الفصل الثاني

مصر للمصريين

نظام جديد تقيمه الفئات الاجتماعية الوطنية
عام الجيش

(١) إنذار قصر النيل

لم تكن سياسة رياض مُوجَّهةً ضد مصالح الطبقة الممتازة فحسب، بل كانت مُوجَّهةً أيضًا ضد مصالح فئة اجتماعية هامة أخرى هي مصالح الجيش عامة، والضباط المصريين «الفلاحين» خاصة.

فبعد التسريح الجماعي الذي وقع في فبراير ومارس ١٨٧٩م، عاود إسماعيل التقرُّب للجيش دون أن ينال تأييدًا كبيرًا من كبار الضباط المصريين. وعلى أيَّة حال، لم تدم المكانة الجديدة التي اكتسبها رجال الجيش طويلًا؛ فقد كان من بين الإجراءات الأولى التي اتُّخذت بعد تولية توفيق تسريح عشرة آلاف جندي، وتخفيض عدد القوات المسلحة إلى ١٢ ألف جندي مرةً أخرى. ورغم ما حدث في ١٨ فبراير ١٨٧٩م، ظلَّ الاعتقاد بإمكانية ضغط المصروفات في القطاع العسكري قائمًا، فلم يُفكِّر المراقبان، ولا لجنة التصفية، ولا رياض فيما قد يؤدي إليه ذلك من مخاطر أو مشكلات. وعندما تنبأ كرومر بالكارثة، وقدَّم نصيحةً عاجلة — في ديسمبر ١٨٨٠م — بالاستجابة للمطالب المادية للضباط مهما كان الثمن، رفض رياض ذلك زاعمًا أنه لا أساس لتلك المخاوف.

وعلى كلٍّ، كان الضباط قد تقدَّموا بالتماس إلى الخديو في يوليو ١٨٧٩م طلبوا فيه إقصاء علي غالب ناظر الحربية عن منصبه لإهماله الجيش، واشتكوا من أن وجبات الطعام غير كافية وغير مستساغة، وطالبوا بالحصول على نقود بدلًا عن الطعام حتى يستطيعوا العناية بصحتهم. وأشار الموقِّعون على الالتماس إلى زملائهم الذين وُضعوا عندئذٍ على قوائم الاستيداع وتُركوا لمواجهة مصيرهم دون أن يعرفوا كيف يُدبِّرون أمورهم. وبعد تقديم ذلك الالتماس، استقالت الوزارة.

وفي ١٨ أغسطس ١٨٧٩م، تولى عثمان رفقي — الضابط الجركسي — نظارة الحربية، وكان توفيق يعتبره الرجل المناسب الذي يستطيع إعادة تنظيم الجيش وتحقيق الانضباط فيه. وفسَّر ناظر الحربية الجديد مهمته على أنها — قبل كل شيء — تفويض لتقويم هيئة الضباط، وكان يهدف إلى شغل المراكز الرئيسية بالرجال «المجربين النَّشِطين» من بني جنسه، فأضرم داخل الجيش نار الصراع الاجتماعي المكبوت، الذي أصبح نقطة انطلاق لأزمة اجتماعية وسياسية خطيرة.

ومنذ الحملات الحبشية — على الأقل — فَقَدَ الضباط المصريون احترامهم لرؤسائهم من الأتراك-الجراكسة؛ فانعدام كفاءتهم وسلوكهم الشخصي المشين خلال الحرب، جعلا من وضعهم الممتاز داخل هيئة الضباط وضعًا لا مبرر له، بل وضعًا خطيرًا. واتفق الضباط الأمريكيون مع زملائهم المصريون في تقويمهم للقيادة العليا التركية الجركسية، فقد وصف راتب باشا سردار الجيش المصري في الحبشة بعدم الكفاءة والجبن، ووصف لورنج Loring الفريق عثمان رفقي بأنه «وغد سيئ السمعة»،١ ورأى داي Dye أنه كان يستحق إطلاق الرصاص عليه عند نهاية الحرب بدلًا من الإنعام عليه بالنياشين.
ووفقًا لهذين الضابطين الأمريكيين، تقع مسئولية كارثة الحبشة على عاتق القادة الأتراك-الجراكسة بما فيهم عثمان غالب،٢ وقد قررا أن الضباط المصريين — وخاصةً أحمد عرابي وعلي الروبي (اللذين رُقِّيا إلى رتبة الأميرالاي عند نهاية الحرب) — كانا أكثر مقدرةً من قادتهم الأتراك. وفي الوقت الذي لم يكن فيه عرابي معروفًا تمامًا للرأي العام، قال عنه داي: «إنَّه يمكن أن يكون ضابطًا ممتازًا في أي مكان آخر غير مصر.»٣

وكان سلوك الضباط الأتراك-الجراكسة نحو مرءوسيهم المصريين — الذين لم يكونوا على استعداد للاعتراف بهم كزملاء — على نقيض تام مع هذا الموقف. وعلى سبيل المثال، عندما تعرض مُلازم شاب للعقوبة البدنية على يد قائد الآلاي الذي يخدم به، فشل ذلك الملازم في أن يوصل شكواه إلى راتب باشا، واضطُر أن يُسلِّم سيفه ويستقيل طواعيةً من الخدمة في سلك الضباط، وكلَّفه ذلك حياته ذاتها. وانتهى الصراع بين ضابط مصري برتبة القائم مقام ورئيسه الجركسي الذي رفض أن يقبل منه إخطارًا بمرضه، بأن أمر القائد الجركسي بقتل الضابط المصري، واستبدل عرابي — الذي كان مسئولًا عن الإمدادات — بضابط جركسي بحجة عدم صلاحيته لهذا العمل.

وحتى نفهم الأحداث التي تلت ذلك، لا يجب أن نأخذ في اعتبارنا أن المناصب الكبرى في الجيش كانت وقفًا على غير المصريين فحسب، بل يجب أن نأخذ في اعتبارنا أيضًا الطريقة المزرية التي عامل بها الضباط الأتراك الجراكسة مرءوسيهم من الضباط المصريين، فحاولوا إحباط سياسة الخديو الرامية إلى السماح بترقية المصريين إلى رتبة الأميرالاي، ولم يكن هناك مصري واحد قد وصل بعدُ إلى رتبة اللواء.

وبلغت التصرفات الاستبدادية للأتراك-الجراكسة ذروتها داخل الجيش بعد تعيين عثمان رفقي ناظرًا للجهادية في ٨ أغسطس ١٨٧٩م؛ إذ ينتقده لورنج لقيامه «بترقية عدد من الضباط الجراكسة إلى رتبة الأميرالاي متخطيًا بذلك الكثير من الضباط العرب الذين يستحقون الترقية بحكم الأقدمية والكفاءة والخدمة»،٤ ولكن الأتراك-الجراكسة كانوا يحظون وحدهم بالترقيات، كما ضمنوا — بحماية عثمان رفقي لهم — ألَّا يُحالوا إلى الاستيداع كزملائهم المصريين فلا يتقاضون سوى جانب من رواتبهم؛ ففي ١٨٨١م تراوح عدد الضباط العاملين ما بين ٤٥٠‏–‏٥٠٠ ضابط، بينما كان هناك ألف ضابط بالاستيداع، حقًّا كان بعض الضباط العاملين يُستبدلون — بالتناوب — ببعض الضباط المستودعين، ولكن غالبًا ما كان جميع الضباط الأتراك-الجراكسة يستمرون بالخدمة العامة.

وبدأ الضباط المصريون يخشون أن يسلبهم عثمان رفقي — في نهاية الأمر — ما حقَّقوه من مكاسب متواضعة، فيمحو آثار سياسة سعيد ويعترض طريق استمرارها. واعتُبر قانون التجنيد — الصادر في ٣١ يوليو ١٨٨٠م — الوسيلة الملائمة لحرمان المصريين من بلوغ رتب الضباط؛ فقد حدَّد القانون الخدمة العسكرية بأربع سنوات، وهي مدة لا تكفي لإتاحة الفرصة لأبناء الفلاحين للوصول إلى رتب الضباط.

وتأكَّدت نية ناظر الحربية في جعل «أبناء الوطن» في الجيش يخضعون ﻟ «الماليك» خضوعًا تامًّا، عندما أمر بنقل الأميرالاي عبد العال حلمي٥ قائد الآلاي السادس مشاة (السوداني) — البالغ من العمر أربعين عامًا — إلى ديوان الجهادية، وعيَّن خورشيد نعمان الجركسي — الذي كان في الخامسة والستين من عمره — بدلًا منه، كما أعفى القائم مقام أحمد عبد الغفار من منصبه في آلاي الفرسان وعين جركسيًّا بدلًا منه.
وتلقَّى عرابي تأكيدًا لنوايا عثمان رفقي من الفريق إسماعيل كامل الجركسي «الشريف» أثناء وليمة دُعِي إليها يوم ١٦ يناير ١٨٨١م.٦ وفي مساء اليوم نفسه، اجتمع بعض الأشخاص الذين يعنيهم الأمر وبعض الضباط المصريين بمنزل عرابي لمناقشة الأوضاع. ولم يكن عبد العال حلمي وأحمد عبد الغفار هما اللذان يخشيان الفصل من الخدمة فحسب، بل شاركهما في ذلك عرابي وعلي فهمي،٧ فقد بدا وضع جميع كبار الضباط المصريين مهدَّدًا بالخطر. وتلقَّى الضباط المصريون معلومات مفادها أن الضباط الجراكسة كانوا يجتمعون من حين لآخر بمنزل الفريق خسرو بحضور عثمان رفقي ويتباكَون على انقضاء العصر الذهبي للحكم المملوكي، وأنهم لم يقنعوا برثاء ذلك العصر، بل أرادوا إحياءه.
ولمواجهة تلك المؤامرة، يذكر عرابي أنه اقترح على رفاقه اختيار شخص موثوق به يتحدَّث بلسانهم، يُسندون إليه أمر العناية بمصالحهم، ولكن عليهم أن يقفوا وراء من يختارونه مُمثِّلًا لهم وقفةً صامدة ويحمونه من طغيان الحكومة. ويستطرد عرابي قائلًا إنَّه كان الرجل الذي وضع فيه الضباط ثقتهم التامة، وأنه اختير في تلك الأمسية متحدِّثًا بلسان الضباط المصريين الذين أقسموا يمين الولاء «للوطن العزيز»؛ ومن ثَم شهد يوم ١٦ يناير ١٨٨١م مولد النشاط العام لعرابي،٨ ومنذئذٍ وحتى هزيمة الجيش المصري في التل الكبير ارتبطت الحوادث باسمه.
وكان أول ظهور لعرابي على المسرح السياسي يومئذٍ باعتباره مُمثِّلًا لمصالح معينة للضباط الفلاحين، وفي نفس ذلك الاجتماع الذي عُقِد مساء ١٦ يناير، كتب عريضةً لرئيس مجلس النُّظار وافق عليها الحاضرون، وكانت بمثابة عريضة اتهام لناظر الجهادية.٩

ونصَّت العريضة على أن تولية توفيق قد عُدَّت — في سائر أنحاء البلاد — نهاية نير الطغيان الذي أثقل رقاب الشعب قرونًا عديدة، وبدايةً لعهد جديد تتوفَّر فيه العدالة والأمانة والمساواة لجميع الرعايا. غير أن ناظر الجهادية يُعامل الضباط المصريين بالكراهية والازدراء تمامًا كما كان يعاملهم راتب باشا في العهد الاستبدادي السابق، وكأنهم أعداؤه، وكأن الله أمره بإساءة معاملتهم وهَضْمِ حقوقهم. لقد كان عثمان رفقي يبذر الشقاق في الجيش ويضع العقبات في طريق استكمال سياسة الإصلاح.

ومضت العريضة تقول إن معظم الضباط المصريين قد سُرِّحوا من الخدمة العاملة، وإنه قد تمَّت إحالة ألف ضابط إلى الاستيداع لا يوجد بينهم ضابط واحد من غير المصريين،١٠ وحُرِم الضباط المصريون الذين بقوا في الخدمة العاملة من الترقي، وفُضِّل عليهم أولئك الذين لا كفاءة لهم سوى المحسوبية. ولمَّا كان فصل القائم مقام أحمد عبد الغفار قد جاء بلا سبب، فإن الضباط المصريين لن يلزموا الصمت بعد اليوم، ويُطالبون بإقصاء ناظر الجهادية؛ لأنه ما دام بقي عثمان رفقي في منصبه سيخشى كل ضابط مصري على مركزه، والقانون لا يسمح لمثل هذا الرجل بممارسة سلطات هذا المنصب! وأشارت العريضة إلى السوابق التي أُقصِي فيها شاهين باشا وحافظ باشا عن النظارة. وتضمَّنت العريضة مطلبًا آخرَ تمثَّل في ضرورة التأكيد على أن الكفاءة العسكرية وحدها ستكون العامل الحاسم عند الترقية، وبذلك لا يُصبح الضباط المصريون أدنى من زملائهم منزلة. وأبدى الموقِّعون على العريضة استعدادهم للقَبول بأي قرار عادل يتمشَّى مع إرادة الخديو.
وقدَّم أحمد عرابي وعبد العال حلمي العريضة إلى نِظارة الداخلية في ١٧ يناير. ولم يكن المطلب الخاص بإقصاء ناظر الجهادية مُتقبَّلًا عند رياض، ولكنَّه لم يشأ أن يُسلِّم الضباط إلى عثمان رفقي، وفضَّل أن يُعالج المسألة بطريقة ودية معقولة؛ ولذلك دعا حَمَلَة العريضة إلى مقابلته في اليوم التالي ليشرحوا له ما جاء بها، مُلمحًا إلى أنه قد «يجتمع بهم عدة مرات»، وذهب عرابي وعبد العال حلمي إلى هذه المقابلة وبصحبتهما علي فهمي. ويبدو أن الحديث الذي دار بينهم وبين رياض كان يسوده سوء التفاهم، وكان رياض يظن أنه بعد شرح المسائل وتبادل الآراء «سيركن أولئك الضباط إلى العقل»،١١ ومن ناحية أخرى، ترجم الأميرالايات وعْد رياض بالعناية بالأمر ترجمةً عملية؛ ففي ٢٧ يناير قام عرابي وعبد العال حلمي بزيارة رياض «أبا المصريين» (كما سمَّاه عرابي) ليقفا على ما تم إنجازه فيما يتعلق بالمشكلة، فحاول رياض أن يُصوِّر لهما المخاطر التي قد تنجم عن مطالبهما في ضوء ما أصاب محمد فاني موظف المالية الذي قدَّم ملتمس الضباط في مايو ١٨٨٠م والذي عُوقب بالسجن مدة عامين. ويذكر عرابي أن رياضًا قد تأثر بتفنيدهما لما ساقه من حُجَج، ووعَد بإعادة النظر في المسألة.١٢
أصبح رياض مضطرًّا الآن لاتخاذ إجراءٍ ما ضد أولئك الضباط، فعرض الأمر على الخديو الذي رأَسَ جلسة مجلس النظار — في ٣٠ يناير — لبحث الموضوع بحثًا مستفيضًا. وحاول رياض عبثًا أن يُهوِّن من شأن القضية؛ فقد أصرَّ عثمان رفقي ناظر الجهادية والخديو توفيق على ضرورة اتخاذ إجراءات صارمة، وأكَّد الخديو للمجلس أنه واثق من ولاء آلاي الحرس له. ومن ثَم تقرَّر — رغم إرادة رياض — إلقاء القبض على الأميرالايات الثلاثة، ومحاكمتهم أمام محكمة عسكرية خاصة تُشكَّل برئاسة رئيس أركان حرب الجيش المصري الجنرال ستون الأمريكي، وعضوية الجنرال لارمي Larmée والجنرال فون بولويتز von Ploetz، وأربعة من اللواءات الأتراك-الجراكسة هم إبراهيم حمَّاد، رضا، نجم الدين، خورشيد عاكف.
ووجَّه عثمان رفقي دعوةً إلى الأميرالايات الثلاثة للحضور إلى مقر نِظارة الجهادية بقشلاق قصر النيل صباح أول فبراير، ولكن الضباط الثلاثة تذكَّروا ما لحق بالمماليك الذين دعاهم محمد علي إلى مقابلته بالقلعة؛ ولذلك يقول عرابي في مذكراته: «أخذنا حذرنا وهيَّأنا ما يلزم لنجاتنا.»١٣

وقد أثبتت الحوادث أن مخاوفهم كان لها ما يُبرِّرها، فما إن دخل الضباط الثلاثة مقر نظارة الجهادية حتى وجدوا جميع الضباط الجراكسة مجتمعين هناك، ونزعوا سلاحهم ورتبهم، وتعرَّضوا للإهانات، وأُودعوا السجن تمهيدًا لمحاكمتهم، وأُسندت قيادة آلاياتهم على الفور إلى ثلاثة من الضباط الأتراك-الجراكسة؛ فتولَّى محمود طاهر قيادة آلاي عرابي، وخورشيد نعمان قيادة آلاي السوداني، وخورشيد رسمي قيادة آلاي الحرس الخديو. ورافق بعض اللواءات الجراكسة وياوران الخديو قادة الآلايات الجُدد إلى المعسكرات لتسليمهم مهام مناصبهم الجديدة.

غير أن الإجراء الذي أُحكِم تدبيره حقَّق فشلًا ذريعًا؛ فلم يُدخل أصحابه في اعتبارهم ما بيَّته ضباط الآلايَين الأول والسادس مشاة من عزم؛ إذ ألقى البكباشي محمد عبيد القبض على أميرالاي الحرس الخديو الجديد،١٤ ورابطت أورطة بقيادة البكباشي أحمد فرج أمام قصر عابدين، بينما تحرَّك البكباشي محمد عبيد والبكباشي علي عيسى على رأس أورطتين صوب قصر النيل. ولم يستمع أحد إلى أوامر الفريق راشد حسني١٥ الذي جاء لتسليم قيادة آلاي الحرس إلى قائده الجديد، كما تجاهل الجنود أوامر الخديو، ووقف توفيق في شرفة القصر ليشهد تحرك «آلايه المفضل» — على نحو ما كان يصفه دائمًا — ضده، وهو الذي كان يعتقد أنه يدين له بالطاعة العمياء.
وقُبيل الظهر، أحكمت الأورطتان الحصار حول نظارة الجهادية، وأطلقت مجموعة من الجنود النار على المبنى، ففرَّ الضباط الجراكسة التماسًا للنجاة، وقفز عثمان رفقي عبر إحدى النوافذ هاربًا، فلم يقع قتال حقيقي. وأطلق الجنود سراح الأميرالايات الثلاثة، وعادوا بهم منتصرين إلى ثكنات عابدين، وعجز ناظر الجهادية عن التصرُّف؛ فقد أُخِذ الجميع على غرة، وعندما حاول الجنرال ستون أن يجمع شمل المجلس العسكري اكتشف هرب ثلاثة من الأعضاء الجراكسة، فرفع الجلسة إلى صباح اليوم التالي.١٦
وحدث في طرة — حيث معسكر الآلاي السادس مشاة جنوبي القاهرة — مثلما حدث في ثكنات عابدين؛ فعندما حاول خورشيد طاهر وأحمد حمدي١٧ — ياور الخديو — أن يُسلِّما قيادة الآلاي إلى خورشيد نعمان، اعتقلهما البكباشي خضر مع ثلاثة من الضباط الآخرين المعادين لسياسة الأميرالايات، وتركهم في حراسة أورطة من جنوده ليتحرك بباقي الآلاي صوب القاهرة.

وكان البكباشي ألفي يوسف الضابط بالآلاي الرابع مشاة هو الوحيد الذي حنث باليمين الذي أقسمه الضباط في ١٦ يناير، فتمَّ نقل قيادة الآلاي الذي كان يقوده عرابي إلى محمد طاهر بحضور طه لطفي دون وقوع أي حادث، غير أن الآلاي لم يتحرَّك ضد الجنود الثائرين.

وعندما دخل عرابي مع منقذيه ثكنات عابدين، قام بتهدئة رفاقه، وطمأنهم إلى أن معارضتهم شرعية ما دام أنهم لا يسعون إلَّا إلى تحقيق العدالة والمساواة ووضع نهاية لاحتقار الأتراك-الجراكسة للمصريين. وحرَّر عرابي خطابًا إلى البارون دي رنج١٨ — قنصل فرنسا العام — طالِبًا منه التدخل لمصلحة الضباط المحرَّرين ومُحرِّريهم، وطالب الدول الأوروبية وقناصلها بمصر تأييد الضباط المصريين في التخلص من نير المماليك. وألقى عرابي اللوم على من حاولوا تصفية الأميرالايات الثلاثة غدرًا على أبواب نظارة الجهادية، وأبدى الشك في أن يكون الخديو قد وقَّع أمرًا بهذا المعنى ما دام توفيق نفسه تحت ضغط الجراكسة الذين يعتبرون المصريين عبيدًا لهم. وناشد — مرةً أخرى — صداقة وعدالة وضمير الأوروبيين، وخاصةً دي رنج الذي طلب منه سرعة التوسط في النزاع.

وقام ضابطان بتسليم الخطاب الذي حمل توقيعات عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي إلى القنصل الفرنسي. كما زار ضابطان آخران رافاييل بورج ونقلَا إليه رسالةً شفوية — عُنِي بتسجيلها — لا تخرج في فحواها عن الرسالة التي وُجِّهت إلى القنصل الفرنسي، وتضمَّنت الرسالتان شكوى الضباط من الظلم الذي يتعرَّض له ألفين من الضباط المصريين على يد أربعمائة من الضباط الجراكسة، وحث القناصل على التدخل لصالحهم.

وبعد تسلُّمه لرسالة عرابي، توجَّه البارون دي رنج على الفور إلى ماليت (القنصل البريطاني) وذهبا سويًّا إلى قصر عابدين، حيث كان الخديو والنظار ورئيس أركان الجيش وكبار الضباط وكبار الموظفين يجتمعون هناك وهم لا يدرون ما يفعلون.

فلم ينجح توفيق في كسب أي جماعة إلى صفه، وكان بعض ضباط آلاي الحرس الخديو قد طمأنوه إلى أنهم لا يُريدون المساس بسلطته، ولكنَّهم لن يقبلوا بأن يظلوا عبيدًا للمماليك. وعاد من أوفدهم الخديو إلى القلعة ليُبلغوه أن حاميتها قد اتَّجهت إلى المدينة للانضمام إلى المتمردين، فباءت بالفشل محاولات توفيق منع الآلاي السوداني من الزحف على القاهرة، ولم يعده الضباط الجراكسة بآلاي عرابي بأكثر من العمل على إبقاء جنودهم داخل معسكرات العباسية.

وعرض رئيس الأركان على المجتمعين فكرة القيام على رأس الضباط الأتراك الجراكسة الموالين للخديو، والضباط الأوروبيين، بقيادة أورطة المتطوعين الجراكسة المشاة بالقلعة لتصفية الثورة بالقوة؛ «ليجعل منهم عبرةً لا تُنسى أبدًا من البلاد»، ولكن هذا العرض لم يلقَ قَبول المجتمعين. واشتكى ستون — فيما بعدُ — من أنه قد سيطر على المجلس «الكثير من الخوف والقليل من القدرة على اتخاذ قرار».١٩
ولم يكن ثمة بديلٌ عن الدخول في مفاوضات مع الضباط، فأرسل توفيق كبير ياورانه السابق وناظر الأوقاف — عندئذٍ — محمود سامي البارودي، وخيري باشا٢٠ — أحد كبار موظفي القصر — إلى ثكنات عابدين لاستطلاع مطالب الضباط الثائرين التي انحصرت في طرد عثمان رفقي، ومعاملة المصريين بنفس الطريقة التي يُعامل بها الجراكسة، والعفو العام عمَّن شاركوا في حوادث اليوم.
وأوضح القناصل لتوفيق أن عليه أن يقبل المطالب ما دام لا يستطيع المقاومة بالقوة، فوافق مجلس النُّظار وكبار الضباط الأتراك-الجراكسة على تلك المطالب ليقينهم أن «أولاد العرب» في الجيش لن يقبلوا إطلاق النار على بعضهم البعض، فكانت النتيجة إعادة الأميرالايات الثلاثة إلى مناصبهم وإقصاء ناظر الجهادية عن منصبه، وتعيين محمود سامي البارودي بدلًا منه،٢١ وتلقَّى الجنود نبأ إقالة عثمان رفقي بالهتاف بحياة الخديو. وفي ٦ فبراير أُسندت نظارة الأوقاف إلى البارودي بالإضافة إلى الجهادية.

ولمَّا كان الأميرالايات الثلاثة ما زالوا يخشون على حياتهم، فقد قضَوا الليلة في ثكنات عابدين تحت حماية منقذيهم، فلم يعلم عرابي أن زوجته قد وضعت في تلك الليلة بنتًا أسمتها «بشرى» عندما بلغتها أنباء إنقاذ زوجها.

(٢) الجيش وتوفيق ووزارة رياض

تميَّز التطور السياسي الداخلي خلال الشهور السبعة التالية بثلاثة عوامل امتزجت ببعضها البعض؛ لتنتج مظاهرة ٩ سبتمبر ١٨٨١م وما ترتَّب عليها من نتائج خطيرة؛ وكان أولها الموقف المتذبذب غير الثابت للخديو وبلاطه. حقًّا وافق توفيق على الإصلاحات التي من شأنها أن تضع نهايةً لتذمر الضباط المصريين، ولكنه وحاشيته لم يُقلعوا عن نيتهم أو أملهم في التمكُّن يومًا ما من الضباط الثائرين والانتقام لمهانة الأول من فبراير.

وهذا ما كان يخشاه الضباط المصريون رغم كل التأكيدات على عكس ذلك؛ فقد أبدوا عدم الثقة البالغ، وغالبًا ما كانوا يُبدون التذمر والعداء، وكان افتقارهم إلى الإحساس بالأمان، ونضالهم من أجل الحصول على ضمانات لأرواحهم ومراكزهم أكثر ثباتًا من النصوص القانونية وكلمات الخديو، يُمثِّل العامل الثاني.

أما العامل الثالث، فتمثَّل في مُلاك الأراضي الوطنيين الذين كانوا عاجزين — حتى ذلك الوقت — عن اختراق الدائرة الداخلية للسلطة، فاعترفوا بالوضع وبجهود الضباط، وقدَّروا أهمية الضباط تقديرًا صحيحًا، فسعَوا للتحالف معهم لإحراز نفوذ أكبر في صياغة مصير البلاد.

وأيقن الضباط أن الحكم المطلق للأتراك-الجراكسة قد انتهى بتدخُّل الدول وتشكيل وزارة رياض، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يلجئوا إلى رياض (الذي وصفه عرابي بأبي المصريين) والقناصل الأوروبيين عندما جاءت الفرصة المواتية لاقتلاع آخر مراكز نفوذ الأتراك-الجراكسة.

وبعدما حقَّقه الضباط من نجاح في الأول من فبراير، رأى أعيان البلاد أن فرصتهم قد حانت — بمساعدة «الأبناء والإخوة» كما كانوا يسمونهم — ليلعبوا الدور السياسي الذي تؤهِّلهم له أهميتهم الاقتصادية ومكانتهم الاجتماعية؛ لسد الفراغ في الإدارة المركزية بعد فقد «المماليك» للسلطة، ذلك الفراغ الذي كان بعض الخبراء المصريين يملئون جانبًا محدودًا منه بينما يشغل الأجانب الجانبَ الأكبر منه. ولم يكن الأجانب مصدر إزعاج فحسب، بل كانوا يفتقرون إلى الاتصال بالأهالي في الريف، شأنهم في ذلك شأن المتعاونين معهم من الخبراء المصريين، على حين كان أعيان الأقاليم يُسيطرون على الريف اقتصاديًّا واجتماعيًّا.

ونعود الآن إلى العاملَين الأوَّلَين؛ لنرى مدى التقارب بين الجيش والحكومة خلال الشهور السبعة التي تلت إطلاق سراح الأميرالايات الثلاثة، وهي قصة حافلة بانعدام الثقة.

فبعدما نجح الضباط المصريون في تحقيق مطلبهم بعزل يوسف شهدي٢٢ — ياور الخديو وعدو علي فهمي اللدود — ركَّزوا كل جهودهم على تحسين العلاقات مع الخديو، فأرسلوا وفدًا إلى توفيق أعرب عن أسفه للحوادث الأخيرة، وطلب من الخديو تفهُّم موقفهم والعفو عنهم، وأكَّد له ولاءهم التام له. وأصدر توفيق من جهته تصريحًا أعلن فيه أنه لن يكون هناك أي تمييز بين الضباط الأتراك-الجراكسة والضباط «العرب» في الجيش. وقامت الحكومة بزيادة رواتب ضباط الاستيداع على الفور كإجراء يستهدف استرضاءهم.

وانتهى الصراع — رسميًّا — عندما دعا الخديو جميع كبار الضباط إلى القصر في ١٢ فبراير بما فيهم الضباط الأتراك-الجراكسة، وألقي فيهم خطابًا مليئًا بالعبارات العاطفية — بحضور ناظر الجهادية — فذكر أن الحوادث الأخيرة جرحته جرحًا عميقًا، ولكنه عفا من أعماق قلبه عن كل من شاركوا فيها، ولا يحمل أي ضغينة لهم، وأعلن أنه ونُظَّاره يؤيِّدون سياسة رياض الإصلاحية، وطالب الضباط بأن يُكرِّسوا اهتمامهم في المستقبل للمسائل العسكرية وحدها، فجدَّد الضباط قَسَم يمين الطاعة والولاء للخديو.

ولكن عزل عثمان رفقي لم يُؤدِّ إلى ما هو أكثر من إزاحة العقبة الرئيسية التي كانت تقف في طريق إصلاح الجيش، وبقيت الإصلاحات نفسها في حاجة إلى من يُنفِّذها. وكان كل من محمود سامي ورياض على استعداد للتخلص من الأوضاع القائمة على التمييز داخل الجيش، وأخذِ مطالب الضباط بعين الاعتبار. وفي بداية أبريل ١٨٨١م، عرض ناظر الجهادية على زملائه النُّظَّار عريضةً تلقَّاها تحمل توقيعات ضباط من جميع الرتب، ويذكر عرابي أنه هو الذي تولى صياغة العريضة، وتتضمَّن المطالبة بوضع حد للفساد داخل الإدارة العسكرية وتحسين الظروف المادية للعاملين بالجيش، وبذلك خلت العريضة من أي مطالب سياسية. ونصَّت تلك المطالب على:

  • (١)

    حصول الجنود على نقود بدلًا عن التعيينات الغذائية لِتُيَسِّر لهم الاهتمام بصحتهم؛ لأن الفساد الذي استشرى بين ضُباط التموين والتجار جعل الجنود يصرفون شحومًا بدلًا من الزبد، على سبيل المثال.

  • (٢)

    حصول الضباط والجنود على راتب كامل إذا حصلوا على إجازات لا تتجاوز مدتها شهرًا، وعلى نصف الراتب إذا تجاوزت الإجازة تلك المدة.

  • (٣)

    السماح لرجال الجهادية بالسفر بنصف الأجر بالسكك الحديدية.

  • (٤)

    إلغاء ورش الترزية بالجيش التي أصبحت مباءةً للفساد، وصرف قيمة الملابس للجنود ليشتروها بأنفسهم.

  • (٥)

    عدم إجراء أي ترقيات إلَّا وفق لوائح الجيش.

  • (٦)

    زيادة رواتب الضباط والجنود تبعًا لزيادة تكاليف المعيشة.

  • (٧)

    وضع القوانين المنظَّمة لقواعد الترقيات وإنهاء الخدمة والإجازات والاستيداع.

  • (٨)

    إعادة أحمد عبد الغفار إلى منصبه بآلاي الفرسان.

وكان أحد تلك المطالب الخاص بتحسين التغذية، قد ورد ضمن عريضة يوليو ١٨٧٩م، فتمَّت تلبيته على الفور؛ فبدلًا من الاقتصار على وجبات الفول والعدس، أصبحت وجبات الجنود تتكوَّن غالبًا من الأرز والبقسماط واللحم والخضروات، كما صُرِفت «البوظة» للجنود السودانيين، ووضع ناظر الجهادية صلاحيات شراء الملابس والتموين في يد قادة الآلايات، أما بقية المطالب فقد عُرِضَت على مجلس النظار في جلسة ١٦ أبريل التي رأَسَها الخديو. وبعد مناقشات طويلة، تقرَّر تلبية المطلبين الرئيسيين: زيادة المرتبات، وإصلاح وتوسيع نطاق القوانين العسكرية.

بل ذهب رياض إلى ما هو أبعد من ذلك، فرأى أن إصلاحاته لن تكتمل ما بقي جنود الجيش وضباط الاستيداع خارج دائرة تلك الإصلاحات، فقدَّم مذكرةً إلى الخديو في ٢٠ أبريل ١٨٨١م أقرَّ بها — بالاتفاق مع ناظر الجهادية وبقية النظار — أن حالة الرواتب لا يمكن السكوت عليها، فبينما ازدادت ثروة البلاد وزادت تكاليف المعيشة زيادةً مُطَّرِدة، لم تزِد الرواتب منذ عصر محمد علي، بل قام إسماعيل بتخفيض رواتب العسكريين. وأدَّى انخفاض مستوى الأجور إلى عدم تمكين الجنود من الحصول على الضرورات الأساسية للحياة، ولكن نظرًا لاتجاه الحكومة إلى الاقتصاد في النفقات، يجب موازنة الزيادة في رواتب الجنود بما يمكن توفيره من بنود الاتفاق العسكري الأخرى؛ ولذلك لا يجب أن يزداد عدد الجيش عن قوته الراهنة التي تبلغ ١١ ألف رجل، كما يجب وضع قانون يُنظِّم الترقيات. وفي الحقيقة كانت الترقيات التي تمَّت في عصر إسماعيل تفوق الحدود المعتادة، وإلى جانب ذلك يجب العناية بذلك العدد الكبير من ضُباط الاستيداع (١٠٤٥ ضابطًا)، ويمكن استخدام الكثير منهم في الوظائف المدنية. واقترح رياض تشكيل لجنة لدراسة جميع تلك المسائل دراسةً مستفيضة.

وفي نفس اليوم، وقَّع الخديو قرارين قُدِّما إليه مع تلك المذكرة، قضى أولهما بزيادة رواتب الضباط والجنود بنسبة تصل إلى ٩٢٪ وخاصةً رواتب الرتب المتوسطة والدنيا، وقضى ثانيهما بتشكيل لجنة لبحث كافة القوانين واللوائح العسكرية وتقديم المقترحات اللازمة لتعديلها، ودراسة أوضاع المدارس العسكرية، وأوضاع ضُباط الاستيداع، وإعداد مشروع قانون يُنظِّم تعيين وترقية وتقاعد وفصل الضباط. وتولَّى ناظر الجهادية رئاسة اللجنة التي ضمَّت في عضويتها ٢٠ ضابطًا من بينهم ١٣ تركيًّا جركسيًّا، وخمسة أوروبيين، ومصريين (هما أحمد عرابي ومحمد كامل).

ولا ريب أن رياضًا كان قد صمَّم تصميمًا جِديًّا أن يزيل كل أسباب السخط في الجيش التي أدَّت إلى وقوع ما حدث في الأول من فبراير. وعلى أيَّة حال، لم يكن عثمان رفقي من اختياره، ولكنه اعتقد — على ما يبدو — أن تعيين فريق يتسم بالحيوية يجعله يُعنى بنظام الجيش وانضباطه. وليس ثمة دلائل على أنه قد حزن لفقد عثمان رفقي، كما أنه لم يكن بحاجة إليه لتحقيق إصلاح قد يُحقِّق رغبات الضباط.

وأُقيمت وليمة كبرى في نظارة الجهادية في ٢٣ أبريل احتفالًا بسياسة الجيش الجديدة، دعا إليها محمود سامي زملاءه النُّظَّار الآخرين والمراقبَين العامَّين وأعضاء اللجنة العسكرية التي شُكِّلت حديثًا و١٥٠ ضابطًا. وفي جو يسوده الانسجام، رحَّب الجميع بقرارات ٢٠ أبريل ١٨٨١م وشربوا نخب الخديو.

وتحدَّث محمود سامي في خطابه عن التغيُّرات العديدة التي وقعت في الحياة السياسية والاقتصادية المصرية منذ ولاية توفيق، وقال إن هذا الوجه الجديد للبلاد إنَّما هو من صنع رياض باشا، ودعا الحضور إلى إعلان الولاء للحكومة وتأييد سياستها.

ثم خطب رياض في الجمع، فطالب — بدوره — مستمعيه بأن يُقارنوا الأحوال الحاضرة بالأحوال الماضية للبلاد، وأن يُقدِّروا مدى التقدُّم والعدالة الذي تحقَّق في هذا الوقت القصير، والآن يرى الضباط أن كل فرد قد نال حقوقه، فعليهم أن يدينوا بالطاعة للخديو توفيق، الرجل الذي بعث في مصر الحياة.

