الفصل الثالث

تصفية النظام الجديد

(١) المؤامرة الجركسية

وسط هذه التطورات الجديدة، وقفت جماعة الأتراك الجراكسة موقف التردد وهي الطبقة الحاكمة السابقة التي حُرِمَت الآن من السلطة. فبعد فقدها السيطرة على مجلس النظار بسقوط شريف، جاء عرابي ناظر الجهادية لينتزع منها المراكز التي كانت لا تزال لها في الجيش. فقد لجأ إلى تطبيق القوانين العسكرية الصادرة في ٢٢ سبتمبر ١٨٨١م التي حدَّدت السن التي يتقاعد عندها الضباط تطبيقًا صارمًا، وشكَّل لجنة برئاسة حكيمباشي الجهادية قامت بفحص ضباط الاستيداع فحصًا دقيقًا، وقرَّرت إحالة ٥٥٨ ضابطًا منهم إلى التقاعد بسبب التقدُّم في السن أو غيره من الأسباب، وكان الكثير منهم من الأتراك أو الجراكسة. كما أُحيل مائة من الضباط إلى وظائف مدنية، ونُقِل ٩٦ ضابطًا إلى السودان وسواحل البحر الأحمر، وبذلك أُبعِد ٧٥٤ ضابطًا من قائمة الضباط العاملين وضباط الاستيداع، مما استلزم شغل الأماكن الشاغرة في هيئة الضباط بغيرهم.

واقترح عرابي في بداية الأمر ترقية أتباعه، ووفقًا لذلك رُقِّي خمسة منهم إلى رتبة الأميرالاي وهم: وكيله يعقوب سامي، وعلي فهمي، وطُلبة عصمت، وعبد العال حلمي، والتركي حسين مظهر. ولم يجد الخديو مفرًّا من أن يطلب من السلطان ترقية ضابطين برتبة الأميرالاي ممن دخلوا الوزارة، والإنعام عليهما برتبة الباشاوية هما أحمد عرابي ومحمود فهمي. وعندما تولى عرابي وكالة الجهادية — في ٤ يناير — أصرَّ على أن يحتفظ بقيادة الآلاي الرابع مشاة على أن ينوب عنه أحد الضباط في قيادة الآلاي برأس الوادي. ولكنَّه الآن تخلَّى عن قيادة الآلاي ليحصل على الباشاوية ورتبة اللواء. ولأول مرة منذ تأسيس الجيش المصري في عهد محمد علي، أصبح هناك خمسة من الأميرالايات الفلاحين المصريين (عرابي – علي فهمي – عبد العال حلمي – طُلبَة عصمت – محمود فهمي). ولكن لم يكن هناك مصريون بين قادة الفرق، فاقتصرت رتبة الفريق على الضباط الأوروبيين والأتراك الجراكسة.

وأصبح الأمر يتطلب شغل مناصب ستة من القائم مقامات، أُعطيت لكل من خليل كامل (وهو تركي)، وعيد محمود، وحامد أمين،١ وحسن رفعت، ومحمد أمين، وسليمان نجاتي (وهو جركسي).٢ ورُقِّي ٢٣ ضابطًا من رتبة الصاغ إلى رتبة البكباشي، كان من بينهم محافظ العريش السيد محمد وبعض موظفي نظارة الجهادية. وعقب انتهاء لجنة الفحص الطبي للضباط من عملها، رُقِّي خمسمائة من الضباط إلى الرتب الأعلى.

وبعد وفاة أحمد الدرملِّي عُيِّن ناظر ضبطية القاهرة إبراهيم فوزي بدلًا منه. وأُسندت وظائف كبرى بالمديريات الثمانية على الأقل إلى ثمانية من الضباط هي مناصب وكلاء الغربية والمنوفية والدقهلية وإسنا والإسكندرية ورشيد ووظائف المديرين في إسنا والفيوم.

واعتبر قنصلَا إنجلترا وفرنسا هذه الترقيات دليلًا على أن مصر قد خضعت لدكتاتورية عسكرية أقامها الأميرالايات الذين أصبحوا باشاوات ولواءات. وفي تقرير كتبه — في ٢٠ مارس — أشار كوكسون إلى السيطرة الظاهرة لعرابي ورفاقه على السلطة، ولكن ذلك كان سوء فهم لطبيعة التعيينات الجديدة؛ لأن حركة الاستغناء عن الضباط وترقية غيرهم شملت الجراكسة والمصريين، ولا تعني تحوُّل النظام السياسي إلى دكتاتورية عسكرية؛ فتلك الإجراءات غيَّرت من التركيب الاجتماعي لهيئة الضباط، دون أن يترتَّب على ذلك زيادة ملحوظة في النفقات، رغم أن المراقبَين ظنَّا غير ذلك؛ فإذا كان الأمر قد تطلَّب مبالغ كبيرة لتحسين رواتب الجنود، فإن تلك المبالغ قد استُقطِعت من المخصصات اللازمة لزيادة عدد الجيش، كما أن الترقيات تمَّت في إطار نصوص القوانين العسكرية.

لقد صعد بعض الضباط سلَّم الترقي إلى الرتب الأعلى بسرعة كبيرة دون ريب، ولكن بغضِّ النظر عن حالة طُلبة عصمت، فإن تلك الاستثناءات يمكن تبريرها بأن أولئك الضباط الفلاحين الذين رُقُّوا كانت ترقياتهم مُجمَّدة في عهد إسماعيل. ولا يجب أن يُساء فهم تلك الإجراءات على أنها قد تمَّت بدافع التعصب العرقي، فإن حركة الترقيات شملت الأتراك-الجراكسة أيضًا، فقائد الآلاي السابع مشاة يُعَسْكِر بالإسكندرية إلى جانب الآلاي السادس مشاة تحت القيادة العليا للواء إسماعيل كامل الجركسي. كما عُيِّن حسين مظهر التركي قائدًا عامًّا لمدفعية السواحل. ووفقًا لما يذكره محمد عبده، كان لا يزال هناك ٨١ ضابطًا جركسيًّا بالجيش المصري في ٢٥ أبريل (بعد حركة الاعتقالات التي أعقبت ما سُمِّي بالمؤامرة الجركسية). وحدَّد ماليت عدد الضباط الأتراك الجراكسة بمائتي ضابط في ١٨ أبريل.

أضف إلى ذلك، أن إسناد وظائف كبرى بالمديريات إلى ثمانية من الضباط لا يعني الاتجاه إلى إقامة دكتاتورية عسكرية، فلم يكن هناك في مصر تمييز بين السلكين العسكري والمدني، وكان الكثيرون ممن شغلوا مناصب كبرى بالإدارة المركزية وإدارة الأقاليم قد تقلَّبوا من قبل في المناصب العسكرية. كما أن المدارس العسكرية والجيش كانت بمثابة المعاهد التعليمية للكوادر الإدارية التركية-الجركسية، وكانت غالبية مناصب المديرين والمحافظين — في ربيع ١٨٨٢م — ما زال يشغلها الأتراك-الجراكسة الذين كانوا يُعيَّنون في تلك المناصب، فعُيِّن شاكر باشا — على سبيل المثال — مديرًا للدقهلية. وكانت الإجراءات التي اتخذها ناظر الجهادية تعني كسر احتكار الأتراك-الجراكسة لقيادة الجيش. ولم يكن ذلك يعني إضفاء الصبغة العسكرية على النظام العسكري على نحو لم يحدث من قبل. وكثيرًا ما كان الضباط يُعبِّرون للخديو ورئيس النظار والنظار والقناصل عن رضاهم عن النظام السياسي الجديد، وعن ولائهم وخضوعهم للخديو ومحمود سامي.

وعلى كلٍّ لم يستسلم الأتراك-الجراكسة لحركة «تمصير» هيئة الضباط، فأعلنوا معارضتهم لها، وغادر بعضهم البلاد احتجاجًا عليها، وفي خطاب مفتوح — بتاريخ ٢٢ أبريل٣ — حدَّد ١٩ ضابطًا من الجراكسة والأتراك والألبان الأسباب التي دفعتهم إلى ترك مصر والدخول في خدمة السلطان، بأنهم باعتبارهم ضباطًا بوحدة الرماة الجراكسة الملحقة بالآلاي الأول مشاة قد استُبعِدوا من حركة الترقيات، وأن بعض زملائهم قد سُجِنُوا وتعرَّضوا لسوء المعاملة. ويُشير هذا الخطاب إلى الضباط الذين تورطوا (في المؤامرة الجركسية) والذين كانوا قد اعتُقلوا قبل ذلك بقليل.

وفي أوائل مارس اكتُشِفَت محاولة لدس السم لعبد العال حلمي، وافتُرِضَ أن مؤامرة القتل قد دُبِّرَت بمعرفة حاشية الخديو، وبدأ عرابي يخشى على حياته. واعترفت أمه لليدي جريجوري في نهاية مارس أنها كانت تحفظ المياه التي يشربها ولدها حتى لا يُدس له فيها السم. وفي أوائل أبريل تأكَّدت مخاوفهم؛ إذ أخبر ضابط جركسي طُلبة عصمت أن ثمة مؤامرة تُدبَّر بين صفوف الضباط الأتراك-الجراكسة، تهدف إلى تصفية الضباط المصريين وعلى رأسهم عرابي، وتحطيم النظام السياسي الجديد. وعلى أساس تلك المعلومات تمَّ إلقاء القبض على عدد من الضباط الجراكسة في ١٠ أبريل، ونتج عن التحقيقات التي أُجريت معهم موجة أخرى من الاعتقالات تجاوزت حدود القاهرة إلى غيرها من المدن. وفي تقرير للقنصل الفرنسي بالإسكندرية — بتاريخ ١٧ أبريل — يُشير إلى أن ناظر ضبطية الثغر قد فُصِل، وتمَّ إلقاء القبض على ضابطَين جركسيَّين من ضباط الإدارة. ومثُل المتهمون أمام محكمة عسكرية برئاسة اللواء راشد حسني الجركسي، ويذكر عرابي بين بقية أعضاء المحكمة العسكرية ثلاثة فقط من الجراكسة (محمد مرعشلي – محمد رضا – خورشيد طاهر)، ويذكر ماليت فقط ثلاثة من العرابيين (طُلبَة عصمت – علي فهمي – عبد العال حلمي)، ويذكر النقَّاش من بين أعضاء المحكمة علي الروبي وعبد العال حلمي وإبراهيم فوزي. وتوصَّلت المحكمة إلى أن الخديو السابق إسماعيل كان وراء تلك المؤامرة وأنه أسند إلى راتب باشا مهمة تدبيرها.

