قدَّم التماسًا خاصًّا بالمقابلة إلى لجنة التصفية، ولم يكن — بكل تأكيد — ثمة شك في انتمائه إلى مجموعة «الحزب الوطني» المتآمرة، وكان قد عاد من أوروبا في ٢٧ نوفمبر ١٨٧٩م بعدما ألغى توفيق قرار الحظر الذي كان مفروضًا عليه، في وقت كان لا يزال فيه شريف باشا رئيسًا لمجلس النظار، ولم يحمل التماس نوبار سوى توقيعه وحده. ونظَّم حسن موسى العقاد، داعية حليم، والتاجر بالقاهرة وعضو مجلس شورى النواب (١٨٧٠–١٨٧٣م)، حملةً لجمع التوقيعات على التماس جماعي قُدِّم إلى ولسون في ٤ مايو ١٨٨٠م أعلن فيه الموقعون احتجاجهم على إلغاء المقابلة وزيادة ضرائب الأطيان العشورية واتهموا وزارة رياض بالاستبداد.
أما الالتماسات الفردية التي تلقَّتها لجنة التصفية، فلم تكن ذات وزن سياسي. وعلى كلٍّ كانت تلك الالتماسات من الكثرة لدرجة أن لجنة التصفية لم تعد تُعنَى بترجمتها ترجمةً كاملة ولكنَّها اكتفت بملخَّصاتها.
ولم يجد رياض صعوبةً في إلزام المعارضة حدود الصمت مرةً أخرى، فصودرت صحيفة «لا ريفورم» في ٢٥ مايو، وأُنذِرت صحيفة «الفارد ألكسندري» وأُمر رياض بإلقاء القبض على محمد فاني موظف المالية السالف الذكر، وحسن موسى العقَّاد، وحُكِم على الأول بالسجن مدة عامين، وعلى الثاني بالنفي إلى فازوغلي مدة خمس سنوات، وحاول العقاد — عبثًا — أن ينال الرعوية الفرنسية، وحاول أن يطلب من بورج — نائب القنصل البريطاني — أن يتوسَّط من أجل إطلاق سراحه دون جدوى، وفشلت زوجته في حث الحكومة البريطانية على التدخل لإنقاذ زوجها، وقد أعاده شريف من منفاه بعد أن تولَّى السلطة في سبتمبر ١٨٨١م. وبالإضافة إلى ذلك، قيل إن بقية الموظفين والضباط قد نُقِلوا من وظائفهم أو طُرِدوا من الخدمة أو سُجِنوا لاشتراكهم في موجة الاحتجاج.
وكانت طريقة التصرف مع الباشاوات تُمثِّل مشكلة كبرى؛ فقد أراد رياض نفي شريف وشاهين وراغب الذين اعتبرهم زعماء للمعارضة وأن ينفي معهم نوبار، ولكن القنصل الفرنسي تدخل تدخُّلًا حاسمًا ضد مثل هذا الإجراء؛ ولذلك أُنذِروا ووُضِعوا تحت مراقبة البوليس، وزعم توفيق أنه قام بتوبيخ الأميرين إبراهيم وأحمد وبعض الباشاوات، وحزم نوبار حقائبه وسافر إلى الخارج، ورأى قادة «الحزب الوطني» أن من الحكمة التخلي عن المعارضة، فغادر شريف باشا القاهرة لتفقد مزارع القطن الخاصة به في الدلتا، وأراد شاهين باشا التوجُّه إلى نابولي ليبقى بجوار إسماعيل الذي حصل له على الجنسية الإيطالية تحسُّبًا للمستقبل، وعلى كلٍّ، عندما شاع ذلك تَقرَّر — في ١٤ يونيو ١٨٨٠م — حرمان شاهين باشا من ألقابه ورُتَبه وطرده من الجيش المصري، ومُنع من العودة إلى البلاد، وقُرِئ عليه هذا القرار على ظهر الباخرة التي أقلَّته إلى الخارج في ١٥ يونيو، ويذكر أحمد عرابي أن حافظ باشا ومحمد نشأت قد نجحا في الحصول على الحماية النمساوية.