وأخيرًا، ألقى عرابي خطابًا نيابةً عن الضباط، فاعتبر الحضور جميعًا أجانب ومصريين «إخوانًا» يعملون من أجل الوطن المصري، وامتدح ما قام به النظار والمراقبان من تصفية لمظاهر الغبن، وأقسم يمين الطاعة للخديو.٢٣

وعند نهاية يونيو، قدَّمت اللجنة العسكرية الدفعة الأولى من مشروعات القوانين، وأوصت بزيادة قوة الجيش إلى ١٨ ألف رجل، وهو العدد الذي أُشير إليه في فرمان تولية توفيق. وأيَّدت نظارة الجهادية هذه المطالب، فأشارت في مذكرة لها أن الاكتفاء ﺑ ٨٧٦٩ رجلًا كقوة فعَّالة للجيش (القوة الاسمية ١١ ألفًا)، يُبرِّر الخوف من أن الجيش قد يُصبح في وضع يعجز فيه عن إحباط أي تمرد داخلي، وأن سعيدًا اضطُر إلى تجريد جيش من ١٨ ألف جندي ضد بدو الفيوم، كما أن إسماعيل أحبط تمرُّدًا في الصعيد عام ١٨٦٤‏-‏١٨٦٥م بقوة عسكرية عددها ثمانية آلاف رجل. ولكن اقتراح اللجنة لم يتحوَّل فورًا إلى قانون، وقد رأى رياض أنه من الصعب إضافة أعباء جديدة إلى الميزانية العسكرية في الوقت الذي تقرَّر فيه زيادة رواتب الجيش.

ولكن لا يتحمَّل رياضٌ — شخصيًّا — ولا تأخرُ اللجنة في تقديم مقترحاتها، مسئوليةَ التطورات التي أعقبت ذلك؛ فقد أراد رياض تنفيذ الإصلاحات جديًّا، وكان مستعدًّا — مثل محمود سامي — لتلبية مطالب الجيش إلى أبعد الحدود، غير أن الخديو اعتقد أن من الضروري اتباع سياسة مختلفة تمامًا واضعًا في اعتباره التطورات العامة في مصر، ودعم القناصلُ الأوروبيون موقف الخديو على أساس أن البلاد تتجه نحو الفوضى، وأيَّدوا خطته المتشدِّدة.

ولكن ما كان يراه الخديو والقناصل والمراقبان على أنه دليل على روح الثورة ونذير بتدهور الأمن في البلاد، كان يعدُّه عرابي ورفاقه رد فعل لسلسلةٍ لا نهايةَ لها من التداخلات والهجوم عليهم من جانب الخديو وحاشيته، وكان كل طرف منهما يعتبر نفسه على صواب. ولمَّا كان كل طرف يتوقَّع السوء من الآخر، ولا يثق في كل كلمة تصدر عنه، أصبح واضحًا وضوحًا تامًّا أن الصراع بين الطرفين قد احتجب دون أن يصل إلى حل، رغم الجهود التي بذلها رياض ومحمود سامي في فبراير. أدت الظنون والهواجس والتهديد بالانتقام من ناحية، وفقدان الثقة التام وعقدة الاضطهاد من ناحية أخرى إلى فشل سياسة مجلس النظار.

ويذكر عرابي في مذكراته ثلاث عشرة «مؤامرة» تم اكتشافها خلال تلك الشهور السبعة، اتجهت ثلاث منها نحو إخراج الآلاي السوداني الذي يقوده عبد العال حلمي من جبهة الآلايات الثلاثة الثائرة، وتحريض الجنود والضباط على التمرد على قائدهم، وأرجعها عرابي إلى يوسف كمال الجركسي ناظر دائرة الخديو، وقد اكتشف تلك المؤامرات في مارس وأبريل ١٨٨١م. وجرت محاولة لبذل الوعود بالترقيات والأموال والإنعام بالجواري من القصر لكسب بعض الضباط العاملين وغير العاملين إلى صف الخديو. وتلا ذلك تطهير الآلاي تطهيرًا تامًّا، وحُكِم على باشجاويش جركسي بالسجن ستة شهور، وتمَّ ترحيل ضابط سوداني بالاستيداع إلى بلاده بِناءً على أوامر الخديو، ولكن رءوف باشا حكمدار السودان٢٤ ما لبث أن عيَّنه في الإدارة المدنية بالسودان برتبة لواء.

وكانت أخطر تلك المؤامرات تتمثَّل في خطاب أُرسِل إلى ناظر الجهادية صاغه يوسف كمال ووقَّعه تسعة عشر ضابطًا من الآلاي السوداني، أعلنوا فيه براءتهم مما حدث في الأول من فبراير، وطلبوا نقلهم إلى آلاي آخر موالٍ للخديو. ولمَّا كانوا قد وجَّهوا اتهامات خطيرةً إلى قائد الآلاي، فقد أمر ناظر الجهادية بتشكيل لجنة للتحقيق في تلك الاتهامات برئاسة وكيل النظارة حسن أفلاطون، انتهت إلى تقرير براءة عبد العال حلمي من التهم المنسوبة إليه، وإلى أن يوسف كمال كان يهدف إلى الإخلال بالنظام في الجيش، وقضت بإحالة الموقِّعين على الخطاب إلى الاستيداع بنصف رواتبهم، ولكن الخديو ما لبث أن أعادهم إلى الخدمة وقلَّدهم وظائف جديدة. كذلك أصرَّ رياض على فصل يوسف كمال، وهو إجراء زاد من احترام الجيش له.

وحدثت عمليات تطهير في آلايات أخرى، فاتَّهم عرابي ألفي يوسف — غير الموالي له والذي كان من ضباط آلايه — بالتحريض على التمرد، فطُرِد من الخدمة ومعه ضابط آخر غير موثوق به. ولنفس الأسباب، تم استبدال قادة آلاي المشاة وآلاي الطوبجية (المدفعية) بالقلعة بضباط آخرين يطمئن إلى جانبهم، فحلَّ إبراهيم حيدر محل محمد صدقي، كما حلَّ إسماعيل صبري٢٥ محل حسين حسني.

ووفقًا لما ذكره عرابي، قام الخديو بإبعاد اثنين من موظفي القصر هُمَا إبراهيم آغا التوتنجي، ومحمد حسن لتورطهما في مؤامرة ضد آلاي الحرس الخديو، كما قام توفيق بإحباط مؤامرة ثانية بنفسه، وقام الخديو بنقل أورطة المماليك التي كانت تُناصر عثمان رفقي من القلعة إلى معسكرات قصر النيل، ووضعها تحت قيادة قائد آلاي الحرس الخديو، علي فهمي.

ويذكر عرابي — بين المؤامرات التي عدَّدها — المحاولات التي جرت لاستخدام بعض فرق الجيش في حفر ترعة التوفيقية، ولنقل آلاي عبد العال حلمي إلى السودان. وقد رفض الاشتراك في حفر الترعة بحجة أن ذلك ليس من عمل الجيش، وبقي الآلاي السادس مشاة بطرة بحجة أن القوات الموجودة بالسودان كانت كافيةً تمامًا.

وما لبث الضباط أن رأوا جاسوسًا أو قاتلًا يكمن لهم على قارعة كل طريق. ويذكر رياض أنه قد أنب ضابطَين برتبة القائم مقام في ٢١ أبريل بحضور ناظر الجهادية لسيطرة عقدة الاضطهاد عليهما، وقال لهما إنَّه لو صدَّق كل إشاعة تصله لَمَا كان عليه أن يُغادر منزله، وأن ارتيابهم في الخديو يؤدِّي إلى وقوع ما يخشَون وقوعه.

ولكن ارتيابهم كان له ما يُبرِّره؛ ففي ٢ فبراير، ذكر توفيق للقنصل الألماني أنه سوف يُبعِد المتمردين من الجيش ببطء ودون ضجة، رغم أن ماليت ودي رنج حذَّرَاه من الإقدام على أي عمل يتسم بالغدر. وأسرَّ الخديو إلى بتلر — مُربي البلاط — أنه يُفكِّر في تعيين وزارة جديدة تمامًا «لتطلق النار على المتمردين». ولكن إذا أقدم توفيق على ذلك فإنه لا يعني سوى التخلُّص من رياض، كما حدث قبل عامَين عندما قام إسماعيل بإسقاط وزارة نوبار.٢٦

لقد أقسم الضباط يمين الطاعة والولاء للخديو ثلاث مرات خلال الأسبوعين الأوَّلَين من فبراير، وأكَّد لهم الخديو ثلاث مرات — أيضًا — أنه قد عفا وتجاوز عمَّا سلف من حوادث. غير أن الإشاعات حول الخطط التي يضعها توفيق — وحاشيته الجركسية — للانتقام من الضباط لم تتوقَّف. وعلى سبيل المثال، أُشير إلى أن تعبئة القوات التركية ترمي إلى التدخل العسكري في مصر باسم الباب العالي، ولو أدى ذلك إلى المغامرة بوضع مصر، وانحدارها إلى مستوى الولاية العادية. وفي ٢١ أبريل قابل محمود سامي ورياض الخديو، وحذَّراه بصورة غير مباشرة — بحضور مستشاريه خيري باشا وطلعت باشا — من انتهاج سياسة مستقلة وراء ظهر مجلس النظار، بل قيل إن رياضًا عرض استقالته على الخديو.

وعلى ذلك، استمر الخديو في الكيد للضباط، غير أن الخلافات في الرأي بين عبد العال حلمي وعرابي من ناحية، وناظر الجهادية من ناحية أخرى، جعلت الخديو يُفكِّر في اتخاذ إجراءات عنيفة. فرغم اعتراضات محمود سامي، أصرَّ عبد العال على شغل المراكز التي شغرت بآلايه بعد طرد العناصر المثيرة للشغب. ونقل ناظر الجهادية الخلاف إلى مجلس النظار الذي أحال المسألة بدوره إلى اللجنة العسكرية. فقررت اللجنة — هذه المرة — تأييد رأي عبد العال، وصدَّق مجلس النظار على توصياتها في ٣٠ مايو، واستاء الأعضاء الأوروبيون في لجنة التحقيق من هذا القرار. وعندما أعطى عرابي انطباعًا لأعضاء اللجنة — في أول يونيو — أنه لن يخضع لأوامر ناظر الجهادية دون شرط طالما لم يكن هناك ما يضمن أن الناظر يُمارس سلطته بنزاهة وعدالة، حاول الجنرال جولد شمد أن يستقيل على الفور، ولم يسحب استقالته إلَّا عندما قام عرابي بالعدول عن موقفه. وذكر الخديو لكوكسون — بعد تلك الواقعة — أنه لا ينتظر سوى سنوح الفرصة التي تتيح له أن يجعل من أحد الأميرالايات عِبرة لغيره.

ويبدو أن الفرصة سنحت بعد ذلك على الفور؛ ففي ٢٥ يوليو دهمت عربة أحد رجال المدفعية بالإسكندرية فمات توًّا، وقام تسعة من رفاقه — الذين أثارهم الحادث — بحمل جثته إلى قصر رأس التين مطالبين الخديو بالانتقام للقتيل، رغم أن ضباطهم منعوهم من تنفيذ تلك الخطة الطائشة. وعوقب الجنود على جريمة «إزعاج سموه» بقسوة منقطعة النظير، ليصبحوا كباش الفداء، فحُكم على من تزعموا أولئك الجنود التسعة بالسجن المؤبد، وعلى بقية زملائهم بالأشغال الشاقة لمدد تتراوح بين ثلاث وثماني سنوات. وجاء رد الفعل سريعًا من جانب أولئك الذين كانت تلك الأحكام بمثابة إنذار لهم، فأرسل عبد العال حلمي احتجاجًا إلى ناظر الجهادية قارن فيه بين الرفق واللين اللذين عومل بهما مثيرو الشغب في آلايه، والقسوة التي لا مبرر لها التي عومل بها الجنود الذين اندفعوا في لحظة من لحظات الانفعال.

وظنَّ توفيق أن الفرصة قد حانت للتخلُّص من عبد العال حلمي على الأقل، ولكن محمود سامي ورياض لم يرغبا أو يستطيعا الإقدام على ذلك، واستمرا في اتباع سياسة الترضية. ولذلك أقال توفيق ناظر الجهادية في ١٢ أغسطس، واتهمه بالعجز عن إعادة النظام إلى الجيش. وفي ١٤ أغسطس، أسند نظارة الجهادية إلى صهره داود يكن الذي كان «جنديًّا محترفًا» ووكيلًا سابقًا للجهادية.

ومن الواضح أن توفيقًا أراد تفسير هذا الإجراء للضباط على نحو مُخالف تمامًا لما كان يرمي إليه، وبدا وكأنه يُريد إزالة أي أسباب لاعتراض الأميرالايات، وأن ينال رضاهم ويعمل على تهدئتهم ويعطيهم شعورًا بالأمان. وإذا كان لنا أن نأخذ بتفسير عرابي، فإن توفيقًا كان يحلم بتدبير مؤامرة جديدة، فقيل إنَّه اعترف لعلي فهمي (الذي رافقه على رأس آلاي الحرس إلى مقره الصيفي بالإسكندرية) أنه راضٍ تمامًا عن الضباط، ولكنَّه غير راضٍ عن الوزارة، وأنه يعتبر نفسه العضو الرابع في عصبة الأميرالايات، وأن محمود سامي لا يعرف ماذا يريد، وأن الضباط لا يثقون فيه؛ ولذلك أقاله من منصبه، وطلب الخديو من علي فهمي أن يُبلغ هذه الرسالة لزميلَيه في القاهرة، ويذكر عرابي أنهم لم يضعوا الغشاوة على عيونهم، وفضَّلوا الحكم على داود يكن من أفعاله.٢٧

وحتى تُتاح الفرصة أمام ناظر الجهادية الجديد لاختبار نواياه، قدَّم له عرابي — في ٢٠ أغسطس — قائمة تتضمَّن ثمانية مطالب جديدة هي:

  • (١)

    زيادة رواتب الضباط الذين يستخدمون في الإدارة المدنية لتصل إلى مستوى رواتب زملائهم الذين يخدمون بالجيش.

  • (٢)

    تطبيق نظام الإجازات بالإدارة المدنية على العاملين بالجيش.

  • (٣)

    منح الضباط بدلات السفر بنفس الفئات التي تُمنَح للموظفين المدنيين.

  • (٤)

    الضباط الذين وضعهم ناظر الجهادية تحت رعاية نظارتَي المالية والداخلية، يجب أن يُلحقوا بوظائف بإحدى النظارتين، أو تُصرف لهم رواتب على الأقل.

  • (٥)

    صرف معاش الضابط إلى ورثته بعد وفاته.

  • (٦)

    من الآن فصاعدًا، لا يجب أن تُخفَّض رتبة الضابط ظلمًا، ويجب أن يستعيد الضباط الذين تعرضوا لذلك رتبهم السابقة.

  • (٧)

    إيقاف الضباط الذين يثيرون الشغب.

  • (٨)
    يجب أن يوضع حد لتشجيع ومكافأة من يُثيرون الشغب.٢٨

وعندما سمع رياض بتلك المطالب الجديدة، نفد صبره، وأصبح على ثقة من ضرورة إيقاف الضباط عند حدهم، وإلَّا استمروا في ذلك إلى ما لا نهاية، فقد تعاون مع محمود سامي حتى إقالته لأنه لم يجد سبيلًا آخر لإعادة الانضباط إلى الجيش، وكان يعتقد أن يضع الضباط ثقتهم في ناظر الجهادية وإلَّا أصابه ما أصاب عثمان رفقي، وقد كسب محمود سامي تلك الثقة لأنه حقق معظم مطالبهم. وقد أيَّد رياض تلك السياسة لأنه كان يأمل (بتشجيع من محمود سامي) أن يكون هذا المطلب أو ذاك هو آخر المطالب. وقد أعرب عن أسفه — فيما بعد — لأن ما كان يتوقعه من نجاح محمود سامي في تقليص نفوذ الأميرالايات الثلاثة إلى الحد المعقول لم يحدث، ولذلك فكَّر في الاستغناء عنه ولكنه خشي أن يؤدي ذلك إلى إثارة القلاقل. ولعل عدم إقدامه على مثل تلك الخطوة كان مبعثه الأمل في أن ينجح محمود سامي في أن يقول للأميرالايات: «هذا … ولا شيء من بعد»، فقرَّر مجلس النظار — في ٢١ أغسطس — أن يقوم داود باشا بإعادة العريضة التي تضمَّنت المطالب الجديدة إلى عرابي، ومعها مذكرة تلفت نظره إلى ضرورة تقديم العريضة عبر القنوات العادية عن طريق القيادات الأعلى رتبة. وأعلن ناظر الجهادية أنه سوف يشتت الآلايات المتمردة خطوة خطوة بادئًا بالآلاي السوداني، ولكن شيئًا من ذلك لم يحدث.

فقد أعاد الضباط إلى ناظر الجهادية المنشور الذي أرسله إلى جميع الآلايات، والذي كان يأمر بحظر اجتماعات الضباط ومنعهم من مغادرة آلاياتهم، فما كانوا يخشونه دائمًا قد يُصبح الآن أمرًا واقعًا، وتجلى ذلك في ٦ سبتمبر عندما عُيِّن ناظر جديد للضبطية هو عبد القادر حلمي — صنيعة الخديو — بدلًا من أحمد الدرملِّي، فأعدَّ الضباط أنفسهم للحملة الأخيرة، فلم يعد الأمر يتعلَّق بوظائفهم فحسب، بل أصبح يتعلق بسلامتهم الشخصية. ألم يكن الجواسيس والقتلة الذين أطلقهم ناظر الضبطية يلاحقونهم في كل مكان؟ وجاءت إجابة الضباط على هذا التحدي في ٩ سبتمبر.

(٣) تحالف كبار الأعيان مع الضباط الفلاحين

لقد كانت واقعة الأول من فبراير وما تلاها من حوادث تضرب بجذورها — على نحو ما رأينا — في الصراع بين الضباط المصريين وزملائهم الأتراك-الجراكسة الذين يتشبثون بوضعهم المتميز في الجيش والبلاط والخدمة المدنية. وخلال ذلك الصراع نجح الأميرالايات الثلاثة في تحسين الأحوال المادية للجيش عامةً، وللضباط خاصةً، أما المطالب الخاصة بالضمانات الدستورية (مجلس شورى النواب، والدستور) فلم تُثَر علانية إلَّا في ٩ سبتمبر ١٨٨١م. وقد أوردنا مضمون العرائض المختلفة التي تقدَّم بها الضباط بشيء من التفصيل حتى ندحض ادعاءات عرابي نفسه بأن الضباط قد اعتلوا المسرح السياسي بالفعل كأبطال لنظام دستوري جديد. ورغم أن عرابي يتحدَّث عن التطور السياسي في ربيع وصيف عام ١٨٨١م من زاوية مؤامرات الجراكسة والخديو ضد الأميرالايات الثلاثة، إلَّا أنه يريد أن يُدخل في رُوعنا أن من بين الأهداف الرئيسية التي سعى الضباط إلى تحقيقها — في يناير وفبراير — دعوة مجلس شورى النواب للانعقاد باعتباره «صوت الشعب في مواجهة الحكومة» وخير ضمان للحرية الشخصية.٢٩ وهو ما طالب به الضباط فيما بعد.

حقًّا، تضمَّنت تقارير البارون دي رنج — خلال النصف الأول من فبراير — ما يؤكِّد أن المطالبة بالدستور، وبدعوة مجلس شورى النواب إلى الانعقاد، كانت من بين المطالب التي أثيرت في ذلك الحين، لكن الوقت كان — عندئذٍ — وقت «مسألة دي رنج»، كما أن تقارير ماليت في تلك الأيام تختلف كثيرًا عن تقارير دي رنج، بل وتتعارض معها — أحيانًا — تعارضًا شديدًا.

وكتب القنصل البريطاني إلى حكومته ما يفيد بأن الأميرالايات الثلاثة أبلغوه عقب إطلاق سراحهم أنهم يُفضِّلون الابتعاد عن المسائل السياسية. وفي ضوء مظاهر الولاء التي أعقبت ذلك اعتبر ماليت أن المسألة قد انتهت، وأنها لم تكن سوى «انتفاضة طلابية» وأنه لا يجب أن تؤخذ مأخذ الجد؛ لأن كلمة «نظام» كلمة غير معروفة في الجيش المصري. وفي ١١ فبراير، استقبل ماليت الأميرالايات الثلاثة، حيث أكَّدوا له أن جميع الشائعات التي ترميهم بتدبير مؤامرة ضد رياض لا أساس لها من الصحة.

وكانت تلك الشائعات قد بدأت على يدَي دي رنج الذي قدَّم — في تقاريره — حوادث الأول من فبراير على أنها حركة لإسقاط رياض. فقد زار عرابي القنصل الفرنسي في الثاني من فبراير لشكره على تدخله لمصلحة الضباط، وأراد دي رنج أن يستفيد من المكانة التي ظن أنه أحرزها عند الضباط، ليُسقط الوزارة التي كانت — في رأيه — شديدة الميل نحو الإنجليز. كما أنه يكنُّ العداء — شخصيًّا — لرياض ولزميله البريطاني، فزعم أن عرابي ألمح له في الثاني من فبراير أن الجيش يهدف إلى إسقاط الوزارة، وأن الأميرالايات الثلاثة أبلغوه في زيارة تالية (٦ فبراير) أن الضباط المصريين قد يضطرون إلى المطالبة بتغيير الحكومة، ودعوة مجلس شورى النواب إلى الانعقاد، لمواجهة الشائعات المتزايدة حول خطط الانتقام التي يدبرها الأتراك الجراكسة. وأشار دي رنج إلى أن وزارة رياض سوف تسقط إن عاجلًا أو آجلًا، وذكر لبعض زملائه القناصل أنه قد طلب منه إعداد مشروع للدستور، وأرسل دي رنج إلى حكومته تقارير مُماثِلة ذكر فيها أن الجيش لا يُطالب وحده بسقوط رياض، ولكنَّ الأعيانَ والخديو نفسَه يسعون لذلك. وفي ١٢ فبراير، وهو اليوم الذي أعلن فيه الخديو ثقته التامة برئيس مجلس النظار أمام الضباط الذين اجتمعوا بقصر عابدين، أبرق دي رنج إلى حكومته بأن الخديو يوشك أن يُسقط وزارة رياض.

ولكن الخديو تدخَّل في الأمر، عندما شاعت قصة مفاتحة القنصل الفرنسي للأمير عثمان٣٠ بن مصطفى فاضل فيما إذا كان يقبل تولِّي رئاسة مجلس النظار في حالة سقوط رياض. فكتب الخديو رسالة إلى رئيس فرنسا — في ١٤ فبراير ١٨٨١م — يشكو فيها من تصرفات دي رنج الذي تمَّ استدعاؤه إلى بلاده بعد ذلك بقليل، فغادر مصر في أول مارس ١٨٨١م وسط احتجاجات الجالية الفرنسية في مصر.

وعندما شاع نبأ استدعاء دي رنج، في الوقت الذي كان يسعى فيه رياض إلى ترتيب علاقاته بالأميرالايات على أساس الثقة الكاملة، توقَّفت على الفور كل الشائعات التي كانت تتردَّد حول سقوط الوزارة. وفي الحديث الذي دار بين رياض والأميرالايات الثلاثة، ضمن رياض سلامتهم الشخصية بينما تعهَّدوا من جانبهم بالابتعاد عن التدخل في المسائل السياسية.

ولكن دي رنج لم يكن الشخص الوحيد الذي ناضل من أجل إسقاط رياض، فقد أدى نجاح الضباط المصريين في الأول من فبراير إلى جعل كبار المُلَّاك من أعيان البلاد الذين توفر لديهم الوعي السياسي يفطنون إلى أهمية الجيش كأداة للوصول إلى السلطة. فإذا تمَّ التحالف مع الضباط الفلاحين، ربما كان من الممكن أن يتقدَّم الأعيان نحو مركز السلطة الذي كان قريبًا منهم محتمين بدرع الجيش. أو على الأقل يستطيعون — بمساعدة الجيش — أن يُسقِطوا الوزارة المتعاوِنة مع الدول التي تجاهلت مجلس شورى النواب تجاهلًا تامًّا، بعدما حصل على أهمية غير متوقعة في النصف الأول من عام ١٨٧٩م، وهكذا بدأ كبار أعيان الريف يتصلون بالضباط المصريين البارزين.

ويذكر عرابي في مذكراته — بصورة عامة للغاية — تحالفًا تمَّ بين الأعيان والضباط لتحرير البلاد من تطاوُل الأجانب، ويحتمل أن يكون ذلك بمثابة رجْع الصدى لإشارات مماثلة غامضة أوردها سليم نقاش، ولكن عرابي كان أكثر وضوحًا في المذكرة التي أعدَّها لمحاميه برودلي إذ يقول:

«… ولمَّا أحست نبهاء الأهالي الذين هم آباؤنا وإخواننا ورؤساء عشائرهم حضروا إلى مصر، ورأوا أنه لا حاسم لسلب الأمنية إلا افتتاح مجلس نواب للأمة المصرية، يضمن لها أرواحها وأموالها وأعراضها، وَسَن قوانين عادلة يعتمد عليها في حفظ الحقوق تُضاهي قوانين المجالس المختلطة، وحدود تامة للحاكم والمحكوم، ليقف كلٌّ عند حدِّه ولا يتعدَّاه، مع تغيير هذه النِّظَارة التي في مدتها سلبت الأمنية وكثر الخوف، وكتب بذلك عرائض منهم سُلِّمت بأياديهم عند سقوط النظارة إلى دولتلو شريف باشا عند جعله رئيسًا للنظار على يد أبي سلطان باشا بالنيابة عن نبهاء الأمة المصرية ورؤسائها، ولِكَون العسكرية والأهالي بعضهم من بعض، ومعاملتهم في الخير والشر واحدة، فُوِّض هذا الطلب للعسكرية. ولِكَون أن جميع الآلايات استنابت ضباطها، وضباطها — لوثوقهم بي واعتمادهم على أمانتي — فوَّضوا إليَّ تلك الطلبات.»٣١

ويروي محمد عبده في مذكراته قصة التحالف بين الأعيان والضباط وبين سلطان وعرابي ويتحدَّث بلنت عن ذلك تفصيليًّا إذ يقول:

«كانت الشهور السبعة التي وقعت بين حادث قصر النيل ومظاهرة سبتمبر، حافلة بالنشاط السياسي الواسع النطاق الذي شمل جميع الطبقات، فقد أدت تصرفات عرابي إلى اكتسابه شعبية كبيرة، وجعلته على اتصال بالأعضاء المدنيين في الحزب الوطني مثل: سلطان باشا وسليمان أباظة، وحسن الشريعي،٣٢ وشخصي، وكنَّا أصحاب فكرة تجديد المطالبة بالدستور. وكانت وجهة النظر التي وضعها عرابي في اعتباره، هي أن الدستور يُوفِّر له ولرفاقه الأمان في مواجهة دسائس الخديو ووزرائه. فقد ذكر لي ذلك غير مرة خلال الصيف. ونتيجة لذلك نظَّمنا عملية جمع العرائض للمطالبة بالدستور، كما قمنا بحملة لهذا الغرض في الصحف. وقد التقى عرابي كثيرًا بسلطان باشا خلال الصيف، كما أن سلطان صنع معه الكثير بثرائه، فأرسل إليه الهدايا من المنتجات الزراعية والخيول لتشجيعه، وكسب تأييده للحركة الدستورية. فتم تدبير مظاهرة عابدين بالتنسيق مع سلطان، ولكن شريفًا — الذي أصبح رئيسًا لمجلس الوزراء — لم يُفكِّر في الاستعانة به وتجاهله. غير أن سلطان أحس بالرضا والسرور بعد ذلك عندما أُسندت إليه رئاسة مجلس الأعيان الجديد.»٣٣
ورغم أن تقارير نينه ذات طابع إجمالي إلَّا أنها جديرة بالذكر.٣٤ فوفقًا لما يرويه، كان المتآمرون يعقدون اجتماعات سرية في بيت سلطان، حيث كاد علي مبارك أن يكتشف أمرهم ذات ليلة، واتفق سلطان باشا وسليمان أباظة وحسن الشريعي ومحمود سامي وأحمد عرابي وعبد العال حلمي وعلي فهمي ومحمود فهمي٣٥ وغيرهم، على ما يجب اتباعه في حالة «انسحاب» رياض، وقيل إن شريفًا بل وتوفيقًا قد لعبَا دورًا في تدبير الخطة.٣٦

وعلى كلٍّ، لا يمكن إقامة دليل على تورط توفيق في مثل تلك الخطة، كما أنه من الواضح أن علي فهمي كان موجودًا مع الخديو بالإسكندرية خلال الصيف، وأنه عارض وآلايه مظاهرة ٩ سبتمبر، ولذلك لا يمكن أن يكون قد شارك في خطة كهذه بأي حال من الأحوال، وينسحب نفس الشيء على محمود فهمي الذي كان — حينذاك — مفتشًا لهندسة أقاليم مصر الوسطى. كما أنه لا يوجد أي دليل على أن محمود سامي قد قام باتصالات سرية مع العسكريين أو الأعيان فيما بين أول فبراير و٩ سبتمبر، فيما عدا الاتصالات الرسمية وشبه الرسمية، بل رفض استقبال بعض الضباط بمنزله (في ٣١ أغسطس) بعد إقالته من الوزارة، غير أن علاقاته مع العسكريين كانت وثيقة وإيجابية، وتمتَّع بثقة الضباط. ولذلك ليس من المفهوم أو المنطقي أن يشعر بالتهديد بعد إقالته من الوزارة. ولماذا ينظر إلى رد فعل ذلك على أنه برهان على انضمام محمود سامي إلى زمرة المتآمرين؟

ومن الثابت أن محمد سلطان، وسليمان أباظة، وحسن الشريعي من ناحية، وعرابي وعبد العال حلمي من ناحية أخرى، قد لعبوا الدور الأكبر في تحقيق التفاهم بين كبار المُلَّاك (الأعيان) والضباط، كما يبدو أن المناقشات التي دارت بينهم قبل مظاهرة ٩ سبتمبر العسكرية قد شملت — أيضًا — أحمد عبد الغفار، وفودة حسن، وطُلبة عصمت،٣٧ ولطيف سليم. كذلك يبدو أن سلطان باشا قد أجرى اتصالات مع شريف باشا، ولعله يكون قد أبلغه أنهم يرون فيه الرئيس المرتقب لمجلس النظار.
ووفقًا لما يذكره سليم نقاش، حاول عرابي أن يحصل على تفويض كامل من الأعيان بما فيهم العلماء والعمد وشيوخ البدو، قبل أن يتقدَّم الجيش بمطالبه السياسية العامة. فأعلن عرابي عن أهدافه، وطلب معاونته على تخليص الوطن العزيز من الهاوية التي قد يتردى فيها نتيجة إهمال الحكومة. واتهم الحكومة ببيع مساحات واسعة من الأراضي للأجانب، وتعيين الأعداد الكبيرة من الأوروبيين في الوظائف بمرتبات ضخمة، وإزالة العوائق الطبيعية من مدخل ميناء الإسكندرية حتى تستطيع السفن الحربية دخولها. ودعا إلى إسقاط الوزارة ودعوة مجلس النواب للانعقاد. ويذكر سليم نقاش أن عرابي تلقى الموافقة على برنامجه من جميع أنحاء البلاد، فيما عدا سلطان باشا الذي وجَّه إليه اللوم لتجاوزه حدود مسئولياته، وأبلغ الخديو بما كان يجري.٣٨

ويزعم نينه — من ناحية أخرى — أن سلطانًا وشريفًا على وجه التحديد، هما اللذان حرَّضا عرابي على تنظيم مظاهرة عسكرية، وأنه رفض ذلك وطالب بدليل مكتوب يُبرهن على أن الأمة كلها تقف وراءه حقيقةً. ومن ثَم أعدَّ سلطان وثيقةً يُوقِّعها أعيان الأقاليم تُطالب بإسقاط رياض، ودعوة مجلس النواب إلى الانعقاد، وأنه لم يُسلِّمها إلى عرابي إلَّا بعد أن أصدر إعلانه. واتفق محمد عبده مع هذه الرواية، فيذكر أن سلطان باشا هو الذي نظَّم تداول العرائض المطالبة بالدستور قبل ٩ سبتمبر، ولكنَّه يذكر أيضًا أن سليمان أباظة وحسن الشريعي ومحمد عبده نفسه قد أعلنوا معارضتهم لاتخاذ أي إجراءات عنيفة. ولم يَرَ محمد عبده أن من الحكمةِ مباركةَ إقامة مجلس للنواب على أسنَّة الرماح، وأنكر على الضباط حق التحدث باسم الأمة. ولكنَّه — على أيَّة حال — غيَّر من آرائه، أو على الأقل غيَّر من سلوكه بعد سقوط رياض.

وخلال صيف عام ١٨٨١م، لاحظ القناصل: الفرنسي، والألماني، والنمساوي، أن أهداف ورغبات الضباط بدأت تتجاوز حدود المسائل العسكرية البحتة. وذكروا في تقاريرهم — بشكل غامض — أن قائمة مطالب الضباط أصبحت تتسع لتشمل الشئون الداخلية والخارجية. كما كان أولئك القناصل على علم بالاتصالات التي تُجرى بين الأعيان والضباط، وأن هناك من يدعم موقف العسكريين، ولكنَّهم لم يستطيعوا تحديد هويته. وكانت الأهداف العامة التي اجتمع حولها الأعيان والضباط تتمثَّل في المطالب الثلاثة التي أُعْلِنت في ٩ سبتمبر وهي: إسقاط وزارة رياض، ودعوة مجلس النواب للانعقاد، وزيادة قوة الجيش إلى ١٨ ألف رجل.

وحتى إذا نظرنا إلى التفاصيل التي توردها هذه المصادر بعين الشك، لا يبدو أننا سنحصل على صورة كاملة لما حدث. فبعد الأول من فبراير ١٨٨١م، حاول الضباط المهددون بالخطر أن يحصلوا على ضمانات بسلامتهم الشخصية، وبتنفيذ الإصلاحات الموعودة. وقُدِّمت إليهم فكرة انعقاد مجلس النواب الذي يتمتَّع بسلطات كافية على أنها أحسن الوسائل لتحقيق تلك الغاية. وفي مثل ذلك المجلس يستطيع الأعيان من كبار المُلَّاك أن يُدافعوا عن مصالحهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولم يكن من الصعوبة بمكان إقامة تحالف مع الضباط على هذا الأساس. ولمَّا كان رياض لا يقبل بمجلس للنواب، فلا بد من الإطاحة به. ولمَّا كان الأعيان لم يستطيعوا حتى الآن أن ينالوا خبرة بالإدارة المركزية، كما أن الخديو والسلطان والدول لن يقبلوا بإسناد الوزارة إلى أحدهم، فإن شريفًا بدا ملائمًا لشغل هذا المنصب وهو الذي عُرف بوطنيته، وميوله الدستورية، وعدائه الشديد لرياض.

ولا يعني ذلك أن من تآمروا في نوفمبر ١٨٧٩م هم أنفسهم صناع حوادث صيف ١٨٨١م؛ فلا وجود لاستمرارية معارضة «الحزب الوطني» لوزارة رياض إلَّا في الكتب. أما في الحقيقة فلم يكن لتلك المعارضة وجود، فلم تُعمِّر «جمعية حلوان» طويلًا قبل أن يسحقها رياض. وأعضاؤها ينتمون إلى الطبقة التركية-الجركسية الحاكمة التي كانت مسلوبة السلطة عندئذٍ. ففي صيف ١٨٨١م كان هناك نوعٌ جديدٌ مختلفٌ من التجمعات، بلغ محيط دائرة السلطة في سبتمبر من نفس العام ووصل مركزها في فبراير ١٨٨٢م.

واتخذت الاتصالات التي جرت بين الأعيان والضباط شكل التفاهم التام، أكثر من كونها خطة ترمي إلى القيام بانقلاب في وقت معين. وتُرِك تحقيق هذا الاتفاق العام تمامًا للضباط، فقد انسحب الأعيان إلى ضياعهم ولم يظهروا بالقاهرة إلا بعد سقوط رياض.

وحتى نفهم حقيقة أن إسقاط رياض المتعاون مع الدول في ٩ سبتمبر قد عُدَّ عملًا وطنيًّا، وأثار موجة من الحماس للجامعة الإسلامية، لا بد لنا من أن نأخذ في اعتبارنا الشعور المُعادي للأوروبيين الذي انبثق من أسلوب معالجة الصحافة المصرية للاحتلال الفرنسي لتونس. فقد كان هذا الحادث هو الذي أدى إلى الدعوة إلى زيادة قوة الجيش إلى ١٨ ألف رجل — وهو الحد الذي وضعه السلطان — والمطالبة بإقامة تحصينات جديدة على ساحل البحر المتوسط، وذلك اعتبارًا من مايو ١٨٨١م. وأصبحت إمكانية حدوث تدخل عسكري في مصر أقوى ما تكون في ذهن الرأي العام المصري.

والشيخ حمزة فتح الله، الذي كان مُحرِّرًا بالجريدة الرسمية في تونس، ثم أصبح محررًا لجريدة «البرهان» السكندرية الأسبوعية اعتبارًا من مايو ١٨٨١م، يُعد أكثر الكُتَّاب تعبيرًا عن رد الفعل المعادي للأوروبيين. فهو — دون غيره — الذي فتح عيون المصريين على مصير تونس، وحوَّل ذلك إلى عداء شديد نحو كل ما هو غربي، ورفض ادعاء أوروبا الرغبة في جلب النظام والمدنية إلى الشرق باعتباره ضربًا من ضروب الاستعلاء السخيف؛ لأن الأوروبيين بحاجة إلى إقرار النظام في بلادهم أولًا، فعليهم مواجهة الفوضويين والاشتراكيين والحروب الأهلية والجريمة والفساد وتجارة الرقيق الأبيض، إن لديهم الكثير مما يجب عليهم إنجازه في بلادهم، أما البلاد الإسلامية فكانت تنتمي إلى أكثر أرجاء العالم حضارة قبل أن يكون ثمة وجودٌ للدول الأوروبية.٣٩

ولا بد أن تكون المسألة التونسية قد صدمت عرابي صدمة عنيفة حتى إنَّه كتب خطابًا إلى السلطان حولها، وقَّع عليه عدد من الضباط والأعيان، عبَّر فيه الموقعون عن خشيتهم من أن استيلاء فرنسا على تونس قد يجعل بريطانيا تُفكِّر في ابتلاع وادي النيل حتى تُحقِّق توازن القوى في المنطقة.