وفي الحقيقة كان راتب باشا — الذي لحق بسيده في نابولي باختياره — قد عاد فجأة إلى القاهرة في نهاية نوفمبر دون أن يعلم أحد سر عودته إلى مصر. وفي منتصف مارس ١٨٨٢م، سرَّب ماكسي لافيسون — المتمتع بالحماية الروسية، والذي كان يُمثِّل مصالح الخديو السابق في القاهرة — مذكرة إلى كوكسون اقترح فيها عودة إسماعيل إلى السلطة بسبب عدم كفاية توفيق، على أن يُسلِّم إسماعيل الأمور المالية للبلاد للدول الغربية مقابل إطلاق يده في الحكم وفي إقرار النظام. وأخيرًا، وصلت الزوجة الثانية لإسماعيل تصحبها حاشية كبيرة إلى الإسكندرية — في ٤ أبريل — للاستشفاء في مصر من مرض خطير أصابها، ولمَّا طُلِب منها أن تخضع لفحص طبي رفضت ذلك، فمُنِعَت من مغادرة السفينة، وأُجبِرت على العودة إلى نابولي على نفس السفينة التي حملتها إلى مصر. وكانت هذه هي آخر المحاولات الفاشلة العديدة التي بذلها إسماعيل للعودة إلى مصر أو إعادة أفراد عائلته إليها.

وبرز الدور الخاص الذي لعبه راتب باشا في تلك المحاولات خلال التحقيقات التي أُجريت مع الضباط الجراكسة. ووفقًا للتقارير الرسمية، جرت اتصالات بين راتب باشا وأخيه محمد طلعت، ومحمود فؤاد (قريب خسرو باشا)، وناظر الجهادية السابق رفقي، ووكيل مديرية الفيوم يوسف نجاتي، بعد وصوله إلى مصر. وعندما فرغ من تكوين هذه المجموعة المعارضة رجع إلى إسماعيل. ونمت مجموعة المتآمرين الأتراك الجراكسة حتى بلغت — وفقًا للتقارير — ١٥٠ ضابطًا. وكانت تتضمَّن بصفة رئيسية عناصر نشطة من الضباط المفصولين ذوي الرتب المتوسطة والدنيا، وبعض الموظفين كعمر رحمي من ضبطية القاهرة، ولكنَّهم فشلوا في ضم الذوات إليهم. غير أن أسماء الكثيرين من الذوات وردت على ألسنة المتهمين خلال المحاكمة واضطرت المحكمة أن تُبرِّئ خمسة عشر من بينهم إسماعيل أيوب، وعلي مبارك.

ونشط المتآمرون في أعقاب تطهير هيئة الضباط، فجمعوا التوقيعات على عرائض الاحتجاج متغاضين عن وجود أتراك وجراكسة بين من شملتهم حركة الترقيات، ورفض بعضهم أن يتولوا الوظائف إلى أُسندت إليهم في السودان ما لم تتم ترقيتهم إلى الرتب الأعلى. واتهموا نظارة الجهادية بالاستبداد، ورفضت الحكومة تلك التهم، وأكَّدت أنه كان من بين ١٠١ ضابط اختيروا ليحلُّوا محل زملائهم في السودان ٨٦ من المصريين وتسعة من الجراكسة وستة من الأتراك. وعند هذه المرحلة من الصراع، نما إلى علم عرابي أن المتآمرين يُخطِّطون لاغتياله. وقيل إنَّه كان يُحيط نفسه بحراسة مشددة خلال الليل في ثكنات عابدين.

وفي ٣٠ أبريل، أصدرت المحكمة العسكرية أحكامها على أربعين ضابطًا من بينهم عثمان رفقي بتنزيل رتبهم، وحرمانهم من الامتيازات العسكرية، ونفيهم إلى السودان، كما حكمت على مدنيين بالنفي المؤبد، وأحالت خمسة من الموظفين المدنيين إلى المحاكم المدنية، وقضت بمنع راتب باشا من العودة إلى مصر مرة أخرى، وأوصت المحكمة الخديو ومجلس النظار بإعادة النظر في مخصصات إسماعيل طالما كان ينفق الأموال على تشجيع المتآمرين على مصر. وأخيرًا وضع ثلاثمائة من المشتبه فيهم تحت رقابة البوليس. وفي أول مايو ١٨٨٢م، قُدِّمَت الأحكام إلى الخديو للتصديق عليها، بينما كان هناك احتفال بنجاة عرابي من المتآمرين الجراكسة يجري في ثكنات عابدين.

وعندما نُوجِّه النقد إلى تلك الأحكام لا يجب أن نُدخِل في اعتبارنا المسائل القضائية الرسمية، فمن المؤكَّد أن إجراءات المحاكمة العسكرية لم تَسِر على أساس مبدأ «المحاكمة العادلة» الإنجليزي؛ فكان عمل القضاة منصرفًا إلى كشف أبعاد المؤامرة واتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية النظام القائم مما تُدبِّره الطبقة الحاكمة القديمة، وكان النفي إلى السودان هو السبيل المُفضَّل عند الأتراك الجراكسة لحماية احتكارهم السلطة ولا يمكن أن تلوم المحكمة لاتباعها نفس السياسة معهم. وربما كان بعض أعضاء المحكمة أيضًا مدفوعين بالرغبة في الانتقام من عثمان رفقي خاصة، وبذلك أتاحوا الفرصة لأولئك الذين انتقدوا قسوة الأحكام من منطلق إنساني. ولكن القول بأن الخديو وماليت عارَضَا تنفيذ تلك الأحكام لأسباب إنسانية بالدرجة الأولى لا يجد دلالة كافية لتأييده، فقد استغلَّا هذه الفرصة لإسقاط حكومة مصر بالمصريين ومن أجل المصريين. وكان توفيق يأمل في تدخُّل الباب العالي، بينما كان ماليت يهدف إلى «إعادة تنظيم» مصر على نحو يتفق مع مصالح بريطانيا في احتلال البلاد.

(٢) مصر تواجه التدخل العسكري

عند نهاية مارس ١٨٨٢م، أفضى الخديو إلى القنصل الفرنسي برغبته في الانسحاب إلى الإسكندرية في أقرب وقت ممكن انتظارًا للتدخل العسكري الذي يُريحه من ذلك الكابوس (وقصد بذلك مجلس النواب ووزارة محمود سامي). فقد سنحت الفرصة الآن للتدخل، فبعد أن حثَّ ماليت الخديو — صباح ٢ مايو ١٨٨٢م — على أن «يواجه المجهول» ويرفض التوقيع على الأحكام، أصرَّ توفيق على أن يفحص أولًا أوراق المحاكمة. ولعله طلب من السلطان أن يتدخل، وهو ما كان يعد العدة له، فقد أرسل توفيق تعليمات مفصلة إلى ممثله بالآستانة ثابت باشا — في ٢٧ أبريل — توضِّح له كيفية استنكار أفعال النظام السياسي الجديد لدى السلطان. وكان عليه أن يؤكِّد للسلطان أن القادة الجدد يسعون لقطع أواصر الصلة مع الباب العالي، وأنهم يُناضلون من أجل إقامة وحدة عربية، وأنهم بذلك يضرون بالمكانة السياسية والمكانة الدينية للسلطان معًا، طالما كان عرابي يدَّعي انحداره من نسل النبي. وكان على ثابت باشا أن يجعل السلطان يعتقد أن هذه المعلومات جاءت ثمرة تحريات شخصية. وفي منتصف أبريل طلب الضباط الجراكسة المعتقلون بدورهم من السلطان أن يتدخَّل. وهكذا استطاع توفيق أن يتنفس الصعداء — في ٦ مايو — وهو يُطلع القناصل والحكومة على برقية وردت له من الآستانة، يطلب فيها السلطان موافاته بتفاصيل قضية الجراكسة قبل أن يتخذ قرارًا نهائيًّا بشأنهم. فقد كان بين المحكوم عليهم ضابط برتبة الفريق (عثمان رفقي)، ولمَّا كان منح هذه الرتبة من حق السلطان وحده، فلا يمكن عزل صاحبها من رتبته إلَّا بقرار منه. وردَّ توفيق على هذه البرقية فورًا أنه من الطبيعي أن يُلبِّي طلب السلطان في محاولة للحفاظ على امتيازات الباب العالي.

وحتى لا تضيع فرصة تدخل السلطان، لم يُلقِ الخديو نفسه عند أقدام السلطان فحسب، بل وعند أقدام الدول الأوروبية أيضًا. ففي ٦ مايو صرح الخديو لسنكفتش بأنه «من خلال المذلة يستطيع أن يُصبح سيدًا»،٤ وأفضى إلى القنصل الألماني بأنه يرى في الأفق أزمة خطيرة وشيكة الوقوع، ولكنَّه يجب أن يقف موقفًا حازمًا؛ لأن الحالة الراهنة لا بد أن تنتهي إن عاجلًا أو آجلًا. واعترف لماليت بأنه على استعداد للتضحية ببعض امتيازات مصر إذا قام الباب العالي — في مقابل ذلك — بإعادة سلطته إلى ما كانت عليه من قبل. وأصاب سنكفتش كبد الحقيقة عندما استنتج أن الخديو لا يُريد سوى تعقيد الموقف، حتى يؤدي ذلك إلى التدخل الذي يتيح له فرصة الانتقام من أولئك الذين تحدوه وأذلوه.
وكان ماليت يسعى للغاية ذاتها إذ يقول: «أعتقد أنه لا بد من وقوع تعقيدات ذات طبيعة حادة قبل التوصُّل إلى حل مُرضٍ للمسألة المصرية، وأنه قد يكون من الحكمة دفع تلك التعقيدات إلى الأمام بدلًا من إبطائها لأنه كلما بقي الحكم السيئ كان علاج الأخطاء التي يقع فيها صعبًا.»٥ ومن الواضح أن «الحكم السيئ» يعني بالنسبة له وجود حكومة مصرية لا تخضع لسيطرة الأجانب؛ ولذلك استنكر — بالاشتراك مع كولفن — النظام الجديد، وعدَّه دكتاتورية عسكرية، ورأى فيه فيما بعد نظامًا فوضويًّا. وقبل أن يكتب ماليت التقرير الذي ضمَّنه وجهة نظره، والذي أوردنا منه الاقتباس السابق، كان القنصل الألماني قد كتب تقريرًا أشار فيه إلى أن دولاب العمل الحكومي يتحرَّك دون توقُّف في ظل الحكومة الجديدة، وأن فوائد ديون الحكومة تُدفع بانتظام، بل أن هناك فائضًا في دخل صندوق الدين، كما أن حقوق الأجانب والالتزامات الدولية تُراعَى بدقة، وأحكام المحاكم المختلطة تُنفَّذ دون تأخير. ولكنَّه لاحظ أن ثمة توترًا غير طبيعي ناجم عن حقيقة أن القناصل يرقبون تطور الأوضاع بتوقعات قلقة. وعلى أيَّة حال، لم يكن ماليت قانعًا بالمراقبة وحدها.٦