أهو عصر جديد؟
قضى رياض على المعارضة بلا رحمة، فأسكت الصحفيين أولًا، ثم الباشاوات، وكانت وسائله في ذلك مصادرة الصحف والنفي إلى السودان، ولمَّا كان لا يُزعجه أحد الآن، فقد شرع يستكمل الأساس القانوني الذي سيُنهي به الأزمة المالية، فقد شرع يستكمل الأساس القانوني الذي سيُنهي به الأزمة المالية، وفقًا لرغبات الدول واعتمادًا على تأييدها، فالإصلاحات الداخلية المكثفة قد تُعلن بداية عصر جديد، وقد ينجح رياض حيث فشل نوبار، فيدخل التاريخ باعتباره منقذًا لمصر، والرجل الذي استطاع أن يُنظِّف «إسطبلات إسماعيل العفنة» بالعزيمة والإصرار. وقد بهتت صورة الخديو الحسن الطوية والضعيف — توفيق — إلى جانب وزيره الأعظم رياض. كانت تلك القناعة تُلازم رياضًا الذي درج على أن يبدأ حديثه دائمًا بالقول: «نحن وسعادة الخديو.»
وعلى نحو ما رأينا، كان الخبراء الأوروبيون والمصريون المتعلمون يقفون وراءه متحمسين، من أمثال: علي مبارك، وعلي إبراهيم، وحسين فخري، وبطرس غالي، وعبد الله فكري، وسالم سالم، ومحمود الفلكي، وإسماعيل الفلكي. وكان زملاء علي مبارك يهتمون بالبنية الأساسية للبلاد أكثر من اهتمامهم بالبنية السياسية العلوية؛ فلم يكن من بين الخبراء المصريين الذين تعلَّموا في أوروبا مَن ظهر في عام ١٨٨٢م على المسرح السياسي ليلعب دور «الثوري».
ولكن، رغم ذلك كله أُعلن يوم ١٧ يوليو عيدًا وطنيًّا، ودُعِي جميع أعيان البلاد إلى قصر رأس التين بالإسكندرية، وفي المساء أُقيم عرض عسكري وعُزِفت الموسيقى العسكرية، وسار في موكب الشعلة تلاميذ مدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية وأعضاء هذه الجمعية التي أسَّسها عبد الله النديم، واستقبلهم الخديو. وأُطلِق على اليوم اسم «عيد ١٧ يوليو» واحتُفل به بنفس الطريقة في كثير من المدن المصرية، وانتهى في الإسكندرية بإطلاق الألعاب النارية المبهرة نحو البحر.
وبعد شهر، أخطر ناظر المالية المديرين في منشور دوري بأن يؤكِّدوا في جميع نواحي مديرياتهم أن تُقدَّم دعاوى من دفعوا المقابلة إلى دواوين المديريات إمَّا تحريريًّا أو شفويًّا في موعد غايته أول يناير ١٨٨١م.
وأخيرًا، يجب أن نُشير إلى القرارات التي نصَّت على حظر السخرة في الأعمال الخاصة، وإلغاء استخدام الكرباج، وضمان توزيع مياه الري بالعدل، واعتَبَر محمد عبده هذه القرارات ذات أهمية خاصة. وفي ٣١ يوليو أصبح التجنيد العسكري يقوم على أُسس قانونية جديدة تُمثِّل دَفعةً في الطريق إلى العدالة والمساواة حتى لو كان ذلك على الورق. كما مدَّت الحكومة العمل باتفاقية المحاكم المختلطة — التي كانت مدتها خمس سنوات — سنةً أخرى (تنتهي في أول فبراير ١٨٨٢م)؛ حتى تستطيع لجنة الإصلاح الدولية التي شُكِّلت لمراجعة لوائحها أن تُنجِز عملها.
وبدا أن ثمة عصرًا جديدًا قد بدأ في مصر، وعندما قام الخديو بثلاث جولات في الأقاليم استُقْبِلَ بالحفاوة والترحيب. وفي ٨ يناير ١٨٨٠م قام بزيارة الفيوم مدة ثلاثة أيام، فانبهر من الطريقة التي استقبله بها أهالي الأقاليم، وذكر للقنصل النمساوي أنه لن ينسى تلك الأيام الطيبة.