وفي ضوء هذه الخلفية يصبح سبب عدم اتخاذ مظاهرة ٩ سبتمبر ١٨٨١م طابع العصيان واضحًا، وهي الصفة التي أُلصقت بها لأول وهلة عند وقوعها ثم تردَّدت في الكتابات التي كُتبت فيما بعد. ولا ريب أن الضباط كانوا يُعنَون في قرارة أنفسهم بسلامتهم الشخصية وبتحقيق الإصلاحات العسكرية، ولكنَّهم أمسكوا عن التفكير من تلك الزاوية العسكرية الضيقة، فقد ناقشوا وجهات النظر السياسية مع أعيان الأقاليم، واتخذوا بالفعل أولى خطواتهم المتأنية نحو دورهم الأخير كحُماة للوطن.

(٤) فرض الهدف العام: حكومة شورية عادلة

وبعد إقالة محمود سامي، كانت القضية بالنسبة للضباط قضية البحث عن فرصة ملائمة لرجال الجيش لإثبات أن توفيق لا يفوقهم قوة. وفي ذلك الحين، اقترح راغب باشا على عرابي أن يغتال توفيق بأورطة من الجنود حتى يستطيع بعد ذلك أن يتولى الزعامة السياسية. ويزعم عرابي أن هذا الاقتراح أغضبه، وأنه رفضه تمامًا.

ومن الواضح أن قرار اشتراك الآلايات المعسكرة بالقاهرة في مظاهرة عسكرية أمام قصر عابدين لم يُتَّخذ إلَّا في ٨ سبتمبر، فبعد عودة الخديو إلى القاهرة تلقَّى آلاي المشاة الثالث — الذي كان يقوده إبراهيم حيدر — أمرًا بتبادل المواقع مع آلاي المشاة الخامس المتمركز بالإسكندرية والذي كان يقوده حسين مظهر. ويبدو أن الخديو قد أفلح في كسب الأخير إلى صفه أثناء وجوده في قصر رأس التين بالإسكندرية، فأراد أن يكون إلى جانبه آلاي آخر مُوَالٍ له بالإضافة إلى آلاي علي فهمي. ولكن جنود إبراهيم حيدر خشوا أن يحدث لهم ما حدث للأميرين أحمد رفعت وعبد الحليم من قبل عندما سقط قطارهما في النيل عند كوبري كفر الزيات، أضف إلى ذلك الإشاعة التي انتشرت حول قيام شيخ الأزهر بإعداد فتوى اعتبرت سلوك الأميرالايات عصيانًا جزاؤه الموت. وشعر بعض الضباط — وخاصة عرابي — أن عصابات القتلة تُلاحقهم بقيادة ناظر الضبطية الجديد. لذلك تقرَّر القيام بضغط عسكري ظهر اليوم التالي على الخديو حتى يُقدِّم ضمانات فعَّالة للأمن والعدالة.

وفي خطاب أُرسل إلى ناظر الجهادية في ٩ سبتمبر ١٨٨١م، وصف عرابي قرار نقل الآلاي الثالث المشاة إلى الإسكندرية بأنه محاولة لإضعاف الجيش تمهيدًا للانتقام من الضباط، وأنهم يأبون الاستسلام للموت على هذا النحو؛ ولذلك قرروا الاجتماع بعد ظهر اليوم نفسه بميدان عابدين ليُحوِّلوا الصراع إلى صراع علني.٤٠
وأحاط عرابي القنصل البريطاني عِلمًا بالمظاهرة وبرَّرها بالتدخُّلات والمضايقات والتهديدات التي تعرَّض لها الضباط منذ الأول من فبراير، وهم بذلك يُدافعون عن أنفسهم ويُعلِّقون آمالهم على صدور قرار حاسم من الباب العالي. وطمأن القنصلَ على سلامة رعايا البلاد الصديقة.٤١

وهُرع داود باشا إلى قصر الإسماعيلية فور استلامه بلاغ عرابي حاملًا إلى الخديو الأنباء السيئة. فاستدعى توفيق مستشاريه العسكريين والمدنيين لاجتماع عاجل، وكان من بينهم رياض والجنرال ستون وكولفن. ولمَّا كان رياض واثقًا من أن آلايَين على الأقل كانا مواليَين للخديو، فقد حثَّه كولفن وستون أن يُمسك بزمام المبادرة، وأن يجمع الآلايَين مع المستحفظين (الشرطة) في ميدان عابدين، وأن يُلقي القبض بنفسه على عرابي عندما يصل وأتباعه إلى الميدان، وأنه بقدر من الشجاعة والحسم يستطيع أن يسيطر على المتمردين.

كانت كل الشواهد تُشير إلى أن هذه الخطة قد تلقى نجاحًا حقيقيًّا. وتوجَّه الخديو وحاشيته (ومن بينهم كولفن وستون ورياض وخيري) أولًا إلى آلاي الحرس بثكنات عابدين فأقسم الآلاي يمين الولاء له، واتخذ علي فهمي وجنوده مواقعهم خلف نوافذ ومداخل القصر.

وبعدما حقَّق توفيق النجاح مع الحرس، هُرع وحاشيته إلى القلعة. ووفقًا لرواية كولفن، أعلن الآلاي الثالث بيادة الذي كان معسكرًا هناك ولاءه للخديو، ولكن تصرفاته لم تكن مضمونة كآلاي الحرس. ولم يستمع توفيق للنصائح التي وُجِّهَت إليه، وأصرَّ على التوجُّه إلى معسكرات العباسية ليمنع آلاي عرابي من النزول إلى المدينة، وكان قد أرسل رضا باشا ثم طه باشا على التوالي في محاولة لإثناء عرابي عن القيام بالمظاهرة، ولكنَّهما عادَا بخفَّي حنين. وعندما وصل توفيق إلى معسكرات العباسية، علم أن عرابي قد غادرها بجنوده قبل وصوله بوقت طويل.

وهُرع الخديو وبطانته إلى عابدين عبر طرق مختلفة، ودخلوا القصر من باب جانبي. وفي نفس الوقت كان الميدان الكبير الذي يقع أمام القصر قد احتلَّه ٢٥٠٠ جندي وجَّهوا ثمانية عشر مدفعًا نحو القصر، فبينما كان الخديو ينتقل من معسكر إلى آخر، كانت جميع الآلايات المعسكرة حول القاهرة قد اتخذت مواقعها بالميدان، حتى آلاي الحرس حنث بيمينه وانضمَّ للحشد، ولم يبقَ جندي واحد للدفاع عن الخديو.

وكان أول من حضر إلى الميدان آلاي الفرسان الأول بقيادة أحمد عبد الغفار، وليس بقيادة قائده الأصلي، ثم تلاه الآلاي الرابع المشاة، وآلاي مدفعية الميدان بقيادة عرابي. وعندما علم عرابي أن آلاي الحرس قد اتخذ مواقعه — على ما يبدو — للدفاع عن القصر، استدعى علي فهمي على الفور، وأمره بأن يجعل قواته تتخذ مواقعها أمام القصر، فنفَّذ علي فهمي ذلك دون تردد. ثم ما لبث الآلاي الثاني المشاة أن وصل من قصر النيل بقيادة ثلاثة من اليوزباشية؛ لأن الأميرالاي الثالث المشاة إبراهيم حيدر عاد إلى منزله، خوفًا أو جبنًا كما يقول عرابي في مذكراته، ولكن عبد العال حلمي قاد الآلاي إلى الموقع المُحدَّد له، وكان عبد العال قد سمع — بعد وصوله من طرة على رأس الآلاي السوداني — أن الخديو توجَّه إلى القلعة، فذهب على الفور إلى هناك، وعاد على رأس الآلاي الثالث المشاة والآلاي السوداني إلى ميدان عابدين. وأخيرًا انضم إبراهيم فهمي على رأس المستحفظين إلى الجمع.

ويرجع الفضل إلى نفوذ وعزيمة عرابي، وعبد العال حلمي، وأحمد عبد الغفار، وبعض اليوزباشية في تجنُّب انقسام الجيش إلى معسكرين، وبذلك تمَّ تفادي إراقة الدماء. ورغم ذلك، جاءت أربعة آلايات من بين الآلايات السبعة دون قادتها، أو رغم إراداتهم، ولم يكن أيٌّ منها جميعًا بكامل قوته العسكرية.

وكان الخديو ومستشاروه بلا حول ولا قوة، تمامًا كما كانت حالتهم في الأول من فبراير. وكما حدث عندئذٍ، نصح الجنرال ستون الخديو باتخاذ موقف متشدد، رغم أن تلك النصيحة قد أثبتت عدم جدواها في مواجهة جيش مُتحِد قوي العزيمة يربض عند أبواب القصر. ولمَّا كان أحد من مستشاري الخديو لا يستطيع تقديم مقترحات جادة، اعتمد الخديو المذعور تمامًا على كولفن، فخرج إلى الميدان إلى جانب كولفن لمواجهة عرابي بنفسه، الذي كان يقف وراءه بمسافة قصيرة بعض كبار الضباط.

وبينما كان الخديو في طريقه إلى الميدان، حاول كولفن تشجيعه، وقال له إنَّه يجب أن يأمر عرابي بتسليم سيفه وأن يتبعه، ثم يتجه إلى كل آلاي ويأمر جنوده بالعودة إلى معسكراتهم. واقترب الخديو وبطانته من الضباط المتجمعين وسط الميدان، وكان بعضهم يمتطي صهوات الجياد، فأمر الخديو عرابي أن يترجَّل ففعل. ثم اقترب عرابي من الخديو يتبعه زملاؤه الضباط وبعض جنود آلايه وقد ثبَّتُوا الحراب في بنادقهم، وأمر عرابي بأن يغمد سيفه ففعل أيضًا دون تردد. ولكن الخديو الذي كان يُواجه البنادق والقرابين في وضع الاستعداد، استنفد كل ما عنده فلم يبقَ سوى أن يسأل عرابي عن سبب مجيئه على هذا النحو.

وقدَّم عرابي مطالبه الثلاثة المشهورة: إسقاط وزارة رياض، ودعوة مجلس شورى النواب إلى الانعقاد، وزيادة قوة الجيش إلى ثمانية عشر ألفًا تبعًا لتوصيات اللجنة العسكرية.٤٢ وأضاف قائلًا إنَّهم جاءوا ممثلين للأمة المصرية، وإنَّهم لن ينسحبوا إلَّا إذا لُبِّيت طلباتهم. ولم يُجب توفيق على ما ذكره عرابي، بل انسحب إلى القصر استجابةً لنصيحة كولفن.٤٣ فلا يجب أن يستسلم الخديو لما يُمليه عليه الثوار أمام الملأ. وكان الأهالي يرقبون انسحاب الخديو من نوافذ وأسطح المنازل المحيطة بالميدان.

وتفاوض كولفن، وكوكسون، وبولسلاوسكي (وقد حضر الأخيران في نفس اللحظة) مع عرابي حول المطالب، وكان كوكسون يتحدَّث باسمهم، فحاول أن يُهدِّد عرابي بقوة مشتركة من الباب العالي والدول، ولكن عرابي كرَّر مطالبه، وأصرَّ على أن الجيش لا يُريد إلَّا ضمان الحقوق والحريات للشعب المصري.

فدخل المفاوضون إلى القصر، ولمَّا كان الخديو ومستشاروه عاجزين عن التقدم بأي مقترحات، نصحه كولفن بأن يُبلغ عرابي أنه اتصل بالباب العالي بشأن طلباتهم، وأن عليه أن ينصرف حتى يصل رد الآستانة، ولكن عندما أبلغ عرابي بذلك قال إنَّهم سينتظرون في أماكنهم حتى يصل الرد المرتقب، وأضاف قائلًا إنَّه إذا جاء الرد سلبيًّا فلن يعترف الجيش بسلطة الخديو حتى يأتي مبعوث خاص من السلطان ويحل القضية في موقعها.

وتمَّ الوصول إلى اتفاق داخل القصر على تقديم العرض التالي لعرابي: استقالة الوزارة فورًا، وتأجيل تلبية بقية المطالب حتى يرِد حكم السلطان بشأنها. فقبِل عرابي بهذا الحل على شرط أن يتم تشكيل الوزارة الجديدة فورًا، وألَّا يدخلها أي عضو من أعضاء الأسرة الحاكمة، وألَّا يُعيَّن جركسي ناظرًا للجهادية.

وعندما اقترح الخديو تكليف حيدر باشا أو إسماعيل أيوب بتشكيل الوزارة رفضهما عرابي لأن حيدرًا كان شقيقًا لداود باشا يَكَن، وبالتالي كان قريبًا لتوفيق، ولأن إسماعيل أيوب يفتقر إلى الخبرة، ثم ذُكِر اسم شريف، ورغم أن المصادر لا تُشير بوضوح إلى من اقترحه، إلا أن المتظاهرين قبلوا به، وأصرُّوا على أن يروا بأنفسهم خطابًا رسميًّا بتكليفه تشكيل الوزارة، فأُعِدَّت الوثيقة داخل القصر وقُرِئَت بصوت عالٍ في الميدان بحضور خيري باشا. ودار بين بطانة عرابي مطلب إقالة ناظر ضبطية مصر، ولكنَّهم اقتنعوا بأن ذلك المطلب يدخل في اختصاص الحكومة الجديدة التي يمكنها تحقيقه.

وصدحت الموسيقى في أرجاء الميدان، وتعالت صيحات الابتهاج، وخرج الخديو إلى شرفة القصر ليُستقبَل بالهتافات المدوية. وقابل عرابي وزملاؤه توفيقًا للتعبير عن ولائهم له، وسمح لهم بتقبيل يده (كما يروي بولسلاوسكي). وانسحب الجنود إلى معسكراتهم بنظام تام.

واستُدعِي شريف من الإسكندرية برقيًّا، فجاء إلى القاهرة بقطار خاص، والتقى بالخديو في صبيحة اليوم التالي بحضور القناصل.

ولم يُبدِ شريف تحمسًا للقيام بهذه المهمة، ورفض العودة إلى الحكم كمرشح من قبل جيش ثائر، وأعلن أنه لا يُريد أن يُضحِّي بما له من سمعة طيبة ويغامر بمكانته السياسية، فسيرتبط اسمه بالعصاة بلا ريب إذا قبل تشكيل الوزارة دون شروط، وكان شرطه الأول أن يضع الجيش نفسه تحت إمرته.

وفي نفس اليوم — ١٠ سبتمبر — تمَّت مقابلة بين شريف وعرابي لم تُثمِر شيئًا، ويذكر عرابي أنه قد طلب أثناء الحديث تعيين محمود سامي ناظرًا للجهادية، ومصطفى فهمي ناظرًا للخارجية، ولكنَّ شريفًا رفض الاقتراح لأن الباشاوَين حنثَا بيمينهما له في ١٨٧٩م بعدم دخول الوزارة بعد الاستقالة الجماعية التي قدَّمتها وزارة شريف (وكلاهما كان ناظرًا بوزارة رياض)، فأكَّد عرابي ميلهما إلى الحرية والعدالة والمساواة، وأصرَّ على أنه ما دام شريف قد أصبح رئيسًا للنظارة بناءً على طلب الجيش فعليه أن يستجيب لرغباته. ووفقًا لما يرويه شريف، لم يُطالب الضباط سوى بتعيين محمود سامي ناظرًا للجهادية، بينما كان شريف يود الاحتفاظ بهذا المنصب لنفسه. وعلى أيَّة حال، أصبح شريف أقل استعدادًا من ذي قبل للمخاطرة بتشكيل الوزارة بعد لقائه الأول بعرابي، وأفضى إلى القنصل النمساوي بأن لا مفر من تدخُّل تركي.

كذلك تمت مقابلة ثانية — يوم ١١ سبتمبر — بين شريف وعرابي وبعض الضباط، كانت أقل جدوى من سابقتها. فقد طالبهم شريف بالخضوع التام غير المشروط، والامتناع عن تقديم أيَّة مطالب، ونقل آلاي عرابي وآلاي عبد العال إلى الأقاليم. وأعلن الضباط ثقتهم التامة بشريف، ولكنَّهم رفضوا جميع مطالبه، ويزعم عرابي أنه قد حذَّره من أنه إذا لم يُشكِّل الوزارة وفقما يريدون، فإنَّهم سيطلبون من غيره تشكيلها. وبعد هذه المقابلة أعلن شريف أنه سوف يعود إلى الإسكندرية.

وحان — عندئذٍ — الوقت لتدخُّل الأعيان في الموقف؛ فعلى حين ظلُّوا يرقبون الموقف من بعيد حتى جني الجيش الثمار لهم، عادوا اليوم إلى ممارسة نشاطهم للتوفيق بين الطرفين. بل على العكس، قد يُقدِّر لهم الطرفان وساطتهم، ويأتي الفرج على أيديهم. وعلى أيَّة حال، كان عليهم التدخل حتى لا يفقدوا الإنجازات السياسية التي تحقَّقت في التاسع من سبتمبر. ومن ثَم دعا سلطان باشا حلفاءه من «الملوك الصغار» بالأقاليم المجاورة و«أتباعهم» على عجل، ويُقدَّر عددهم بحوالي ١٥٠ فردًا من كبار المُلَّاك والتجار والشيوخ والعمد، ويُمثِّلون أشهر الأثرياء وأوسع العائلات نفوذًا. وبالإضافة إلى محمد سلطان، وسليمان أباظة، وحسن الشريعي، نذكر الأسماء التالية: أمين الشمسي من كبار المُلَّاك بالشرقية وسر تجار الزقازيق، والمنشاوي بك الذي ينتمي إلى أسرة من كبار المُلَّاك بالغربية كوَّنت ثروتها ونفوذها في ظل إسماعيل، وأحمد محمود، وإبراهيم الوكيل، وكلاهما من عُمَد وأعضاء العائلات الثرية بالبحيرة، والشيخ أحمد الصبَّاحي من الغربية، وعبد السلام المويلحي، والشيخ علي الليثي شاعر بلاط إسماعيل صَديق محمد سلطان.

ففي مساء ١٢‏-‏١٣ سبتمبر، توجَّه وفد من الأعيان إلى شريف باشا، وطالبه بقبول تشكيل الوزارة، وتعهَّدوا بالتزام الجيش حدود الطاعة، وقدموا له ضمانًا كتابيًّا بذلك.

وبعد ظهر يوم ١٣ سبتمبر، وقَّع القادة العسكريون الذين شاركوا في المظاهرة إعلانًا بالطاعة لرئيس النظَّار الجديد، ذكر فيه أنهم يثقون بحسن نوايا شريف ورغبته في صون حقوق الوطن، وحثوه على ترقية أحوال الأهالي، والتمسوا منه قبول المنصب واختيار النظار من الرجال الشرفاء، وبتوقيعهم على تلك الوثيقة قيَّدوا أنفسهم بطاعة أوامر الحكومة التي تصدر لخدمة الصالح العام.

وإلى جانب تلك الوثيقة، قدَّم الأعيان وثيقة مكتوبة لشريف «كضمانة وكفالة لتعهداتنا ودليل على اشتراكهم معنا في الطلبات الوطنية» على حد قول عرابي.٤٤ ولكن قراءة في هذه الوثيقة لا توحي بتلك المعاني، فقد أكَّد الأعيان ثقتهم بشريف، وتعهَّدوا بأن «أبناءهم وإخوانهم» الضباط لن يثيروا «الحوادث المقلقة» مرة أخرى، وأن الأسباب التي أدَّت إلى إثارة مخاوف الضباط وضيقهم قد أزيلت.٤٥

وبدا شريف مستعدًّا للقبول بمقترحات الضباط حول اختيار النظار، وأصرَّ على رحيل الآلايين خارج القاهرة بعد الموافقة على القوانين العسكرية الجديدة. وفي ١٤ سبتمبر كتب شريف خطابًا إلى توفيق بقبول تشكيل الوزارة ضمَّنه برنامجه وقائمة بأسماء النظار.

وجاء البرنامج موافقًا في معظم نقاطه لبرنامج رياض عام ١٨٧٩م. كما جاءت تأكيداته على نحو ما كان متوقعًا: «باذلًا جهدي أولًا في إزالة ما هو قائم بالخواطر من الاضطراب، ومنع وقوع نوازل كالتي بمصر في هذه الأيام.» كما أولى اهتمامًا خاصًّا لتقوية الصلات مع المراقبَين العامَّين، وكان ذلك موجهًا إلى بريطانيا وفرنسا؛ لأنه كان يُعد في نظر قنصلَي البلدَين أقوى مُعارضِي المراقبة. واختلف برنامج شريف عن برنامج وزارة رياض في نقطة واحدة هي الرغبة في وضع حدود للمراقبة الثنائية والتحديد الجديد لطبيعة «القوى العمومية».

وفي النص العربي لخطاب شريف، حدَّدت «القوى العمومية» بأنها «القوى المنوطة بوضع القوانين، والقوى القضائية المكلفة بالحكم على موجبها والقوى التنفيذية». وعلَّقت الوقائع المصرية — في عددها الصادر في ١٧ سبتمبر ١٨٨١م — على هذا المفهوم لتقسيم السلطات الذي ظهر لأول مرة في وثيقة رسمية، بقولها إن الحكومة الجديدة سوف تحمي بكل قواها «أركان الحكومة الثلاثة وهي: القوة القضائية، والقوة الإجرائية، والقوة المُقَنَّنة»؛ لأن الإصلاحات الحقيقية لا تقوم إلَّا على هذا الأساس (تقسيم السلطات)، وتمضي الجريدة في القول بأن «المقصود بالقوة المُقَنَّنة مجلس الأمة الذي يحرس مصالحها، ويُقرِّر ما فيه الصالح العام.»

وفي نفس اليوم، وافق توفيق على هذا البرنامج وأصدر مرسومًا بتعيين النظار الذين اقترحهم شريف: فتولى شريف نظارة الداخلية إلى جانب رئاسته لمجلس النُّظَّار، وأصبح مصطفى فهمي ناظرًا للخارجية، ومحمود سامي ناظرًا للجهادية تلبية لرغبة الضباط، وعُيِّن علي حيدر يكن ناظرًا للمالية، وإسماعيل أيوب ناظرًا للأشغال العمومية، وكانا قد رُفِضَا من قبل كمرشحين من جانب الخديو لرئاسة مجلس النظار، وتولَّى محمد زكي نظارتَي المعارف والأوقاف، وكان من رجال «المعية» المقبولين عند توفيق وشريف، وعُيِّن القاضي محمد قدري المستشار بمحكمة الاستئناف المختلطة بالإسكندرية، وعضو لجنة إصلاح المحاكم الأهلية، ناظرًا للحقانية.٤٦
ولم يبقَ من أعضاء وزارة رياض التي استمرت مدة عامين على غير العادة (وإن تغيَّر ناظر الجهادية بها ثلاث مرات) سوى مصطفى فهمي، وكان — في حقيقة الأمر — ناظرًا في ظل كل نظام، وظلَّ يشغل مناصب الوزارة دون انقطاع من ١٨٧٩م حتى ١٩٠٨م (وكان ناظرًا للخارجية فيما بين ١٨ أغسطس ١٨٧٩م و١٧ يوليو ١٨٨٢م). واحتفظ غالبية كبار موظفي النظارات بوظائفهم، فثبت وكيل الداخلية (خليل يكن)، ووكيل المالية (بلم باشا Blum النمساوي اليهودي)، ووكيل الجهادية (أفلاطون باشا)، وسكرتير عام الخارجية (تيجران بك)، وسكرتير عام الأشغال العمومية (روسو بك)، وأصبح سكرتير عام الحقانية، بطرس غالي، سكرتيرًا عامًّا لمجلس النظار بدلًا من ميخائيل كحيل الذي عُيِّن فيما بعد نائبًا عامًّا للمحاكم الأهلية. وخلف بطرس غالي في وظيفته الأصلية حسين واصف الذي كان — حتى ذلك الحين — وكيلًا للنائب العام بمحكمة الاستئناف المختلطة.٤٧

وكان المغنم الحقيقي من وجهة نظر الضباط هو إعادة محمود سامي إلى مجلس النظار، وإلَّا كان تشكيل المجلس على هذا النحو يُمثِّل خطوة إلى الوراء. لأن ذلك يعني إبعاد المصلحين الوطنيين علي مبارك، وعلي إبراهيم، ليُصبح مجلس النظار تركيًّا-جركسيًّا خالصًا.

ولا ريب أن تردُّد شريف في تولي رئاسة الوزارة كان صادقًا. ولكن محاولته إخفاء حقيقة كونه يدين بمنصبه الجديد للجيش الثائر — حتى على الرغم من وساطة الأعيان — كانت خداعًا للنفس أكثر من كونها خداعًا للمراقبين الأجانب والمصريين. وحتى لو كان على علم بالجهود الرامية إلى إسقاط رياض، فإن ذلك لا يُبرِّر المزاعم الخاصة بتواطئه أو باعتبار سياسته التي أعقبت مظاهرة ٩ سبتمبر لعبة سياسية طويلة وبارعة. فلم يُوصم شريف أبدًا بخيانة القضية على يد محمد عبده أو عرابي، على عكس سلطان باشا مثلًا. وقد أصبح شريف مرشح الجيش والأعيان لرئاسة الوزارة؛ لأنه كان يُناصر مجلس النواب ويُعارض المراقبة الثنائية؛ ولأنه الشخص الذي يمكن فرضه على الخديو دون القيام بثورة حقيقية أو انقلاب بكل ما قد يترتب على ذلك من نتائج. ولم يكن توفيق ليقبل بسلطان باشا رئيسًا للنظار، وكذلك عرابي (الذي لم يكن يفكر حتى في إمكانية ذلك)، ثم يتصرف الخديو بعد ذلك وكأن شيئًا لم يحدث.

وفي ضوء الأحداث السابقة واللاحقة يجب اعتبار جهود شريف لإخضاع الجيش ضرورة ملحة وأصيلة، فقد سُرَّ بالعودة إلى السلطة، ولكنَّه أراد أن يتفادى الاستناد إلى الجيش، بل كان يرى أن تعتمد وزارته على الأعيان، فقد ينجز التشريعات الدائمة بدعوة مجلس النواب الذي سوف يتكوَّن من أوسع أعيان الأقاليم نفوذًا إلى جانب تجار المدن.

وخلال ثلاثة أسابيع، هيَّأ شريف متطلبات تلك السياسة؛ ففي ١٦ سبتمبر قابله عرابي وبعض رفاقه ليُعربوا له مرة أخرى عن شكرهم، ويُعلنوا ولاءهم له ويتعهَّدوا بطاعته، وألقى عرابي خطابًا عبَّر فيه عن ثقة الضباط بصداقة شريف وبنيَّاته المخلصة «لمحبة الوطن وأهله»، وأن تلك الصفات تُمثِّل الشكل الأمثل «لوقاية البلاد»، وأكَّد أن الضباط يعرفون أن واجبهم الدفاع عن البلاد وأهلها.

وجعل شريف من ذلك الواجب موضوعًا لرده على خطاب عرابي، فذكَّره بما تعرفه الأجيال السابقة تمامًا من أن «آفة الرياسة ضعف السياسة»، ولكن القوة لا تُحقَّق دون خضوع الجنود وامتثالهم امتثالًا تامًّا، فلا يمكن أن تقوم الحكومة بواجبها الهام نحو حماية الوطن والمحافظة على الأمن العام دون التزام الجنود بالطاعة. وذكر أن تأخُّره في قبول رئاسة الوزارة يرجع إلى عدم رغبته في رئاسة مجلس ضعيف للنظار قد يُصبح هدفًا للانتقاد داخليًّا وخارجيًّا، ولكنَّه اقتنع بأن الجيش سوف يخضع له، وأخيرًا أوصاهم بأن يعتبروا النظام والانضباط دليلهم الأوحد.٤٨

ووافق الضباط على رحيل عبد العال حلمي بآلايه إلى دمياط بمجرد التصديق على القوانين التي وضعتها اللجنة العسكرية، وعلى أن ينتقل عرابي بالآلاي الرابع المشاة إلى رأس الوادي فور انعقاد مجلس النواب.

وفي ٢٢ سبتمبر، وقَّع الخديو القوانين الخمسة التي أعدتها اللجنة العسكرية. وقد وضعت تلك القوانين التنظيم الداخلي للجيش على أساس جديد، وخاصة فيما يتعلق بالترقيات والإجازات والمعاشات والمكافآت والمزايا، وأوضاع الضباط المحالون للاستيداع. وقد تمَّ وضع تلك القوانين بالتعاون مع عرابي، وتضمَّنت جوهر المطالب التي رفعها الجيش منذ سنوات عديدة. وفي أول أكتوبر، غادر عبد العال حلمي القاهرة على رأس الآلاي السوداني إلى الحامية الجديدة بدمياط.

وكان عقد مجلس النواب — ظاهريًّا — استجابة لطلب الأعيان، وليس استجابة لمطالب الضباط، فاجتمعت المجموعة التي تتحدَّث باسم الأعيان — التي سبق ذكرها — بمقر نظارة الداخلية في ١٨ سبتمبر برئاسة سلطان باشا، وقدَّمت وثيقتان قيل إن كُلًّا منهما كانت تحمل توقيع ١٦٠٠ شخص.٤٩

وفي العريضة الأولى التي وُجِّهت إلى شريف باشا ذاته، عبَّر الأعيان من جديد عن ثقتهم به، وضمنوا — مرة أخرى — امتثال الجيش امتثالًا تامًّا لوزارته.

وأعلن الأعيان في العريضة الثانية — التي وُجِّهت إلى الخديو — أن العالم والمجتمع البشري لا يقوم نظامهما إلَّا على أساس العدالة والحرية، حتى يستطيع كل إنسان أن يأمن على حياته وممتلكاته؛ فتجربة الفكر والعمل تقوم عليها السعادة والرخاء الحقيقي. وأن ذلك لا يتحقَّق إلَّا بإقامة «حكومة شورية عادلة لا تشويها شوائب الاستبداد ولا تتطرَّق إليها طوارق الفساد» ولذلك أُقيمت المجالس النيابية في الممالك المتمدنة لحماية حقوق الأمة في مواجهة الحكومة ولتكون السبيل لتنفيذ أوامر الحكومة العادلة، وهي الاعتبارات التي أدَّت إلى إقامة مجلس النواب المصري من قبل. ولمَّا كانت النوايا الطيبة قد توفَّرت لتوفيق، فعليه أن يُعيد للأمة المصرية المجلس الذي يُمثِّل حقوقها أمام الحكومة، على أن يُكون مُماثلًا للمجالس النيابية في بلاد أوروبا المتمدنة.

ويمكننا أن نعد هذه العريضة أهم الوثائق الدستورية التي صدرت خلال الفترة التي يُعالجها هذا الكتاب، فلم تُوضع على النمط الأوروبي أو بِيد الموظفين الذين تلقُّوا تعليمهم بأوروبا، ولم يكن الخديو موحيًا بها، كما لم يكتبها المتحمسون الأوروبيون (للحركة الوطنية المصرية). ويجب أن ننظر إليها باعتبارها التعبير الأصيل عن الأفكار الدستورية والطموحات الخاصة بالأعيان وبمجموعة من كبار المُلَّاك المتنفذين على وجه الخصوص، ولكن عقد مجلس النواب لم يكن ليعني أن أولئك النواب قد ملكوا زمام السلطة، فقد كانوا يرون في المجلس أداة لإقامة وضمان مبادئ العدالة والحرية وتأمين الأشخاص والممتلكات، والأعيان لم يُناضلوا من أجل «حكومة برلمانية»، ولكنَّهم كانوا يُناضلون من أجل تمثيل مصالحهم وحماية وضعهم الاجتماعي الاقتصادي، والإشارة العامة إلى النموذج الأوروبي للبرلمانات لا تعكس مفاهيم دستورية ذاتية، وإنَّما تعني مجرد الاعتقاد الأساسي بأن تقدم أوروبا يستند إلى تلك المؤسسات. ولم توضع فكرة شريف عن «القوى الثلاث» موضع التنفيذ، فقد كان المجلس أداة مساعدة للحكومة، وأداة فعالة لتنفيذ قراراتها العادلة، وكانت إقامته تهدف لتحقيق الأثر المنتظر من وجوده، دون أن يتحوَّل إلى نظام فعَّال للرقابة على الحكومة.

وعندما قام سلطان بتسليم تلك العريضة لشريف، ألقى خطابًا أشاد فيه بما يعرفه الجميع من ميل مجلس النظار إلى الحرية والعدالة والمساواة، وطلب منه أن يرفع العريضة إلى الخديو وأن يسعى بجد لتحقيق ما جاء بها. ورد شريف على ذلك بالقبول.٥٠
وفي ٤ أكتوبر تحقَّقت رغبة الأعيان، فقد كتب شريف خطابًا إلى توفيق أشار فيه إلى أن الإصلاحات التي تتجه النية إلى إدخالها، والتي يؤدي تطبيقها إلى «تحسين الأوضاع التي أثبتت التجربة عدم صلاحيتها»، لا يمكن أن يتولَّاها مجلس النظار وحده، «ونحن نعتقد في ضرورة إجراء المزيد من الدراسات والتوصل إلى قرارات حكيمة عن طريق تبادل الآراء ووجهات النظر حولها، مع الرجال الذين عرفوا بسعة الاطلاع على الأمور والشرف وبتمتعهم بالثقة العامة لمواطنيهم، وبآراء الأشخاص المستنيرين الذين يُمثِّلون الشعب ويُعبِّرون عن مشاعره» ومن ثَم يجب أن يُوجِّه الخديو الدعوة إلى مجلس شورى النواب للانعقاد في ٢٣ ديسمبر ١٨٨١م، وفقًا للإجراءات التي اتُّبِعَت منذ عام ١٨٦٦م، ويجب أن تشمل «الإصلاحات الحكيمة» لوائح ١٨٦٦م القديمة الخاصة بمجلس شورى النواب؛ لأن شريفًا يرى أن تلك القوانين كانت «غير كافية — دون شك — واستبدالها بلوائح جديدة أكثر انسجامًا مع أماني البلاد» وأنه يريد أن يستشير النواب في المسائل الخاصة بالضرائب والسخرة ومجالس الأقاليم، على ألَّا تكون المعاهدات الدولية أو المؤسسات القائمة على أساسها موضع نقاش بالمجلس.٥١

وتُشير هذه الوثيقة بوضوح إلى أن فكرة تقسيم السلطات التي وردت ببرنامج وزارة شريف قد أُهمِلَت وظلَّت عديمة الأهمية، ولم تترتَّب عليها نتائج ما، كما أن شريفًا لم يثرها مرة أخرى، بل وضع مجلس النواب على مستوى مبدأ الشورى التقليدي، وجعل للأعيان صلاحيات استشارية. ولكنَّه قدَّم بذلك صيغة حديثة للمبدأ الذي كان يحظى بالتقدير منذ زمن بعيد، تمامًا كما فعل محمد عبده في نهاية ديسمبر ١٨٨١م.

ووقع الخديو في نفس اليوم (٤ أكتوبر) مرسوم دعوة مجلس النواب للانعقاد، وفي صباح ٦ أكتوبر غادر عرابي القاهرة على رأس آلايه إلى رأس الوادي. ووصلت في نفس اليوم إلى مصر بعثة مُوفدة من الباب العالي، ولكنَّ أحدًا لم يكن يعرف نواياها الحقيقية.

(٥) الباب العالي وأحداث مصر

رأى توفيق ألَّا سبيل إلى استعادة سلطته — التي أضاعها العجز واليأس في ٩ سبتمبر — سوى عن طريق طلب العون العسكري من الآستانة. وفي عصر ذلك اليوم، أبرق إلى الباب العالي طالبًا إرسال عشرين كتيبة من الجيش التركي على وجه السرعة، على أن تعمل هذه القوات تحت قيادته حتى لا يتحوَّل الأمر إلى تدخل تركي، ولا تكون القوات سوى أداة يستخدمها لاستعادة السلطة. ولم يشعر أن عليه أن يُقدِّم شيئًا مقابل تلك المعونة، ألم يكن يُعَد ممثل السلطان في مصر؟ ألا يتوقَّع أن يهبَّ السلطان لنجدته عند الحاجة؟ ألم يجرح ما حدث كرامة السلطان كما جرح كرامته؟

ولكن السلطان لم يكن يُفكِّر في تلبية طلب توفيق على نفس الصورة، فطلب معلومات أكثر تفصيلًا عن أهداف الثوار. فأبلغ توفيق السلطان بصدق — في ١١ سبتمبر — أن هناك سببين لسخط الثوار؛ هما: أن مصر تقع تحت سيطرة الأتراك والأوروبيين بدلًا من أن تكون تحت حكم المصريين، وأن ثروة البلاد تُبدَّد على سداد الديون الأوروبية. وأضاف توفيق أنه ليس لديه علم عمَّن يقف وراء الثوار، وأن كل ما يمكن قوله إن صحيفة «أبو نضارة» — التي تُطبع في باريس بتمويل من حليم — تُهرَّب إلى مصر وتُوزَّع الآلاف من نسخها مجانًا على رجال الجيش، واعتبر الدعاية التي تبثها تلك الصحيفة أحد الأسباب الرئيسية للمظاهرة. وعلى أيَّة حال، ما لبث توفيق أن سحب طلب إرسال القوات التركية — في ١٤ سبتمبر — طالما كان أعيان المصريين قادرين على إعادة الجيش إلى الصواب وإعادة الهدوء إلى البلاد.