وأدى إسراف الخديو في الخضوع للباب العالي إلى إثارة نقد مرير في مجلس النظار، فقد اتُّهم بالتنازل عن امتيازات مصر، لأنه عندما عُزِل شاهين باشا من رتبته، ونُفِي من البلاد، لم يُعنَ السلطان بالاحتجاج على ذلك. غير أن النظار أبدوا استعدادهم للقبول بحل وسط؛ ففي مساء ٦ مايو ١٨٨٢م قدَّموا مقترحات مكتوبة إلى توفيق لتخفيف الأحكام، والاكتفاء بإبعاد الضباط الأتراك من البلاد دون تحديد للجهة التي يُبعَدون إليها. كما أن النظار لم يتمسَّكوا بعزل أولئك الضباط من رتبهم أو حرمانهم من أوسمتهم، فهم لا يطلبون سوى فصلهم من الجيش المصري. ولكن توفيق ذكر لهم أن المسألة أصبحت في يد السلطان وأنه ينتظر إجابته. غير أنه أبرق إلى الباب العالي بمقترحات مجلس النظار، وكان العالي عندئذٍ قد طلب إرسال أوراق المحاكمة إلى الآستانة.

وناقش الخديو الخطوات التالية التي يجب اتباعها مع القناصل، وهم الذين كان يركن إليهم طلبًا للمشورة إلى جانب رجال حاشيته. وفي صباح ٩ مايو، استدعى الخديو قناصل الدول إلى السراي. فنصحه ماليت وسنكفتش باستخدام صلاحياته دون انتظار لقرار الباب العالي. وبعدما غادر القناصل الآخرون القصر، أعدَّ مرسومًا — بحضور القنصلين الإنجليزي والفرنسي — قضى بالاكتفاء بنفي المذنبين من البلاد، ووقَّع توفيق ذلك المرسوم، وأرسله إلى محمود سامي بنظارة الداخلية. ولكن مجلس النظار رفض المرسوم بسبب خطأ رسمي ورد به والملابسات التي أحاطت بإصداره؛ لأنه كان يجب على الخديو أن يُضيف إلى المرسوم عفوه عن الأحكام التي أصدرتها المحكمة العسكرية، وأن يُسلِّم المرسوم إلى ناظر الجهادية. فقام توفيق بتصحيح ذلك الخطأ الرسمي. ولكن محمود سامي انتقد سلوك الخديو، فبدلًا من أن يُعالج المسألة مع نظاره اتبع نصيحة قنصلَي دولتَي المراقبة الثنائية. وأصرَّ مجلس النظار على فصل الضباط الجراكسة من الجيش المصري أيضًا، وفقًا لما قدَّموه من مقترحات كحل وسط. وكانت أهمية هذا الموقف رمزية أكثر منها حقيقية، فقد أصرَّ النظار على طرد الجراكسة من الجيش المصري لأن الخديو لم يطلب رأي الحكومة على الإطلاق وتجاهل نواياها الحسنة. غير أن الخديو كان — على وجه التحديد — يُريد أن يتحاشى الحل الوسط، فإذا تصرف على ما نحو ما أشار به مجلس النظار، فإن الأمور لن تصل إلى حد الأزمة التي تتطلَّب تدخلًا عسكريًّا.

ولمَّا كان النظار يقفون بحدة موقف المعارضة على النحو الذي سبق، استدعى الخديو القناصل مرة أخرى في مساء نفس اليوم (٩ مايو) لأنه لن يستطيع أن يصل بالأمور إلى ذروتها لو فعل غير ذلك! وخاطب قنصل النمسا بقوله: «إنَّني أوشك أن أفقد عرشي»، وذكر وهو يرتجف أن محمود سامي لمَّح له بأنه يُخاطر بعرشه إذا لم يقبل مقترحات مجلس النظار بشأن حل وسط. وأرسل ماليت تقريرًا إلى لندن ذكر فيه أن رئيس مجلس النظار هدَّد توفيق بتدبير «مذبحة عامة للأجانب»، ولكن فون كوسيك قال: «يجب أن أؤكد هنا حقيقة هامة هي أن سير ماليت سمع من الخديو أن رئيس النظار هدَّد أيضًا بمجزرة للأوروبيين، وقد سمعت ومعظم زملائي هذه العبارة.»٧ لقد كان توفيق وماليت يأملان بهذه الدسيسة غير المعروفة أن يُعبِّئا أوروبا ضد الحكومة المصرية.٨

وكان محمود سامي وحيدًا عندما سأله القنصلان الإنجليزي والفرنسي عن ذلك في نفس الليلة؛ إذ خانه التعبير وهو في سَورة غضبه، فقال إنَّه لن يستطيع العمل بعد الآن مع مثل هذا الخديو، وأنه سيرسل له استقالته. ولكن مجلس النظار توصَّل إلى استنتاجات مختلفة صباح اليوم التالي لتلك المحادثة، فطالما كانت استقالة الوزارة تُعرِّض السلام والنظام العام للخطر، فقد استقر رأيهم على البقاء في الحكم على أن يُدعَى مجلس النواب ويُطرح الخلاف أمامه، وتتوقَّف الوزارة مؤقتًا عن التعاون مع الخديو، ولكنَّها تضمن إقرار النظام العام وسلامة الخديو، وأبلغ محمود سامي هذا القرار إلى القناصل الإنجليزي والفرنسي والألماني والنمساوي عندما التقوا به في ١٠ مايو ليستطلعوا جلية الأمر.

وأصبحت القضية الآن قضية صراع بين الخديو ومجلس النظار لا يُبدي أي طرف فيها استعدادًا للتنازل عن موقفه. ولم يكن هناك دستور يُحدِّد طريقة الخروج من هذا المأزق، فقد اعترف محمود سامي للقناصل بأن اللائحة الأساسية لا تُعطي مجلس النواب سلطة البَت في هذا النزاع، كما أقر أن شرعية دعوة مجلس النواب للاجتماع لا تتحقَّق إلَّا إذا جاءت من جانب الخديو، غير أنه برَّر الإجراء غير القانوني الذي اتُّخذ بأن مجلس الوزراء لم يجد أمامه سبيلًا آخر.

وكان القناصل على يقين أن ذلك السبيل الآخر قد يعني قيام مجلس النواب بإقصاء توفيق، ونفي كبار الشخصيات من أفراد الأسرة الحاكمة، وإعلان تعيين محمود سامي أو عرابي حاكمًا عامًّا على مصر، وهذا الاعتقاد كان يتردَّد كثيرًا في كتاباتهم. وعلى أيَّة حال، لم يكن مجلس النواب ليخلع الخديو أو ليُعيِّن حاكمًا عامًّا، فأقصى ما يمكن توقُّعه أن يُعلن المجلس وقوفه ضد الخديو ليعطي السلطان مبررًا لخلع توفيق واستبداله بالأمير حليم. ففي ضوء علاقة عرابي ومحمود سامي بالباب العالي — التي سنفصِّلها فيما بعد — كان مثل ذلك الأمر محتملًا.

ولكن المسألة لم تبلغ درجة الحدة؛ لأن مجلس النظار وسلطان باشا وقادة مجلس النواب وافقوا على أسلوب آخر لمعالجة الأمور، بمجرد وصولهم القاهرة. وكان على مجلس النواب أن يجد مخرجًا لتلك الأزمة، فيتوسَّط بين النظار والخديو، أن يُصر على ضرورة تنظيم العلاقة بين قطبَي السلطة على أُسس دستورية على نحو ما طالب به المجلس من قبل في الربيع. وعلى نقيض زملائه، لم يُضمِّن ماليت تقاريره شيئًا من هذا القبيل، ومن الواضح أن تقاريره لم تكن تعكس حقيقة ما كان يدور عندئذٍ، ولكنَّها كانت تعكس ما كان يتمنَّى حدوثه، فقد ذكر أن النواب — وعلى رأسهم سلطان باشا — وقفوا إلى جانب الخديو وطلبوا إسقاط الوزارة.

وهكذا لم يعقد النواب مجلسهم على هيئة دورة «عادية» لأن الدعوة للانعقاد لم تتخذ شكلًا قانونيًّا. فاتفق سلطان باشا مع مجلس النظار — في ١٢، ١٣ مايو — على أن يطلب من الخديو — رسميًّا — أن يدعو المجلس للانعقاد ليُمعن النظر في الدستور الذي يُحدِّد أبعاد سلطة الخديو، وحقوق وواجبات النظار، والعلاقة بين النظار والخديو في إطار قانوني. وعلى كلٍّ، لم يقم سلطان باشا بتجسيد هذا المطلب عندما قابل الخديو في ١٣ مايو؛ لأن قبول الخديو لمثل تلك المقترحات يتوقَّف على مدى استعداده لتسوية الخلاف مع مجلس النظار. ولمَّا كان واثقًا من تأييد الدول والسلطان له، ومن استعداد الباب العالي للتدخُّل، فقد طرد سلطان باشا لأنه لم يكن ليقبل بالتعاون مع الوزارة.

وفي مساء اليوم نفسه، أعلن النظار استعدادهم للاستقالة إذا أعفاهم الخديو من مسئوليتهم عن المحافظة على الأمن العام التي تعهدوا بها أمام القناصل. وقام وفد من النواب بإبلاغ ذلك إلى الخديو في ١٤ مايو، وطلب سلطان باشا من توفيق أن يُسند رئاسة الوزارة إلى مصطفى فهمي ناظر الخارجية بدلًا من محمود سامي، ولكن حال دون قبول الطلب رفض مصطفى فهمي لهذا العرض، بعدما رأى أن ليس من مصلحته أن يتورَّط في ظروف كهذه على هذا النحو، فقد أصبح معروفًا — بشكل غير رسمي — أن الأسطول الإنجليزي-الفرنسي يتجه صوب الإسكندرية.