وفي اليوم التالي، غادر توفيق القاهرة في رحلة إلى الصعيد استغرقت ثلاثة أسابيع، وقد أخذ الخديو الشاب عندما بدت الرحلة كموكب النصر، وفي ٢٧ يناير أبرق إلى رياض يقول:
وأخيرًا، قام توفيق بجولة في الدلتا والمدن الساحلية — من ١٠ أبريل إلى ٤ مايو — حيث استُقبِل استقبالًا حارًّا. وخلال جولاته تلك كان يزور المساجد والمصانع، وكان يسير مع حاشيته في شوارع المدن ويزور منازل أعيان البلاد. وكوفئ رياض على عمله، وبناءً على طلب توفيق أنعم عليه السلطان برتبة المشير في ٢٦ يونيو.
ولم يكن هذا الابتهاج مصطنعًا؛ فخلال أبريل ومايو قام المندوبون الذين أوفدهم المراقبان العامَّان بالإشراف على تطبيق الإصلاحات في الأقاليم، وتناولت تقارير نواب القناصل بالأقاليم التحسن الملحوظ في أحوال الفلاحين خلال الستة شهور الأخيرة؛ فقد كان المحصول جيدًا، وجاءت الطريقة الجديدة لجباية الضرائب لتُساهم في ذلك التحسُّن. وتناقصت أسعار الفائدة التي كان يحصل عليها المرابون تناقصًا شديدًا، وارتفعت قيمة الأطيان بنفس المعدلات، واختفى الكرباج كأداة لتحصيل الضرائب، ولكن أهالي الصعيد أبدوا استياءهم من النظام الجديد الذي منعهم من سداد الضرائب عينًا، كما أن التغيُّر لم يكن محسوسًا فيما يتعلَّق بعدالة توزيع مياه الري والعمل بالسخرة، فظلَّ الأعيان — على هذا النحو — يحتفظون بوضعهم الممتاز إلى حد كبير.
لقد بزغ — على ما يبدو — فجر حقبة جديدة، وبدت غالبية الأهالي أكثر شعورًا بالرضا من ذي قبل، فيُشير بلنت إلى ملاحظاته بعد عودته إلى مصر في أواخر ١٨٨٠م قائلًا:
هذه الانطباعات أدَّت إلى افتراض خاطئ مؤداه أن مركز الرقابة الأوروبية ووزارة رياض قد أصبح راسخًا، وأن ليس ثمة ما يدعو إلى الالتفات إلى القلعة الساخطة ما دامت غالبية سكان البلاد يزداد شعورهم بالارتياح. ولكن هذا البناء الأسطوري هزَّه تمرُّد قام به الجيش في أول فبراير ١٨٨١م وأدت نتائجه في نهاية الأمر إلى انهيار ذلك البناء.
انظر: Holynski, Bertrand, Archarouni, Tager: Portrait Psychologique de Nubar Pacha; Moberly Bell: Khedives and Pashas, pp. 145–60.
وكذلك في الوقائع المصرية، ٨ يناير ١٨٨٠م.
انظر: الأيوبي، ج٢، ص١٩٧–٢١٠؛ زاخورا، ج١، ص٧٤–٧٦؛ آصاف، ج١، ص٢١١–٢١٤؛ أمين سامي، ج٣ / ١، ص٦١؛ الرافعي: الثورة العرابية، ص٤٥–٤٨.
Cromer, Vol. 2, pp. 342–45, F. O. 78. Vol. 3321 Cairo 7 Feb. 1881.
انظر: F. O. 78, Vol. 2855 (Cairo 8 June 1878), Cromer, Vol. 2, p. 334.
الرافعي: عصر إسماعيل، ج٢، ص٢٠٦–٢٢٣؛ زاخورا، ج١، ص١٢٥–١٢٩.
Moberly Bell: Khedives and Pashas, pp. 163–181.
انظر: الأيوبي، ج٢، ص٨٩-٩٠؛ زكي، ص١١٢-١١٣.