ولم يكن الضباط يخشون التدخل التركي بأي حال من الأحوال، فقد سبق لهم إحاطة السلطان علمًا — قبل ٩ سبتمبر — بمصدر الخطر الحقيقي على مصر من وجهة نظرهم، وعبَّروا عن مخاوفهم من احتمال أن تنال مصر على يد بريطانيا نفس المصير الذي لحق بتونس على يد فرنسا. ولذلك لم يستخدم شريف التهديد بالتدخل التركي لإثارة مخاوف الضباط خلال تفاوضه معهم حول الوزارة الجديدة. وأكَّدوا على أنه في حالة تدخل السلطان، يجب أن يكون ذلك التدخل لصالحهم، طالما كانوا مستعدين للدفاع عن مصر — التي تُمثِّل جزءًا من الدولة العثمانية — ضد الأطماع البريطانية. ولكن هذا الاستعداد لم يكن سببًا كافيًا عند السلطان المستبد حتى يُعطي تأييده الكامل للضباط، كما أنه لم يكن يعرف كيفية التصرف حيالهم.

وعندما وصلت أنباء الاضطرابات التي وقعت في مصر، قام السلطان أولًا بتشكيل لجنة من أربعة أعضاء، مُهمتها الرئيسية دراسة احتمالين وتقديم التوصيات بشأنهما: أولهما استبدال حليم بتوفيق، وثانيهما إرسال بعثة عسكرية للإشراف على معاقبة الثوار باسم السلطان. فأوصت اللجنة باتخاذ الإجراءين معًا.

ورغم ذلك، غادرت الآستانة — في ٢ أكتوبر — بعثة عثمانية من خمسة أعضاء توجَّهت إلى مصر، يرأسها علي نظامي، وهو ضابط معروف برتبة فريق، وعلي فؤاد السكرتير الخاص للسلطان، ونجل الصدر الأعظم السابق علي باشا، أما بقية الأعضاء فسكرتيران وأحد الياوران. ولم يكن الحديث يتناول — عندئذٍ — تأديب الثوار، فبدلًا من ذلك كان على المبعوثين أن يُحقِّقوا للسلطان أكبر قدر ممكن من الكسب من الصراع الدائر بين الخديو والضباط المصريين، وتقوية الروابط بين مصر والباب العالي، وتبين ما إذا كان داء القومية العربية قد أصاب مصر عامة، والثوار خاصة.

فقد كان السلطان منزعجًا من اشتعال جذوة الفكرة العربية، وفي النصف الثاني من عام ١٨٨٠م ظهرت في مختلف المدن السورية واللبنانية منشورات خطية تدعو إلى الثورة ضد الأتراك، تُناشد وطنية العرب، وتُذكِّرهم بماضيهم العظيم. وخلال الشهور من أبريل إلى يونيو ١٨٨١م، كان هناك منشور آخر يُوزَّع على نطاق واسع مُوجَّهًا إلى الأمة العربية، يتضمَّن الدعوة إلى التخلُّص من نير الحكم التركي اقتداءً برومانيا وبلغاريا والجبل الأسود والصرب. وكانت دائرة انتشار هذا المنشور واسعة تضم القاهرة والإسكندرية وبغداد، وكان يُوزَّع عن طريق البريد أحيانًا، ويظهر على صورة ملصقات أحيانًا أخرى، وكان مُوجَّهًا إلى المسلمين وحدهم، ولكنَّه كان يُخاطب أيضًا المسيحيين السوريين والمصريين.

ومن ثَم كان السؤال الأول الذي وجَّهته البعثة العثمانية إلى توفيق وشريف في ٧ أكتوبر يدور حول الجهود التي ترمي إلى استقلال العرب عن تركيا، والتي كان يُظَن بأن مبعثها سوريا ومصر. وتلقَّت البعثة التأكيدات بأن لا يوجد في مصر ما يبعث على الخوف من تلك الناحية. وعبَّرت البعثة عن استياء الباب العالي من التدخل الأوروبي لأنه يؤدي إلى إثارة رد الفعل الوطني، الذي قد يتخذ — بسهولة — طابعًا مُعاديًا للأتراك. وأوصت بألَّا يُستخدم الأجانب في وظائف الإدارة أو يعملوا كمستشارين للحكومة بقدر الإمكان. كما رأت أن من الأفضل عدم دعوة مجلس النواب للانعقاد؛ لأن ذلك قد يؤدي إلى تشجيع الأفكار القومية، ورأت اللجنة أن سلطات مجلس النظار لا تتضمَّن عناصر تُنذر بالخطر، وطمأن توفيق البعثة إلى أن مجلس النواب لا يُخوَّل النظر في المسائل «السياسية»، وأنه لن يتم اتخاذ أي خطوات نحو إصدار الدستور دون استشارة الباب العالي. وألقى بتبعة ما حدث في مصر على عاتق سياسة رياض الخاطئة، وأكَّد أنه استطاع بمساعدة أعيان البلاد أن يُعيد الأمور إلى نصابها. وكانت النصيحة الوحيدة الأخرى التي قدَّمتها بعثة السلطان للخديو هي ضرورة تقوية الروابط مع الباب العالي، حتى يستطيع الاحتفاظ بسلطته على الجيش.

وبقيت أمام البعثة مهمة اختبار مدى ولاء الضباط والعلماء والأعيان للدولة، وتقوية مظاهر ذلك الولاء. ولمَّا كان أحمد رفعت على معرفة شخصية بنظامي وفؤاد، فقد أوكل إليه شريف مهمة استكشاف حقيقة ما تريده البعثة، وأمره توفيق بأن يؤكِّد للبعثة ولاء الخديو للباب العالي. وعندما زار رفعت البعثة في قصر النزهة، كان أول سؤال وُجِّه إليه هو ما إذا كان يجب النظر إلى المظاهرة العسكرية «كمقدمة لحركة عربية عامة»، وهو نفس السؤال الذي أرادت اللجنة طرحه على عرابي، ويذكر رفعت أنه شرح لهم كيف أن رحيل الأميرالايَين عن القاهرة بقواتهما دليل على خضوع الجيش خضوعًا تامًّا، ممَّا جعل اللجنة تعدل عن فكرة زيارة عرابي، بعدما تحقَّقت أن مثل تلك الخطوة قد تؤدي إلى إثارة عدم الثقة والشكوك.

واجتمعت البعثة بالضباط الموجودين بالقاهرة ممن شاركوا في المظاهرة، فزار علي نظامي — يُرافقه ناظر الجهادية — الآلاي الثاني المشاة الذي كان يقوده طُلبة عصمت. وفي معسكرات قصر النيل، ألقي نظامي خطابًا في ضباط الآلاي، أكَّد فيه على ضرورة امتثال الجيش امتثالًا تامًّا، وأهمية الروابط التي تربط بين مصر — أهم بلاد الدولة العثمانية — والباب العالي، وقال إن الخديو إنَّما يُمثِّل السلطان فمَن أطاعه أطاع السلطان، وأن من يخالفه يخالف السلطان وتعاليم القرآن.٥٢
وردَّ طُلبة عصمت بخطاب عبَّر فيه عن الولاء للسلطان، مؤكِّدًا أن «الجيش المصري الشاهاني يعترف لمولانا وإمامنا سلطان الملة الإسلامية بالسلطة والسيادة على مصر»، كما أن الجيش يتصدَّى دائمًا لحماية سلطة الخديو — مُمثِّل السلطان في مصر — وامتيازاته، وأن ليس ثمة خلافًا بين توفيق وضباطه، وأنهم إنَّما كانوا يعارضون سياسة رياض الرامية إلى إنقاص قوة الجيش؛ تلك السياسات التي أضرَّت بمصالح الوطن والسلطان والخديو، وأن الضباط لا يهدفون إلَّا إلى خدمة وطنهم، وكان وقوفهم أمام قصر عابدين للمطالبة بحقوقهم وحقوق أمتهم، وكما أن الباب العالي يعتبر مصر قلب الدولة العثمانية، فإن الباب العالي مقر الخلافة يُعد مُلتقى آمال المصريين وموضع فخارهم، وأن على المسلمين جميعًا أن يعملوا لحماية الدولة العثمانية من كل ما قد تتعرَّض له من شرور.٥٣
وتلقَّى أعضاء البعثة تأكيدات مماثلة بالولاء للسلطان من ممثلي الأعيان وخاصة العلماء وشيخ الأزهر ونقيب الأشراف والشيخ عليش،٥٤ وقد كوفئ الجميع على ولائهم بالنياشين التي وُزِّعت حسب المكانة الاجتماعية لمن مُنِحُوا إيَّاها، فنال سلطان باشا أرفعها، ونال طُلبة عصمت وضباط آلايه أدناها مرتبة.
وفي ١٤ أكتوبر أبلغت البعثة الباب العالي أنها قد أتمَّت مهمتها بنجاح، وأنها لم تعد بحاجة إلى البقاء بمصر أكثر من ذلك؛ إذ يبدو أن ليس ثمة خطرًا يتهدَّد الدولة من جانب مصر، ولكن حتى تطمئن البعثة إلى ذلك كان يجب أن يقوم ضابط اتصال بلقاء عرابي. وفي ١٦ أكتوبر التقى أحمد راتب بعرابي «صدفة» على محطة السكك الحديدية بالزقازيق، ثم استقلَّا سويًّا القطار المتجه إلى السويس، وكانت وجهة راتب بعد ذلك جدة. وقد جلس الرجلان في مقصورة واحدة من الزقازيق إلى رأس الوادي، وبعد أن تعارفا أعطى عرابي لياور السلطان فكرةً عن الحوادث الأخيرة من وجهة نظره، وأكَّد على أن الضباط ليسوا ثوارًا وأنهم إنَّما طالبوا بالإصلاح باسم السلطان وأنهم يعترفون بسيادته على مصر وبالخديو كممثل له.٥٥
وكانت البعثة التركية موضع ريبة الدول الأوروبية وخاصة أنه لم يكن ثمة سبيل لمعرفة حقيقة ما تُريده من مصر. ولذلك ضغطت الدول على السلطان حتى يأمر بعودة البعثة من مصر. وأبحرت سفينة بريطانية وأخرى فرنسية صوب الإسكندرية لتؤكِّدَا مطلب الدولتين بأسلوب العصر. فوصلت السفينة البريطانية Invincible في ١٩ أكتوبر بعد رحيل البعثة التركية ببضع ساعات، وكانت السفينة الفرنسية Alma قد ألقت مراسيها بالميناء قبل ذلك بثلاثة أيام، وفي ٢٠ أكتوبر أبحرت السفينتان إلى خارج المياه الإقليمية المصرية.

ولكن هذه المظاهرة البحرية لم تستطع أن تحول دون اتصال الباب العالي بطرفَي الصراع الداخلي في مصر، وطلب السلطان من الخديو أن يُرسل مبعوثًا خاصًّا لمواصلة الاتصال مع الآستانة، واقترح أن يتولَّى تلك المهمة طلعت باشا، واستجاب توفيق لرغبة السلطان واختار ثابت باشا لتمثيل مصالحه لدى الباب العالي. وقيل إن قدري بك — أحد أعضاء البعثة — بقي في مصر كممثل للسلطان. وعاود السلطان الاتصال بعرابي عندما أصبح الأخير ناظرًا للجهادية في فبراير ١٨٨١م. ولكنَّنا سنتناول موقف الباب العالي تجاه وزارة محمود سامي عامة وعرابي خاصة، في فصل لاحق.

(٦) مولد بطل شعبي، أحمد عرابي الحسيني المصري

كان سقوط وزارة رياض يُمثِّل انتصارًا للضباط المصريين ولأعيان الريف، ولكنَّهم لم يمسكوا بزمام السلطة، وحصل الأعيان على وزارة تميل إليهم، وتعتمد على تأييدهم، غير أن أحدًا من المتحدثين باسمهم لم ينل مقعدًا بتلك الوزارة. فجاء أعضاء الوزارة الجديدة من بين الكوادر الإدارية التركية-الجركسية، الذين كانوا يُشكِّلون العمود الفقري لحكم إسماعيل وأُسنِدَت إليهم وحدهم جميع المناصب الخاصة بصنع القرار. وكان أهم شيء بالنسبة للضباط دخول محمود سامي الوزارة مرة أخرى، فقد لبَّى معظم مطالبهم في الشهور الماضية، وبدا لهم أنه يضمن سلامتهم.

وحتى شريف ذاته لم يكن يتمتَّع بسلطة حقيقية، مهما كان اعتقاده بذلك ومهما ردَّد من تأكيدات بذلك للآخرين، فما لبث أن اتضح أن سلطته كانت مجرد خيال. ولم ينسَ أحد أن يُضفي عبارات التقدير عليه والتقدير له كلما سنحت الفرصة لذلك، ولكن من المؤكَّد أنه لم يصبح المركز الحقيقي للسلطة.

ولم تكن المصالح العامة تتركَّز في شريف أو في المتحدثين باسم الأعيان، ولكنَّها كانت تتركَّز في الأميرالايات المصريين، وخاصة عرابي الذي تحدى الخديو أمام قصر عابدين. ولا ريب أن أعيان الريف أنفسهم نظروا إلى عرابي على أنه صاحب السلطة الحقيقية (باستثناء سلطان باشا الذي كانت له تطلعاته البعيدة كمحمود سامي على نحو ما سنرى فيما بعد)؛ لأن الأمور تعتمد كثيرًا على موقفه وصداقته أو عداوته؛ ولذلك كان يُنظر إليه وكأن اعتلاءه للسلطة سوف يحدث في المستقبل القريب. وعبَّر نجاح الصحافة — التي صدرت حديثًا — عن اتجاه هذه المصالح العامة، كما عبَّر عنه رحيل الآلاي الرابع والآلاي السادس المشاة من القاهرة واستقبالهما في دمياط والشرقية.

وتحوَّل عرابي بسرعة من أميرالاي مُتمرِّد إلى بطل وطني وحامي للوطن والإسلام من القوى الأوروبية الكافرة المتغطرسة، كما تحوَّل إلى مُحرِّر للشعب من طغيان الأتراك-الجراكسة. ونسي عرابي بسرعة الأصول العسكرية التي أدت إلى ظهوره العلني على مسرح الأحداث، ونعني بذلك الصراع داخل الجيش. وقَبِل الدور الذي أُسنِدَ إليه، ووسَّع من مطالبته بالعدالة والمساواة لتشمل الأوضاع الاجتماعية والسياسية في مصر كلها. وكان يحتاج إلى مجرَّد توسيع إطار عباراته من أجل التعبير عن رسالته الجديدة. وما لبث أن نسي الشكاوى «الصغيرة» الخاصة بتغذية الجند أو تخفيض أجور سفرهم، وتحوَّل عرابي من بطل للعدالة وتحسين الأحوال المادية للجيش إلى رمز وطني لمصر.

ويمكننا أن نُميِّز بين اتجاهين في الصحافة: اتجاه المعتدلين الذي عبَّرت عنه صحف المسيحيين منذ فجر الصحافة المصرية، مثل الشوام سليم وبشارة تقلا وسليم النقَّاش، والقبطي ميخائيل عبد السيد. فقد أيَّدت «الوطن» و«الأهرام» رياضًا، وأُجبِرَت «المحروسة» على التزام موقف محايد. أما الاتجاه الآخر، فقد عبَّرت عنه الصحف الجديدة التي صدرت خلال الشهور الستة الأخيرة، والتي روَّجت لأفكار الجامعة الإسلامية ورفضت صراحة النفوذ الأوروبي السياسي والثقافي، وهي صحف: «البرهان» التي كان يُحرِّرها الشيخ حمزة فتح الله، و«الحجاز» التي كان يُصدرها إبراهيم سراج الدين المدني الذي نزح من المدينة المنورة ودرس بالأزهر وطُرِد من الجزائر لموقفه العدائي من الفرنسيين فجاء إلى مصر عبر تونس، وصحيفة «المفيد» التي أصدرها حسن الشمسي، وصحيفة «التنكيت والتبكيت» التي أصدرها عبد الله النديم الذي أشرنا إليه من قبل.٥٦
فقد اختلفت الصحف الممثلة للأقليات المسيحية التي تهتم بإصلاح علماني نسبي يتجاوز الخلافات الدينية اختلافًا بيِّنًا عن الصحف التي روَّجت للجامعة الإسلامية وتولَّى تحريرها صحافيون مسلمون. فعلى حين كان المسيحيون المتأثرون بالثقافة الغربية يُقوِّمون الحضارة الأوروبية تقويمًا إيجابيًّا ويتطلَّعون إلى أوروبا كنموذج سياسي يَصلُح لمصر، عَكَس منافسوهم الجدد المظاهر السلبية للثقافة والحضارة الغربية، وحاربوا تأثيرهما السيئ في البلاد الإسلامية عامة ومصر خاصة. وظهر عرابي على صفحات جرائدهم كحامي حمى الإسلام والمظلومين، بينما أيَّدت الصحف الأقدم شريفًا رجل الدولة «اللبرالي».٥٧ واستُدعِي شريف أديب إسحاق إلى القاهرة مرة أخرى، وتولَّى تحرير صحيفة «مصر» اعتبارًا من ٣ ديسمبر ١٨٨١م، رغم أن تلك الصحيفة لم تستعد ما كان لها من أهمية من قبل. وأصبحت «الطائف» التي يُحرِّرها عبد الله النديم لسان حال العرابيين، كما أصبحت — في ربيع ١٨٨١م — الصحيفة شبه الرسمية لمجلس شورى النواب، رغم أن مُحرِّر «مصر» كان يعمل في سكرتارية المجلس.

وأعادت «المحروسة» إلى الأذهان — بعد ٩ سبتمبر — المطالب الدستورية التي رفعها شريف قبل عامين واستقال عندما عجز عن تحقيقها. ورفضت الصحيفة الاعتراض المحتمل بأن مصر لم تبلغ من النضج الدرجة التي تؤهلها للدستور والمجلس النيابي، وزعمت أن إنجلترا كانت أقل من مصر من حيث المستوى الحضاري قبل تأسيس البرلمان، وأن تقدُّم إنجلترا تحقَّق بعد تأسيس البرلمان، وذكرت أن مجلس شورى النواب السابق كان — بلا شك — أداة في يد إسماعيل، ولكنَّ عهدًا جديدًا قد بدأ، وأنه لا يمكن أن يُقارَن مجلس شورى النواب — طبعًا — بالمؤسسات الأوروبية المناظرة، ولكن قدرات المجلس سوف تنمو من خلال التجربة.

واتخذت «الوطن» من الموظفين الأوروبيين في مصر هدفًا لانتقاداتها، فذكرت أن وجودهم يقوم على افتراض زائف بأن المصريين لا يستطيعون إدارة أمورهم بأنفسهم، وأن مصر قد أنجبت حقيقةً الرجال الأكفاء لهذا العمل في المرحلة الراهنة من مراحل التطور والحضارة.

ولم تقتصر «الإسكندرية» على مهاجمة زيادة أعداد الموظفين الأجانب، بل وهاجمت أيضًا التجار الأوروبيين. غير أنها أقرت بأن الأجانب استطاعوا احتكار التجارة الخارجية لأن المصريين لم يحاولوا منافستهم.

وحاولت «الأهرام» أن تكون «معتدلة» بصفة خاصة، فهاجمت أولئك الصحافيين الذين يبثون الدعاية دون التفكير بعواقب الأمور، وحذَّرت من توقُّع الكثير من وراء لائحة المجلس؛ لأن الإصلاحات الأساسية — وخاصة في القضاء — أكثر أهمية في هذه المرحلة. وناشد بشارة تقلا المصريين — في الخطابات التي أرسلها من باريس في ١٥ سبتمبر و٥ و٧ و٨ أكتوبر — أن يتحدوا، وحثَّ عرابي بالذات على تأييد الخديو وشريف؛ لأن الدول الغربية تُهدِّد بالتدخل إذا لم يتم المحافظة على السلم والنظام.

وعلى الجانب الآخر، استمرت «البرهان» في الهجوم على كل مظاهر النفوذ الأوروبي، وهو الهجوم الذي بدأته في الصيف، فلم تكتفِ بإدانة سياسة الدول الغربية تجاه البلاد العربية (كسياسة بريطانيا في عدن) فحسب، بل قدَّمت الثقافة والحضارة الأوروبية على أنها سلبية بالضرورة، وطالبت المصريين بألَّا يسمحوا بانتقال عدواها إليهم، وأنه يجب علي المسلمين ألَّا يُرسلوا أولادهم إلى المدارس الأوروبية المسيحية لأن ذلك يُؤدي إلى ارتدادهم عن دينهم، كما أن الأوروبيين أنفسهم لا يأخذون الإنجيل مأخذ الجد، وأنهم أرادوا إفساد المسلمين بحضارتهم حتى يسهل عليهم إخضاعهم، وأن القليل من الطلاب فقط يتعلَّمون شيئًا يستحق التعلُّم في أوروبا، حقًّا لا يمنع الدين إدخال المخترعات التقنية كالتلغراف والسكك الحديدية، ولكن البلاد الإسلامية أحوج ما تكون حاليًّا إلى الحصون والأسلحة للذود عن حياضها، وكانت تجربة مُحرِّر هذه الصحيفة في تونس تكمن وراء هذه الملاحظات، وقد تحظى تلك التجربة بسخرية مريرة. وفي عدد آخر من أعداد الصحيفة ذكر أن المسلمين يتحصَّنون بالخُلُق، أما الأوروبيون فيتحصَّنون بالقوة العسكرية؛ ولذلك حاولوا أن يفرضوا أفكارهم بمساعدة قواتهم العسكرية المتفوقة، فإذا ذكروا أن واحدًا يساوي ثلث الاثنين وشكَّ الناس في صحة ما يقولون، صوَّبوا أسلحتهم فلا يملك المرء سوى أن يُقر بصحة ما يقولون.٥٨ وأن على أولئك المسلمين الذين يريدون تقليد الحضارة الأوروبية أن يعلموا مقدار ما تدين به الحضارة الأوروبية للعرب.

واتخذت «المفيد» — التي صدرت في ١٥ أكتوبر ١٨٨١م — نفس الخط، فذهبت إلى أن الحضارة الحقيقية الأصلية هي حضارة الشرق، وأن حضارة الغرب استندت إليها ولكنَّها أفسدتها، فَلْيَقِ اللهُ مصرَ شرَّ هذه الحضارة المريبة، ويقيها مصير تونس. ودعا نفس العدد الشرقيين جميعًا إلى الاتحاد ليُقاوموا معًا التدخل الأوروبي.

واتخذت «الحجاز» أكثر المواقف تحمسًا للضباط، فوصفت عرابي بأنه حامي حمى الإسلام ومؤيده، الأمير العظيم، بسمارك مصر، وأعلن إبراهيم سراج الدين المدني أنه استطاع أن يشتري مطبعة بفضل المعونات المالية التي تلقاها من ضباط الآلاي الثالث المشاة الذي يُعسكر بالقلعة، وأنه بعد الاستقبال الحافل للآلاي السادس المشاة بدمياط، قرَّر الكثير من الأهالي الاشتراك في صحيفة «الحجاز». وأيَّدت الصحيفة المطالبة بإقامة مجلس للأعيان يُقدِّم المشورة لمجلس النظار من أجل تحقيق الحرية والمساواة والعدالة؛ لأن الشورى في حقيقتها من أوامر الدين. وذكرت الصحيفة أن العلماء اتفقوا على أن الشورى تجلب الاتحاد والقوة، وناشدت الأعيان — وبخاصة علماء الأزهر — أن يفيقوا ويستعيدوا مجد الإسلام، وذكرى الأيام العظيمة التي حكم فيها المسلمون العالم. ودَعت المسلمين جميعًا إلى الاتحاد تحت راية الخليفة للجهاد من أجل تحرير الشعوب الإسلامية المهضومة (الجزائريين والتونسيين والهنود … وغيرهم)، وأعلن المدني أن الخدمة العسكرية في الوقت الراهن واجب ديني، ولكنَّه ظلَّ يُعبِّر عن الاعتقاد بأن ألمانيا وروسيا وفرنسا لن يُمكِّنوا بريطانيا من السيطرة على مصر.

وكان التحذير من خطر التسرع بقبول «بركات» الحضارة الأوروبية، ومناشدة المصريين أن يُفكِّروا في لغتهم وثقافتهم ودينهم، هي الموضوعات الرئيسية التي تناولها عبد الله النديم — أيضًا — على صفحات الأعداد التسعة عشر من «التنكيت والتبكيت» التي ظهرت في صيف وخريف ١٨٨١م، فاتفق مع الشيخ حمزة فتح الله — معلِّمه السابق بالأزهر — وإبراهيم سراج الدين الذي كان معاونًا له من قبل، في الترحيب بما أقدم عليه الضباط، وقدَّم عرابي لقرائه على أنه من نسل النبي.

وأثبت افتراض صحيفة «الحجاز» أن من الممكن تخويف الأوروبيين بالدعوات الدينية والسياسية بفعالية أكثر مما تفعله طلقات البنادق. أثبت هذا الاقتراض صحته، فحثَّ القناصل — وخاصة سنكفتش Sienkiewicz — شريفًا على التدخل ضد مروجي الفكرة الإسلامية، فأنذر شريف «الحجاز»، وأوقف «المفيد» لمدة خمسة عشر يومًا. ومن ناحية أخرى، أوقف جريدة ليجيبت L’Egypte في ٢٦ أكتوبر تحت ضغط المشايخ من العلماء وتلاميذ الأزهر، لنشرها إشارة إلى أن محمدًا «نبي مزيف» في عددها الصادر في الثاني من أكتوبر. وصدرت «ليجيبت» مرة أخرى في ١٨ أكتوبر لتُعلن نبأ احتجابها ولتهاجم شريفًا لسلبيته إزاء «تعصب» الفكرة الإسلامية.

وأعطى إيقاف «ليجيبت» وحظرها للقنصل الفرنسي مبررًا لحث شريف على إعادة التوازن ودفع الصحافة العربية الوطنية إلى التعقل. ومن ثم قرَّر مجلس النظار — في ٧ نوفمبر — حظر جريدة «الحجاز»، رغم وجود عرابي بالقاهرة عندئذٍ. وأراد شريف أن يختبر رد فعل عرابي لهذا القرار، ولكنَّه سُرَّ عندما لم يُبدِ عرابي احتجاجه على القرار، واعتبر ذلك دليلًا على امتثال الضباط، واتجاههم إلى ترك السياسة للساسة. وعلى أيَّة حال أصبح عبد الله النديم — في نفس الوقت — الصحفي المفضل عند عرابي.

وكان وراء تلك الإجراءات الخاصة، قانون صارم للمطبوعات صدر في ٢٦ نوفمبر، أعطى لناظر الداخلية حق منع أي شخص غير مرغوب فيه من إقامة دار للطباعة وإصدار جريدة، وأصبح على مُحرري الصحف سداد تأمين نقدي كبير، وهددوا بالعقوبات الصارمة في حالة انتهاكهم للقانون. وفرضت رقابة على جميع المطبوعات قبل نشرها. وجعل القانون قرارات ناظر الداخلية بهذا الشأن نهائية غير قابلة للنقض. ورغم ذلك لم يستطع شريف أن يحُول دون تزايد شعبية عرابي، وتجسيد المصالح العامة فيه وفي رفاقه، فقد صحب نقل الآلايات «الثائرة» إلى الأقاليم الإعلان عن تلك المصالح.

وتحوَّل رحيل الآلاي السوداني إلى دمياط في أول أكتوبر إلى مزيج من المهرجان الشعبي والمظاهرة السياسية، وفي طريقهم من طرة إلى محطة السكك الحديدية اخترق الجنود وسط القاهرة، حيث ودَّعهم بالمحطة عرابي ومحمود سامي والكثير من كبار الضباط وحشد كبير من الناس، وألقى الصحفيان عبد الله النديم وحسن الشمسي كلمتين بشَّرا فيهما بنهاية الطغيان. ووجَّه النديم خطابه إلى «حماة البلاد وفرسانها»، فأطرى عملهم التاريخي وأكَّد على الحاجة إلى الاتحاد والوئام لخدمة الوطن والخديو. وشكر عرابي وعبدُ العال حلمي المتحدثَين، وأقسم الأخير يمين الطاعة للخديو والحكومة.

وصحب النديم الآلاي السوداني إلى دمياط، وقدَّم الجيش وقادته للجموع التي احتشدت لاستقبالهم باعتبارهم مُحرِّري البلاد من الاستبداد. ومنذ الأول من أكتوبر حتى استسلام حامية دمياط في نهاية سبتمبر ١٨٨٢م، كان عبد العال حلمي ينفرد بالسلطة في المدينة بعدما أصرَّ على طرد المحافظ إسماعيل زهدي، وقائد مدفعية السواحل إسماعيل صالوغلي، بعد وصول الآلاي السادس المشاة إلى المدينة.٥٩

وعاد عبد الله النديم إلى العاصمة في اللحظة المناسبة لرحيل آلاي عرابي إلى رأس الوادي. وتحوَّل هذا الإجراء الروتيني لنقل الوحدات العسكرية إلى حدث رمزي هام؛ ففي الأمسية السابقة على رحيل الآلاي (٥ أكتوبر)، توجَّه عرابي لاستئذان الخديو، وقام بزيارة تفقُّدية للآلايات المعسكرة بالقاهرة، ودعا الضباط والجنود إلى المحافظة على الوئام والاتحاد والنظام لخدمة مصالح الوطن الذي بُعِث من جديد، كما ألقى محمود سامي خطبة قصيرة في معسكرات العباسية.

وفي صباح ٦ أكتوبر، مرَّ عرابي بقواته إلى محطة السكك الحديدية، ولكنَّه لم يتَّجه إليها مباشرة، بل دخل القاهرة من باب النصر، واخترق القاهرة عبر الموسكي وميدان الأزبكية وشارع كلوت بك حتى باب الحديد. وتوقَّف في الطريق عند مسجد الحسين حيث زار وبعضُ رفاقه الضريحَ للدعاء. وعلى طول الطريق الذي قطعه الآلاي الرابع المشاة، اصطفت حشود الجماهير المبتهجة لتُحيي عرابي الذي كان يلوح لهم بيده. ولا ريب أن ميدان المحطة لم يشهد مثل ذلك الحشد من قبل، وكان من بينهم الكثير من الأوروبيين الفضوليين.

وعندما وصل عرابي إلى ميدان المحطة، دُعِي إلى إلقاء كلمة في الناس، وبإيماءة منه خيَّم السكون على الميدان، وطرب حشد المستمعين عندما تحدَّث عن نهاية الطغيان، وفتح أبواب الحرية لحقوق الشعب، وعندما أعلن — أيضًا — الطاعة للخديو والثقة بالحكومة وبمحمود سامي خاصة، والحاجة إلى الاتحاد والإخاء. وبعدما فرغ عرابي من إلقاء كلمته، ألقي النديم خطابًا أيضًا، وبعدما انتهى الخطابان ضجَّ الميدان بالهتافات الحماسية. وتمامًا كما حدث عند رحيل آلاي عبد العال حلمي، وزَّع التاجر مصطفى العناني — الذي سنسمع عنه الكثير فيما بعد — الحلوى على الجنود. وصحب عبد الله النديم أيضًا ذلك الآلاي إلى موقعه الجديد.

وبدت الرحلة إلى رأس الوادي مثل موكب النصر، فحيثما توقَّف القطار كانت الجماهير تحتشد والنديم يخطب. وفي الزقازيق كانت الجماهير تنتظر وصول عرابي منذ الصباح، ومن بينهم الكثير من أعيان المدينة وما حولها، وعلى رأسهم أمين الشمسي سر تجار المدينة وأحد كبار المُلَّاك. ولاحظ القنصل الفرنسي أن الحشد لم يتضمن أحدًا من الأتراك، بل كان من شارك فيه من المصريين، شيوخًا وموظفين وتجارًا. واستُقْبِلَ عرابي بحفاوة بالغة، فألقى كلمة مؤثرة في أبناء مُديريته (فقد وُلِد بإحدى قرى الزقازيق). وهنا أيضًا — وهنا بالذات — أعلن عرابي بزوغ فجر الحرية ونهاية ليل الطغيان، وذكر أنه ورفاقه لم يُغادروا العاصمة عصيانًا ولا تظاهرًا بعدوان، وأنه واثق من وفاء الخديو والحكومة بوعودهم.

وبعد توقف قصير، حمل القطار الآلاي إلى رأس الوادي. وبعد يومين فقط، دُعِي عرابي وبعض الضباط الآخرين لزيارة الزقازيق لحضور وليمة كبرى أقامها أمين الشمسي لهم، وهي وليمة ظلَّت حديث الناس فيما بعد، وقيل إن الحاضرين كانوا أكثر من ألفين، تناولوا الطعام على دفعات، ودعا الشمسي إليها أعيانَ الشرقية والزقازيق وبعض الأقاليم الأخرى كالمنصورة مثلًا. وخطب عرابي وعبد الله النديم الذي لم يترك «نائب الجيش» لحظة، فوصف عرابي الجيش بأنه الضمان للنظام الجديد. وفي اليوم التالي زار المسجد ووضع حجر الأساس لمدرسة خاصة تولَّى تمويلها أعيان الإقليم، وتبرَّع سليمان أباظة وقاضي المدينة بالأرض التي تُقام عليها المدرسة، وأكَّد عرابي في تلك المناسبة على أهمية وضرورة التعليم الجيد.

وخلال إقامته القصيرة — نسبيًّا — بالشرقية، كان عرابي ضيف الشرف في العديد من الحفلات، وأحاط به آل أباظة على وجه الخصوص، فوفقًا لما يرويه عرابي تلَّقى دعوات من أحمد السيد أباظة وسليمان السيد أباظة، وسليمان باشا أباظة وأحمد محجوب من أثرياء العمد.

وكانت الشرقية من أنسب الأقاليم لتعويد عرابي على دوره الجديد كزعيم للنضال من أجل تحقيق العدالة والحرية لجميع أفراد الشعب، وذلك لسببين؛ أولهما: أن الشرقية كانت موطنه، وثانيهما: أن الشرقية شهدت مظاهر الحكم الاستبدادي القديم كما كان يمارسه مديرها فريد باشا ابن عم رياض لما يزيد عن العام، حيث كان الكرباج شائعًا، وتنازع فريد مع أمين الشمسي حول قطعة أرض، وحُلَّ ذلك النزاع على طريقة العصر، فاتُّهم الشمسي بالتآمر وصُفِّد بالأغلال. ولكن فات فريد أن يُدرك حقيقة التغيير الذي حدث في مصر عام ١٨٧٩م. وفي فبراير ١٨٨١م تدخَّل الخديو وأطلق سراح أربعة عشر مسجونًا من ضحايا هذا المدير كان أمين الشمسي من بينهم؛ ولذلك لا غرابة في أن يحتفل الناس بسقوط رياض، وخاصة في تلك المديرية، حيث كان فريد يتباهى بقريبه رئيس النظار. (وقد استُبدل شريف ابن عم رياض بعلي غالب، ولكنَّ فريدًا استعاد منصبه بعد الاحتلال، وكان أول عمل رسمي قام به بعد عودته إلى المديرية إلقاء أمين الشمسي وأحمد أباظة في السجن).

ومن ثَم كانت الشرقية مديرية مُحرَّرة بالدرجة الأولى، وهنا تشكَّل وعي عرابي تشكيلًا حاسمًا، وهنا فقط تحقَّق من العمل الذي ينتظره، ومن الدور الذي ألقاه القدر على عاتقه، ومما يتوقَّعه الناس منه. لقد حدَّد أعيان وأهالي الشرقية مهمة عرابي. ويُمثِّل الخطاب الذي أرسله عرابي إلى مدير المطبوعات — في ١٨ أكتوبر — دلالة واضحة بهذا الصدد،٦٠ إذ جاء فيه:
«لدخولنا في عصر جديد وفوت زمنَي التنكيت والتبكيت، اقتضى تبديل اسم جريدة التنكيت والتبكيت الأدبية التهذيبية، كما استقر الرأي عليه مع حضرة الفاضل عبد الله أفندي نديم مُحرِّرها ومدير إدارتها، باسم «لسان الأمة»، وجعلها جريدة سياسية تهذيبية، «تُدافع عن حقوق الأمة وحكومتها»، وطلب الموافقة على تعديل عنوان الجريدة ابتداءً من العدد التاسع عشر.»٦١
ومنذ ذلك الحين عدَّ عرابي نفسه مُحرِّر مصر وحامي حمى النظام الجديد، ولم يُصبح عبد الله النديم المتحدث بلسانه فحسب، بل أصبح سوطه الأيديولوجي.٦٢

وقد وُوجِه كولفن بهذا الوعي الجديد عندما تحدَّث مع عرابي وعلي فهمي وطُلبة عصمت في الأول من نوفمبر لمدة ساعة ونصف الساعة، وكان قد ألمح لناظر الجهادية قبل ذلك ببضعة أيام إلى أنه يرغب في استقبال من يشاء زيارته من الأميرالايات بمناسبة عيد الأضحى، ونقل محمود سامي هذا الاقتراح إلى عرابي الذي وجدها فرصة له ولرفاقه للنقاش مع المراقب العام المالي. وعلى كلٍّ، انفرد عرابي بالحديث مع كولفن بينما كان زميلاه يُصدِّقان على كلامه من حين لآخر.

ونورد هنا تقرير كولفن عن حديث عرابي تفصيليًّا، وخاصة أننا تناولنا بحذرٍ التقارير التي تتعلَّق بالخُطب التي ألقاها عرابي اعتبارًا من ٩ سبتمبر مما أورده سليم النقَّاش وما جاء بالصحافة العربية المعاصرة إلى جانب ما ذكره المراقبون الأوروبيون. وقد ألقى عرابي محاضرة مستفيضة على كولفن حول عقيدته السياسية، رغم أنه لم يتحدَّث عن وجهات نظره فيما يتعلق بإنجلترا. وفيما يلي أهم ما جاء بتقرير كولفن.