وفي ١٥ مايو، أبلغ ماليت وسنكفتش الخديو بموعد وصول الأسطول، وطلبا منه إعادة الصلات مع وزارة محمود سامي حتى يمكن تقديم مطالب الدولتين إليها، وضغط السلطان — الذي أزعجه وأغضبه خضوع توفيق للدولتين — من أجل تسوية النزاع الداخلي في مصر؛ ففي ١٥ مايو، أبلغ الخديو بوضوح أنه يجب ألَّا يُعوِّل كثيرًا على مساندة الباب العالي له في قضية الجراكسة؛ لأن ثمة مسائل أهم يجب أن تُحل. وأبرق الصدر الأعظم إلى الخديو قائلًا: «أما عن الخلاف القائم بين الخديو والوزارة فلا يصعب التوصل إلى حل له.»٩ ولذلك أُقيم احتفال في مساء اليوم نفسه بالصلح بين الطرفين بقصر الإسماعيلية، ولكن العرابيين كانوا قد ردَّدوا في ثكنات عابدين قسمًا صاغه محمد عبده بالوقوف في وجه أي محاولة للتدخل. وفي صبيحة اليوم التالي، أصابت الدهشةُ مَن قرءوا ما جاء بالوقائع المصرية من أنه «بأمر سمو الخديو يبقى أعضاء مجلس النظار في مناصبهم». وبغضِّ النظر عن استعداد الوزارة للاستقالة، عبَّرت عن حسن نواياها بمصادرة صفحتَي «الطائف» و«المفيد» الثوريتَين، بل قبِل مجلس النظار قرار الخديو بالاكتفاء بنفي الضباط الجراكسة المذنبين دون أن يُثير الضجة حوله. وفي ١٩ مايو، غادر بعضهم مصر على ظهر سفينة روسية حملتهم من الإسكندرية إلى تركيا، وغادر بعضهم الآخر البلاد على متن سفينة نمساوية حملتهم إلى سوريا. وفي صبيحة اليوم التالي ظهر أسطول الدولتَين أمام الإسكندرية.
كان نجاح النواب في مهمة التصالح بين الخديو والوزارة مجرد وهم؛ لأن الخديو وكولفن وماليت لم يرغبوا في ذلك؛ فقدوم الأسطول يُوفِّر أداة التهديد التي تُساند المطالب التي يزمع ماليت التقدم بها مع زميله الفرنسي. ولم يكن تدخُّل الدولتين يُزعج توفيق بقدر ما كان قد أزعجه قيام مجلس النظار بصياغة دستور يُحدِّد بدقة حقوق كل من الخديو والحكومة ومجلس النواب، وكان يجب أن يتأكَّد الدولتان والباب العالي أن مثل هذه الجهود لا تُجدي. وعلى نحو ما ذكر كوسيك في تقريره: «كان الخديو ينتظر الأحداث الوشيكة الوقوع وهو في أحسن حالاته المعنوية.»١٠

وكان الحل الذي يراه ماليت، هو استقالة مجلس النظار، وإبعاده زعماء الضباط عن مصر مع ضمان رتبهم وأملاكهم، ثم تكليف شريف بتأليف وزارة جديدة، ويوافق مجلس النواب على اللائحة الأساسية بالصيغة التي قُدِّمت بها في ٢ يناير. ولم ينجح الخديو أن يكسب تأييد سنكفتش وحده، بل كسب تأييد سلطان باشا أيضًا، ولا نعرف ما وعد به رئيس مجلس النواب حتى يقف إلى جانبه. ورأى بلنت أن ثمة طريقة واحدة لمنع سلطان من الوقوف ضد الحكومة، فأبرق إلى عرابي من لندن — في ١٦ مايو — يقول: «اعرض على سلطان رئاسة الوزارة، ولكن استمر في تشددك»، ولكن حتى ولو كان عرابي قد قبل بنصيحة بلنت، فإنَّه لم تكن هناك فرصة لذلك بعد ما نجح ماليت في «استمالة» سلطان إلى جانبه.

وحاول ماليت وسنكفتش — في بداية الأمر — ومعهما القنصل الفرنسي مونج (الذي لعب دور المترجم) أن يقنعا عرابي ومحمود سامي بمغادرة البلاد ومعهما طُلبة عصمت وعبد العال حلمي وعلي فهمي، وعدم العودة إليها إلَّا بإذن من الخديو، على أن يستمروا في الحصول على رواتبهم ولا تُمس رتبهم وأملاكهم بسوء. ولكن هذه المحاولة لم تتم على أيَّة حال، فقد استدعى ماليت سلطان باشا وطلب منه أن يقترح على عرابي «باسم مجلس النواب» استقالة الوزارة، وأن يُغادر عرابي البلاد، ويلزم بقية زعماء الضباط بيوتهم، ويتولَّى شريف تشكيل وزارة جديدة. فإذا لم يوافق عرابي على هذا الاقتراح يدعو الخديو مجلس النواب إلى الانعقاد ليتخذ موقف المعارضة لمجلس النظار، ولكن صُرِف النظر عن هذه الخطة أيضًا. وجاء وصول الأسطول ليقضي على احتمالات التوصُّل إلى تسوية، وليضع البلاد في حالة توتر شديد.

فقد التف أهالي البلاد حول عرابي الذي أصبح يتلقَّى العديد من الخطابات والالتماسات يوميًّا١١ من جميع أنحاء مصر (وخاصة من الإسكندرية ودمياط ورشيد ومديريات الدلتا) تُعبِّر عن سخط أصحابها على الأسطول الإنجليزي-الفرنسي ورفضهم لمطالب الدولتَين، وتتهم الخديو بالوقوف إلى جانب الكفار، وبأنه أثبت عدم جدارته بمنصبه، وتولي ثقتها لحكومة محمود سامي وعرابي، وتُطالبه بالدفاع عن الدين والوطن. ودعت الكثير من الالتماسات السلطان إلى خلع توفيق، وابتهلت إلى الله أن يُؤيِّد «الشريف» عرابي حامي الإسلام ورئيس «حزب الله» أو «الحزب الوطني» وكتب إبراهيم المويلحي إلى عرابي من نابولي يقول إن هناك «حزبَين» في مصر، حزب المصريين وحزب الأتراك، وأنه يُؤيِّد عرابي لأن نجاحه يعني الاستقلال وسقوط العبودية؛ ففي وقت الشدة نصب المصريون — الذين توفَّر لديهم وعي سياسي وكانت لديهم القدرة على التعبير عن آرائهم — عرابي حاميًا للوطن والدين. ولم يتردَّد عرابي في قبول هذه المهمة.

وكما فعل محمود سامي، رفض عرابي مقترحات ماليت، واعترف سلطان باشا بعجزه عن الحصول على تأييد مجلس النواب. وفي ٢٣ مايو، قرَّر مجلس النظار رفض أي تدخل إنجليزي أو فرنسي في شئون مصر الداخلية، وأعلن أنه لا يعترف إلَّا بسلطة واحدة هي سلطة السلطان (وذلك عقب تلقي تشجيع الباب العالي على نحو ما سنري).

كان الأسطول قد ألقى مراسيه في ميناء الإسكندرية دون أن يُثير الفزع لدى المصريين، فقد كان رد فعل التهديد مناقضًا لما كان متوقعًا؛ إذ هُرع المصريون إلى عرابي باعتباره مُخلِّص البلاد وحاميها وقت الشدة. وحتى لا يُصبح قنصلَا الدولتَين موضع السخرية، كان عليهما أن يُقدِّما مطالبهما الرسمية، وكان ماليت قد حصل على تفويض من حكومته بالتصرف وفق ما يراه صحيحًا. وفي ٢٥ مايو، قدَّم إلى رئيس مجلس النظار — بالاشتراك مع سنكفتش — مذكرة مشتركة جديدة طلب فيها رسميًّا إبعاد عرابي مؤقتًا عن البلاد، وانسحاب علي فهمي وعبد العال حلمي إلى قريتهما واستقالة الحكومة.

أعدَّ مجلس النظار ردًّا رسميًّا رفض فيه المذكرة المشتركة، سلَّمه إلى الخديو في ٢٦ مايو، وسأله عمَّا إذا كان يُوافق على الرد، فقال الخديو إنَّه يُفضِّل قبول المذكرة المشتركة، وإن النظار لن يستطيعوا الحصول على شروط أفضل. لذلك قدَّم النظار استقالتهم الجماعية للخديو — في ساعة متأخرة من مساء ١٦ مايو — وبرروا ذلك بأن تدخُّل الدولتَين الأجنبيتَين في شئون مصر يمس حقوق السلطان. وبدا أن توفيق قد حقَّق هدفه، فقبل الاستقالة على الفور، وأبرق إلى المديرين يخطرهم بأنهم لن يكونوا تابعين لناظر الداخلية حتى صدور تعليمات أخرى، وأنهم أصبحوا يتبعون «المعية» مباشرة، ويأمرهم بإيقاف إجراءات التجنيد على الفور وتسريح مَن جُنِّدوا بالفعل وإعادتهم إلى قُرَاهم. وأسند إلى محمد شريف مهمة تشكيل وزارة جديدة.

وبدا أن الانقلاب قد نجح، وأحسَّ توفيق والقنصلان بالرضا، ولكن إلى حين؛ فقد تلقَّى توفيق برقية من ضباط جميع وحدات الجيش والشرطة المرابطين في الإسكندرية — بعد ظهر ٢٧ مايو — يُطالبون فيها ببقاء عرابي في منصبه، وأعطوا الخديو مهلة اثني عشر ساعة لتحقيق ذلك الطلب، وأعلنوا عدم مسئوليتهم عن الأمن والنظام بعد انقضاء المهلة. ورفض كلٌّ من شريف وعمر لطفي تشكيل وزارة جديدة في ظل تلك الظروف، فماذا يفعلان لمواجهة الجيش؟

ولكنَّ توفيقًا أبى أن يستسلم وهو قاب قوسين أو أدنى من هدفه المنشود، ألم يكن الأسطول راسيًا بالميناء؟ أليس قائده الإنجليزي مُفوَّضًا بإنزال جنوده إلى الشاطئ إذا ما تعرض الرعايا البريطانيون للخطر؟ أحسَّ توفيق بالاطمئنان إلى تأييد الدول الأوروبية والباب العالي له، فاستدعى أعيان القاهرة والرؤساء الروحانيين ومُمثِّلي العلماء وكبار التجار وأعضاء مجلس النواب وكبار ضباط الجيش الموجودين بالقاهرة (ومن بينهم يعقوب سامي وطُلبة عصمت ومحمد رضا وراشد حسني) للقائه بقصر الإسماعيلية بعد ظهر يوم ٢٧ مايو. لقد كان توفيق يُريد أن يُمسك بزمام السلطة بيديه وأن يطمئن إلى تأييد الأعيان له، بعدما عجز الضباط — بما فيهم الأتراك الجراكسة — عن ذلك.