F. O. 78, Vol. 2855 (Alexandria, 29 June 1878).
انظر: سرهنك، ج٢، ص٣٧٣.
انظر: آصاف، ج١، ص٢٢٧–٢٣٢؛ زاخورا، ج٢، ١٥٠–١٥٢.
Heyworth-Dunne, p. 306.
انظر: Blunt: Secret History, pp. 369, 375.
انظر: زاخورا، ج٢، ص١٤١–١٤٣؛ الأيوبي، ج٢، ص٢٥٩–٢٦٣.
Ninet: Arabi Pacha, p. 135, McCoan: Egypt as it is, p. 104.
انظر: زكي، ص٨٦-٨٧.
Heyworth-Dunne, p. 255.
انظر: آصاف، ج١، ص٢١٩–٢٢٢؛ زاخورا، ج١، ص٩٣-٩٤.
انظر: زيدان، تراجم مشاهير الشرق، ج٢، ص١١٣–١١٨.
Brockelmann: Geschichte der Arabischen Literatur, a. Supplementary Volume, p. 194, Berque: L’Egypte, pp. 113-114.
انظر: مبارك: الخطط، ج١٤، المجاهد، عدد ٣٩٦.
Brockelmann: Geschichte der Arabischen Litteratur, Vol. 2, p. 638: Broadley, pp. 365-66, 370, 419.
انظر: الرافعي: عصر إسماعيل، ج٢، ص١٠٣، ١٩٢.
انظر: المجاهد، عدد ٢٤٠، زكي، ص٨٣-٨٤.
انظر: المجاهد، عدد ١٣٥.
Austrian Archives, Box. 110 (Cairo April 1879).
انظر: آصاف، ج١، ص٣٥٩-٣٦٠؛ زكي، ص١٨١؛ مبارك، الخطط، ج١٥، ص٩٢.
انظر: الرافعي، الثورة العرابية، ص٥٨٧–٥٨٩، المجاهد، عدد ١٩٦.
انظر: Le Phare d’Alexandrie, 3 July 1829.
انظر: زكي، ص١٠٢-١٠٣، Broadley, p. 154.
انظر: Hayworth-Dunne, p. 256.
انظر: الفارد السكندري، ١٩ أغسطس، ٢ سبتمبر ١٨٧٩م.
انظر: زاخورا، ج١، ص٩٥–٩٩؛ آصاف، ج١، ص٢٣٣–٢٣٧.
انظر: زاخورا، ج١، ص٨٣–٨٥؛ آصاف، ج١، ص٢٢٢–٢٢٧؛ زكي فهمي، ص٢٢٦–٢٣٣.
Le Phare d’Alexandrie, 23-9-1879.
انظر: زيدان، تراجم مشاهير الشرق، ص٧٥–٨٠؛ إبراهيم عبده: أعلام الصحافة العربية، ص١١٦–١٢٤؛ الرافعي: عصر إسماعيل، ج١، ص٢٦٠.
انظر: Baignieres, pp. 11, 15, 101-2؛ إبراهيم عبده: أبو نضارة وأعلام الصحافة، ص٥٠–٥٧.
Ninet: Origin, pp. 127-128.
انظر: زاخورا، ج٣، ص٥٤٤–٥٤٩؛ زيدان: تراجم مشاهير الأمة، ج٢۲، ص٩٩–١٠٤؛ إبراهيم عبده: أعلام الصحافة، ص١٠٧–١١٥.
Zolondek: Al-Ahram and Westernization, Also, Ash-Shach in Arabic Political Literature of the 19th Century.
انظر: The Times, 30 Aug. 1879.
انظر: زاخورا، ج١، ص٨٦–٨٩؛ زكي فهمي، ص٥٦٧–٥٩٤.
انظر: ترجمة الذاتية في مبارك، الخطط، ج١٤، ص١٢٥–١٢٨.
انظر: الرافعي، عصر إسماعيل، ج١، ص٢٧٨-٢٧٩؛ حجازي، ص٨٦–٨٩.
Moberly Bell: Khedives and Pashas, pp. 199-200.
Le Temps, 16/8/1882.
MAE, Corr. Polit., t. 66 (Le Caire 25/5/1880).