«استهل عرابي حديثه بعرض تاريخي طويل للحكم التركي في مصر، فوصف حكومة المماليك وحكومة الأسرة الحالية (أسرة محمد علي) بأنهما تتساويان في استبدادهما بأهالي البلاد العرب. وهو يريد أن يبرز أن المصريين لم يشعروا حتى الآن بالأمان على أرواحهم وممتلكاتهم، فقد كانوا يُسْجَنون أو يُنفَون أو يُخنقَون ويُلقَى بهم في النيل، أو يتضوَّرون جوعًا، أو يُسرَقون حسب إرادة سادتهم. فكان العبد المُعتَق أكثر تمتعًا بالحرية من العربي الذي وُلِد حرًّا. وكان أكثر الأتراك جهلًا يُفضَّل ويُقدَّم على أحسن المصريين، وضرب مثلًا على ذلك بقضية المفتش. واستطرد بعد ذلك في شرح مقولة أن الناس الذين خُلِقوا من أصل واحد يجب أن يتساووا في حقوق الحرية الشخصية والأمن. وقد استغرق عرضه لهذه الفكرة وقتًا طويلًا وكان ساذجًا في أسلوب معالجته، ولكنَّه كان تعبيرًا أصيلًا عن أفكار المتحدث وعن معتقداته.»

وانتقل إلى دلالات الحقائق، فقال إن حكم الجراكسة سقط في مصر في الأول من فبراير … وفي التاسع من سبتمبر تمَّ الاعتراف بضرورة إيجاد بديل لهذا الحكم يتمثَّل في عهد القانون والعدالة، وتمَّ تأسيس ذلك العهد، وأن حركته هو والجيش كانت من أجل القانون. ونفى بعبارات واضحة أنه يرغب في التخلُّص من الأوروبيين سواء المقيمين منهم أو الموظفين، وتحدَّث عنهم باعتبارهم معلمين ضروريين للأهالي.

وذكر أن الجيش كان عرضةً للوم لما فعله في التاسع من سبتمبر. غير أن الأمم الأوروبية حصلت جميعًا على حريتها بإراقة الدماء وإزهاق الأرواح، ولكن هنا مرَّ كل شيء بهدوء. ولعلِّي أكون قد لاحظت ذلك … حيث وقفت الآلام العميقة حائلًا ضد العنف، فلماذا تُوجِّه الأمم التي حصلت على حريتها بالعنف اللوم إلى مصر؟ وأشار إلى أنه يعلم أن التدخل قد يؤدي إلى وضع حد لكل ما تم إنجازه وتحطيم آمالهم وأهدافهم، وإلى أنه سوف يبذل كل جهد للإقناع في حالة التهديد بالتدخل لمحاولة تفاديه. فإذا أصرَّت الدول عليه، فلا بد أن يُواجِه المصريون القوةَ بالقوة، مهما كانت قضيتهم ميئوسة. وهو يعلم أنهم قد يتحطَّمون، وأنهم قد يتعرضون للخراب، ولكن ذلك لن يحدث قبل أن يُلحقوا خسائر مماثلة بأعدائهم … وهم يعتبرون قانون التصفية بمنزلة الشريعة، ويقبلون بالديون التي تركها إسماعيل للبلاد باعتبارها التزامًا وارتباطًا من جانبهم.

وتحدَّث عن الخديو الحالي شخصيًّا باحترام فائق؛ لأنه فريد بين سلالة أسرة محمد علي، أما الباقون فكانوا لصوصًا ومُبذِّرين، ولكنَّ توفيقًا رجل حياته نقية ونواياه طيبة. كل ما في الأمر أنه عديم الخبرة، وفي قصره مستشاران يُعدَّان مستودعَين للتقاليد القديمة، ولهما عليه نفوذ سيئ؛ هما: خيري باشا وطلعت باشا … وعندما كان توفيق وليًّا للعهد كان يجأر بالشكوى من والده، ولكنَّه عندما تسلَّم السلطة حاول أن يجمع مقاليد الأمور جميعًا في يده وحده، وأن يُمارسها على الطريقة التركية القديمة، وهو ما يجب منعه، فعليه أن يقصر نشاطه على المجال المُخصَّص له، وأن يترك إدارة الحكم لوزرائه، وفيما عدا ذلك يرون أن الخديو يُمثِّل بالنسبة لهم السلطان، والسلطان يُمثِّل النبي والله …

واستطرد عرابي في الحديث بعد ذلك عن الفرنسيين في تونس، فذكر أنه مهما كانت تأكيدات الفرنسيين فيما يتعلق بمصر، فإنَّه لا يمكن الثقة بهم أبدًا، فقد استولوا على تونس لأنهم وجدوا الجزائر صغيرة جدًّا، وغدًا قد يأخذون طرابلس وبعد غدٍ مراكش، ثم يأخذون بعد ذلك مصر. فقد تذهب بهم أطماعهم بعيدًا حتى يجدوا عرب هذه البلاد والجزيرة العربية وقد اتحدوا ضدهم، وفقدوا الجزائر نفسها. وكان قد ذكر من قبل غزو نابليون لمصر بشيء من التفصيل، وحتى يجعلني أشعر بالارتياح، تحدَّث بحرارة عن معارضة إنجلترا لمخططات الفرنسيين في مصر في تلك الأيام … كما تحدثوا عن الوزارة بنبرة التقدير.٦٣
وفي حديث مع بلنت، كرَّر عرابي عرض آرائه السياسية وحدَّدها واستكملها. وكان بلنت (في طريقه إلى الجزيرة العربية) ليبحث عن سُبل التعبير عن نهضة عربية، عندما دعاه بعض أصدقائه المصريين إلى قضاء بضعة أسابيع بالقاهرة، فقبل الدعوة راضيًا «لأنني رأيت في تطوُّر حركة متوافقة مع أفكاري عن عمل من نفس النوع الذي كنت أبحث عنه، يمكنني أن أُصبح ذا فائدة حقيقية، كمترجم لتطلعاتهم المشروعة تمامًا».٦٤

وحتى يحصل بلنت على صورة أوضح لتلك التطلعات، قام بزيارة عرابي، برفقة معاونه صابونجي في ١٢ ديسمبر. وكان بيانًا حكوميًّا قد صدر مفاده أن الحكومة سمحت لعرابي بالعودة إلى القاهرة في ٧ ديسمبر ليعود زوجته المريضة. وكان عرابي قد استأجر بيتًا كبيرًا بالقرب من ثكنات عابدين وبيت علي فهمي، حيث استقبل بلنت هناك.

ومرة أخرى أكَّد عرابي لبلنت على ولائه للخديو؛ لأنه وفَّى بوعوده، وأن الظروف جعلته ممثِّلًا للجيش، وجعلت الجيش ممثِّلًا للأمة، ولكن هذا العمل كان طارئًا على العسكريين. فطلب الجيش عقد مجلس شورى النواب، وعندما يتعلَّم المجلس التحدث باسم الأمة، سوف تنتهي مهمة الجيش، وأنه لا يُحب الأتراك، ويرفض تدخلهم في الشئون الداخلية للبلاد، ولكنَّه يحترم السلطان باعتباره «أمير المؤمنين». أضف إلى ذلك، أن مصير تونس بيَّن أن من الضروري الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الخليفة. وفيما يتعلق بالمراقبة الثنائية ذكر أنه يعرف فائدتها في تحرير البلاد من إسماعيل وتنظيم المالية في مصر، ولكن يجب ألَّا يُعرقل المراقبان جهود الضباط بتأييد الخديو والأوتوقراطية التركية-الجركسية.

وقد انبهر بلنت بحديث عرابي، حتى إنه هُرع إلى محمد عبده بعد المقابلة مباشرة، واقترح أن يضع مسودة يصوغ فيها ما سمعه على شكل برنامج سياسي، ويرسله إلى جلادستون باعتباره بيانًا من «الحزب الوطني»، وقيل إن هذه الفكرة لقيت موافقة ماليت. وبالتعاون مع محمد عبده وضع بلنت «برنامج الحزب الوطني المصري» في ١٨ ديسمبر. وقيل إنَّه عُرِض على محمود سامي وعرابي، ونال موافقتهما قبل إرساله إلى جلادستون. وأرسل بلنت نسخة أخرى من «البرنامج» إلى صحيفة التايمز بناءً على اقتراح من السير وليام جريجوري — ورغم اعتراض ماليت — لتتولى نشره.٦٥
ومن ثَم كان «البرنامج» تسجيلًا دقيقًا لما دار في مقابلة بلنت لعرابي. وقسَّم بلنت ما أورده بالبرنامج إلى ستة أقسام، تُعبِّر عن الخطوط العامة لأفكاره هي:٦٦
  • (١)

    «الحزب الوطني» يريد المحافظة على الوضع الراهن فيما يتعلق بالعلاقات بين مصر والباب العالي.

  • (٢)

    وأنه سيظل على ولائه للخديو ما بقي يحكم البلاد بالعدل، وما دام وفيًّا للوعود التي بذلها في التاسع من سبتمبر.

  • (٣)

    يعترف «الحزب الوطني» بديون مصر الأجنبية، وبالضرورة المرحلية للمراقبة المالية الأوروبية، ولكنَّه ينقد تصرفاتها وخاصة زيادة أعداد الموظفين الأجانب ومرتباتهم الباهظة.

  • (٤)

    أخذ الجيش على عاتقه الدفاع عن الحريات الجديدة، ولكن دوره السياسي سوف ينتهي بانعقاد مجلس النواب «ولكن سيستمر — في الوقت الحالي — في أداء واجبه كحارس مسلح لأمة عزلاء».

  • (٥)

    يعتبر «الحزب الوطني» الناس جميعًا إخوة متساوين في الحقوق بغضِّ النظر عن أصلهم العرقي أو ديانتهم.

  • (٦)
    الهدف العام «للحزب الوطني» هو بعث البلاد روحيًّا ومعنويًّا.٦٧

(٧) ما السبيل؟

وإلى جانب تشكيل الوزارة الجديدة، والتصديق على القوانين العسكرية، ودعوة مجلس النواب للانعقاد، يجب أن نُضيف إلى النتائج المباشرة لمظاهرة ٩ سبتمبر «نتائج شخصية». فقبل كل شيء، تمَّ استبعاد الضباط الذين «لا يعتمد عليهم» — أي الذين لا يثق بهم عرابي — من مراكزهم القيادية. فقد كان متوقعًا أن يتم إقصاء الأميرالايات، الذين رفضوا قيادة آلاياتهم إلى ميدان عابدين في ٩ سبتمبر، عن مناصبهم، فتولَّى علي يوسف قيادة الآلاي الثالث المشاة بدلًا من إبراهيم حيدر، وأُسنِدَت قيادة الآلاي الثاني المشاة إلى طُلبة عصمت — كما ذكرنا من قبل — بدلًا من محمد شوقي، وعُيِّن حسن مظهر قائدًا لآلاي مدفعية الميدان بدلًا من محمد خلوصي قائد آلاي الفرسان الأول. واشتكى الخديو بمرارة من إبعاد آخر الموالين له من كبار الضباط (بِغَض النظر عن أركان الحرب واللواءات).

وبالإضافة إلى ذلك، تخلَّى حسن مظهر عن قيادة الآلاي الخامس المشاة — المعسكر بالإسكندرية — لمصطفى عبد الرحيم أحد أتباع عرابي، كما تخلَّى عبد القادر حلمي ناظر ضبطية مصر — الذي تولَّى المنصب في ٦ سبتمبر — عن منصبه لأحمد الدرملِّي الذي كان يشغله من قبل. وعُيِّن محمد أبو العطا قائدًا للمستحفِظِين ثم وكيلًا لبورسعيد بدلًا من علي ناصف، ورُقِّي إبراهيم فوزي قائد المستحفِظِين بالقاهرة إلى رتبة الأميرالاي، وسُمِح لحسن موسى العقاد بالعودة من منفاه بالسودان.

وأخيرًا، أصبح مركز شيخ الأزهر محمد العباسي٦٨ في خطر بعد ٩ سبتمبر؛ لأن ثمة إشاعة انتشرت حول إصداره فتوى للخديو تَعُد عصيان عرابي جريمة كبرى؛ ولذلك اعتُبِر من أتباع توفيق، وكان يخشى من أن يُفتي ضد مجلس شورى النواب وضد الدستور، وبذلك يتيح للخديو فرصة وقف عجلة التطور الذي كان قد بدأ يتشكَّل. أضف إلى ذلك أن إصلاحات العباسي (الخاصة بلوائح التعليم بالأزهر ومنح إجازة التدريس بعد اجتياز الامتحان فقط) لم تلقَ القبول التام من جانب الأزهريين. كما أن الشيخ العباسي كان أول شيخ للأزهر يُعيِّنه إسماعيل من الأحناف بعد أن كان المنصب وقفًا على الشوافع من قبل. (وكان منصب القضاء الشرعي للأحناف بينما كانت غالبية الأزهريين من الشوافع والمالكية). ولذلك كان هناك تحفُّز لطرد العباسي من منصبه، وكان الشيخ عليش مرشح العلماء وطلاب الأزهر لشغل المنصب، وهو مالكي محافظ. وحتى تضع الحكومة حدًّا للاضطراب، شكَّلت لجنة لبحث ما يُوجَّه إلى العباسي من لوم. وتوصَّلت اللجنة إلى حل وسط لتحقيق الاستقرار داخل الأزهر، فأصدر الخديو قرارًا في ٥ سبتمبر بعزل الشيخ العباسي دون أن يُسند المنصب للشيخ عليش. وفي ١١ ديسمبر صدَّق على نتيجة انتخاب الشيخ محمد الإنبابي٦٩ الشافعي شيخًا للأزهر، وقيل إن أربعة آلاف من العلماء والطلاب شاركوا في تلك الانتخابات، وكان شيخ الأزهر الجديد من أثرياء التجار؛ إذ كانت له علاقات تجارية مع مانشستر، وتلقى عرابي نبأ انتخابه بالارتياح. وكان لهذا التغيير مغزاه لأن ممثل مذهب الأتراك أُبعِد عن المنصب لصالح من ينتمي إلى مذهب غالبية المصريين. وأُعيد إحياء مؤسسة كان قد طواها النسيان، من أجل تحقيق السلام في الأزهر، فشُكلت لجنة من ثلاثة علماء يُمثِّلون المذاهب الثلاثة الأخرى لمعاونة شيخ الأزهر. وظل العباسي مفتيًا للديار المصرية باعتباره شيخ المذهب الحنفي.

ومن ثَم لم يكن خلع شيخ الأزهر من منصبه من عمل عرابي — كما تردد كثيرًا — ولكنَّه كان نتيجة لصراعٍ دار داخل الأزهر نفسه، فجَّره التغيير في الوضع السياسي. كما أن الروايات التقليدية عن قضية مصطفى العناني التاجر بالقاهرة غير صحيحة أيضًا؛ لأن عرابي ورفاقه لم يتدخَّلوا في التهديدات وأعمال العنف التي تقع خارج دائرة اختصاصهم حتى يمنعوا متابعة إجراءات قضية قانونية. وكان التاجر الثري السابق غارقًا في الدَّين، ورغم ذلك أَولَم وليمة للضباط بعد التاسع من سبتمبر، وبرز خلال مراسم وداع عبد العال حلمي وعرابي وجنودهما بميدان محطة القاهرة، مما جعل دائنيه يعتقدون أنه يُخفي حقيقة مركزه المالي الجيد، ورفعوا قضية ضده، فأدانته المحكمة المختلطة بالقاهرة بالتدليس والإفلاس، ولكنَّه ما لبث أن قدَّم — بعد ذلك — دليلًا يُبرِّئ ساحته. ووقع بعد ذلك اللوم على عرابي لأن شهادات الضباط كانت وراء براءته.

ومن ثَم لا يمكن أن تؤخذ قضية الشيخ العباسي وقضية العناني كدليل على أن مظاهرة ٩ سبتمبر قد صنعت من عرابي دكتاتورًا عسكريًّا، على نحو ما تردَّد فيما بعد.

غير أن أحد مطالب التاسع من سبتمبر لم يلقَ استجابة. فذكَّر طُلبة عصمت الميجور جنرال جولد شمد أن الضباط لن يشعروا بالرضا تمامًا إلَّا عندما تصل قوة الجيش إلى ١٨ ألف رجل. وكانت تلبية ذلك الطلب تحتاج إلى اعتمادات مالية إضافية. وخلال إعداد مشروع موازنة عام ١٨٨٢م، طلب محمود سامي زيادة مخصصات نظارته بمقدار ٢٢٧ ألف جنيه (من ٤٢٢ ألف في ١٨٨١م إلى ٦٤٩ ألف جنيه) ورغم وجود بعض الصعوبات، أبدى المراقبان العامَّان استعدادهما قبول حل وسط، تمَّ التوصل إليه من خلال وساطة بلنت، فقد فوَّضه كولفن إبلاغ عرابي ورفاقه بوضوح أن أقصى ما يمكن تخصيصه للجيش ٥٢٢ ألف جنيه، وقنع ناظر الجهادية والضباط بهذا المبلغ، وعبَّروا عن أملهم بتحقيق مطلب زيادة قوة الجيش إلى الحد الذي قرَّره السلطان من خلال ضغط نفقات نظارة الجهادية. ومرَّ مشروع ميزانية ١٨٨٢م دون تأخير، وفي ٢٢ ديسمبر زيدت مخصصات الجهادية بمقدار مائة ألف جنيه.

وتابعت وزارة شريف سياسة نوبار ورياض الإصلاحية، وكانت اللجنة التي شكَّلها رياض للنظر في إصلاح المحاكم الأهلية قد أتمَّت — عندئذٍ — عملها، وصدَّق على مشروع القوانين التي وضعتها بمرسوم صدر في ١٧ نوفمبر ١٨٨١م. وبموجبه تقرَّر إنشاء محاكم أول درجة بالقاهرة والإسكندرية وعواصم المديريات والمراكز الإدارية بالسودان وتوابعها، وإنشاء محكمة استئناف بالقاهرة وأخرى بأسيوط، ومحكمة نقض بالعاصمة، ولم تبدأ جميع هذه المحاكم عملها فورًا، ولكن بمجرد ممارستها لاختصاصاتها التامة تسقط الصلاحيات القضائية التي كانت تتمتَّع بها السلطات الإدارية وخاصة المديرين.

كما تابع مجلس النظار الجهود الرامية إلى إصلاح الإدارة المدنية والتي كان قد بدأها نوبار ورياض، لتنظيم التعيين في الوظائف والترقية والفصل في الخدمة، وبذلك يُحال بين الموظفين وتكوين ما يضمنون به مستقبلهم خلال فترة خدمة قصيرة، ووُضعت لوائح للترقيات والفصل من الخدمة تمامًا كما حدث بالنسبة للجيش، فما حقَّقته اللجنة العسكرية بالنسبة للجيش، كان يتم تحقيقه فيما يتعلق بالخدمة المدنية على يد لجنة شُكِّلت لهذا الغرض بمرسوم صدر في ٢٠ أكتوبر ١٨٨١م برئاسة محمد زكي ناظر الأوقاف، وعضوية: محمد سلطان، وسليمان أباظة، وسلامة إبراهيم،٧٠ ويعقوب أرتين، وعريان تادرس، وبطرس غالي (سكرتير عام مجلس النظار)، وتيجران بك (سكرتير عام الخارجية)، وأحمد نشأت الذي ما لبث بعد ذلك أن تولَّى منصب ناظر الدائرة السنية (الذي كان يشغله محمد زكي من قبل)، وبلم باشا (وكيل المالية)، وفيتز جيرالد، وبوتيرو.

ولا ريب أن لِتغيُّر الأشخاص واستمرار الإصلاحات مغزاه. وكان التغيُّر في الجو الاجتماعي والسياسي للبلاد أكثر تأثيرًا وأبعد مدى من حيث النتائج، وهو ما أحس به المراقبون الأوروبيون عشية التاسع من سبتمبر، وسجَّلوه بالدهشة والتعاطف عندما هدأت ثورة غضبهم من تدخل العسكريين في المسائل السياسية. وكان تراجعهم في آرائهم يكمن في حقيقة أن الضباط وضعوا لأنفسهم حدودًا واضحة، وفي أن عملهم كان موضع قبول عام في البلاد.

وحتى قبل وصول عرابي إلى الزقازيق، كتب القنصل الفرنسي هناك تقريرًا عن شعور الارتياح الذي استُقبِل به نبأ سقوط وزارة رياض في الشرقية؛ لأن الناس كانوا يخشون من قيامه بتسليم البلاد تدريجيًّا للإنجليز. وذكر أن عرابي لا يُعد المتحدث بلسان الجيش فحسب، بل يُعد حامي حما الأمة كلها. ولكن ذلك لا يعني أن الأهالي يضمرون شعورًا عدائيًّا للأوروبيين. وأرسل لورييه — أحد المفتشين العاملين مع المراقبين — تقريرًا من طنطا، ذكر فيه أن «الطبقة الميسورة» أو «الأرستقراطية الريفية» قد تأثَّرت تمامًا بروح «حزب الأميرالايات».

أما كولفن — الذي صنَّف ما حدث على أنه تمرد، وشكَّ في احتمال أن يكون الأمير حليم وراء تلك الأحداث — فقد وصل أخيرًا إلى استنتاجٍ مؤداه أنها «حركة مصرية ضد الحكم الاستبدادي التركي»، وأنها أيضًا «حركة وطنية مصرية» ذات طابع معادي للأوروبيين. وخشي أن يُدفع شريف — الذي تولَّى القيادة السياسية رغمًا عنه — بواسطة «الحركة» للخطة ثم يُزاح فيما بعد، وأن المسئولية الوزارية الحقيقية قد يتم إدخالها، وأن يتم الاعتراف بحق مجلس النواب في التصويت على الميزانية، وبذلك تتعرَّض الاتفاقات المالية الدولية للخطر. وقد تُوضع إدارة الجمارك بكاملها في أيد مصرية، كما قد يُعارض كبار المُلَّاك في مجلس النواب في إدخال نظام جديد لتسجيل الأراضي. ورغم ذلك كله، أوصى كولفن بعدم إحباط «الحركة اللبرالية»، ولكنْ — على أيَّة حال — لا بد من وضع حدودها بوضوح، ولا يجب أن تؤثر على مؤسسات المراقبة.

كذلك كان ماليت — أيضًا — يرى أنه لا يجب أن تضع السياسة البريطانية عقبات في طريق «الحركة»، بل يجب عليها أن تؤيِّدها إذا لم تندفع بسرعة نحو المزيد من التغييرات، وأراد أن يطلب من بلنت تهدئة أصدقائه المصريين، وأن يُطمئنهم على النوايا البريطانية.

ويُرجِع بلنت الفضل في كتابة كولفن وماليت لتلك التوصيات إلى نفوذه الشخصي، ولكنَّهما ما لبثا أن غيَّرا وجهات نظرهما تغييرًا أساسيًّا، كما أن بلنت انفرد بين المراقبين الأجانب الآخرين بوصف التغيرات التي وقعت في مصر بحماس كبير، فقال:

«وكانت الشهور الثلاثة التي أعقبت حادث الأعيان (٩ سبتمبر) هي أكثر الأوقات سعادة من الناحية السياسية بصورة لم يسبق لها مثيل في مصر … وتعالت في مصر صيحات الابتهاج التي لم تُسمَع على ضفاف النيل منذ مئات السنين. كما أن الرجال كانوا يستوقفون بعضهم بعضًا — بما في ذلك الغرباء — ليتحدَّثوا معًا بابتهاج عن عهد الحرية المثير للدهشة الذي بزغ فجأة كما يبزغ فجر يوم جديد بعد ليل طويل مخيف … فقد أصبح باستطاعة الرجال — أخيرًا — أن يلتقوا ويتحدَّثوا بحرية في كل مكان بالأقاليم دون أن يتعرَّضوا للتجسس أو تدخُّل الشرطة. وانتقلت عدوى تلك الروح السعيدة إلى جميع الطبقات؛ المسلمين، والمسيحيين، واليهود، أولئك الذين يعتنقون مختلف الأديان، أو ينتمون إلى مختلف الأجناس، بما فيهم الكثير من الأوروبيين الذين تربطهم روابط وثيقة بالحياة الوطنية.»٧١

ويذكر بلنت أن الناس اعتبروا عرابي الشخص «الوحيد» فيما يذكرون، الذي استطاع أن يرفع رأسه في وجه الأتراك-الجراكسة، وأن ينجح في ذلك. وخلال الزيارتين اللتين قام بهما عرابي لمنزله وفد أناس كثيرون يحملون التماسات من كل لون، فقبل التماساتهم، وحوَّلها إلى النظارات المختصة بعد أن وضع عليها «تأشيرات» بما يُتَّبع بشأنها.

ووسط هذا الجو جرت انتخابات مجلس النواب، فدعا شريف جميع المديرين — في منشور صدر بتاريخ ٣٠ أكتوبر ١٨٨١م — إلى جمع «الناخبين» بكل مديرية أو محافظة في ١٥ نوفمبر للإدلاء بأصواتهم، وطلب من المديرين والمحافظين عدم التدخل في الانتخابات، أو فرض من يشاءون على الشيوخ، وحسبما يقول الرافعي، لم تشهد مصر بالتأكيد انتخابات حرة بعيدة عن التدخُّل كتلك الانتخابات، فبفضل منشور شريف أُعلِن مبدأ حرية الانتخاب للمرة الأولى. ولا شك أن ما ذكره الرافعي يُمثِّل تفسيرًا مبالغًا فيه لذلك الحدث؛ لأن غياب قوائم الناخبين جعل المدير أو المحافظ صاحب الرأي الأخير في تقرير مَن يتمتع من العمد والأعيان بحقوق الانتخاب؛ لأن المدير كان صاحب الحق في دعوة الأفراد — الذين يرى صلاحيتهم للتصويت — للإدلاء بأصواتهم، وبذلك يدعو من يمثلون العائلات الأوسع نفوذًا والأكثر ثروة، وهم أولئك الأعيان الذين كان شريف بحاجة إلى تأييدهم، وكان شريف قد أصدر منشورًا آخر للمديرين — قبل ذلك ببضعة أسابيع — طالبهم فيه بوضوح أن يتأكَّدوا من شغل مناصب العمد بأفراد ينتمون إلى تلك العائلات.

وعندما تمَّ انتخاب النواب الجدد، أحسَّ شريف بالرضا التام؛ لأن الأعيان وحدهم الذين يُمثِّلون شريحة ذات نفوذ اجتماعي واقتصادي لا يُنكَر، ويُمثِّلون أكثر عائلات التجار الوطنيين وملاك الأراضي ثراءً، هم الذين دخلوا مجلس النواب. وكان من بين أولئك النواب محمود العطار وعبد السلام المويلحي عن القاهرة، ومحمد الشواربي عن القليوبية،٧٢ وأحمد محمود، وإبراهيم الوكيل عن البحيرة، ومحمد المنشاوي عن الغربية، وسليمان أباظة وأمين الشمسي عن الشرقية، ومحمد سلطان، وحسن الشريعي عن المنيا، وعبد الشهيد بطرس عن جرجا، وذلك إذا شئنا استعراض بعض الأسماء اللامعة،٧٣ ويمكن ملاحظة أن تلك الأسماء تضمَّنت الذين تحدَّثوا بلسان أعيان الريف خلال الصيف والخريف، والذين أقاموا المآدب لعرابي في الشرقية، ولم تُغيِّر «الانتخابات الحرة الأولى» من بنية مجلس النواب. حقًّا، كان من بين الثلاثة وثمانين نائبًا الذين اجتمعوا في نظارة الأشغال العمومية بالقاهرة في ٢٦ ديسمبر ١٨٨١م (وليس في ٢٣ ديسمبر كما كان مقررًا من قبل) كان هناك سبعة من أعضاء مجلس ١٨٧٦–١٨٧٩م، ولكن نحو نصف النواب لم يكونوا غرباء على المجلس، فقد كانوا أعضاء في الدورات السابقة لمجلس النواب (بل إن بعضهم كان عضوًا بدورة ١٨٦٦-١٨٦٧م)، أو جاءوا من عائلات قدَّمت من قبل نوابًا للمجلس. كذلك من الإفراط في المبالغة، أن نَصِف الروح الجديدة، والموقف التالي للمجلس، على أنه «إعلان للحرية الانتخابية».
وبعد الانتخاب، أصبح الاهتمام يتركَّز حول مجلس النواب، وموقفه، وعلاقاته بالأميرالايات. واستحوذ ذلك الأمر على اهتمام القناصل فتساءل سنكفتش Sienkiewicz «تُرى، هل شكَّل مجلس الأعيان خطرًا على الحكومة؟ إنَّه يُعبِّر في الوقت الحاضر عن المسألة المصرية.»٧٤ وتنبَّأ فون كوسيك Von Kosjek بأن «الضباط الذين تصرَّفوا أصلًا بدافع من الخوف أصبحوا يتحقَّقون الآن من أهميتهم، ولعلَّهم لا يعرفون اليوم حجم الدور الذي سيلعبونه في التطورات المقبلة.»٧٥ وما لبثت تلك «الفرصة» أن سنحت.

(٨) أعيان الريف نوابًا للأمة

تأسيس نظام دستوري جديد ومعارضة دولتَي المراقبة

افتُتِح دور الانعقاد الجديد بخطاب العرش التقليدي الذي يُلقيه الخديو، وقام محمد سلطان — الذي عيَّنه الخديو رئيسًا لمجلس النواب بالاتفاق مع شريف باشا — وسليمان أباظة بالحديث عن واجبات الأعضاء. وكانت هناك ظاهرتان ملحوظتان في هذا الدور من أدوار الانعقاد؛ فلأول مرة في تاريخ مجلس النواب يُعيَّن أحد الأعضاء المنتخبين رئيسًا للمجلس، وكان إسماعيل يُعيِّن دائمًا في هذا المنصب الشخصيات الموالية من الطبقة الحاكمة التركية-الجركسية، وكان عليهم أن يُوجِّهوا مجلس شورى النواب وفق رغبات الخديو وحسب أوامره. وكان هذا التطور بالغ الأهمية؛ لأن رئيس مجلس النواب الجديد جاء من نفس الطبقة الاجتماعية التي جاء منها غالبية أعضاء المجلس، كما كان صديقًا للكثيرين منهم. أضِف إلى ذلك أن محمد سلطان، وسليمان أباظة، كانا الوحيدَين بين أعيان الأقاليم اللذين دخلا مركز عملية الإدارة والإصلاح، وهو أمر له مغزاه حتى لو كانت صلاحياتهما استشارية. وكانا يُمثِّلان معًا آراء ومصالح كبار المُلَّاك الوطنيين، عندما أصبحا عضوين في لجنة ضرائب الأطيان التي شكَّلتها حكومة رياض في ٢ ديسمبر ١٨٧٩م، وفي اللجنة التي شُكِّلت في ٢٠ أكتوبر ١٨٨١م للنظر في إصلاح الإدارة المدنية.

وأُسنِدَت أمانة المجلس إلى عبد الله فكري وكيل نظارة المعارف، يُعاونه أديب إسحاق الذي أصبح منذ منتصف أكتوبر رئيسًا لأحد أقسام تلك النظارة، واستمر كل منهما في وظيفته الأصلية بنظارة المعارف. فإذا اعتُبِرَا ممثلَين للمثقفين، فإنَّهما كانا يقومان بأعمال السكرتارية للنظار الأتراك الجراكسة من ناحية، ولأعيان الأقاليم من ناحية أخرى.

وتميَّز الخطاب الذي ألقاه الخديو في افتتاح المجلس بالإخلاص والتحذير المشرب بالقلق. فأكَّد على ارتياحه لتمثيل مصالح البلاد بالمجلس مرة أخرى، وذكر أنه منذ توليه الحكم كانت تحدوه الرغبة إلى عقد المجلس، ولكن الظروف أخَّرت تحقيق ما عقد العزم عليه. (ويبدو أنه نسي أنه رفض مشروع الدستور الذي قدَّمه شريف عام ١٨٧٩م، معتبرًا أن الدستور «ديكور مسرحي»)، وتمنَّى على المجلس أن يُبدي تفهُّمًا «سالكًا المسلك المعتدل، والمنهج القويم الذي هو أهم شيء في هذا الوقت الذي هو عصر الترقي والمدن»، كما يجب — قبل كل شيء — احترام التزامات البلاد التي وردت بقانون التصفية والاتفاقات الدولية الأخرى مهما كان الثمن.٧٦

وقد تناول سلطان باشا هذه الموضوعات بإيضاح وإخلاص أكثر عندما ألقى خطاب الافتتاح بعد مغادرة الخديو لقاعة المجلس، فحثَّ بدوره النواب (عدة مرات) على أن يُؤدوا واجبهم بالحكمة والاعتدال والثبات، والتمسُّك بالروابط التي تربط البلاد بالدولة العثمانية والالتزامات التي تضمنتها الاتفاقات المبرمة مع الدول الأوروبية. وأكَّد على أن النواب قد دُعوا لتمثيل مصالح الشعب، وعبَّر عن تصور الأعيان لأنفسهم بقوله:

«وأنتم خلاصة وجهاء القطر وبضعة أعيانه ونبهائه … ولا أزيدكم علمًا أن الوطن العزيز محتاج إلى الإصلاح والتنظيم، قابل للتقدم والعمران، جامع لأسباب المنافع الكلية … ولا شك أن تقدمنا، واستقامة أمورنا، وتأييد أمر الشورى فينا، يسر هذه الدولة العلية، لما ينشأ لنا عنه من القوة التي تكون جزءًا من قوتها الكلية …»٧٧ وبذلك أكَّد سلطان على أن مصر في مركز يسمح لها بإصلاح وتطوير نفسها بنفسها، بقدرتها الذاتية، فكان ذلك ردًّا غير مباشر على ادعاءات الأوروبيين بأن التقدُّم لا يتحقَّق إلا بأوروبا وحدها. وفي نفس الوقت، أعرب عن الاعتقاد بأن المجلس لن يعمل على فصم عُرى الصلات مع الباب العالي، أو إضعاف الدولة العثمانية، بل يسعى لدعم قوتها، على عكس ما كان يخشاه نظامي وفؤاد. وكانت الصحافة قد روَّجت بالفعل لفكرة أن تحقيق مبدأ الشورى يؤدي إلى تقوية المجتمع.
وتضمَّن الرد على خطاب سلطان٧٨ الذي ألقاه سليمان أباظة باسمه واسم أعضاء المجلس القليل من الأفكار التي أوردها المجلس في رده الرسمي،٧٩ الذي حمله وفد من اثني عشر عضوًا إلى الخديو في ٢٩ ديسمبر ١٨٧٩م، وقرأه — عندئذٍ — محمود سليمان.٨٠

فأكَّد سليمان أباظة على التزام النواب بمراعاة الاتفاقات الدولية حتى لا يضعوا النظام المالي في مصر موضع الشك، وتحقيق آمال البلاد على الصعيد الداخلي، وأنه ليس هناك ما هو أقرب إلى قلوبهم من التفاني في خدمة الأمة، والعمل على خدمة الصالح العام، من أجل منفعة البلاد، والدفاع عن حقوقها.

وأكَّد رد المجلس على التمسك بالروابط الوثيقة بين مصر والباب العالي، وضرورة الاحتفاظ بعلاقات طيبة مع الدول الأوروبية التي لا هدف لها سوى منفعة مصر. وكرَّرت اللجنة التي صاغت الرد إقرار الطبيعة النيابية لمجلس النواب التي تمَّ التغلب على العقبات التي قامت في طريقها، وأن الخديو قد استجاب أخيرًا لرغبة الأمة.

ولم يرِد بأيٍّ من هذه الوثائق الصادرة عن المجلس ذِكر لمطالب سياسية أو دستورية تتجاوز حدود الشورى، أو مطالبة بحريات فردية أو اجتماعية أوسع نطاقًا، ولم يلتقِ الأعضاء مع هدف تحقيق تغيير ثوري في النظام الدستوري. ومقارنةً بردِّ المجلس على الحكومة في يناير ١٨٧٩م — الذي كان عبد السلام المويلحي قد شارك أيضًا في صياغته — فإن تلك الخطوة كانت خطوة تراجعية، ذلك إذا كنَّا نجهل الأسباب الخاصة للجسارة المبكرة في الحالة الأولى. ولكن اللغة التي استخدمها — النواب في عام ١٨٨٢م — لم تلبث أن تغيَّرت، ويجب أن نُؤكِّد على أن الخطابات التي أوردنا اقتباسات منها هنا، كانت ذات لهجة إيجابية تمامًا، فإن ثمة هدفًا عامًّا عظيمًا يُنسب إلى الخديو ومجلس النظار، بل والدول، هو العمل لما فيه خير مصر.

وساد الشعور بالارتياح في القنصليات الأجنبية والسراي ومكتب رئيس مجلس النظار، وكتب ماليت — القنصل البريطاني — لحكومته يقول: إن المسلك المعتدل غير المتوقع لمجلس النواب بعث الأمل والثقة في نفس الخديو لأول مرة منذ وقت طويل. ولم يعُد شريف يخشى من أن تعترض مطالب المجلس — التي لا يمكن قبولها — طريق رغبته لوضع أساس قانوني جديد لمجلس النواب، فأعاد من جديد مناقشة مشروع لائحة مجلس النواب بمجلس النظار (وهو المشروع الذي كان قد قدَّمه من قبل إلى مجلس النواب في ٧ مايو ١٨٧٩م بالاتفاق مع إسماعيل)، كما أحيا مرسوم تأسيس مجلس الدولة (الذي صدر في ٢٦ أبريل ١٨٧٩م، ولكنَّه لم يُوضع موضع التنفيذ). وتمَّت الموافقة على مشروع اللائحة الأساسية لمجلس النواب بعد تعديلات وإضافات طفيفة في ٣ ديسمبر ١٨٨١م.