فقد ذكر الخديو لمن لبَّوا دعوته أنه سيتولى على الفور القيادة العليا للجيش بمجرد استقالة وزارة محمود سامي، على أن يبقى يعقوب سامي وكيل الجهادية في منصبه، لكنَّ توفيقًا لم يستطيع متابعة الحديث؛ إذ تقدَّم طُلبة عصمت إلى الأمام مُقاطعًا بقوله إن الجيش لن يقبل به قائدًا أعلى، وأنه يرفض رفضًا باتًّا المذكرة المشتركة، ولا يقبل طرد عرابي من منصبه. ودون أن ينتظر طُلبة ردًّا من جانب الخديو أدار ظهره للأخير وترك مكان الاجتماع، فتبعه جميع الضباط بما فيهم يعقوب سامي، وحاول محمد سلطان باشا وعمر لطفي — محافظ الإسكندرية — إعادتهم دون جدوى. كذلك واجه توفيق معارضة من جانب العلماء واتهمه الشيخ عليش صراحة بأنه مسئول عن وصول الأسطول، وطالب بإعداد البلاد للدفاع ضد العدو. وهكذا فشل توفيق في تحقيق هدفه، ولم يجد ما يقوله سوى أن الأسطول جاء بنية ودية، وصرف الاجتماع.

ولكن الأعيان ظلُّوا بالقصر يتدارسون كيفية تفادي وقوع الكارثة، وحاول النواب التوفيق بين مجلس النظار والخديو مثلما فعلوا قبل ذلك بأسبوعين، فأوفدوا سليمان أباظة وعبد السلام المويلحي والتاجر سعيد الصماخي والشيخ سليم عمر إلى نظارة الجهادية، وعاد الأخيران بعد قليل ليُخبرا زملائهما أنهم لم يجدوا أحدًا هناك. ولذلك أوفد آخرون للتفاوض (الشيخ عبد الباقي البكري،١٢ والشيخ عبد الخالق السادات،١٣ والشيخ سليم عمر، ومحمد السيوفي، وسعيد الصماخي، ومصطفى يكن، ومحمد مصطفى) توجَّهوا إلى ثكنات عابدين حيث وجدوا زعماء «الحزب العسكري» مجتمعين، وكان من بينهم عرابي ومحمود سامي وعلي فهمي وطُلبة عصمت ويعقوب سامي وعبد العال حلمي وعلي الروبي ومحمد عبيد ومحمد رضا وراشد حسني وعمر رحمي. وكان النواب مراد السعودي وسليمان أباظة وعبد السلام المويلحي قد عرفوا الطريق إليهم. ونجح وفد النواب في إقناع العسكريين بأن يجتمع الضباط الذين غادروا قصر الإسماعيلية غاضبين مع النواب بمنزل سلطان باشا ليبحثوا معهم حول إيجاد مخرج للأمة.

وتمَّ عقد الاجتماع بالفعل، ولكن سلطان باشا حاول تأنيب طُلبة عصمت ويعقوب سامي على مسلكهما تجاه الخديو، فطالبَا باستدعاء عرابي للتشاور؛ لأنهما لا يستطيعان الارتباط بشيء دون الرجوع إليه. فأرسلوا يستدعون عرابي الذي جاء بصحبة إبراهيم فوزي ناظر الضبطية (الذي حاول سلطان عبثًا أن يُؤثِّر عليه) وحشد كبير من الضباط والجنود إلى منزل سلطان باشا. وملك عرابي على الفور زمام الموقف، وألقى خطابًا ذكَّر فيه الحاضرين بالجرائم التي ارتكبها كل حاكم من حُكَّام أسرة محمد علي، وختم خطابه بتوجيه الاتهام إلى توفيق باستدعاء الأساطيل الأجنبية، وبذلك يكون قد مرق عن الدين واستحق العزل. وكاد الاجتماع أن يتحوَّل إلى محكمة ثورية، فردَّد العديد من الضباط والجنود كلمات عرابي من خلال هتافهم: «الخديو مخلوع!». ولكن عرابي لم يُقدِم على خلع الخديو، وإنَّما طلب من الحاضرين التوقيع على التماس يُرفع إلى السلطان للمطالبة بخلع توفيق. غير أن غالبية النواب أحجمت عن المشاركة في هذا العمل (وخاصة أنهم لم يعلموا — مثل عرابي — أن السلطان لن يُسعده شيء أكثر من خلع توفيق وتولية حليم بدلًا منه)، وكانت المحافظة على الأمن همهم الأكبر. وقد أكَّد سلطان باشا — فيما بعد — أنه لم يؤيد «الحزب العسكري» من النواب سوى أمين الشمسي، ومهنى يوسف عمر، ومراد السعودي، ومحمد عبد الله، ومحمد جلال. وحاول يعقوب سامي وطُلبة عصمت تهدئة الجو، فطالبَا سلطان باشا والأعيان بأن يستخدموا نفوذهم للإبقاء على عرابي ناظرًا للجهادية من أجل الحفاظ على الأمن العام. فوافق الأعيان على ذلك، وانفض الاجتماع عند هذا الحد.

وتوجَّه سلطان باشا إلى الخديو لينقل إليه ما دار بالاجتماع، ولكن توفيق أبى أن يستسلم، فقد كان يتوقَّع تأييدًا كاملًا من جانب قنصلَي إنجلترا وفرنسا، وإشارة من الباب العالي بتأييده، كما أنه لم يُصدِّق أن الجيش قد يُحاول تنفيذ التهديد بخلعه، فأرسل إلى قنصلَي الدولتين — في صبيحة ٢٨ مايو — يحثهما على التوصُّل إلى قرار حاسم بعد ظهر نفس اليوم.

وقضت القاهرة والإسكندرية ليلةً يشوبها التوتُّر والقلق، فقد سرت إشاعات قوية وجدت آذانًا صاغية بين الجاليات الأوروبية، مفادها أن الخديو سيُجبَر على التنازل عن الحكم في صبيحة ٢٨ مايو. وتوجَّه قناصل النمسا وإيطاليا وروسيا وألمانيا إلى عرابي في منزله حيث اجتمع جمع غفير من الناس الذين ينشدون حمايته، وكان القناصل مهتمين بضمان أرواح وممتلكات من يتمتعون بحماية دولهم، ولكن عرابي أبلغهم أنه لم يعد ناظرًا للجهادية، ورغم ذلك سوف يستخدم نفوذه الخاص في الحفاظ على الأمن، وأكَّد لهم أن أحدًا لن يمس شعرة في رءوس الأجانب، وأن التهديدات التي وردت على ألسنة ضباط الإسكندرية قصد بها الخديو وليس الأوروبيين، وأنه لو ظلَّ ناظرًا للجهادية فسيتحمَّل المسئولية الكاملة للحفاظ على الأمن العام، فكل ما ينشده الآن تجنيب مصر مصير تونس، وأن الخديو أصبح لا يخطو خطوة أو يتفوَّه بكلمة إلَّا بإذن من ماليت.

ولم يقف الأعيان موقف المتفرج، فقد كانوا لا يقلُّون تحسبًا لوقوع الكارثة عن القناصل الأربعة. ولمَّا كانت الأخبار ترد عن صيحات التهديد التي تتصاعد من منزل عرابي، فقد شكَّل الأعيان وفدًا توجَّه إلى الخديو يلتمس إعادة عرابي إلى منصبه باعتباره السبيل الوحيد لتفادي وقوع كارثة عامة وإنقاذ حياة الخديو من التعرُّض للخطر. وأراد توفيق أن يعرف على وجه التحديد من ماليت وسنكفتش نوع التأييد الذي سيتلقَّاه من حكومتهما، ولكنَّهما — على حد قول القنصل النمساوي — شعرَا بالحرج؛ فقد كان ماليت لا يريد منعه من عمل ما لا يمكن تجنبه، فلم يجد توفيق مفرًّا من توقيع مرسوم إعادة عرابي إلى منصبه كناظر للجهادية على كره منه مساء ٢٨ مايو.

وحمل سليمان أباظة والشيخ السادات والشيخ البكري وبعض الأعيان (فيما عدا سلطان باشا الذي اعتكف في ٢٨ مايو) إلى عرابي هذا النبأ السعيد، فوجدوا بيته لا يزال مليئًا بالضباط والعلماء والتجار والنواب والطلبة و«الغوغاء» على حد قولهم فيما بعد. وكان الحشد على وشك رفع التماس إلى السلطان يطلبون فيه خلع الخديو، ولم يتلقَّ الجميع نبأ إعادة عرابي إلى منصبه بالابتهاج، فقد رأوا فيه خدعة جديدة من الخديو. غير أن عرابي توجَّه إلى الخديو ليشكره على قراره. وكتب عرابي إلى وكيل الخارجية يطلب منه إخطار القناصل بتعهده بالمحافظة على النظام وعلى سلامة الأوروبيين.

وهدأ الصراع بعد تلك الأحداث الدرامية، ولكنَّه لم ينتهِ تمامًا؛ فقد كانت سفن أسطول الدولتين لا تزال قابعة بميناء الإسكندرية، كما أن مصر كانت بلا وزارة قادرة على معالجة الأمور، فلم يكن هناك سوى ناظر الجهادية الذي يتحمَّل مسئولية المحافظة على الأمن العام. وكان على الباب العالي أن يجد حلًّا لهذه المعضلة، فعيَّن مفوضًا لهذا الغرض، سعى الخديو والعرابيون إلى الحصول على قرار منه لصالح كلٍّ منهما، ولكن خابت آمال الطرفين.

فقد أبرق السلطان إلى الخديو مُهنِّئًا بإقالة وزارة محمود سامي، وأعلن الصدر الأعظم أن الباب العالي على استعداد لإرسال مُفوَّض إلى مصر بناءً على طلب الخديو، فألح توفيق في إيفاده على الفور، وأبرق بذلك إلى ثابت باشا مؤكِّدًا أن الوضع متوتر وخطير، وكان تشكيل وزارة جديدة مستحيلًا، فقد رفض كلٌّ من شريف باشا وعمر لطفي القيام بهذه المهمة، وغدا حل الأزمة مُتعذِّرًا دون مساعدة السلطان، كذلك كان عرابي يُعوِّل كثيرًا على مساعدة الباب العالي.

(٣) السلطان وحليم والعرابيين

بعد سقوط وزارة شريف باشا في ٢ فبراير ١٨٨٢م، قام محمود سامي وعرابي بالاتصال بالسلطان لتأكيد ولائهما؛ لأنهما علما أن الخديو صوَّرهما عند السلطان بصورة أعداء الدولة العثمانية. فقد ردَّ الشيخ محمد ظافر — أحد الشيوخ المقربين من السلطان — على رسالتين تلقاهما السلطان من عرابي في ٢٣ فبراير، وكان أحمد راتب — الذي تحدَّث معه عرابي بالقطار فيما بين الزقازيق ورأس الوادي — قد عاد قبل ذلك ببضعة أيام إلى الآستانة ونقل إلى السلطان ما سمعه من عرابي، كما كتب أحمد راتب — أيضًا — إلى عرابي رسالة في ٢٣ فبراير ١٨٨٢م، باسم السلطان.

وقد تضمَّنت رسالتا ظافر وراتب نفس المعاني مع اختلاف في الأسلوب، فعبَّرا عن رضاء السلطان بما سمعه عن موقف عرابي من الباب العالي، وأكَّدا لعرابي ثقة الخليفة فيه واطمئنانه إليه، كما أكَّدا على أن خديو مصر ليس في العير ولا في النفير، وأن السلطان لم يثق يومًا بإسماعيل أو توفيق أو حليم، ولا يتمتع بثقته إلَّا أولئك الذين ظلُّوا على ولائهم مدافعين عن وحدة أراضي الدولة العلية، وأن عرابي مطلق اليد في أن يفعل أي شيء لتجنيب مصر مصير تونس. غير أن ذلك لا يعني دعوة عرابي إلى امتشاق الحسام؛ لأن ظافرًا وراتبًا نَصحَا عرابي بتجنب كل ما يُؤدي إلى تدخُّل الدول في مصر، ونصحاه بأن يحسن اختيار مَن يحمل رسائله إلى السلطان. وأخيرًا، طلب راتب من عرابي أن يُرسل ضابطًا إلى الآستانة ليعرض وجهة نظر عرابي في الحوادث على مسامع الباب العالي.

ولا ريب أن السلطان لم يهتم بعرابي أكثر من اهتمامه بتوفيق، فقد كان يُريد أن يُنصِّب حليمًا حاكمًا على مصر، ولكن سياسته امتازت بالغموض؛ فهو يُحاول أن يضرب كل من توفيق وعرابي مستخدمًا أحدهما ضد الآخر؛ ففي ١٩ فبراير، أبلغ الخديو القنصل البريطاني أن السلطان طلب منه أن يرشو بعض الضباط والنواب ويجمعهم حوله لتدبير انقلاب يُلقي بالمتمردين في النيل.

اتبع عرابي نصيحة راتب وظافر؛ فكان يبعث برسائله إلى الآستانة مع علي قبودان راغب، رسوله الشخصي الذي كلَّفه — في نفس الوقت — بجمع المعلومات من الآستانة. وفي ٣ مايو أرسل علي قبودان راغب تقريرًا إلى عرابي عن المعلومات التي وصلت إلى السلطان حول قضية الجراكسة من مصادر مختلفة تناولت خلفية القضية وأهداف وزارة محمود سامي، فذكر أن السلطان يعتقد أن ثابت باشا — ممثل الخديو — كان ينقل إليه مجموعة من الأكاذيب لأن اتهاماته دحضها الكثيرون ومن بينهم أحمد أسعد. وكذلك كانت الحال بالنسبة لادعاءاته بأن وزارة محمود سامي أقامت حكمًا دكتاتوريًّا، وأن عرابي يستخدم انحداره من صلب الحسين بن علي ليُقيم دكتاتورية عسكرية تبني دولة عربية، وأن أكثر من مائة ضابط جركسي أبعدوا إلى السودان، وأن الضباط لا يرتاحون إلى عرابي، كما أن أهالي البلاد لا يرتاحون إلى الوزارة. وقد أيقن السلطان من كذب ثابت باشا، حتى إنه أصبح — على حد قول راغب — لا يأذن له بالمثول بين يديه. وأن السلطان صمَّم على عزل توفيق لعدم كفايته وتعيين حليم خلفًا له. وعلى أيَّة حال، ذكر علي راغب — فيما بعد — أن عرابي كان يكره حليمًا.

والشيخ أحمد أسعد — الذي ورد ذكره هنا — كان يلعب دور الوسيط بين السلطان وعرابي، وزار مصر أربع مرات لتسليم واستلام المراسلات المتبادلة بين الطرفين، وتأكيد المعلومات الخاصة بأوضاع مصر. فإذا جاز لنا القول إن علي راغب كان سفير العرابيين الخاص إلى الباب العالي، فقد كان أحمد أسعد سفير السلطان الخاص إلى العرابيين. ولعل ما جاء بتقريرَي سنكفتش — في ٣، ٥ فبراير — من أن السلطان فوَّض عرابي في خلع توفيق كان صدًى لإحدى زيارات الشيخ أحمد أسعد إلى القاهرة. وفي ٢٠ فبراير، ذكر ماليت لحكومته أن ثمة شخصًا غريبًا جاء إلى القاهرة قادمًا من الآستانة ثم اختفى مرة أخرى، وأنه يُشاع أن ذلك الشخص حمل رسالة من السلطان إلى عرابي. وفي أبريل زار أسعد القاهرة مرة أخرى وقيل إنَّه أقام ببيت عرابي، وكان لتقاريره أثر كبير على السلطان وخاصة على تكوين آرائه المتعلقة بمصر (على حد قول علي راغب).

وعندما زار الشيخ أحمد أسعد القاهرة — مرة أخرى — في مايو ١٨٨٢م، كان ماليت قد جمع معلومات أكثر دقة عن نشاطه. ففي مايو كتب لحكومته أن أسعد غادر الآستانة في ١٦ مايو، وفي أول يونيو أبرق إلى عرابي بأنه قد وصل يوم الثلاثاء (٣٠ مايو) سالمًا. ويعني ذلك أنه أثناء الصراع الحاسم بين الخديو ووزارة محمود سامي، وعند وصول الأسطول وتسليم المذكرة المشتركة، واستقالة مجلس النظار، وجهود الأعيان للوساطة بين الخديو والوزارة وإعادة عرابي إلى منصبه، كان بالقاهرة أحد ثقات السلطان يشد أزر عرابي ومحمود سامي ضد توفيق والدولتين الأوروبيتين. ولعله ساهم في صياغة وتسليم الرسالة التي كتبها عرابي إلى السلطان في ٢٥ مايو، وفيما يلي تلخيص أضالي (المؤرخ التركي) لأصل الرسالة المودع بالآستانة:١٤ «وفقًا لما يذكره عرابي باشا، ترجع المشاكل القائمة في مصر إلى سوء إدارة توفيق باشا؛ فقد وضع هذا الخديو غير الكفء أموره كلها في يد القنصل الإنجليزي، وتستند آمال الإنجليز في غزو مصر على هذا الوضع؛ فهم يستطيعون أن يُحقِّقوا ما يريدون باستخدام الخديو، وهم يهدفون إلى تحويل مصر إلى مستعمرة بريطانية كالهند، وإلقاء الوطنيِّين في السجون أو إعدامهم. وإن المصريين اتخذوا منه قائدًا لهم لينقذهم من الأخطار التي تتهدَّدهم، وأن عليه أن يُناضِل من أجل بقاء مصر تحت جناح الدولة العلية، وأن الخديو قد حرَّض بعض قواته عليهم، ولكن محاولاته باءت بالفشل؛ لأن أحدًا لا يقبل العمل لحساب دمية الإنجليز، غير أن القنصل الإنجليزي لا زال يتمتَّع بمركز قوي في الشئون المصرية؛ ولذلك يخشى العرابيون من أن يُعلن الخديو انفصاله عن الدولة العثمانية، وأن الشائعات القائلة بأن أرواح الأوروبيين معرضة للخطر ليست سوى أكاذيب، فهم يعيشون في سلام آمنين. كما ذكر عرابي أنه يُناضِل من أجل وحدة إسلامية، وأنه على استعداد للتضحية بدمائه في سبيلها، وأن ما فعله حتى الآن خير شاهد على ذلك، فتلك هي الحقيقة التي لا زيف فيها؛ فتوفيق ليس عديم الكفاية فحسب، بل شرير أيضًا، وينتظر الجميع عزله وتولية حليم باشا بدلًا منه.»
وحتى إذا كان أحمد أسعد لم يُساهم في صياغة تلك الرسالة، فإن ذلك لا يعني أنها لا تُعبِّر عمَّا كان يعتقده عرابي، وهي تشير إلى أن عرابي وإن كان لا يتلهَّف على تولية حليم إلَّا أنه — على ما يبدو — توصَّل إلى قرار بشأنها؛ فقد خسر توفيق ثقة العرابيين، ولم يعد له وجود إلى جانبهم، وهم يعلمون الآن أن السلطان يتحين الفرصة لخلعه. ولا ريب أن هدف رحلة أحمد أسعد الأخيرة إلى مصر هو تمهيد الطريق لتغيير الخديو. وخلال وجوده بالقاهرة نشطت دعوة أنصار حليم القدامى والجدد له، وأخذت تُجمع التوقيعات على عدد من الالتماسات لتُرفع إلى السلطان تُطالب بخلع توفيق وتولية حليم، ومن الأمثلة على ذلك التماس موظفي نظارة الأوقاف، وحمل أسعد معه إلى الآستانة عريضة مماثلة تحمل ٢٠٠٠ توقيعٍ، وتلقى يعقوب صنوع في منفاه بباريس رسالة من «الوطنيين المصريين» (كان من بينهم صديقه العقَّاد طبعًا) يُطالبون فيها بإعلان التأييد العام لحليم، ومن ثم طالب صنوع عرابي — على صفحات جريدته — بخلع توفيق، وأن يجعل مجلس النواب يُعلنون تنصيب حليم خلفًا له. كذلك أصدر ثمانية من علماء الأزهر فتوى مفادها أن توفيقًا لا يصلح لحكم البلاد لتحالفه مع الكفار، وأنه يجب استبداله بحاكم آخر يحترم الشريعة ويُطيع السلطان، ولكن كبار أعيان المسلمين رفضوا التوقيع على الفتوى وظاهروا الخديو.١٥ وكان الخديو على علم بتلك العرائض التي تُقدَّم إلى السلطان ضده، فلم يخف عليه نشاط أشياع حليم للدعوة له، ولكنَّه لم ير في تلك الدعوة خطرًا حادًّا يتهدَّده، فلم يكن يعرف شيئًا عن النوايا الحقيقية للسلطان، تمامًا كما كانت الحال بالنسبة لوالده في يونيو ١٨٧٩م، عندما كان السلطان يريد تعيين حليم خلفًا لإسماعيل، ولكن الدول الغربية منعته من ذلك، وخانه التوفيق مرة أخرى عام ١٨٨٢م.