وكثيرًا ما أطرى المشروع «اللبرالي» لعام ١٨٧٩م باعتباره الدستور الأول لمصر، الذي كان من الممكن أن يُحوِّل مجلس النواب إلى مؤسسة مناظرة لبرلمانات أوروبا.٨١ ولا ريب أنه يُمثِّل تقدمًا ملحوظًا على طريق التشريع الدستوري، إذا ما قارنَّاه بلائحة ١٨٦٦م، ولكن إذا شئنا فهم الدوافع التي حدت بإسماعيل إلى الموافقة على ذلك المشروع، على فرض أنه كان ينوي جعل نص وروح «الدستور» تنبض بالحياة، فإن علينا أن نُلقي نظرة تفصيلية على مواده.

ويصعب القول بأن مشروع ١٨٧٩م كان مُصاغًا صياغة منطقية أو خالية من التناقض والتكرار، فقد كان أقرب ما يكون إلى قائمة عشوائية، يتضمَّن ٤٩ مادة، تناولت انتخاب النواب، والنظام الداخلي للمجلس، ومساهمته في عملية التشريع، والعلاقة بين المجلس ومجلس النظار.

فنصَّ المشروع على ألَّا يتجاوز عدد النواب ١٢٠ نائبًا (مادة ٣٤)، وعلى أن كل مصري يزيد عمره عن ثلاثين عامًا ويتمتَّع بحقوقه المدنية يمكن أن يكون نائبًا (مادة ٢)، وعلى عدم جواز الجمع بين منصب وزاري وعضوية المجلس (مادة ٣٨)، وعلى أن النواب يُمثِّلون الأمة كلها وأنهم لا يخضعون للتعليمات أو الوعود أو التهديدات (مادة ٨، ٩)، ويتمتَّعون بحصانة قانونية طوال عضويتهم بالمجلس، لا تُرفع إلَّا بقرار من المجلس في حالة ارتكاب العضو لإحدى الجرائم، كما يحق للمجلس أن يطلب إطلاق سراح العضو المقبوض عليه عندما يتم ذلك في غير دورات الانعقاد (المواد ١٥، ١٦، ١٧)، ويتقاضى العضو مكافأة سنوية قدرها عشرة آلاف قرش (مادة ١٩).

ويُنتَخب مجلس النواب لمدة ثلاث سنوات، وينعقد في الأول من ديسمبر حتى الأول من مارس (المواد ٣، ٤، ٥)، وحصل المجلس على صلاحيات كاملة: فهو الذي يختار رئيسه بنفسه وكذلك نائب الرئيس والأمناء، ويُحدد نظامه بنفسه (رغم أن بعض النقاط الهامة المتعلقة بتلك النظم قد حُدِّدَت بالفعل في المشروع) (المواد ١٣، ٢٩، ٣٣)، ونص المشروع على علانية الجلسات إلَّا إذا دعت الحاجة إلى غير ذلك بناءً على طلب أحد النظار أو عشرة من النواب (مادة ١٤).

وأعطى المشروع للنواب أربع صلاحيات:

  • (١)

    سلطة تلقي الالتماسات وفحصها (المادتان ٢٣، ٢٤).

  • (٢)

    حق إخطار الوزارة المسئولة بالمخالفات الإدارية (مادة ٢٩).

  • (٣)

    حق استجواب النظار (مادة ٤٣)، وإن كان من حق الناظر ألَّا يُجيب عن أسئلة النواب في نفس دور الانعقاد (مادة ٤٤)، ولم يحدد إجراء التصويت على سحب الثقة رغم أن المادة ٣٦ نصَّت على مسئولية برلمانية حقيقية، كما لم ينص على إمكانية إقالة الوزارة، فنظر إلى الأمر من زاوية الملاحقة القانونية «في حالة الضرورة»، على أن يُقدِّم مجلس النظار قانونًا خاصًّا بذلك (مادة ٣٦). فحق استجواب النظار كان يُقابله حق النظار أو من ينوبون عنهم في الكلام أمام المجلس في أي موضوع يشاءون (المواد ٢٥، ٣٩، ٤٠).

  • (٤)

    المشاركة في العملية التشريعية، ولكن حق اقتراح القوانين ظلَّ بيد مجلس النظار (المادتان ٢٦، ٢٧)، فللمجلس حق مناقشة مقترحات مجلس النظار والتصويت عليها، ونص صراحة على تقديم الموازنة السنوية للمجلس، وعلى عدم زيادة الضرائب الحالية، أو فرض ضرائب جديدة دون موافقة النواب (المواد ٢٧، ٤٥، ٤٦) كما نصَّ على أن القوانين تُصبح نافذة فقط عندما يُصدِّق عليها الخديو (المادتان ٢٧، ٤٧).

ويحسُن بنا أن نضع في اعتبارنا المرحلة الأخيرة في عملية التشريع أولًا؛ لأننا نستطيع — عندئذٍ — أن نرى سلطات المجلس والوزارة من منظور حقيقي، فلم يكن ثمة إجراء آخر في حالة توقيع الخديو على القانون (في عهد إسماعيل)، ومن ثَم لم يكن مجلس النظار يملك سلطة إقرار قانون تأيَّد من مجلس النواب ضد إرادة الخديو؛ لأنه كان باستطاعة الأخير أن يُطارد النظار جميعًا، وأن يُرسل النواب إلى بيوتهم في أي وقت يشاء إذا عارضوه في أمر ما، وفي ضوء هذا الوضع التشريعي الغامض تضاءلت كثيرًا أهمية الضوابط الأقل دقة بين مجلس النواب ومجلس النظار في مشروع اللائحة، ولكن رغم ذلك يجب أن نضع تلك الضوابط في الاعتبار.

فإذا رفض المجلس الموافقة على قانون ما بالشكل الذي قدَّمه به مجلس النظار، ولم يكن أيٌّ من الطرفين على استعداد للتوصُّل إلى اتفاق حول موضوع الخلاف، كان على الخديو أن يحل مجلس النواب بإجراء انتخابات جديدة، فإذا أيَّد المجلس الجديد — الذي يجب أن ينعقد خلال أربعة شهور من تاريخ قرار الحل — القرار الذي اتخذه المجلس المنحل، يُصبح القانون نافذًا بعد تصديق الخديو عليه (المواد ١٠، ١١، ٢٨). وإذا دعت الحاجة — خلال فترة انفضاض المجلس — إلى اتخاذ قرارات للحفاظ على الأمن العام أو دفع خطر ترى الحكومة احتمال وقوعه، فإن مجلس النظار يُصدر القرارات اللازمة دون الرجوع إلى مجلس النواب، ولكن يجب أن يُؤخذ رأي المجلس بعد ذلك (مادة ٤١).

وكان المجال محدودًا أمام النواب لمعارضة الخديو الذي يجب عليهم أن يُقسموا يمين الولاء له وفق المادة ١٨. كذلك لم يكن تعضيد النظار ضد الخديو ليفيدهم كثيرًا؛ لأن النظار كانوا يعتمدون على الخديو اعتمادًا تامًّا. فإذا تمرَّد مجلس النواب على مجلس النظار يجب أن يُحل على الفور، وثمة بعض الشك في أن إسماعيل قد يعجز عن إيجاد الذرائع التي تحول دون انتخاب النواب «غير الموالين»، فقد كان من حق الخديو أو ناظر الداخلية أن يأمر مدير المديرية بذلك وفقًا لما جاء بالمادة ١٨، ولم يكن هناك ما يحمي النواب من هذا التفسير للمادة الخاصة بالولاء. أضف إلى ذلك أنه لم يكن من حق الخديو دعوة المجلس للانعقاد في غير الشهور التي حُددت لدور الانعقاد فحسب، بل كان من حقه أيضًا أن يفض دور الانعقاد قبل انتهائه، أو يأمر باستمرار المجلس في العمل عند حلول نهاية الدور (مادة ٦). فإذا قارنَّا مشروع اللائحة بالقانون الأساسي الذي كان معمولًا به في ١٨٦٦–١٨٧٩م لَمَا وجدنا جديدًا، ولكن بعض الإجراءات المتعلقة بالضرائب عُلِّقت — من الآن فصاعدًا — على موافقة المجلس، ولم يُعارض النواب سياسات إسماعيل لأنهم كانوا عاجزين عن ذلك، كما أن الفرصة الحقيقية لذلك لم تُتَح لهم فيما بعد.

وبدا تطور مجلس النواب من هيئة استشارية إلى هيئة رقابة بهذا المشروع تطورًا على الورق على الأقل، وقد يُشير النص على عدم الجمع بين عضوية المجلس والمناصب الوزارية إلى تأثُّر المشروع بفكرة الفصل بين السلطات، ولكن المجلس كان لا يزال أبعد ما يكون عن صفة المجلس التشريعي الحقيقي. كما كانت صلاحياته الرقابية لا تتجاوز بالضرورة حدود الإبطاء في عملية التشريع؛ إذ لم يكن للنواب حق التصديق على القرارات، فسلطة الرقابة ظلَّت حبرًا على ورق، ولكنَّها نُظمِّت فقط بصورة تجريبية.

أخرج شريف هذا المشروع إلى النور، وعندما قدَّمه مرة أخرى إلى المجلس في ٢ يناير ١٨٨٢م، أعاد ترتيب المواد ترتيبًا أكثر اتساقًا وأدخل عليها بعض التعديلات الضرورية،٨٢ فأصبح المجلس يُنتخَب لمدة أربع سنوات بدلًا من ثلاث (مادة ٢)، وحُدِّدَت صلاحياته الذاتية بالمقارنة بمشروع ١٨٧٩م، فبقي للمجلس الحق في تعيين نائب الرئيس والأمناء، أما حق تعيين رئيس المجلس فكان للخديو بناءً على اقتراح مجلس النظار، على أن يكون الرئيس من بين أعضاء المجلس (مادة ١٢، ١٣). أضف إلى ذلك أن نحو نصف الموازنة السنوية أصبح لا يخضع للمناقشة بالمجلس، ويشمل: جزية الباب العالي، وما يتصل بالدين، والبنود المتعلقة بقانون التصفية والاتفاقات الدولية الأخرى (مادة ٣٣)، وكان هذا التحديد بمثابة ترضية لدولتَي الرقابة على مالية مصر.

وهناك ثلاثة تعديلات هامة أخرى أضْفَت على هذا المشروع طابعًا جديدًا، عبَّرت عن اتجاه شريف إلى نقل السلطة من الخديو إلى مجلس النظار، فقد حُذِف النصف الثاني من أصل المادة (٦) الذي كان يعطي للخديو الحق في تقصير أو إطالة دور الانعقاد وفقما يشاء، وحدث نفس الشيء بالنسبة للمواد التي تُعطي الخديو صلاحيات مماثلة (المادتان ٢٧، ٤٧) بالمشروع الأصلي، كالنص على عدم صلاحية الاقتراحات ما لم يُوافق عليها الخديو، وبدلًا من ذلك نصَّت المادة ٤٣ على أن «كل ما يتعلق بالمسئولية الوزارية يتم تقريره بأغلبية ثلثَي أعضاء المجلس»، كما حذفت النص الوارد بالمادة ٣٦ القديمة الذي تناول المساءلة القضائية للنظار لتفقد «المسئولية الوزارية» بذلك مضمونها، ويكسو الغموض معناها، فإذا أراد أحد النواب أن يرفع صوته ضد أحد النظار فعليه أن يكسب تأييد ثلثي أعضاء المجلس (أي ٦١ عضوًا)، وإذا قدَّم النائب احتجاجًا رسميًّا فإن مثل هذا الاحتجاج يُصبح كأن لم يكن. ولمَّا كانت «المسئولية الوزارية على النحو الذي حُدِّدَت به بالمشروع الجديد تفتقر إلى الإلزام، فإنَّها يجب أن تُكتب بين قوسين».

وأكَّد شريف عند تقديمه المشروع للمجلس٨٣ على أنه على مدى السنوات الثلاث المنصرمة كان يرى أن خير الوسائل لحل المشكلات التي تُعاني منها البلاد «هو توسيع نطاق الشورى واشتراك رأي نواب الأهالي مع الحكومة في نظر كل أمر مهم تعود منه المنفعة»، ومع اجتماع مجلس النواب الحر لأول مرة يبدأ عصر جديد من التقدُّم والمنفعة لمصر؛ ومن ثَم يجب تحديد مهام مجلس النواب، وأن ما أمكن تحقيقه تضمَّنه بالفعل مشروع لائحة المجلس. ونظرًا لأن مجلس النواب لم يُصبح بعدُ هيئةً تشريعيةً حقيقية، عرض شريف على المجلس — في نفس الوقت — مشروعًا جديدًا لتأسيس «مجلس الدولة» الذي يتولَّى إعداد القوانين والقرارات ويُمارس مهامَّ قضائية إدارية. ورغم أن مشروع تأسيس مجلس الدولة لم يلعب دورًا في مناقشات مجلس النواب، يبدو أن نقاشًا قد دار حوله، وحالت مجريات الأمور دون تأسيس مجلس الدولة (كما فشلت محاولة ثالثة لتأسيس مجلس الدولة بعد الاحتلال).
وعُهِد بمشروع لائحة المجلس إلى لجنة دستورية تشكَّلت من خمسة عشر عضوًا برئاسة حسن الشريعي (وليس عبد السلام المويلحي كما كانت الحال من قبل!) وضمَّت اللجنة أعضاء من أكثر أعضاء المجلس نفوذًا. ورحَّبت اللجنة بمشروع اللائحة، وقدَّمت اقتراحات بإدخال تعديلات غير جوهرية على المشروع. ويبدو أن اللجنة قد أحسَّت بخيبة الأمل — في بداية الأمر، وأن صلاحيات المجلس لا تتجاوز ذلك الحد، ولكنَّها استجابت لنُصح عرابي، وقبلت بما جاء بالمشروع في هذا الصدد. (وكان عرابي قد أصبح وكيلًا للجهادية في ٤ يناير ١٨٨٢م). ونُقِل عن محمد عبده قوله: «لقد انتظرنا مئات السنين حتى ننال حريتنا، فما ضرنا لو انتظرنا٨٤ بضعة شهور» ولذلك كان شريف واثقًا من أن مشروع اللائحة سينال القبول في الأسبوع الثاني بعد مناقشات اللجنة، وأنه يمكن إصداره في صورة قانون.
وفي هذه اللحظة، جاءت المذكرة المشتركة في ٨ يناير ١٨٨٢م — تحفة الدبلوماسية الأنجلو-فرنسية — لتقلب مخططات شريف التي وضعها بدقة رأسًا على عقب، ولتُبدِّد كل ما بذل من جهد. والدراسة التفصيلية لأصول تلك المذكرة تخرج عن نطاق هذه الدراسة، ويكفي أن نذكر أنه بينما اعترف كولفن وماليت بالجوانب الإيجابية للتطورات التي شهدتها مصر في الأسابيع السابقة بتأثير بلنت، ونصح ماليت حكومته بالإحجام عن تأييد الخديو في أي مواجهة مع مجلس النواب بواسطة تقديم مذكرة مشتركة، أكد سنكفتش على «خطورة» مجلس النواب إذا ما تحوَّل إلى برلمان حقيقي، وعبَّر عن خشيته مما قد يجره مثل هذا التحوُّل من دفع الباب العالي وبريطانيا إلى اتخاذه ذريعة للتدخل في مصر. ولم يكن يدري أنه قد دعم بذلك موقف جمبتا الرامي إلى طمأنة الخديو الذي أبدى تسامحًا تجاه المراقبة الأوروبية بمحض إرادته، إلى أنه سوف يلقى التأييد فيما إذا تعرَّض لمتاعب محتملة من جانب البرلمان المصري الذي قد يحاول المساس بالمراقبة الأوروبية. واقترح جمبتا على بريطانيا وضع حدود واضحة أمام مجلس النواب منذ البداية لا يُسمَح له بتجاوزها، وتشجيع توفيق بإصدار مذكرة مشتركة «للمحافظة على سلطته وتأكيدها».٨٥ ووفقًا لما يذكره بلنت وماليت ومالورتي، وافقت الحكومة البريطانية على اقتراح جمبتا حتى لا تُعرِّض المفاوضات الدائرة — عندئذٍ — بين بريطانيا وفرنسا لإبرام معاهدة تجارية للخطر إذا ما رفضت الاقتراح. لذلك أبلغت الحكومتان الخديو رسميًّا في ٨ يناير ١٨٨٢م أنهما ستقفان إلى جانبه في حالة تعرُّضه لأي صعاب داخلية أو خارجية، وأنهما تأملان أن يُوفِّر هذا التأكيد له الثقة بالنفس «لتوجيه مصير المصريين والقطر المصري».
وقيل إن شريفًا صاح متعجبًا بعد قراءة المذكرة: «يا لها من طعنة مسمَّمة!» وعدَّها تهديدًا بالتدخل لا مبرِّر له، وأبدى أمله في متابعة الاتصالات مع الدولتين لإلغائها، أما ماليت فقد أصابه الحزن، وطلب من بلنت أن يقوم بزيارة عرابي بنظارة الجهادية، وأن يُبلغه نيابةً عنه «أن معنى المذكرة كما تفهمه الحكومة البريطانية هو أنها لن تسمح للسلطان بأن يُقدِم على التدخل في مصر، وأنها لن تدع الخديو يتراجع عن وعوده أو يتحرَّش بمجلس النواب.» ويذكر بلنت أنه أحس بالخزي وهو يُقدِّم لعرابي — ٩ يناير — الحقائق المحرفة، ولكن عرابي رفض أن يُعامَل من جانب ماليت معاملة الأغبياء، وفهم مغزى التهديد فهمًا جيدًا، فكما غزا الفرنسيون تونس، تتعرض اليوم مصر لغزو الإنجليز، ولكن يجب أن يُعَد لهم استقبال مسلح. ويُضيف بلنت أنه سمع من جميع أصدقائه الأزهريين لهجة واحدة فقط هي لهجة الجامعة الإسلامية.٨٦

وتحت تأثير المذكرة المشتركة، لم يَعُد النواب على استعداد للموافقة على لائحة شريف كما هي، فعادت اللجنة الدستورية إلى مناقشة قضية الموازنة بالذات، وطالبت بأن يكون للمجلس حق الرقابة على نصف مصروفات الحكومة الذي لا يُخصَّص للوفاء بالدين وجزية الباب العالي، والذي يُوجَّه إلى سد حاجات البلاد. وأصاب كولفن كبد الحقيقة عندما أدرك أن الهدف الأساسي من وراء هذا الطلب وضع الضوابط للنفوذ الأوروبي، عن طريق إنقاص رواتب الموظفين الأوروبيين، والتخلُّص ممن يزيدون عن حاجة العمل. ووفقًا لما يذكره بلنت، كان قلق الموظفين الأوروبيين على وظائفهم التي يتقاضون عنها أجورًا كبيرة دون مبرر، وراء نظرة الجاليات الأجنبية في مصر إلى مجلس النواب على أنه ليس إلَّا مجلس «المتعصبين».

وعلى كلٍّ، أوصى ماليت — الذي كان مركزه بمنأى عن ذلك النوع من «التعصب» — بأن تُعطى للنواب الصلاحيات التي يطلبونها، وألَّا يقع أي تدخُّل بهذا الصدد، وحتى لو مسَّ المجلس الاتفاقات الدولية عند حصوله على هذه الصلاحيات (وهو أمر مُستبعَد)، فإن ذلك لا يُبرر أي تدخل عسكري. وذكر لحكومته: «أنه يجب أن نضع في اعتبارنا أن المصريين قد ولجوا طريق الحكم الدستوري سواء كان ذلك خيرًا أم شرًّا، وأن القانون الأساسي لمجلس النواب يُعد بالنسبة لهم ميثاقًا للحريات».٨٧ ولكن عندما فشلت محاولة ماليت وضع «الحركة» تحت سيطرته الشخصية؛ ومن ثَم سيطرة حكومته عن طريق بلنت، لم يبذل أي محاولة أخرى لإقناع حكومته بالتخلِّي عن فكرة التدخل التي جرَّها الفرنسيون إليها، بل دفع حكومته — فيما بعد — على طريق التدخل.

وعندما قام سلطان باشا بزيارة القنصل البريطاني — في ١٥ يناير — ليشرح له موقف مجلس النواب، كان ماليت قد انضم بالفعل إلى الجبهة المعارضة للمجلس. تلك الجبهة التي كان يقودها كلٌّ من سنكفتش ودي بلنيير وكولفن، وانضم إليها شريف نفسه عندما أيقن تمامًا أن الدول عازمة على التدخل، وأنه لن يكسب شيئًا من معارضتها. ومن الآن فصاعدًا، أصبح محور المناقشات الرسمية يدور حول أن الموازنة المصرية قد أصبحت موضع اهتمام الدول استنادًا إلى مرسوم ١٨ نوفمبر ١٨٧٦م، ومرسوم ١٥ نوفمبر ١٨٧٩م، وأن تعديل المواد المتعلقة بالموازنة لا يمكن أن يتم إلَّا باتفاق دولي، وبموافقة الحكومتين الفرنسية والبريطانية على وجه الخصوص. وبناءً على ذلك، طلب سلطان باشا — الذي سلَّم لرئيس النظار في اليوم نفسه مشروعًا مضادًّا للائحة أعدَّته اللجنة الدستورية — من ماليت أن يتدخَّل لدي شريف باشا من أجل التوصُّل إلى تسوية للمشكلة، فعهد ماليت إلى بلنت بمهمة الوساطة بين المجلس ورئيس النظار.

وفي ١٦ يناير، قام سلطان باشا وعبد السلام المويلحي وسكرتير المجلس (ولعله كان أديب إسحاق الفرنسي الثقافة)، بزيارة سنكفتش — القنصل الفرنسي — أيضًا سعيًا للحصول على تأييده للتوصُّل إلى حل وسط على الأقل، ولكن القنصل الفرنسي لم يكن يُعارض المذكرة المشتركة على نحو ما فعل ماليت، ورغم اعترافه بأنها أدَّت إلى آثار تُخالف تمامًا ما رمت إليه؛ لأن لهجة المذكرة زادت من صلابة موقف المجلس، إلَّا أنه كان يُؤيِّد الخط الرسمي لبلاده، ولذلك ردَّ ممثلي مجلس النواب خائبين، وأهان سلطان باشا وأنَّبه، مُتهِمًا النواب بأنهم يريدون سبق زمانهم؛ لأن المصريين لم يبلغوا بعدُ درجةً من النضج تؤهلهم لنيل مجلس نيابي واسع السلطات، وأن عليهم أن يُقيموا البرهان أولًا على مقدرتهم.

وسمع بلنت ما يُشبه ذلك من شريف الذي قال بغطرسته التركية المعهودة: «إن المصريين أطفال ويجب أن يُعامَلوا كذلك، لقد منحتهم الدستور الذي يُلائمهم، فإذا لم يقنعوا به فعليهم أن يتصرَّفوا بدوني، لقد خلقت الحزب الوطني، وسيدركون أنهم لا يستطيعون المضي قدمًا بدوني، فهؤلاء الفلاحون بحاجة إلى من يُوجِّههم.»٨٨ وقيل إن شريفًا رأى — قبل إقالته بقليل — أن إيفاد مندوب من قبل السلطان على رأس خمسة آلاف جندي إلى مصر كفيل بوضع نهاية سريعة للأزمة.
وعلى كلٍّ، أراد أولئك «الفلاحون» أن يُبرهنوا على أن باستطاعتهم البقاء حتى بدون شريف؛ فوقاحة القنصل الفرنسي لم تجعلهم أكثر استعدادًا للقبول بحل وسط، وأصبح بلنت يشعر بذلك عندما عقد اجتماعًا — في ١٩ يناير — مع ممثلي قيادة مجلس النواب في منزل الشيخ محمد عبده، بناءً على طلب ماليت وكولفن. فقد طرح بلنت على المجتمعين الموقف الرسمي لماليت وكولفن، وطرح أمامهم رفضهما لحل وسط مؤداه أن يكون للمجلس رأي استشاري فقط فيما يتعلق بالموازنة، على أن يحصل على حق التصويت عليها فيما بعد، ولكن النواب لم يكونوا على استعداد للتزحزح عن موقفهم قيد أنملة، رغم تأييد الشيخ محمد عبده للعرض والتلميح بالتدخل المحتمل.٨٩

كذلك لم يجدِ قيام شريف بإدخال تعديلات واسعة على مشروع اللائحة بما يتمشى مع المقترحات التي قدَّمها المجلس، وتقديمها من جديد إلى مجلس النظار في ٢٣ يناير. وبعدما قام مجلس النظار بمراجعتها مرة أخرى، قُدِّمت إلى اللجنة الدستورية بمجلس النواب — في ٣١ يناير — في صورتها الحكومية الثالثة (أو الرابعة إذا وضعنا في اعتبارنا مشروع ١٨٧٩م).

وفي نفس الوقت طُرِحَت اقتراحات بحلول توفيقية أخرى فيما يتعلَّق بمسألة الموازنة، فقد قام ماليت بزيارة رئيس مجلس النواب — في ٢٠ يناير — تلبيةً لطلب شريف، وبعدما اتهم كل طرف الآخر بالتشدد، قدَّم سلطان باشا العرض التالي إلى القنصل البريطاني (كما قدَّمه في اليوم التالي إلى شريف): «يوفد مجلس النواب عددًا من أعضائه مساويًا لعدد النظار للمعاونة في تمرير الموازنة … على أن يكون هناك صوت لكل نائب وكل ناظر … ويكون لرئيس مجلس النظار صوت إضافي.»٩٠ وبعد بضعة أيام عدَّل سلطان من اقتراحه، فاقترح أن يتولَّى التصويت على الموازنة لجنة من النظار وعدد مساوٍ لهم من النواب، فإذا تساوت الأصوات الموافقة والمعارضة (كأن يقف النواب موقف المعارضة للنظار) يُحَل مجلس النواب، ويتم تنفيذ الموازنة على النحو الذي يُقرِّره مجلس النظار.

ولكن مجلس النظار رفض اقتراح سلطان في الحالتين. وتضمن المشروع الثالث للائحة المجلس تحديدًا للطريقة التي يتولَّى بها المجلس فحص الموازنة، وإبلاغ وجهات نظره إلى ناظر المالية، الذي يعرضها على مجلس النظار «للتحقق من جديتها» (مادة ٣٣).

وقدمت اللجنة الدستورية إلى مجلس النواب بكامل هيئته مشروع اللائحة الأول والثالث المُقدَّم من مجلس النظار، لاتخاذ قرار نهائي بشأنه، كما قدَّمت اللجنة أيضًا مقترحاتها المضادة، والخطاب الذي وجَّهه شريف إلى اللجنة، والذي اقترح فيه أن يتفاوض أعضاء اللجنة مع الدول حول المواد المتعلقة بالموازنة. ولكن المجلس أبدى عجزه عن التوصُّل إلى قرار بهذا الصدد، وقرَّر بجلسة الأول من فبراير إعادة وثائق الموضوع إلى اللجنة الدستورية تلبيةً لطلب تقدَّم به النائب إبراهيم الوكيل، على أن تقوم اللجنة بدراسة الموضوع وإعداد تقرير بشأنه تتقدَّم به إلى المجلس، وطلب بعض النواب أن يتم التوصُّل إلى قرار نهائي في اليوم التالي.

وقُدِّم التقرير إلى المجلس في ٢ فبراير، وفيه أعربت اللجنة عن دهشتها الشديدة لما جاء في خطاب شريف، وذكرت أن الخلاف بين الحكومة والمجلس ليس إلَّا مسألة داخلية محضة لا يجب أن تتدخل فيه أي دولة أجنبية. وبدلًا من الدخول في حوار طويل مع شريف، اقترحت اللجنة على المجلس التصويت على إعلان «يضع في الاعتبار أن فحص الموازنة الذي كان حقًّا خالصًا للحكومة، يجب أن يُعطَى للمجلس إرضاءً للرأي العام، وهو ما يتفق والمصالح الحيوية للبلاد التي يدور الخلاف حولها». واقترح محمد الشواربي إيفاد وفد من المجلس إلى الخديو يُطالبه بالتصديق على المشروع الذي أعدَّه المجلس، وطالب إبراهيم الوكيل بأن يتوجَّه هذا الوفد أولًا إلى شريف باشا لبذل آخر محاولة لإقناعه بالموافقة على مقترحات المجلس، ثم يتوجَّه بعد ذلك إلى الخديو في حالة فشله في إقناع شريف، فتمَّت الموافقة على الاقتراح على هذا النحو، واختير الوفد على الفور من خمسة عشر نائبًا.٩١

وزار الوفد شريفًا بمجرد تشكيله ليُقدِّم له إنذارًا، فقد سأله الأعضاء عمَّا إذا كان مستعدًّا للموافقة على لائحة المجلس بالصيغة التي وضعها النواب، وعندما أجاب بالنفي، طالبه الأعضاء بالاستقالة. ولكنَّ شريفًا ذكَّر الأعضاء بأنه عُيِّن رئيسًا للنظار بقرار من الخديو وليس بقرار من مجلس النواب. فاتجه وفد النواب على الفور إلى الخديو توفيق بقصر الإسماعيلية وطالبوه بإقالة الوزارة والتصديق على لائحة مجلس النواب، وعندما سألهم الخديو عن السند القانوني لمطالبهم، أحالوه إلى القرار الإجماعي للمجلس.

وطلب توفيق مهلة لبحث الأمر، واجتمع قنصلَا بريطانيا وفرنسا بشريف ولم يستطيعا سوى نصحه بالإذعان، فقد خشيا أن يُؤدي رفضه الامتثال للأمر إلى صدور إعلان جديد من جانب المجلس. ونصحاه بعدم تحمُّل مسئولية أي تطورات أخرى قد تحدث، وجعل ذلك واضحًا بالإحجام عن تقديم قائمة جديدة بالوزارة. ومن ثَم أبلغ توفيق وفد مجلس النواب مساء الثاني من فبراير أنه سيُعيِّن الوزراء الذين يختارونهم بأنفسهم. وتردَّد النواب في بداية الأمر، ثم ما لبثوا أن أبلغوا الخديو في صبيحة الثالث من فبراير أن محمود سامي البارودي هو مرشحهم لرئاسة الوزارة، فكلَّفه توفيق بتشكيل الوزارة على الفور.

وفي اليوم التالي — ٤ فبراير — تقدَّم رئيس الوزراء المُكلَّف إلى الخديو ببرنامج وزارته وقائمة بأسماء النظار الذين اشترك وفد النواب في اختيارهم. ووافق توفيق على كل شيء وتحمَّل محمود سامي مشقة طمأنة الخديو إلى أن قانون التصفية والمؤسسات الدولية الخاصة بالرقابة على مالية مصر لن تمس. وأعلن أن حكومته ستتابع الإصلاحات القضائية والإدارية والتعليمية «غير أن أول عمل تراه هذه الهيئة واجب التقديم، أن تقرر لمجلس النواب قانونه الأساسي، على أن يكون هذا القانون كافلًا باحترام العهود والمواثيق الدولية والمشارطات الشخصية، ورعاية جميع الحقوق والواجبات، مانعًا كل المنع من سَنِّ كل شرط يتعلَّق بالدَّين وتسديداته، وأن يجعل لمجلس النواب حق مسئولية النظار بوجه الحكمة والاعتدال، وحق تنقيح القوانين، وهذا القانون على هذه الشروط يكون مؤيدًا لمنافع العموم.»٩٢
وقام توفيق بتعيين النظار الذين اقترحهم محمود سامي في اليوم نفسه، ولم يبقَ من مجلس النظار السابق سوى البارودي ذاته الذي تولى نظارة الداخلية، ومصطفى فهمي الذي أصبح ناظرًا للحقانية وناظرًا للخارجية معًا، وكان التمسُّك به يرجع إلى إجادته للفرنسية وخبرته في التعامل مع القناصل. وأصبح عرابي ناظرًا للجهادية، وتولَّى علي صادق نظارة المالية،٩٣ وكان يشغل من قبل منصب العضو المصري في إدارة السكك الحديدية وميناء الإسكندرية، وحلَّ محله محمد زكي في منصبه السابق، واستُدعِي محمود فهمي — باشمهندس الاستحكامات المصرية — من جولة تفتيشية بسواحل البحر المتوسط ليتولَّى نظارة الأشغال العمومية. وأسندت نظارة المعارف إلى عبد الله فكري، وحلَّ محله علي فهمي رفاعة في منصب السكرتير الأول لمجلس النواب.٩٤ ولمَّا كان حسن الشريعي قد أصبح ناظرًا للأوقاف، طلب سلطان باشا من النواب الموافقة على أن يخلفه بديني الشريعي في عضوية المجلس، فوافقوا على ذلك دون إجراء انتخابات تكميلية أو تقديم مبررات تتعلَّق بالكفاءة مثلًا.
وبقي خمسة من كبار موظفي النظارات في مواقعهم كوكلاء للنظارات، فظلَّ بلوم باشا وكيلًا للمالية، وحسين فهمي وكيلًا للأوقاف،٩٥ وبطرس غالي وكيلًا للحقانية، وتيجران بك وكيلًا للخارجية، وروسو بك مديرًا عامًّا بنظارة الأشغال العمومية، وأصبح حسن الدرملِّي وكيلًا للداخلية بدلًا من خليل بكر، ويعقوب سامي وكيلًا للجهادية٩٦ بدلًا من عرابي الذي كان قد حلَّ بدوره محل حسن أفلاطون في ٤ يناير، وتولَّى علي فهمي رفاعة — سكرتير أول مجلس النواب — وكالة المعارف، وعُيِّن أحمد رفعت — مدير المطبوعات — أمينًا عامًّا لمجلس النظار. وأُنشئت بعد ذلك بقليل نظارة خاصة بالسودان، لمواجهة الصعوبات التي ظهرت بتلك البلاد، أُسندت إلى عبد القادر حلمي في ٢١ فبراير، وكان ناظرًا لضبطية القاهرة من قبل وعُزِلَ من منصبه في ٩ سبتمبر ١٨٨١م، فعُيِّن حكمدارًا للسودان في نفس الوقت وأُرسل إلى الخرطوم، ثم استدعى محمود سامي صديقَه علي الروبي من المنصورة وعيَّنه وكيلًا لنظارة السودان فكان بمثابة الناظر الفعلي لها.

وثمة ملاحظتان على هذه التغيرات في المناصب؛ فقد بقيت العناصر الأوروبية في الجهاز الإداري في مواقعها، بينما فقدَ ممثلو النظام القديم من الأتراك الجراكسة معظم مراكزهم الهامة، ولكنَّهم لم يختفوا من المسرح السياسي كما لم تتم تصفيتهم من الجهاز الإداري؛ فمحمود سامي ينتمي إليهم قبل كل شيء، ولكن أعيان البلاد أحرزوا السلطة، وأسقطوا الوزارة التركية الجركسية، فلأول مرة يملك المصريون زمام أمورهم بأيديهم، فمثَّل كبارَ المُلَّاك من الضباط والمثقفين في الوزارة الجديدة حسن الشريعي، وأحمد عرابي، وعلي الروبي، ومحمود فهمي، وعبد الله فكري. وعلى كلٍّ بقيت السيطرة على نظارتَي الداخلية والخارجية في أيدي الطبقة الحاكمة القديمة مُمثَّلة في محمود سامي ومصطفى فهمي، فلم يعنِ شعار «مصر للمصريين» أن الأصل العرقي هو الذي يُحدِّد ما إذا كان شخص بعينه يستطيع أن يتولَّى أو يحتفظ بمنصب معين. فالأتراك-الجراكسة لم يفقدوا مراكزهم طالما أبدوا استعدادهم لتقبل ممثلي أعيان المصريين إلى جانبهم، كما أن الحاجة لم تدعُ إلى طرد الأجانب من مناصبهم أو إبعادهم عن البلاد.

وكسب محمود سامي ثقة الضباط المصريين — بحكم موقعه كناظر للجهادية — عن طريق تلبية مطالبهم؛ ومن ثَم أعادوه إلى منصبه بعد مظاهرة ٩ سبتمبر لضمان سلامتهم الشخصية. وفكَّر محمود سامي في الاستفادة من تلك الثقة في تحقيق مستقبل سياسي، فاستمر في التعاون المباشر مع الضباط، وأيَّد مطالبهم، وأخيرًا اختار عرابي وكيلًا لنظارة الجهادية في الرابع من يناير. وبرَّر ذلك بأن عرابي يجب أن يُوضع في مكان يجعله يتحمَّل المسئولية من ناحية، وأنه يجب إبعاده عن آلايه وعن الشرقية من ناحية أخرى، لأنه كان يُثير الأهالي ضد الحكومة (وإن كانت الخطب التي ألقاها قد جاءت في مناسبات دُعِيَ فيها إلى بعض الولائم). واقتنع الخديو والقناصل بتلك المبررات، بل ذهب المراقبان العامَّان إلى ما هو أبعد من ذلك، فرأيا تعيين عرابي ناظرًا للجهادية مباشرة لأنهما كانا يثقان به أكثر من ثقتهما بمحمود سامي.