وكلما كانت هناك أزمة في مصر، وكلما وردت «المسألة المصرية» (كما كان يُسميها الأوروبيون) على جدول أعمال الدبلوماسية الغربية، نشط حليم وأتباعه ودعاته في الآستانة ومصر والعواصم الأوروبية، وجرت الأقلام — ربما بتمويل من حليم — لنصرة قضيتهم.

وعندما أصبح واضحًا — في ربيع ١٨٧٨م — أن لجنة التحقيق ستتخذ طابع المحكمة، وأنها ستصدر حكمًا ضد إسماعيل، كتب حليم إلى ابن أخيه ينتقد سياسته انتقادًا مرًّا، وطالبه بوضع إدارة الشئون المالية للبلاد في أيدي الأوروبيين وأن يتنازل عن ممتلكاته للدولة، ومن الطبيعي أن يصل هذا الخطاب إلى أيدي رجال الصحافة، فنشر في ٨ أبريل ١٨٧٨م. وفي أوائل مايو استخدم حليم فالنتي (Valenti) — وكيله بباريس — لينشر «برنامج الحكومة» في أوروبا، على أمل أن تُفكِّر لجنة التحقيق في تغيير الخديو، فوعد بوضع مصر تحت الرقابة الأوروبية الشاملة، وبعد استيلاء الدولة على أملاك الخديو وأسرته فإن دخل الخزانة المصرية لن يكفي لسد حاجة الدائنين فحسب، بل يكفي لسداد ديون الباب العالي «وهو ما يسعدني شخصيًّا؛ لأن مصر جزء لا يتجزأ من الدولة العثمانية».١٦ وقد انبهر بعض الدائنين بتلك الوعود، ولكن القناصل كانوا يرون غير ذلك، فهم لم يُصدِّقوا أن يتغير الوضع تحت حكم حليم عنه تحت حكم إسماعيل، ورأوا أنه في حالة خلع الأخير يجب أن يخلفه توفيق الذي يسهل السيطرة عليه. وكانت تلك الاعتبارات هي التي حالت — قبل كل شيء — دون تولية حليم الخديوية في ١٨٧٩م بعد خلع إسماعيل.

وعلى كلٍّ، لم يكتشف ممثلو الدائنين إمكانية خفض مصروفات الحكومة المصرية عن طريق المخصصات السنوية التي كان يحصل عليها حليم. ففي اتفاقية ١٤ أبريل ١٨٦٦م، قبل حليم «بيع» ممتلكاته لابن أخيه. وفي عقد مبرم في ١١ يوليو ١٨٧٠م، تنازل حليم «نهائيًّا» عن حقه في ولاية الحكم وعمَّا بقي من ممتلكاته مقابل حصوله على مبلغ ستين ألف جنيه سنويًّا ولمدة أربعين عامًا، وفي ١٥ ديسمبر ١٨٧٩م قرَّر مجلس النظار خفض هذا المبلغ ليُصبح ١٥ ألف جنيه سنويًّا، وحاول البارون دي رنج وكارو — وكيل حليم الذي أوفده الأخير إلى القاهرة — أن يحصلا من لجنة التصفية على مخصصات أكبر لحليم، ولكن لم يطرأ أي تغيير على ما قرَّره مجلس النظار، فلم تفلح الدعاية التي نُظِّمت في إحداث أي تغيير، واضطر حليم أن يخفض ميزانية «الدعاية»، غير أنه في ١٨٨١-١٨٨٢م لم ينجح في إقناع السلطان بأنه خير من يحكم مصر لحسابه فحسب، بل ونجح في إيجاد داعية له في باريس يُرشِّحه للخديوية، وبعدما فشل في ١٨٧٨م أو ١٨٧٩م تجدَّدت آماله في تحقيق هدفه المنشود.

وفي مصر، كان عميلاه عثمان فوزي، وحسن موسى العقاد يُمهِّدان الطريق لعودته. وكان فوزي مملوكًا سابقًا لمحمد علي يتولى إدارة أملاك زينب هانم شقيقة حليم، بينما كان العقاد ينتمي إلى أسرة ثرية من التجار وملاك الأراضي وأصبح نائبًا بمجلس شورى النواب في ١٨٦٦م و١٨٧٠م، وكان على العقاد أن يتقرَّب من العرابيين ويسعى لرشوة عرابي نفسه، وأعدَّت زينب هانم المبالغ اللازمة، وتسلَّم منها حسن العقاد ثلاثين ألف جنيه. واتضح — خلال محاكمته فيما بعد — أنه قد أودع المبالغ التي حصل عليها من زينب وشقيقها حليم في حسابه، وأنه لم يُعطِ عرابي شيئًا منها. ولم يدُر بخلَد عرابي أن ذلك كان السر وراء الحماس الوطني للعقاد.١٧ ويبدو أن محمود سامي والشيخ العدوي كانا — على سبيل المثال — أكثر تأثُّرًا بعملاء حليم من عرابي نفسه، ومن ثَم يحق لعرابي أن يحتج بأنه لم يكن على صلة مباشرة أو غير مباشرة بحليم، وأن الصلة الوحيدة بينهما هي صورة فوتوغرافية لحليم أرسلها الأخير إليه.

وكما ذكرنا آنفًا، أرسل الشيخ أحمد أسعد برقيتين إلى عرابي — في الأول من يونيو — بعد عودته إلى الآستانة، أخبره فيهما بأنه سلَّم خطابه للسلطان، وأكَّد له إخلاصه وصدق ولائه، وحذَّره من التهاون في المحافظة على الأمن العام، والإبقاء على وحدة الإسلام، كما طلب منه أن يُناضل ضد «التفرقة في الجنسية». وفي رده على برقية لعرابي — في ٢ يونيو — طلب منه التمسك بالروابط المتينة مع الباب العالي وألَّا يقبل المساس بها، فإذا لم تعمل مصر بالتنسيق التام مع السلطان، أصبحت لقمة سائغة للأعداء.

وبعد ذلك بخمسة أيام، وصل أسعد إلى مصر مرة أخرى بصحبة درويش باشا — المبعوث العثماني — الذي طلب الخديو إرساله. وكانت البعثة التي رأسها درويش تضم ٥٩ شخصًا كان من بينهم — مرة أخرى — أحمد راتب، وقدري، وكان ممثلَا الخديو وعرابي في استقبال درويش بالإسكندرية، السر تشريفاتي ذو الفقار، ويعقوب سامي وكيل الجهادية. وكانت مهمة البعثة تنحصر في اتخاذ ما تراه من إجراءات للحيلولة دون تدخل الدول الغربية عسكريًّا في مصر. ولتحقيق هذا الغرض سعى درويش باشا إلى تهدئة الأمور أولًا، وإيجاد حل للصراع الداخلي في مصر وفق مشيئة السلطان، فإذا لم يكن ثمة أمل في تهدئة الأحوال في مصر، فلا بأس من إرسال عرابي إلى الآستانة على أن يتولى درويش نظارة الجهادية وقيادة الجيش المصري بنفسه. وعندئذٍ يُحل مجلس النواب، ويُلقى القبض على المتمردين ويُقدَّمون للمحاكمة، وكان درويش يرى إعداد حملة تركية للتدخُّل في مصر إذا دعت الحاجة إلى ذلك.

وعلى كلٍّ، توقَّع الطرفان المتصارعان من المبعوث التركي أن ينحاز له مباشرة دون مواربة أو محاولة للتهدئة. ولذلك أحسَّ الخديو بخيبة الأمل بعد حديثه الأول مع درويش باشا، ولم يشجعه الحديث الثاني على أن ينظر إلى المستقبل نظرة مليئة بالأمل. حقًّا أعلن درويش أنه يريد إعادة سلطة الخديو ووضع نهاية «للتمرد»، ولكنَّه تمنى أن يُحقِّق ذلك دون استعانة بجندي عثماني واحد. وأدَّت الطريقة الواثقة التي عامل بعد علماء القاهرة — وعلى رأسهم الشيخ العدوي والشيخ عليش — البعثة التركية، الذين قدَّموا لها عريضة — في ١٠ يونيو — يشكون فيها من الدول الغربية والخديو، إلى تهدئة التوتر. وفي اليوم السابق على تلقي هذه العريضة أوضح درويش للقنصلين النمساوي والألماني أن هدفه التوفيق بين الطرفين، وأن يتعامل مع الضباط الذين أبدوا ولاءهم له بإخلاص ملحوظ، وأبلغ القنصلَين أن هذا الحل سيكون مؤقتًا، فقد وعد العسكريين بخلع الخديو في المستقبل القريب، وطلب منهم أن يصبروا قليلًا، ووصف توفيق بأنه طفل عديم الخبرة.