ولكن ذلك لم يدُر بخلَد محمود سامي بالتأكيد. ويمكننا أن نعتبر حديث الند للند الذي يزعم عرابي أنه قد دار بينه ومحمود سامي في يناير ١٨٨٢م فيه إفصاح عن أهداف محمود سامي؛ إذ يروي عرابي أن الأخير تملقه وبالغ في تقديره لدور عرابي في القضاء على الاستعباد الذي عانى منه المصريون منذ آلاف السنين، وأبدى محمود سامي استعداده للتضحية بآخر قطرة من دمائه من أجل تنصيب عرابي خديويًّا لمصر. ويزعم عرابي أنه رفض تلك الفكرة مشيرًا إلى أن محمود سامي نفسه ينحدر من أسرة حاكمة، فأصرَّ محمود سامي على أن عرابي شخص أكثر تقبلًا عند الناس منه، وانتهى الحديث عند هذا الحد. فإذا كان الحديث قد دار حقيقة على هذا النحو بين الرجلين بصورة أو بأخرى، فإن تملق محمود سامي لعرابي كان يهدف إلى توثيق علاقته بعرابي خاصة. ولا ريب أنه لم يكن ثمة ما يُدخِل السرور على قلب محمود سامي أكثر من الإشارة إلى أصله المملوكي. فقد كان يُمجِّد في أشعاره — التي تعكس اعتزازه بنفسه — أصله النبيل ويُصوِّر نفسه أمير الشعراء وفرسان الماضي، كما كان يعرف «متع الحياة» أو برع — على الأقل — في وصفها: الحب والشراب، ويبدو أن متعة ثالثة كانت على مقربة من متناول يده هي السلطة. ولم يكن يسعى إليها لذاتها فحسب، ولكنَّها كانت تغريه على الأقل.

ولمَّا كان موقف مجلس النواب من مسألة الموازنة قد ازداد صلابة بعد وصول المذكرة المشتركة، اتصل محمود سامي بأقطاب النواب وخاصة حسن الشريعي وأمين الشمسي وإبراهيم الوكيل وأحمد محمود ومحمد الشواربي، على نحو ما يذكر شريف باشا وبطرس غالي، وكانوا جميعًا على اتفاق حول إقامة «وزارة ظل» من محمود سامي وأحمد عرابي وحسن الشريعي، وهكذا أصبح محمود سامي رئيسًا للوزارة في ٤ فبراير باعتباره مرشح مجلس النواب وقادة الجيش.

وتبنَّى النواب المصالح القريبة إلى قلوبهم، غير أن وكالة رويتر للأنباء أرسلت تقريرًا إلى أوروبا ذكرت فيه أن مجلس النواب يخضع تمامًا لنفوذ الضباط، وأن عرابي هدَّد سلطان باشا بالقتل إذا لم يستسلم لرغبات الضباط، وكان الغرض من ذلك التقرير الذي لا يزال الغموض يُحيط بمصدره، تصوير النواب بأنهم أدوات في يد الضباط. وكتب سنكفتش إلى باريس تقريرًا بنفس المعنى، واعتقد ماليت أيضًا أن التقرير صحيح، رغم أنه كُتب في ١٦ يناير أن سلطان باشا قد أكَّد له أن مجلس النواب لا يخضع لنفوذ الضباط ولا يلتمس العون منهم. واتخذ سلطان خطوات لمواجهة هذا التقرير المزيف، فاجتمع مع بلنت بحضور المفتي العباسي وأحمد السيوفي وعبد السلام المويلحي وأحمد محمود ورشوان حمادي وعبد الشهيد بطرس من النواب، وتوسل إليه أن يُنكر صحة التقرير لكل من ماليت ولندن، كما كتب سلطان بنفس المعنى إلى إدارة المطبوعات في ١٦ فبراير ١٨٨٢م، غير أن ادعاءاتٍ من نفس النوع استمرت تتردَّد رغم الجهود التي بُذلت لدحضها.

ففي نفس اليوم — ١٦ فبراير — أنكر سعيد الغرياني صحة تقرير مُماثل في خطاب أرسله إلى «الطائف» — جريدة عبد الله النديم — التي كانت تنشر مضابط اجتماعات مجلس النواب وتصريحات النواب بترخيص رسمي. وكان التقرير المشار إليه قد زعم أن نائبَي الإسكندرية قد تمَّ ترحيلهما إلى الثغر تحت الحراسة العسكرية لأنهما عارَضَا رغبات الضباط.

وحقيقة لم تكن ثمة حاجة إلى الضغط العسكري لجعل قادة مجلس النواب (وكانوا نحو اثني عشر من كبار المُلَّاك) يُقدِّرون الفرصة المتاحة لهم، كما أن إسقاط وزارة شريف كان ردًّا منهم على المذكرة المشتركة من ناحية، كما أنهم استفادوا من الوضع القائم ليثبتوا مواقعهم في البنية السياسية من ناحية أخرى. ولعل المذكرة كانت — إلى حدٍّ ما — موضع ترحيبهم لأنها أتاحت لهم إثبات وجودهم.

وفي ٧ فبراير ١٨٨٢م، وافق النواب على اللائحة الأساسية للمجلس — أو «ميثاق الحريات» (كما يُسمِّيه ماليت) — التي قدَّمها حسن الشريعي وعبد الله فكري وصدَّق عليها الخديو في اليوم نفسه، واتفقت الصيغة النهائية للائحة — إلى حدٍّ كبير — مع المشروع المضاد الذي قدَّمه النواب، الذي أضاف إليه مجلس النظار الجديد بعض التعديلات غيرَ جوهرية. وعولجت مسألة الموازنة على نحو شبيه بالصيغة التوفيقية التي اقترحها سلطان باشا. ومقارنة بالصيغة التي وضعتها الوزارة السابقة، لم تتضمَّن اللائحة الأساسية أي تقدُّم ثوري، وكان سلطان باشا قد وصف المشروع الذي قدَّمه شريف باشا — في ٢٠ يناير — بأنه كالطبل الأجوف، ولكن الصيغة النهائية للائحة كانت — بلا ريب — طبلًا يختلف قليلًا في إيقاع نغماته عن طبل شريف.

ووفقًا للائحة مجلس النواب الصادرة في ٧ فبراير ١٨٨٢م، كان النواب يُنتخبون لمدة خمس سنوات بدلًا من أربع سنوات (مادة ٢)، فإذا لم تنتهِ مناقشات المجلس خلال دور الانعقاد العادي (أول نوفمبر ‏–‏ آخر يناير) يمد الخديو دور الانعقاد لما يتراوح بين ١٥ و٣٠ يومًا (مادة ٨). ولم تكن هناك مادة تنص على حق المجلس في الانعقاد أو الاستمرار في الانعقاد بإرادته الذاتية إذا امتنع الخديو عن دعوته للانعقاد أو رفض مد دور الانعقاد. وبقي تحديد تاريخ أدوار الانعقاد غير العادية مرهونًا بإرادة الخديو وحده (مادة ٩)، غير أن الخديو كان له حق اختيار رئيس المجلس من بين ثلاثة نواب يختارهم المجلس (مادة ١٣).

وتقلَّص حق النواب في مراقبة الإدارة مقارنة بما جاء بمشروع شريف، فلم يكن من حق المجلس تقديم المظالم للنظار المعنيين إلَّا خلال دور الانعقاد (مادة ٢٠)، دون أن يكون لهم حق متابعتها. وظلَّت «المسئولية الوزارية» قاصرة على مراقبة صلاحية القوانين واللوائح ولا تتضمَّن أي إمكانية للمساءلة السياسية أو القضائية (مادة ٢١)، وقد نقل اشتراط الحصول على أغلبية ثلاثة أرباع أصوات الأعضاء لاتخاذ قرار بهذا الشأن (مثل توجيه اللوم الذي لا يتبعه بالضرورة نتائج إيجابية) عن مشروع شريف، وأُضيف إليه النص على أن يكون الاقتراع على هذه المسائل سريًّا (مادة ٤٤).

ولم يتعرَّض النواب للسلطات الاستثنائية للحكومة والخديو التي أبرزها شريف (مادة ٤١) أو للحق المطلق الخاص باقتراح القوانين الذي تمتع به مجلس النظار، فالمجلس الأخير يقدم القوانين إلى مجلس النواب الذي يتولَّى التصويت عليها ثم يصدق عليها الخديو (مادة ٢٥). ولم توضع قواعد لكيفية التصرف في حالة رفض الخديو التصديق على قانون أجازه مجلس النواب. حقًّا كان باستطاعة مجلس النواب أن يطلب إلى مجلس النظار اقتراح قوانين بعينها. كما كان باستطاعة اللجنة التشريعية بالمجلس أن تطلب إدخال تعديلات على القوانين، ولكن لم يكن ثمة ما يُلزم النظار بذلك (المواد ٢٥، ٢٦، ٢٧). وتُرك تقرير أمر المقترحات التي يرغب مجلس النظار في تقديمها للنواب، وما يجب أن يُصوِّت عليه مجلس النواب، لتقدير مجلس النظار وحده.

ومن ثَم لم يدُر بخلَد النواب مطلقًا تأسيس نظام «حكم برلماني». لقد أرادوا أن يُخضعوا نصف الموازنة — الذي كان من حق الحكومة التصرف فيه — لرقابتهم، وأن يُخضعوا السياسة المالية لمشيئتهم، وأن يغلقوا الباب في وجه أي محاولات جديدة للتدخل الاقتصادي والسياسي من جانب الأوروبيين في مصر. ولذلك أقرَّ النواب مبدأ عدم شرعية فرض الضرائب دون موافقة مجلس النواب، ورد المبالغ التي تحصَّل بطريق الخطأ، أو دون موافقة المجلس (مباشرة أو من خلال الموازنة) (مادة ٣٨).

ونصَّت اللائحة على ألَّا تُناقش نصف الموازنة الخاضع لتصرف الحكومة في المجلس ذاته ولكنَّها تُناقش عن طريق لجنة مكوَّنة من عدد من النظار وعدد مساوٍ لهم من النواب، فإذا جاءت أصوات النواب من أعضاء اللجنة معارضة لأصوات النظار نوقشت الموازنة بالمجلس، فإذا نالت وجهة نظر النظار غالبية أصوات النواب، اتخذ القرار الخاص بالموازنة قوة القانون، أما إذا أيَّد المجلس وجهة نظر النواب من أعضاء اللجنة عولجت المسألة في ضوء الأحكام المنظمة لكيفية التصرف في حالة حدوث خلاف بين المجلس ومجلس النظار (ولم تُحدِّد المواد المذكورة المدة التي يجب بذل المحاولات خلالها للتوصل إلى التسوية) فيقوم الخديو بحل المجلس ويأمر بإجراء انتخابات جديدة، على أن يُعقد المجلس الجديد خلال مدة لا تُجاوز ثلاثة شهور، وعندئذٍ تأخذ الحكومة برأي المجلس الجديد (المادتان ٢٣، ٢٤).

كما نصَّت اللائحة على أن يتم تعديل اللائحة الأساسية وتفسير موادها باتفاق بين النظار والنواب، ولم تتضمَّن الإشارة إلى كيفية تحقيق ذلك (المادتان ٥٠، ٥١) وفيما عدا ذلك، كانت بقية مواد اللائحة تتمشى مع جوهر، جاء بمشروع شريف.

لم يكن باستطاعة اللائحة الأساسية لمجلس النواب أن تكون أساسًا لحكم برلماني، فما قدَّمته تلك اللائحة لا يتضمَّن حكم مصر عن طريق مجلس النواب، ولكنَّها تضمَّنت رقابة محدودة من جانب المجلس على الحكومة المصرية. ولم يبقَ النظار وحدهم يستندون إلى سلطة الخديو، بل ظلَّ النواب أنفسهم يستندون أساسًا إلى تلك السلطة، فليس ثمة خطوة قانونية يمكن اتخاذها ضده، إذا لم يدعُ المجلس للانعقاد، أو أحجم عن التصديق على القوانين التي يقرها المجلس، كما لم يكن ثمة ضمان لاستمرارية الرقابة المتبادلة بين مجلس النواب ومجلس النظار، فكانت تلك الرقابة تتناسب والوزارة (المواد ٣١–٣٧)، فإذا عجز الجانبان عن التوصل إلى تسوية في الأوقات التي يسود فيها جو من التعاون والوئام بين المجلسين، ولم تكن هناك إجراءات دستورية تحكم هذه الرقابة في الحالات التي يقع فيها الصراع بينهما.

ولا يُعد ذلك الأمر مثيرًا للدهشة فلائحة مجلس النواب لم توضع على أساس نظري يتجاوز مبدأ الشورى، ولم يكن هناك رصيد من الخبرات يمكن الرجوع إليه في هذا الصدد. وجاءت اللائحة تعبيرًا عن مصالح النواب أنفسهم، ولكن إصدارها كان أهم حدث دستوري في مصر القرن التاسع عشر. فقد استطاع أعيان الريف أن يعقدوا مجلس النواب بالتحالف مع الضباط، وأن يكسبوا إصدار اللائحة الأساسية التي أعطتهم حق التعبير عن أفكارهم وتطلعاتهم الدستورية دون أن يركنوا إلى تدخل «أبنائهم وإخوانهم» في الجيش. وبذلك حقَّق ملاك الأراضي من أهالي البلاد، بالتعاون مع الضباط الفلاحين والمثقفين مغزى شعار «مصر للمصريين».

وهذه الخلفية تفوق اللائحة الأساسية ذاتها من حيث الأهمية، فلم تكن سوى دستور مصري، غير أنها كانت «دستورًا» للمجلس. فلم تتضمَّن اللائحة سوى القليل من الضوابط التي تُمثِّل — بمعايير ذلك الزمان — الحد الأدنى الذي لا يمكن المساس به بالنسبة لأي دستور حقيقي مكتوب. فقد عالجت جانبًا مُحدَّدًا من الاختصاصات هو ذلك الذي يتعلَّق بمجلس النواب، فأقرت حقوق وواجبات الأطراف الأخرى كلما كانت تلك الحقوق والواجبات تتأثَّر بمجلس النواب. ولم يرد ذكر الحقوق الفردية والحريات الأساسية للرعايا إلَّا فيما يتصل بحقهم في التظلم. وبذلك كانت «قانونًا أساسيًّا» يتضمَّن عناصر أساسية ذات طابع دستوري.

وعلى أيَّة حال، افترضت اللائحة الأساسية لمجلس النواب وجود تناسق داخل النظام السياسي، وأغفلت ديناميكيته. وكانت الثقة في حسن نوايا الجماعات المشاركة في العمل السياسي، وغياب الحيوية الراسخة اللازمة لحل الخلافات تتمشَّى مع المبادئ الإسلامية التقليدية الخاصة بالنظام السياسي، وإن كان مفهوم «الشورى» قد فُسِّر بطريقة جديدة؛ فنواب الشعب لم يقنَعوا بمجرد تقديم المشورة للحكومة كلما التمستها عندهم، ولكنَّهم تطلَّعوا إلى أن يكون لهم حق الاعتراض على قرارات الحكومة، إذا ما حصلوا على تفويض الناخبين في انتخابات جديدة غير عادية.

وخلال مناقشتنا لطبيعة لائحة مجلس النواب، كنا ننشد إلقاء نظرة ثاقبة على الأفكار الدستورية للنواب الذين لعبوا دورًا هامًّا في إعداد الصيغة النهائية للائحة. ومن الواضح أن عامل السلطة لا يمكن إخضاعه لقوانين رشيدة عن طريق المصطلحات الدستورية، رغم أن الوسائل الدستورية تستطيع التحكم في السلطة السياسية إلى حد ما. وفيما يتعلَّق بلائحة مجلس النواب، لم تُحقِّق المحاولة التي بُذلت في هذا المجال نجاحًا ملحوظًا. غير أن عيوبها كدستور اتضحت عند وضعها موضع التطبيق، وكانت بعيدة المغزى عند أولئك الذين ساهموا في صنع النظام الدستوري الجديد، سواء في ذلك النواب أو الوزراء. ولم تتوقَّف المناقشات التي دارت حول الدستور في ٧ فبراير، فاستمرت حتى قبيل ضرب الإسكندرية وأسفرت عن نتائج ملحوظة.

سياسات مجلس النواب

حدَّدت اللائحة الأساسية الجديدة مدة دور الانعقاد السنوي ثلاثة شهور، ولمَّا كان المجلس قد دُعِي للانعقاد في ٢٦ ديسمبر ١٨٨١م، فقد صدر مرسومٌ خديويٌّ بتحديد يوم ٢٦ مارس موعدًا لانفضاض الدور. ووفقًا لنصوص اللائحة صدر مرسومان آخران، حدَّد أولهما مدة العضوية بخمس سنوات (تبدأ من ٢٦ ديسمبر ١٨٨١م، تاريخ أول اجتماع)، ونصَّ ثانيهما على تعيين سلطان باشا رئيسًا للمجلس للمدة ذاتها.

وبدأ المجلس باستكمال تنظيماته الداخلية، وفي ٩ فبراير كلَّف المجلس لجنة اللائحة الأساسية بوضع اللائحة للمجلس، فقدَّمت اللجنة مشروع اللائحة في ١٦ مارس وتمَّت الموافقة عليها في ١٩ منه، وبدأ تنفيذها في ٢٤ منه. وفي ۱۳ فبراير انتُخب محمد الصيرفي ومحمد الشواربي وكيلين للمجلس.

وفي ١٢ مارس، قدَّمت الحكومة إلى المجلس مشروع قانون الانتخاب الذي صدر في ١٥ مارس، بعد تعديلات أدخلها المجلس عليه. ونصَّ القانون على أن يكون أعضاء المجلس — فيما بعد — ١٢٥ عضوًا، وحدَّد النواب الذين يُمثِّلون كل مديرية ومدينة. وتضمَّن ذلك السودان ومحافظات البحر الأحمر التي يُمثِّلها ١٢ نائبًا والبدو ويمثلهم سبعة نواب. على أن يتمتَّع بحق الانتخاب جميع سكان البلاد الخاضعين للسلطة القضائية المصرية ممن بلغوا من العمر ٢١ عامًا حسب درجة تعليمهم أو ملكيتهم. فاقتصر حق الانتخاب على العلماء، ورجال الدين اليهودي والمسيحي، والمعلمين، والموظفين، والضباط، والمحامين، والأطباء، والصيادلة، والمهندسين، ومن يدفعون ضريبة أطيان، أو غيرها من الضرائب لا تقل عن ٥٠٠ قرش سنوي. ويتم الانتخاب على درجتين فينتخب كل مائة من الناخبين مندوبًا عنهم، وينتخب أولئك المندوبون عضوًا أو أكثر حسب ما يُحدِّده القانون ليصبح نائبًا من مديرياتهم. واقتصر حق الترشيح على من لهم حق التصويت بشرط ألَّا تقل أعمارهم عن ٢٥ عامًا، وأن يُجيدوا القراءة والكتابة، وأن يكونوا ممن يُقيمون بالمديرية التي يُرشِّحون أنفسهم عنها. ورُوعي في وضع الشرط الضريبي الذي حدَّد عدد الناخبين ونظام الانتخاب غير المباشر، ألَّا تحدث تغيُّرات أساسية في الأصول الاجتماعية للنواب، غير أنه من الملاحظ أنه تقرَّر — لأول مرة — الأخذ بنظام قوائم الانتخاب، وبمبدأ ضم الأفراد إلى تلك القوائم عند الضرورة بطريق القضاء، وبذلك لم يعد تشكيل جماعة الناخبين يعتمد على الصدفة أو على إرادة مدير المديرية.٩٧

ورغب النواب في حماية أنفسهم ضد تقلبات القرارات الإدارية، فطالب اثنان من العمد المجلس بأن يطلب من الحكومة وضع قانون لتنظيم وظائف العمد وشيوخ القرى وواجباتهم نحو الأهالي من أجل تحديد حقوقهم وواجباتهم بدقة، على أن تكون لهم مكانة موظفي الحكومة، وأن يحصلوا مثلهم على راتب ثابت. واستجابةً لاقتراح نائب آخر؛ طالب المجلس الحكومة بإصدار قانون للخدمة المدنية العامة يُحدِّد واجبات الموظفين وحقوق الأفراد قبلهم. وتُوِّج هذان المطلبان بتحرك أحمد عبد الغفار — في ٥ مارس — من أجل تحديد وضع العمد والموظفين عن طريق إصدار قانون أساسي يُحدِّد وضع الخديو ووضع الذين «ينفذون أوامره» بما في ذلك رسم حدود سلطاتهم. وهكذا لو تمَّت إجابة طلبات المجلس لصدر عدد من القوانين الأساسية التي تقترب من مستوى الدستور الحقيقي المكتوب.

وفيما عدا ذلك، كانت المناقشات والمطالب التي أُثيرت في المجلس تتفق إلى حد كبير مع تلك التي أُثيرت في المجالس السابقة، فقد برهن النواب مرة أخرى على أنهم يُمثِّلون مصالح المديريات التي جاءوا منها والبلاد كلها، على حد تعبير اللائحة الأساسية، فطالبوا بتعديل مواعيد جباية ضرائب الأطيان لتيسير السداد على الناس، ونقلوا شكاوى أولئك الذين كانوا يُدعَون للعمل بالسخرة دون أن يعود عليهم ذلك بأدنى فائدة سواء كان ذلك العمل في الدائرة السنية أو أطيان الدومين، أو في شق الترع خارج مديرياتهم، وكانت هناك شكاوى عديدة من أن بعض الأوروبيين المتمتعين بالامتيازات أقاموا مضخات بخارية في مواقع هامة على الترع، وأنهم كانوا يحصلون لأنفسهم على كميات كبيرة من مياه الري على حساب الفلاحين الذين لا يملكون مثل هذه الوسيلة الحديثة، وتكرَّرت المطالبة بشق ترع جديدة وتوسيع الترع القائمة. وجأر نواب الصعيد بالشكوى من إهمال بلادهم، وطالبوا بمد الخطوط الحديدية، وإنشاء المحاكم والمدارس، وشق الترع بالصعيد. وعبَّر أحمد علي نائب إسنا عن اعتقاده بأنه قد وجد سبيلًا لمنع تكرار المجاعات المدمرة التي أصابت الصعيد في عام ١٨٧٨م؛ وذلك بإنشاء خزان على النيل عند أسوان، وطالب ناظر الأشغال العمومية بالاجتماع مع إسماعيل محمد سلامة باشا ومحمود الفلكي لدراسة فكرة إقامة الخزان.٩٨ وطالب أمين الشمسي، وعبد الماجد البيطاشي بمنع تصدير الغلال حتى يحين وقت الحصاد للحد من ارتفاع أسعارها. وتساءل نواب آخرون عن تقاعس الحكومة عن تعويض من دفعوا المقابلة. وطالب عبد الشهيد بطرس بالإسراع في إقامة المحاكم الأهلية، كما طالب عبد السلام المويلحي ببذل جهود أكبر في مجال التعليم العام وإقامة مدارس جديدة في الأماكن التي لا تتوافر بها المدارس، كذلك طالب محمد الشواربي بتدريس الزراعة في المدارس.

وفي الحقيقة كانت هذه النماذج تُمثِّل الموضوعات التقليدية التي تُثار في مجلس النواب (الأشغال العامة – الضرائب – المحاكم – المدارس – الرقابة على الموظفين) وتُعالَج بطريقة تقليدية في صورة شكاوى واقتراحات تُقدَّم إلى النظار. ومن الناحية الرسمية، كانت استجابة النظار لتلك الوسائل تقليدية، فكان ناظر المالية وناظر المعارف والأشغال العمومية — مثلًا — يبعثان إلى المجلس بردود مكتوبة، أو يحضران للرد على تلك الأيام حيث كان الجو صافيًا بين الحكومة والمجلس، ولم يعُد باستطاعة النظار أن يقولوا الكلمة الأخيرة، وكان النواب يبسطون آراءهم ورغباتهم بشكل حاد وبثقة بالنفس. وعندما أعلن ناظر المالية أنه لا يمكن البدء بتعويض من دفعوا المقابلة؛ لأن اللجنة المختصة لم تُنهِ أعمالها التمهيدية بهذا الصدد، سأله محمد الشواربي عمَّا إذا كان هناك أمل في أن تُنهي اللجنة عملها. وضغط أحمد عبد الغفار على الناظر نفسه حتى لا يؤخر عملية تسجيل الأراضي التي طالب بها المجلس ولو ليوم واحد، وأن يتم الانتهاء منها خلال دور الانعقاد الراهن. ومن ناحية أخرى، اقترح عبد الله فكري على النواب الذين يتبنون فكرة إقامة المدارس أن يضربوا المثل بأنفسهم ويُنشئوا مدارس ابتدائية بمديرياتهم. فقبل النواب أن يأخذوا الأمر على عاتقهم بعدما وعدهم ناظر المعارف بتوفير المعلمين لها من بين طلبة الأزهر، ولكن النواب كسروا الحواجز التقليدية، لا بواسطة المطالب الدستورية والثقة المتزايدة بأنفسهم في مواجهة الحكومة فحسب، بل وعن طريق توجيه اللوم والنقد إلى التصرفات الإدارية التي تمت بالفعل، فطالب أحمد أباظة بطبع نصوص جميع المعاهدات والاتفاقات الدولية التي أبرمتها الحكومة حتى يطلع عليها المجلس. وأثار عبد المجيد البيطاش نائب الإسكندرية موضوع رئاسة المحكمة المختلطة، ووجوب أن يكون رئيس هذه المحكمة خاضعًا للسلطة القضائية المصرية استنادًا إلى الاتفاق الدولي المنظم لهذه المحاكم؛ ومن ثَم اعترض على إسناد منصب رئيس محكمة القاهرة المختلطة إلى واصف عزمي المتمتع بالحماية النمساوية. وانتقد أحمد علي المخصصات الواردة بالموازنة لمعاشات الموظفين.

وعلى نحو ما كان يخشاه كولفن، لم يتوقَّف النقد المثار داخل المجلس عند حدود المصالح الحكومية التي يُديرها الأجانب، فقد طالب أحمد عبد الغفار بفحص سجلات الأطيان، وأشار إلى التقارير الصحفية التي تذكر سوء الأحوال في تلك الإدارة، فقد استنفدت مصلحة المساحة مبالغ طائلة دون جدوى، وقُدِّمت أربعة أسئلة لناظر المالية حول مدى صحة ما يُشاع من سوء الحال بالمساحة، وعمَّا يتكلَّفه دافع الضرائب المصري نتيجة ما يخصص لتلك الإدارة وما قامت بإنجازه، وما الفائدة التي تعود على الحكومة والأهالي من وجودها؟ وجاء علي صادق إلى المجلس في ٢٨ فبراير للإجابة على الأسئلة الخاصة بمصروفات مصلحة المساحة، وطالب بتكوين لجنة للتحقُّق من الإجابة على التساؤلات الأخرى. ووافق المجلس في نهاية الأمر على ذلك، ولكنَّه ضغط من أجل إجراء تحقيق في هذا الموضوع على أساس بيان الناظر بالمجلس، وتمَّ التوصُّل إلى أن ما تمَّ تحقيقه من إنجازات لا علاقة له بالمبالغ التي أُنفقت، وأنه لا مجال للشك في سوء الأحوال بتلك المصلحة، وشُكِّلت لجنة تحقيق لهذا الغرض برئاسة الجنرال لارمي.

ولا ريب أن هذا النقد كان له ما يُبرِّره، غير أن القنصلَين البريطاني والفرنسي أغمضا عيونهما عن سوء الأحوال الذي استشرى نتيجة المحسوبية، والتنافس الإنجليزي-الفرنسي على السيطرة على فروع الإدارة المصرية. فبالإضافة إلى المتخصصين من الأجانب امتلأت النظارات المصرية بالمغامرين والمضاربين الذين لبسوا ثياب «الخبراء».٩٩ وتابع المراقبون النمساويون والأمريكان تلك التطورات — وخاصة في نظارة الأشغال العمومية — بعين النقد، فتحدَّثوا عن صيَّادي الوظائف و«الادعاءات المالية المتبجحة». وبعد الاحتلال، أقرَّ الإنجليز صراحة أنه كان بين الموظفين الأوروبيين الكثير من غير الأكفاء ممن استخدمتهم المراقبة الثنائية، وأن الكثيرين منهم قد استُخدموا في وظائف الحكومة لمعاونة صديق أو قريب للحصول على عمل سهل، أو لوضع موظف فرنسي إلى جانب موظف بريطاني أو العكس. ولذلك قامت سلطات الاحتلال البريطاني بفصل ٨٠ موظفًا معظمهم من الأوروبيين — عند إعادة تنظيم مصلحة المساحة — اعتبروا زائدين عن حاجة العمل. ولكن في الشهور السابقة على التدخل العسكري كان النقد الذي يُوجِّهه مجلس النواب يُعَد في نظرهم ضربًا من ضروب «التعصُّب».

وبدت علامات أخرى «للتعصب» في جهود ناظر المالية للحصول على صورة واضحة للتطورات التي لحقت بمرتبات الأوروبيين الذين يعملون بخدمة الحكومة المصرية، كما بدا ذلك «التعصب» في اتجاهه إلى تكوين لجنة تحقيق لدراسة أوضاع مصلحة الجمارك برئاسة كاريلارد الإنجليزي. وفي الحقيقة كان اعتدال مجلس النواب والحكومة مثيرًا للدهشة فيما يتعلَّق بالمسائل الخاصة بالموظفين الأوروبيين، ولا ريب أن الخشية من تهديدات الدول الغربية بالتدخل جعلهم يحجمون عن إجراء تطهير بين صفوف أولئك الموظفين، بل بقي الموظفون الأوروبيون في مواقعهم، وسُرِّحت البعثة العسكرية الأمريكية — في يونيو ١٨٧٨م — تحت ضغط لجنة التحقيق بحجة تخفيض النفقات، فتمَّ الاستغناء عن ٢٦ ضابطًا أمريكيًّا وأوروبيًّا، ولم يبق في خدمة الحكومة المصرية من الضباط الأمريكان سوى الجنرال ستون. وفي ديسمبر ١٨٨١م، فصلت وزارة شريف ضابطًا نمساويًّا، وآخر إيطاليًّا كانا يخدمان بالجيش المصري. وعلى أيَّة حال، لم تتدخَّل وزارة محمود سامي في الوظائف الباقية التي كان يشغلها كبار الضباط الأوروبيين، وخلال الحرب — في صيف ١٨٨٢م — اتخذ عرابي الترتيبات اللازمة لدفع جانب من راتب الجنرال ستون لأسرته رغم أن ستون كان في صف الإنجليز!

وكان خوف الموظفين الأوروبيين — وخاصة الإنجليز — من فقْد وظائفهم، وراء موجة الاستعداء الهستيرية ضد مجلس النواب والوزارة الجديدة، وارتكزت دعايتهم على أن النواب كانوا واقعين تحت تأثير الضباط، وأنهم كانوا يُنفِّذون رغباتهم تحت التهديد، ودُعِّمت روح العداء تلك بمذكرة طويلة أعدَّها المراقبان العامَّان اللذان سعيا لتحطيم النظام الجديد بعدما فقدا وضعهما المتميز في مجلس النظار. وأخيرًا اتفق معهما ماليت على أنه لا جدوى من الاحتفاظ بالمراقبة الثنائية إذا ما فقدا صلاحياتهما، وأصبحا مجرد خبيرَين استشاريَّين. وكتب ماليت بعد ذلك بأسبوعين يقول إن المصريين ليسوا في وضع يسمح لهم بحكم أنفسهم، وقدَّم نصيحته الحكيمة لحكومته التي جاء فيها: «إنه يبدو ضروريًّا أن يتم احتلال البلاد، وإعادة تنظيمها، إذا ما أُريد للوضع الراهن ألَّا يستمر، ولكن قد يكون من الحكمة أن نترك التجربة تثبت بنفسها عدم صلاحيتها قبل اللجوء إلى مثل ذلك العمل؛ لأن الشواهد الواضحة تُبرِّر وحدها القضاء على جهود البلاد لحكم نفسها بنفسها.»١٠٠ وهكذا اعتُبِر المصريون متعصبين جهلة، عندما حاولوا أن يأخذوا مصيرهم بأيديهم. وعلى أيَّة حال، كشفت المناقشات التي دارت في مجلس النواب وعلاقاته بمجلس النظار عن نخبة سياسية جديدة تُدرِك أبعاد المشاكل المادية والإدارية التي تُعاني منها مصر، وتُعنى بإصلاح شأنها.
وعندما قام بلنت بزيارة عرابي — في ٢٧ فبراير — لتوديعه، لخَّص عرابي له برنامج الإصلاح الذي تتبناه وزارة محمود سامي. ويلاحظ بلنت أن اللورد كرومر لم يضف شيئًا جوهريًّا إلى ذلك البرنامج فيما بعد، فقد كان يتضمَّن إلغاء السخرة، وتوزيع مياه الري بالعدل، وحماية الفلاحين من المرابين عن طريق تأسيس بنك زراعي يخضع لإشراف الحكومة، وإصلاح النظام القضائي، وإقامة المدارس للجنسين وتصفية آثار الرق، والاستعداد للدفاع عن البلاد طالما ظلَّ الأوروبيون لا يعترفون بالنظام الجديد.١٠١

وكان تحقيق هذا البرنامج يتطلَّب في المقام الأول بذل كل الجهود التشريعية، ولم تكن الوزارة قد قدَّمت إلى مجلس النواب عندئذٍ سوى ثلاثة قوانين: قانون الانتخاب، وقانون تسجيل أراضي القاهرة، وقانون امتيازات البدو. واقترح مجلس النظار على مجلس النواب تكوين لجنة تشريعية لبحث القوانين التي تُعِدُّها نظارة الحقانية لإقامة محاكم أهلية، تسهيلًا للعمل في دور الانعقاد التالي للمجلس. وتلقَّى المجلس هذا الاقتراح، وأضاف إليه مُطالبة الحكومة بطباعة القوانين التي يتم إعدادها حتى تصبح في متناول النواب، فإذا ما اجتمع المجلس أصبح بمقدوره متابعة المسائل التي تُطرح للبحث. ولذلك قرَّر المجلس أن تستمر سكرتاريته في العمل خلال فترة الانفضاض.

وانتهى دور انعقاد مجلس النواب — في ٢٦ مارس — بخطاب ألقاه محمود سامي، ومحمد سلطان، وفي نفس اليوم استقبل الخديو النواب في قصر عابدين ثم عادوا إلى دوائرهم. وبدا النظام الدستوري الجديد راسخًا، فقد رحل النواب إلى بلادهم وهم موقنون أن نفوذهم قد تأكَّد فيما يتعلَّق بالمسائل الخاصة بمصير بلادهم، فبدونهم لا يمكن اتخاذ أي إجراءات هامة الآن في القاهرة. ولم يكن هناك مَن يتوقَّع أن يتم استدعاؤهم بعد ستة شهور إلى العاصمة في ظروف درامية للتوسط في الصراع الذي نشب بين الخديو ومجلس النظار.

وكانت سياسة مجلس النواب في أيدي مجموعة نشطة تتكوَّن من عشرين نائبًا كان من بينهم أوسع كبار المُلَّاك نفوذًا، بينما كان أكثر من نصف الأعضاء يلوذون بالصمت. وكانت هناك علامات على أن قادة المجلس يُفكِّرون في استخدام وضعهم الجديد لتحقيق مكاسب اقتصادية لصالحهم، فقد كتب بوانيه — أحد مفتشي الرقابة — إلى الرقيبَين العامَّين من الشرقية أن سليمان أباظة وأحمد أباظة وأمين الشمسي يريدون استئجار ٣٦ ألف فدان من أراضي الدولة، ولكن كانت أراضي الدومين مرهونة كضمان لقرض روتشلد منذ عام ١٨٧٨م فقد أراد هؤلاء أن يرهنوا عشرة آلاف فدان ضمانًا لسداد كوبونات الدين المستحقة على ما يُريدون استئجاره من أراضي الدولة، وزعموا أن الوزارة تؤيِّد مشروعهم. ويبدو واضحًا أنهم كانوا يستطيعون تحقيق مكاسب أكبر من تلك الأراضي مما كانت تُحقِّقه إدارة الدومين.

وبعد ذلك بأسبوعين كتب بوانيه إلى المراقبين أن الاكتتاب في البنك الوطني المقترح إنشاؤه قد بلغ ٢٥ ألف جنيه مصري، وأن ممثلي النظام الجديد قد استثمروا ما يتراوح بين ٥٠٠–١٠٠٠ جنيه في هذا المشروع (بلغت مساهمة عرابي ألف جنيه).

ولكن تلك الجماعة الصغيرة من كبار المُلَّاك والضباط لم تكن وحدها التي رحَّبت «بالعهد الجديد»، فقد لقيت التغيرات السياسية التي تمَّت عندئذٍ قبولًا عامًّا. وبعد انعقاد مجلس النواب، تحوَّل الاهتمام العام عن الضباط إلى المجلس الذي أصبح يحظى باهتمام الصحافة، وأُقيم العديد من الولائم للنواب والنظار، تمامًا كما حدث بالنسبة للضباط بعد ٩ سبتمبر ١٨٨١م، وعلى كلٍّ، لم يعترف الرقيبان اللذان كانا يناصران فكرة التدخل — بعد سقوط جامبتا واستدعاء دي بلنيير — بالحقيقة القائمة.

وصحب افتتاح المجلس — في ٢٦ ديسمبر ١٨٨١م — قراءة للقرآن في المساجد حضرها ممثلون للنواب، كما حضروا الاجتماعات التي نظَّمتها الجمعيات الخيرية بالقاهرة والإسكندرية، واحتفلت البطريركية القبطية بافتتاح المجلس بحضور محمد سلطان باشا، ومحمود العطار، وعبد السلام المويلحي، ولقي تأليف وزارة محمود سامي نفس الترحيب. واحتفل الضباط بذكرى حادث قصر النيل حيث خطب عبد الله النديم، وأرسلت جمعية «شبان الإسكندرية» — التي تأسَّست في خريف ١٨٨١م من أبناء أعيان الثغر — وفدًا من اثني عشر عضوًا برئاسة عبد الله النديم الذي صحبهم في زيارة لتوفيق ومحمود سامي ومحمد سلطان وأحمد عرابي.

وقوبل صدور لائحة المجلس بالمزيد من الحفلات والولائم التي نظَّمتها جمعية المقاصد الخيرية بالقاهرة (التي تأسَّست عام ١٨٨٠م برئاسة الأمير عباس حلمي ووكالة محمود سامي) وكذلك النواب أحمد محمود وإبراهيم الوكيل وأحمد أباظة وأحمد يكن (الذي أقام وليمة بمنزل منصور يكن قريب الخديو) ومحمد طاهر. وكان المدعوُّون إلى تلك الولائم هم النظار والنواب والضباط وأعيان القاهرة والعلماء والطلاب. وكان المتحدثون بتلك الولائم هم عبد الله النديم وإبراهيم اللقاني ومحمد عبده وأديب إسحاق وحسن الشمسي وفتح الله صبري، بالإضافة إلى بعض الطلبة والضباط. وكرَّر الخطباء في كلماتهم بعض النقاط التي جاءت في برنامج الإصلاح الذي تبنته الحكومة والتي لا تخرج عمَّا شرحه عرابي لبلنت، فتناولوا مسألة النهوض بالتعليم، وتأسيس مدارس جديدة (من بينها مدارس للعمال)، وتخليص الفلاحين من ربقة الديون، وتأسيس بنك وطني، وتنظيم العلاقة مع الدول الأوروبية من خلال المعاهدات، وعقد أواصر الصداقة مع الأجانب.

وكان عبد الله النديم داعية النظام الجديد وخطيبه المفوه، وقد قبل دعوة جمعية شبان الإسكندرية لإلقاء خطاب بأحد اجتماعاتهم حضره أكثر من ألف شخص (حسبما جاء بتقرير القنصل الفرنسي)، ويصف نفس المصدر حادثًا وقع هناك عندما ألقى أحد الشيوخ وأحد الضباط كلمات مُشرَبة بروح العداء للأجانب، فانسحب عمر لطفي — محافظ الإسكندرية — ورجاله من الاجتماع، وأوقف النديم الخطباء عند حدهم، ودعا إلى نبذ «التعصب» والركون إلى الاعتدال. وتحدَّث قاضي الثغر في اجتماع لاحق معارضًا فكرة «التعصب» وأُلقي القبض على الضابط باتفاق مع قائده، وقدَّم اثنان من منظمي الاجتماع اعتذارهما للقنصل الفرنسي. وعُقد اجتماع آخر لنفس الغرض في رشيد خطب فيه مفتي المدينة وقاضيها.

وفي ٢٢ فبراير، قبل محمود سامي وعرابي دعوة القنصل الأمريكي والجنرال ستون إلى حضور حفل بمناسبة ذكرى مولد واشنطون، وكان فردينان ديلسبس من بين المدعوِّين، وأشاد محمود سامي في الكلمة التي ألقاها بروح واشنطون ولافاييت وغاريبالدي، وذكر عرابي لأحد الحاضرين أنه جاء إلى الحفل ليُشارك في إحياء ذكرى الرجل الذي حرَّر بلاده من نير الاستعمار الأجنبي.

وهكذا كان الزعم بأن فبراير ١٨٨٢م شهد قيام دكتاتورية عسكرية في مصر، سرعان ما انقلبت إلى فوضى وعداء للأجانب، لا يعدو أن يكون أسطورة دعائية، ابتُدِعَت لتبرير التدخل. فما ذكرناه آنفًا لا صلة له بضغوط الجيش وقرارات مجلس النواب. وما كانت تلك الاحتفالات تُقام للضباط، وإنَّما كانت تُقام ابتهاجًا بالنظام السياسي الجديد، والكلمات التي أُلقيت لم تكن ذات طابع عسكري، ولكنَّها كانت تُعبِّر عن اتجاهات المصلحين الاجتماعيين، ولم يتقدَّم الضباط الصفوف وحدهم، بل كان يتقدَّمها الأعيان والمثقفون. وكان الاتجاه السائد هو التعاون من أجل تحقيق الإصلاحات على أساس مبدأ تقرير المصير.

وكان الموضوع الرئيسي للصحافة أيضًا،١٠٢ خلال الشهور الثلاثة الأولى من عام ١٨٨٢م هو الرغبة في أن يكون المصريون سادة بلادهم، وكان ذلك يعني رفض المذكرة المشتركة (٨ يناير) رفضًا تامًّا باعتبارها محاولة لا مبرر لها لإسقاط مجلس النواب. ووجَّهت «الطائف» اللوم إلى الخديو إسماعيل لحكمه البلاد حكمًا استبداديًّا، ولكن المصريين أصبحوا الآن يعرفون حقوقهم ويتمسَّكون بها، فإذا بالمحاولات تُبذل لمنعهم من تحقيق ذلك؛ فالأوروبيون يعيشون في مصر في ظروف لا يتمتعون بها في بلادهم؛ لأن المصريين لا يُعاملونهم بالطريقة «المتحضرة» و«الإنسانية» التي تُعامِل بها دولهم الأيرلنديين والجزائريين والتونسيين والهنود والأفغان؛ ومن ثَم لم يكن هناك مُبرِّر للتدخل الأوروبي في مصر. وذكرت «المفيد» أن ضيفًا أجنبيًّا (لعله بلنت) أكَّد لها أن جذور المذكرة المشتركة تمتد إلى حسد الفرنسيين للنفوذ البريطاني في مصر، ومن المؤكَّد أن يؤدي نفس الدافع بالدول الأخرى إلى الوقوف ضد المذكرة. وظنَّت «الطائف» فيما بعد أن هذا النزاع قد يمنع الدول من إعلان الحرب على مصر.

ووجدت المطالبة بتقرير المصير التعبير عنها في تأييد الصحافة المصرية لأعمال النواب، فوصفتهم بأنهم الممثلون الحقيقيون لمصالح الشعب، بينما كان إسماعيل لا يتخذ من الإجراءات إلَّا ما يُوافق هواه. كما تجلَّت تلك المطالبة في النقد الذي وُجِّه إلى دور الأوروبيين في الإدارة المصرية، واستُخدمت الشواهد التي ساقها بلنت وجريجوري للدلالة على عدم كفاية الجانب الأكبر منهم، فقد جاء الكثيرون منهم إلى مصر لتحقيق كسب مادي؛ لأنهم رغم عدم كفايتهم وجهلهم وعدم معرفتهم بالعربية يحصلون على مرتبات عالية، ولم يُراعوا المصالح المصرية والعثمانية، بل وضعوا المصالح الأوروبية وحدها نصب أعينهم، وبثوا الاضطراب والفوضى في كل مجال استُخدِموا فيه، وذلك إذا قُدِّر لهم أن ينجزوا عملًا ما. وذهبت «المحروسة» إلى أن الأموال التي تُنفق على مصلحة المساحة إنَّما تُلقى في البحر.

ولم تكن تلك الانتقادات سخيفة أو «متعصبة»، فقد كانت هناك دعوات مُتكرِّرة للتعقل والاعتدال، كما أن ذلك الهجوم كان له ما يُبرره، بل يجب أن يُنظَر إليه باعتباره ردًّا على عنجهية الأوروبيين الذين لم يخفوا حقيقة مشاعرهم نحو المصريين الذين اعتبروهم أهل جهالة. ولكن المصريين كانوا على يقين أنهم أقدر على حل مشاكلهم بأنفسهم. وليس ثمة دليل على أن الأوروبيين نظروا بعين العطف إلى النظام الجديد في مصر. وعلى أيَّة حال، هناك نشرة كتبها ليون جابلان — المُحرِّر السابق للطبعة الفرنسية من الوقائع المصرية — في ربيع ١٨٨١م دافع فيها عن حق المصريين في تقرير مصيرهم بأنفسهم، وحذَّر من التدخُّل الأوروبي. وأكَّد على أن شيئًا لم يتغيَّر بالنسبة للاتفاقات المالية. كما أكَّد على حقيقة أن النظام الجديد يتمتَّع بتأييد جماعي من سائر القوى الاجتماعية في مصر.

١  Loring, p. 195.
٢  عثمان غالب (١٨٣٠‏–‏١٨٩٣م)، كان جركسيًّا، جاء إلى مصر بصحبة والده، وتلقى تعليمًا عسكريًّا في القاهرة وفيينا، وأرسله إسماعيل في بعثة عسكرية إلى فرنسا، كان مملوكًا مُخلصًا للأسرة الحاكمة، خدم بالجيش كضابط، ثم أصبح مديرًا لإحدى المديريات وناظرًا لضبطية القاهرة. وظلَّ مُخلصًا لتوفيق خلال الحرب في صيف ١٨٨٢م، ولكنَّه كان ميَّالًا إلى جانب عرابي.
انظر: آصاف، ج١، ص٢٤٧‏–‏٢٥١؛ زاخورا، ج٢، ص١٧٠‏–‏١٧٤.
٣  Dye, p. 223.
٤  Loring, p. 195.
٥  لا ريب أن عبد العال حلمي كان أقل الشخصيات جاذبيةً بين «الأميرالايات الثلاثة»، ويُطلِق عليه شاليه لونج (The Three Prophets, p. 99) وصفَ الجاهل والخامل والمتبجح، ويرى فيه برودلي «تجسيدًا للجندي المخادع» (ص١٠٨)، وقد رقَّاه توفيق إلى رتبة القائم مقام، وفي ١٨٨١م، كان الشخص الثاني بعد عرابي في قيادة العرابيين، وفي ١٨٨٢م لم يعد يلعب أي دور في القاهرة، وكان حاكم دمياط — حيث الحامية التي يقودها — بلا منازع، ولم تشترك فرقته في الحرب، ومات عبد العال في ١٨٩١م بجزيرة سيلان.
انظر: عاشور، ص٥٥‏–‏٦٣؛ الرافعي: الثورة العرابية، ص٥٦٩‏-‏٥٧٠.
٦  جاء إسماعيل كامل إلى مصر بصحبة والده، وأُوفد إلى فيينا — في البداية — لدراسة الطب، ثم أُرْسِل إلى باريس للدراسة العسكرية؛ ولذلك كان — حتى وفاته في ١٨٩٣م — إمَّا ضابطًا بالجيش أو ياورًا بالبلاط. وكان على علاقة طيبة بالعرابيين، ولكن ذلك لم يحل بينه وبين أن يكون عضوًا بالمجلس العسكري الذي حاكمهم.
انظر: Broadley, p. 333, Hayworth-Dunne, p. 306.
٧  ينتمي علي فهمي إلى المنوفية، خدم بالجيش منذ ١٨٥٥م مع فترات انقطاع متعددة، وظلَّ قريبًا إلى البلاط في عهد توفيق، فكان ياورًا وقائدًا للحرس الخديو، ونُفِي بعد هزيمة العرابيين إلى سيلان، وصدر العفو عنه في ١٩١٠م، ومات بالقاهرة في ١٩١١م.
انظر: الرافعي، الثورة العرابية، ص٥٦٩‏-‏٥٧٠، Broadley, pp. 106–108.
٨  حول ترجمة أحمد عرابي انظر: كشف الستار، ص١٠‏–‏٥٠؛ مذكرات النديم، ج٢، ص١٩‏–‏٣٩؛ شاروبيم، ٢٢٧‏-٢٢٨؛ الرافعي: الثورة العرابية، ص٨٧‏–‏٩٤.
٩  انظر النص العربي في أوراق الحضرة الخديوية بدار الوثائق التاريخية القومية، شاروبيم، ص٢٢٩‏-‏٢٣٠.
١٠  لم تُستخدم كلمات: تركي، جركسي، مملوك في هذا الالتماس.
١١  دار الوثائق، محفظة ٨، ملف ٥٣ / ٤ / ٥ (من رياض إلى الجنرال ستون في ٤ / ١ / ١٨٨١م).
١٢  في هذا الصدد يزعم عرابي أن الضباط اهتموا في يناير ١٨٨١م بمجلس النواب رغم أن ذكر المجلس لم يرد عندئذٍ.
١٣  كشف الستار، ص١٥٧.
١٤  وُلِد محمد عبيد بكفر الزيات، وفي ١٨٨١‏-‏١٨٨٢م كان موجودًا دائمًا بالجبهة، وكان من أمهر الضباط الكبار في حرب ١٨٨٢م وخاصةً معركة التل الكبير، حيث كان برتبة قائم مقام يقود آلايًا، وتصفه المَراجع الأوروبية بالتعصب وصلابة الرأي، وتردَّد خلال محاكمة العرابيين أنه كان يُهدِّد الأعيان عندما رفضوا الخضوع لمشيئة العرابيين، غير أن عبيدًا لم يكن على قيد الحياة حتى يُدافع عن نفسه.
انظر: الجندي، ص٣٩؛ زكي، ص١٧٩‏–‏١٩٨؛ الرافعي: الثورة، ص٥٧٠‏-‏٥٧١.
١٥  أحمد راشد حسني (١٨٣٤‏–‏١٩٠٥م)، جاء إلى مصر من القوقاز عام ١٨٤٩م ليلتحق بمدرسة المفروزة، وفي ١٨٥٤م أُوفد إلى فرنسا لمدة عامين للدراسة العسكرية، وفي ١٨٦٧م أصبح فريقًا بالجيش وقائدًا للحرس الخديو، وفي ١٨٧٦م أصبح ياورًا لإسماعيل، وفي ١٨٧٩م جعله توفيق مستشارًا عسكريًّا خاصًّا له، ووفقًا لرواية نينه كان صهرًا للخديو، ولكنَّه رغم ذلك حارب في صفوف العرابيين ضد الإنجليز، وجُرِح بالقصاصين، وبهزيمة الجيش طُوي سجله العسكري.
انظر: زكي، ص٧٣‏–‏٧٩؛ زكي فهمي، ص٣٢٩‏–‏٢٦٣، Hayworth-Dunne, p. 326.
١٦  يوجد محضر لهذا الاجتماع من إعداد ستون بدار الوثائق محفظة ٨، ملف ٥٣ / ٤ / ٥.
١٧  أحمد حمدي، مات في ١٩٢٢م، ينحدر من أصل كردي وتخرَّج في المدارس العسكرية المصرية، المجاهد، عدد ٢٢٣.
١٨  انظر النص في الوثائق الفرنسية: MAE, Corr. Polit., t. 68 (Le Caire 4/2/1881).
والوثائق الإنجليزية: F. O. 78, Vol. 3321 (Cairo 2/2/1881).
١٩  خطاب خاص من ستون في ٧ / ٩ / ١٨٨٢م.
٢٠  أحمد خيري (١٨٢٤‏–‏١٨٨٦م)، ينتمي إلى القرم، نزح أبوه إلى تركيا ثم إلى مصر حيث التحق أحمد خيري بمدرسة الخانكة العسكرية كما درس بالأزهر، وكان مُعلِّمًا خاصًّا للأمير منصور ولحيدر يَكَن وطوسون، ثم أصبح حاملًا لأختام إسماعيل وتوفيق الذي وثق به كثيرًا.
انظر: Moberly Bell: Khedives and Pashas, pp. 187–191.
٢١  يزعم عرابي أن الخديو أصرَّ على أن يُحدِّد الضباط شخص مَن يتولى هذا المنصب، وأنهم اقترحوا اسم محمود سامي في ٢ فبراير (كشف الستار، ص١٦٥)، ولكن ليس هناك دليل على ذلك؛ فمحمود سامي اختير بمعرفة الخديو ولم يكن له اتصال بالضباط قبل الأول من فبراير ١٨٨١م.
٢٢  يوسف شهدي (١٨٤٠‏–‏١٨٩٩م)، كان مملوكًا سابقًا لعباس الذي أرسله إلى برلين لدراسة الطب، ولم يكن قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره، ولكنَّه تلقَّى هناك تعليمًا عسكريًّا، ووصل إلى رتبة اللواء في ١٨٧٦م، وبعد هزيمة العرابيين عيَّنه توفيق رئيسًا لقومسيون التحقيق.
انظر: زكي، ص١٨٦‏-‏١٨٧.
Heyworth-Dunne, p. 307.
٢٣  رجعنا إلى ترجمة خطاب عرابي في: F. O. 78, Vol. 3323 (Alexandria, 2/5/1881).
٢٤  محمد رءوف (المُتوفى في ١٨٨٨م)، مصري من أصل بربري — على حد قول عرابي — ولكنه كردي الأصل، كان يعمل بإدارة السودان حتى أصبح عضوًا بالمجلس العرفي، ورئيسًا للمجلس العسكري الذي حاكم العرابيين بعد الاحتلال.
انظر: زكي، ص١٠٧‏-‏١٠٨، المجاهد عدد ٣٠٥.
٢٥  إسماعيل صبري، وُلِد عام ١٨٣٥م، وتخرَّج في مدرسة المدفعية، عُيِّن ياورًا لإسماعيل ثم توفيق، كان قائمًا مقامًا بالمدفعية يوم ضرب الإسكندرية في ١٨٨٢م.
راجع: زكي، ص١٣٤-‏١٣٥، المجاهد، ٢٣٥.
٢٦  Butler, p. 288.
٢٧  كشف الستار، ص٢٢٤‏-‏٢٢٥.
٢٨  Compte Rendu de la Séance du Conseil des Ministres du Aout, 1881, in MAE (Corr. Polit, t. 69).
٢٩  مذكرات عرابي، ج١، ص٥٩‏-‏٦٠، ٦١.
٣٠  نزل الأميران عثمان وكامل ضيفَين على بلنت بإنجلترا في يونيو ١٨٨٢م، وأبدَيَا كراهيتهما لتوفيق وتأييدهما للعرابيين خلال الحرب، ولكنهما لم يبلغَا درجة شقيقتهما نازلي هانم فاضل والأمير إبراهيم اللذين كانا يريدان تولية حليم بدلًا من توفيق.
انظر: Blunt: Secret History, pp. 226–33.
٣١  ترجم محمد صبري الأصل الذي كان مودعًا — حينذاك — بنظارة الحقانية إلى الفرنسية في كتاب (La Genése, 256).
٣٢  ينتمي آل الشريعي إلى عرب الهوارة، وكانوا من أكبر عائلات الأعيان المتنفذة بمصر الوسطى قبل أن يتفوَّق عليهم آل سلطان. ويُعَد محمد سلطان مدينًا بظهوره السياسي والاجتماعي لصديقه حسن الشريعي. وقد شغل الإخوة الثلاثة: حسن وإبراهيم وبديني الشريعي مناصب في الإدارة الإقليمية منذ عهد سعيد. وأصبحوا أعضاء بمجلس النواب منذ ١٨٦٦م، وأُلقي القبض عليهم جميعًا بعد الاحتلال.
انظر: مبارك، الخطط، ج١٢، ص٤٥، الرافعي: عصر إسماعيل، ج٢، ص٨٤.
٣٣  Blunt: Secret History, p. 376.
٣٤  Ibid., p. 293.
٣٥  محمود فهمي (١٨٣٩‏–‏١٨٩٤م) من أبناء مديرية بني سويف التحق بإحدى مدارس الأقاليم في عهد محمد علي ثم درس بالمهندسخانة، وفي عهدَي سعيد وإسماعيل أصبح مُدرِّسًا بالحربية ثم ضابطًا مهندسًا بالجيش، واشترك في حرب البلقان حيث عاد منها برتبة القائم مقام، وقد قدَّر المعاصرون من الأوروبيين مواهبه وكفاءته وخلقه، وعندما صودرت ممتلكاته بعد الاحتلال لم يُطالب سوى بمكتبته التي تضم الكتب الهندسية بلغات أوروبية.
انظر: محمود فهمي، ص٢١١‏-٢١٢ «ترجمة الذاتية»، زكي، ص١٨٣‏–١٨٥؛ الرافعي: عصر إسماعيل، ج١، ص٢٨٢‏–‏٢٨٥؛ الثورة العرابية ص٥٦٧‏-‏٥٦٨.
٣٦  Ninet: Arabi Pacha, pp. 38–40.
٣٧  لم يكن طُلبة عصمت عندئذٍ سوى موظف مفصول من الدائرة السنية، وكان تصعيده في سلَّم الترقي نقطة سوداء في سياسة عرابي، وقيل إنه كان زوجًا لإحدى بناته، ورغم أن طُلبة لم يكن عسكريًّا، بل كان يقرأ ويكتب بصعوبة، عيَّنه عرابي أميرالاي بعد ٩ سبتمبر ١٨٨١م وأصبح لواء وباشا في ١٨٨٢م ثم قائدًا لمنطقة الإسكندرية ثم كفر الدوار، واستسلم مع عرابي للإنجليز، ومات بعد عودته من المنفى بقليل في ١٩٠٠م.
انظر: الرافعي: الثورة العرابية، ص٥٨٦‏-‏٥٨٧.
٣٨  النقَّاش، ج٤، ص٩٠.
٣٩  ترجمة مقالات البرهان بالوثائق الفرنسية: MAE, Corr. Polit., t. 69, Alex. 28/8/1881.
٤٠  النص في سرهنك، ص٢٤٣.
٤١  النص في دار الوثائق، البرقيات التي ضُبطت بمنزل أحمد عرابي بصدد الثورة العرابية، وفي ميخائيل شاروبيم، ص٢٤٣‏-٢٤٤.
٤٢  النقَّاش، ج٤، ص٩٣.
٤٣  Blunt: Secret History, p. 381.
٤٤  كشف الستار، ص٢٤٣.
٤٥  الوقائع المصرية، ١٧ / ٩ / ١٨٨١م.
٤٦  النقَّاش، ج٤، ص١٠٩‏–‏١١١.
٤٧  حسين واصف (١٨٥٧‏–‏١٩٢٣م) رجل قانون مثقف ثقافة فرنسية.
٤٨  الوقائع المصرية ١٧ / ٩ / ١٨٨١م، كشف الستار، ص٢٤٤‏–‏٢٤٦.
٤٩  الوقائع المصرية ١٧ / ٩ / ١٨٨١م.
٥٠  يذكر محمد عبده أن هذه الوثيقة أُعدَّت بمنزل سلطان بمعرفة ممثلين للأعيان والضباط (مذكرات محمد عبده، ص١٣٤).
٥١  النقَّاش، ج٤، ص١١٢-١١٣.
٥٢  الوقائع المصرية ٥ / ١٠ / ١٨٨١م، النقَّاش، ج٤، ص٤٩.
٥٣  النقَّاش، ج٤، ص١٤٧.
٥٤  رأينا كيف كان الشيخ عليش معارضًا للأفغاني ومحمد عبده، وفي ربيع وصيف ١٨٨٢م كان من أنشط العاملين ضد الكفار والمتعاونين معهم وخاصة الخديو؛ ولذلك نُفِيَ بعد هزيمة العرابيين لمدة خمس سنوات، وهو من أصل مغربي، وُلِدَ بالقرب من الأزهر عام ١٨٠٢م لأسرة جاءت من فاس، ودرس بالأزهر اعتبارًا من ١٨١٧م حتى أصبح مفتي المالكية في ١٨٥٤م، وكان واسع النشاط، عنيدًا، تقيًّا ورعًا.
انظر: مبارك، الخطط، ج٤، ص٤١–٤٤، زاخورا، ج٢، ص١٩٦-١٩٧.
٥٥  نفس المرجع، ج٤، ص١٤٧-١٤٨، كشف الستار، ص٢٥٤–٢٥٦.
٥٦  كشف الستار، ص٢٦٨-٢٦٩.
٥٧  حول عبد الله النديم انظر: عبد الفتاح النديم، ج١، ص٣–٢٣، مذكرات النديم، ص١–٤٧، ٤٩–٨٢، الحديدي: عبد الله النديم.
٥٨  عرض اتجاهات الرأي التي تعكسها الصحف المختلفة اعتبارًا من ديسمبر ١٨٨١م يرتكز على ترجمات (لما يزيد على عشر مقالات من كل عدد) عثرنا عليها في الوثائق الأوروبية (البريطانية والفرنسية والنمساوية).
٥٩  اتفق حمزة فتح الله — في نهاية الأمر — معهم، وخلال الحرب في صيف ١٨٨٢م انضم إلى توفيق والإنجليز ونشر جريدة «الاتحاد» بالإسكندرية التي روَّجت للتعاون مع الإنجليز.
٦٠  النقَّاش، ج٤، ص٩٤–٩٦، كشف الستار، ص٢٥٨–٢٦١.
٦١  الوثائق التاريخية، محفظة ٨، ملف ٥٣ / ٤ / ٨.
٦٢  ولكن العدد رقم ١٩ كان يحمل عنوان «التنكيت والتبكيت»، ولم تظهر الجريدة بعنوان «لسان الأمة» ولكنَّها أصبحت تحمل عنوان «الطائف» ونُقِلت إدارة التحرير من الإسكندرية إلى القاهرة.
٦٣  نص مذكرة ٢ نوفمبر ١٨٨١م في الوثائق البريطانية: F. O. 78, Vol. 3326.
٦٤  لم يُبدِ عرابي تخوفه من الغزو الإنجليزي أمام رجال القنصلية الإنجليزية بدافع الحرص، وفيما بعد كان يتفهَّم وجهة النظر الإيجابية لإنجلترا تجاه هذه النقطة أو تلك.
٦٥  Blunt: Secret History, p. 127.
٦٦  حول تاريخ هذا البرنامج راجع، Ibid., pp. 129–133.
٦٧  النص الكامل في Ibid., pp. 383–385 وهو يتناقض مع ما يذكره أنور عبد الملك الذي يخلط بين برنامج الحزب الوطني الذي وضعه الباشاوات، وبرنامج الحزب الوطني الذي وضعه الأعيان والعرابيون، ويعتبرهما برنامجَين لحزب واحد هو «الحزب الوطني».
انظر: Idéologie et Renaissance Nationale, pp. 428–439.
٦٨  الشيخ محمد العباسي المهدي (١٨٢٧–١٨٩٧م)، عُيِّن مفتيًا للديار المصرية وهو في الحادية والعشرين من عمره في عهد إبراهيم باشا، وطرده عباس من منصبه لفترة وجيزة لرفضه إصدار فتوى طلبها منه. وفي ١٨٧١م عيَّنه إسماعيل شيخًا للأزهر.
انظر: مبارك، الخطط، ج١٧، ص١٢-١٣، زيدان: مشاهير الشرق، ج٢، ص٢١٠–٢١٣، زاخورا، ج٢، ص٢٢٥، الرافعي: عصر إسماعيل، ج٢، ص٢٧٩–٢٨٢.
٦٩  الشيخ محمد الإنبابي (١٨٢٤–١٨٩٦م)، منافس للعباسي، عاد إلى مشيخة الأزهر في عهد الاحتلال، ولكن العباسي حلَّ محله للمرة الثانية.
انظر: مبارك، الخطط، ج٢٨، ص٨٧-٨٨، زاخورا، ج٢، ص١٩٤–١٩٦.
٧٠  سلامة إبراهيم، وُلِد بالإسكندرية، شغل منصب مفتش عام نظارة الأشغال العمومية، يُعَد من أكفاء المهندسين المصريين.
انظر: الرافعي عصر إسماعيل، ج١، ص٢٦٩–٢٧١.
٧١  Blunt: Secret History, pp. 116-117.
٧٢  محمد الشواربي (١٨٤١–١٩١٣م)، كان كبير عائلة الشواربي بالقليوبية، وهم من أكبر أعيان الريف الذين ينحدرون من أصل بدوي الذين حقَّقوا ثراءً واسعًا بفضل إنعامات محمد علي وإسماعيل. وشغلوا المناصب الكبرى بما في ذلك منصب المدير وعضوية مجلس شورى النواب، وكانت مدينة قليوب — في معظمها — ملكًا لهم، إذا كانوا يملكون أربعة آلاف فدان من بين السبعة آلاف فدان التي تُشكِّل زمام المدينة، بالإضافة إلى العديد من المنازل والدكاكين والأسواق، بالإضافة إلى ثمان مضخات بخارية للري ومحلج للقطن. وكان محمد الشواربي من بين الأعيان الذين نشطوا ضد عرابي خلال صيف ١٨٨٢م، فيذكر زكي فهمي أنه آوى أديب إسحق في بيته وعمل على توزيع «الأهرام» سرًّا، وبعد الاحتلال كان في مقدمة المتعاونين مع الإنجليز.
انظر Berque: L’Egypte, p. 120، مبارك، الخطط، ج١٤، ص١١٦–١١٨، زكي فهمي، ص٢٨٩–٢٩٩، ٣٩٨–٤٠١.
٧٣  انظر قائمة أسماء أعضاء مجلس النواب في الرافعي: الثورة العرابية، ص١٩٥–١٩٩.
٧٤  MAE, Corr. Polit., t. 71 (Le Caire, 2/12/1881).
٧٥  Austrian Archives, Box 117 (Alexandria 12/12/1881). Staatsarchiv, Vol. No. 7774.
٧٦  النص الفرنسي في: Staatsarchiv, Vol. No. 7774.
والنص العربي في النقَّاش، ج٤، ص١٦٢-١٦٣.
٧٧  النص الفرنسي في: Staatsarchiv, Vol. No 7774.
والنص العربي في الرافعي: الثورة العرابية، ص٢٠٣-٢٠٤.
٧٨  الوقائع المصرية ٢٧ / ١٢ / ١٨٨١م.
٧٩  نفس المرجع ٣١ / ١٢ / ١٨٨١م.
٨٠  محمود سليمان (١٨٤١–١٩٢٩م) لعب دورًا أكثر أهمية في السنوات التالية، ينتمي إلى مديرية أسيوط، ورُقِّيَ من منصب العمدة إلى منصب وكيل المديرية، وكان من بين الأعيان الذين قاطعوا العرابيين في ربيع وصيف ١٨٨٢م، انظر: هيكل، ص١٨١–١٨٧، حجازي، ص١٠٠–١٠٤.
٨١  انظر: الرافعي: عصر إسماعيل، ج٢، ص١٩٤، ١٩٥–٢٠٠.
٨٢  F. O. 78, Vol. 3434.
٨٣  النقَّاش، ج٤، ص١١٦-١١٧.
٨٤  Blunt: Secret History, p. 137.
٨٥  Staatsarchiv, Vol. 41, No. 7773 (Paris, 24/12/1881).
٨٦  نص مشروع جمبتا والمذكرة المشتركة في Staatsarchiv, Vol. 41.
٨٧  Staatsarchiv, Vol. 41, No. 7776 an 7783.
٨٨  Malortie, p. 198.
٨٩  Blunt: Secret History, pp. 143–145.
٩٠  F. O. 78, Vol. 3434, (Cairo, 11/1/1882)
٩١  Blunt: Secret History, p. 149.
٩٢  مضبطة ٢ فبراير ١٨٨٢م، الوقائع المصرية ٢٢ / ٢ / ١٨٨٢م.
٩٣  علي صادق، درس الهندسة الميكانيكية وإدارة السكك الحديدية بإنجلترا في الفترة ١٨٤٧–١٨٥٣م، وبعد عودته من البعثة عمل أساسًا بالسكة الحديد، ثم أصبح مُحافظًا للقاهرة، وناظرًا لضبطية الإسكندرية وتُوفِّي في ١٨٩٠م.
انظر: Heyworth-Dunne, p. 263.
٩٤  علي فهمي رفاعة ابن العالم الشهير رفاعة الطهطاوي وصديق حميم لعبد الله فكري.
انظر: فكري، ص١٤٤–١٥٥.
٩٥  حسين فهمي أو كوجك حسين، يمتُّ بصلة القربى إلى أسرة محمد علي، أُوفد إلى باريس في ١٨٤٤م لدراسة الإدارة ثم الهندسة، وبعد عودته من البعثة عمل مهندسًا معماريًّا بالحكومة وشغل المناصب الإدارية العليا، وتوفى في ١٨٩١م.
انظر Heyworth-Dunne, p. 257، زكي، ص٨٩.
٩٦  يعقوب سامي، كان مُسلمًا ينتمي إلى أسرة يونانية بالآستانة، كان مملوكًا لحريم إسماعيل، وتربى تربية عسكرية، أصبح قائم مقام في ١٨٧٣م، وياورًا للأمير حسين، ثم أصبح مدير إدارة بنظارة الجهادية حيث رُقِّي فيما بعد لمنصب وكيل النظارة، ولم يكن تابعًا متحمسًا لعرابي، بل جرح على يد رجال محمد عبيد بنظارة الجهادية في أول فبراير ١٨٨١م، ولكنَّه انضم في نهاية الأمر إلى العرابيين بعد إساءة معاملة زوجته على يد جواري القصر لاتهامها (وزوجها) بإفشاء أسرار السراي، وكان عليه أن يقع في ربقة الدين للمحافظة على مستوى حياته «المتحضر» مجاراة لأسرة الجنرال ستون، وبعد الاحتلال استولى الدائنون على ممتلكاته المتواضعة، ومات بمنفاه في جزيرة سيلان عام ١٩٠٠م، انظر الوثائق التاريخية، محفظة ٣٦، ملف ١٥١–١٥٤.
٩٧  محمد، ومحمود، وأحمد، وعبد الله السيوفي كانوا من تجار القاهرة المحترمين، انضم أحمد إلى الخديو والإنجليز خلال الحرب، وأصبح عبد الله سر تجار بعد الاحتلال، ودخل في علاقات تجارية مع الإنجليز.
انظر: Berque: L’Egypte, p. 120, No. 43; Levernay, p. 178.
٩٨  النص العربي في «الرافعي»: عصر إسماعيل، ج٢، ص٢٠١–٢٠٦.
النص الإنجليزي في Blunt: Secret History, pp. 390–96.
٩٩  هناك ثلاثة إحصاءات متباينة حول عدد الموظفين الأوروبيين ومستوى رواتبهم؛ فوفقًا للأرقام التي قدَّمها كوكسون إلى الخارجية البريطانية في ١٣ مارس ١٨٨٢م، بلغ عدد الموظفين الأوروبيين ١٣٢٥ موظفًا يعملون بخدمة الحكومة المصرية، منهم ٣٣٨ إيطاليًّا و٣٢٠ فرنسيًّا، و٢٩٥ إنجليزيًّا، ١٠٦ نمساويين، ١٠٣ يونانيين، وشكَّل هؤلاء ٨٨٪ من جملة الموظفين الأوروبيين، وعُيِّن نحو ٦٨٪ من هؤلاء منذ عام ١٨٧٦م وخاصة عامَي ١٨٧٩ و١٨٨٠م. وكان غالبيتهم يتقاضون رواتب شهرية تزيد على ٣٠ جنيهًا شهريًّا، بينما كان ۳۳ موظفًا (من بينهم ٢٣ إنجليزيًّا وفرنسيًّا) يتقاضون راتبًا شهريًّا يتراوح بين ١٠٠–٣٥٠ جنيهًا (F. O. 78, Vol. 3436) وهذه الأرقام تتفق إلى حدٍّ ما مع ما يذكره كولفن (Note on Egypt 1882)؛ فهو يذكر أن ٧٧٠ موظفًا أوروبيًّا كانوا يتقاضون ما يتراوح بين ١٨٠–٣٦٠ جنيهًا، و٥٣ موظفًا يتقاضون ما يتراوح بين ٧٢٠–١٥٠٠ جنيه، و١٥ موظفًا يتقاضون ما يتراوح بين ١٥٠٠–٢٠٠٠ جنيه، و١٣ موظفًا يتقاضون ما يتراوح بين ٢٠٠٠–٣٠٠٠ جنيه، وموظفين يتقاضيان ما يتراوح بين ٣٠٠٠–٤٠٠٠ جنيه سنويًّا.
والأرقام التي قدَّمها ماليت إلى الخارجية البريطانية في ١١ سبتمبر ١٨٨٢م تختلف اختلافًا كبيرًا عن الأرقام السابقة، فهو يذكر أن عدد الموظفين الأجانب في الحكومة المصرية بلغ ١٠٦٧ موظفًا في أول يناير ١٨٨٢م، بما على ذلك ٣٠٠ إيطالي، و٢٤٤ فرنسيًّا، و٢٤٠ إنجليزيًّا، و١٠٤ يونانيًّا، و٨٠ نمساويًّا. وأن عدد الأوروبيين الذين التحقوا بخدمة الحكومة المصرية قبل عام ١٨٧٧م بلغ ٥٠٤ موظف، وأنَّ هناك ٥٦٣ موظفًا التحقوا بخدمة الحكومة منذ ذلك العام، وهم جميعًا لا يتجاوزون ٢٪ من جملة عدد موظفي الحكومة المصرية، ولكنَّهم يتقاضون ١٦٪ من جملة الرواتب «التي بلغت مليون جنيه مصري». وفي هذا التقرير قُدِّر عدد موظفي الحكومة ﺑ ٥٢٩٧٤ موظفًا، بينما يُقدِّرهم والاس ﺑ ٢١ ألفًا «بعد استبعاد عمد وشيوخ القرى»، ويُقدِّر والاس جملة مرتباتهم بمليون وربع المليون جنيه إسترليني في العام الواحد، وأن الموظفين الأجانب كانوا يحصلون على ٤٫٥٪ من إجمالي دخل الخزانة المصرية في عام ١٨٨١م.
(The Egyptian Problem, p. 21).
١٠٠  F. O. 78, Vol. 3435 (Cairo, 27/2/1882).
١٠١  Blunt: Secret History, pp. 156, 159–161.
١٠٢  F. O. 78, Vols. 3434, 3435 and 2436.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