ولكن تلك السياسة الحذرة اهتزت هزة عنيفة، عندما وقعت — في ١١ يونيو — «مذبحة» الإسكندرية البغيضة. وقد كتبت مئات الصفحات في وصف ظروف الحادث وملابساته، ولكن بقيت بضع كلمات يمكن أن تُقال حولها، فلم يتمكَّن أولئك الكتاب الذين اتهموا توفيق، أو عمر لطفي، أو درويش باشا، أو عرابي، أو محمود سامي، أو عبد الله النديم، أو كوكسون بتدبير تلك «المذبحة» من إقامة دليل واحد إيجابي على تورط أي منهم في ذلك العمل؛ فالعرابيون هم آخر من يتوفَّر لهم الدافع لتدبير مثل تلك «المذبحة»، ولا بد أن يكونوا قد تحقَّقوا من أن مثل ذلك الحادث يُعطي للدولتَين المبرر الذي تتوقان إليه للتدخل العسكري ويحجب عنهم تأييد السلطان الذي حذَّرهم غير مرة بتفادي ما قد يؤدي إلى تدخل الدول. ولكن من الغريب أن الأوروبيين اتهموا عرابي بتدبير هذا العمل، وزعموا أنه أراد بذلك أن يُبرهن على أنه صاحب القوة القادرة على إقرار النظام بعد أن يضع حدًّا للاضطرابات التي خطَّط لها من قبل، ولكن أوراق عرابي — التي ضُبطت فيما بعد — كانت تتناقض مع هذا الاتهام تناقضًا تامًّا، ولم يوجه إليه الاتهام بتدبير «المذبحة» أثناء محاكمة العرابيين. ويبدو منطقيًّا أن الإنجليز هم الذين دبَّروا تلك «المذبحة» كمقدمة للتدخل العسكري، وكان اتهام كوكسون والقنصل اليوناني بالإسكندرية بتهيئة المناخ لحمام الدم صحيحًا، في ضوء ما قامَا به من تسليح المالطيين واليونانيين والذي كان واضحًا للعيان. فمن الملاحظ أن ضحايا «مذبحة المسيحيِّين» من المصريين كانوا يفوقون ضحاياها من الأوروبيين، بل قام الشيخ إبراهيم — أحد الشخصيات السكندرية المعروفة — بفتح أبواب المساجد لإيواء المسيحيين الذين كانوا مُعرَّضين للخطر. كما أنه من غير الملائم أيضًا أن نظن أن الخديو وعمر لطفي قد أمرَا بتدبير الحوادث لإجبار الدولتَين الأوروبيتَين أو الباب العالي على التدخُّل، كما أن أصل البرقية التي أصدر الخديو بموجبها تعليماته إلى عمر لطفي بتدبير ذلك ما زالت في حاجة إلى برهان.١٨

ومهما كان الأمر، فقد اقترح فجأة استدعاء الفرقتين التركيتين اللتين كان قد أخطر القناصل — في ٩ يونيو — بأنهما تقفان في تركيا على أهبة الاستعداد حتى تعملا على إعادة النظام إلى البلاد. غير أن التدخل التركي المسلح لم يكن أبسط الحلول الممكنة؛ فكان لا بد من الحصول على موافقة الدول على مثل ذلك التدخُّل أولًا من ناحية، ومن ناحية أخرى كان على درويش أن يتحقَّق من أن الأمر يتطلَّب جيشًا أوروبيًّا إلى جانب الجيش التركي للوقوف في وجه المعارضة العنيدة للمصريين، فطبيعة المعارضة — عندئذٍ — قد تكون مختلفة؛ فالتدخُّل الأوروبي قد يؤدي إلى نشوب حرب دينية على نحو ما أكَّد أحمد أسعد للقنصل النمساوي.

وقد لخَّص بورج في تقريره المعلومات التي استطاع جمعها حول موقف العسكريين من تلك المسألة، فقال: «إن السلطان خليفة المسلمين ورئيسهم الروحي، فهو يتصرف بإلهام مقدس مُستمَد من صفته الأولى يجب أن يطاع باعتباره مُمثِّل النبي، بينما الحاكم الزمني يضطر في وقت من الأوقات إلى الاستجابة لمطالب الحكام، حتى لو كانت تتعارض مع ما يمليه عليه «ضميره»؛ ولذلك إذا اضطر إلى اتخاذ تدابير عسكرية بضغط من الدول الأوروبية ضد من يدافعون عن مصالح الإمبراطورية (أي ضد الجيش المصري)، كان الخروج عليه أمرًا مشروعًا.»

لقد كان درويش يعلم بهذا الموقف، ولم يكن يرى بالتأكيد ضرورة التدخل التركي. ولذلك حاول التوسط — مرة أخرى — بعد «المذبحة» بين الخديو والضباط، وأبرق الخديو — في ١٣ يونيو — إلى مُمثِّله لدى الباب العالي شاكيًا من تصرف درويش، مؤكِّدًا أنه لا يمكن إقرار السلام والأمن بهذه الطريقة، طالبًا تدخل السلطان عسكريًّا لطرد عرابي وأتباعه من البلاد. وفي نفس الوقت رحَّب درويش بفكرة القنصلين النمساوي والألماني اللذين كانا يهتمان بالمحافظة على أرواح من يتمتَّعون بحماية دولتَيهما، والرامية إلى إعادة تشكيل وزارة مصرية مسئولة.١٩

وفي ١٣ يونيو، وضع توفيق نفسه تحت حماية الأسطول، فكان يُريد الانسحاب إلى الإسكندرية منذ مارس، ولكن ماليت رفض غير مرة أن يسمح له بالهرب من القاهرة، وجاءت آخر محاولاته في ٢٩ مايو. وبعد «المذبحة» لم يكن ثمة ما يُجبره على البقاء بالقاهرة، فتبعه درويش والقناصل إلى الإسكندرية، ولم يستجب الخديو لطلب السلطان عودته إلى القاهرة مع درويش. وكان من الواضح أن الباب العالي يخشى أن يقوم توفيق بالاتفاق مع قائد الأسطول مباشرة على إنزال القوات دون استشارة الآستانة. وعلى كلٍّ، بقي عرابي بالقاهرة.

وقدَّم ساورما، وكوسيك خطتهما إلى الخديو، فوافق عليها بعد تردد مؤكِّدًا أنه لا يتوقَّع أن تؤدي تلك الخطة إلى نتيجة محققة. واتصل القنصلان بعد ذلك بيعقوب سامي الذي دعا طُلبة عصمت للتباحث معهما. وكان القنصلان يريدان التعرُّف على أفكار الضباط وتصورهم للكيفية التي قد تتطور بها الأمور. ولكنَّه لم يستطع أن يُقدِّم إجابة مُحدَّدة دون الرجوع إلى عرابي، ولكنَّه يمكنه أن يقول إن «رغبات الجيش تتجه نحو إقامة نظام شرعي في البلاد بدلًا من الطغيان الذي يسود الآن، فتُنتَزع سلطات الخديو التي تعطيه حق إصداره الأوامر دون اعتبار لشيء، مع حق منح الترقيات والهبات من ناحية، والطرد من الخدمة والنفي من ناحية أخرى؛ ولذلك يجب تشكيل وزارة من أهل الثقة تضم الأكفاء من كبار الموظفين، لتتولى وضع القوانين التي تُحدِّد حقوق واجبات عناصر السلطة — بما في ذلك الخديو — تحديدًا واضحًا.»٢٠ ويجب أن يُراعي الخديو تلك القوانين مراعاة تامة، ويتخلَّص من أفكاره الانتقامية. ورغم أن عرابي يعتقد أن بقاء توفيق في منصبه ضار بالبلاد، إلَّا أنه يعلم أن اختيار الخديو من اختصاص السلطان. وما يستطيع الضباط المطالبة به هو طرد مستشارَي الخديو خيري وطلعت من الخدمة. وأضاف طُلبة عصمت أن توفيقًا قد لا يرغب في تعيين محمود سامي رئيسًا للنظارة، ولكنَّهم قد يقبلون براغب باشا رئيسًا للنظار.

وفي ١٦ يونيو، نقل يعقوب سامي إلى القنصلين النمساوي والألماني رد عرابي على مقترحاتهما، الذي ذكر فيه أنه يرضى بحل المسائل المُعلَّقة على أساس ما جاء بالشكوى المُقدَّمة منه للسلطان بحق الخديو (ولعله يقصد بذلك خطابه إلى السلطان في ٢٥ مايو) ولكنَّه لا يُصر على خلع توفيق. ولم يكن خلع توفيق ضروريًّا — على حد تقدير ساورما — لأن الضباط كانوا يعلمون أن حليم سيحل محل توفيق في حالة خلعه. ولكن ساورما وكوسيك اتفقا مع درويش على أن خلع توفيق هو خير سبيل لحل الأزمة في ظل الظروف الراهنة.

واستجاب توفيق لنصيحة القنصلين النمساوي والألماني — اللذين حصلا على تأييد القنصلين الإيطالي والروسي — بتكليف راغب باشا بتشكيل وزارة جديدة، فصدر أمر الخديو بتكليف راغب باشا — في ١٧ يونيو — وتمَّ تشكيل الوزارة في اليوم التالي. وأبدى عرابي استعداده للتعاون مع راغب باشا، وتوجَّه إلى الإسكندرية في ٢٠ يونيو ودخلها دخول المنتصر، وفي اليوم التالي استقبله أهالي الثغر بالهتاف عندما عبر شوارع المدينة في عربة بجوار الخديو واعتُبِر مجلس النظار الجديد نوعًا من الحكومة الائتلافية، فيذكر كوسيك أن المجلس ضمَّ من ثقات الخديو: أحمد راشد، وعبد الرحمن رشدي، ومحمود الفلكي، الذين شغلوا مناصب نظار الداخلية والمالية والأشغال العمومية على التوالي، واعتبر علي إبراهيم ناظر الحقانية خبيرًا محايدًا. وضم المجلس من مؤيدي عرابي — الذي احتفظ بالطبع بمنصب ناظر الجهادية — إسماعيل راغب رئيس النظار وناظر الخارجية، وسليمان أباظة ناظر المعارف، وحسن الشريعي ناظر الأوقاف. وتصنيف الثلاثة الآخرين باعتبارهم من أتباع عرابي صحيح، ولكن إلى درجة ما؛ لأن كارترايت — الإنجليزي — يعد هذه الوزارة أقرب إلى «المحافظة».

وفي ٢٠ يونيو، قدَّم راغب باشا برنامج وزارته٢١ الذي قبله الخديو في نفس اليوم. وبالإضافة إلى ما جرت العادة على ذكره في برامج الوزارات منذ ١٨٧٨م، أُعلن «عفو عام» عن كل من اشتركوا في الحوادث الأخيرة ما عدا أولئك الذين تورَّطوا في «مذبحة» يونيو، وذكر أيضًا أن ناظر الخارجية (راغب باشا نفسه) له وحده حق الدخول في مفاوضات من أي نوع كانت مع قناصل الدول، وأن ما عدا ذلك من اتصالات بالقناصل تُعد غير قانونية. وأخيرًا يتولَّى مجلس النظار إعداد مشروع جديد لقوانين أساسية يُقدِّمها لمجلس النواب والخديو، تُحدِّد «حقوق الحكام» والمحكومين من كل صنف٢٢ والمجالات الإدارية والقضائية للسلطة.
وبموافقة توفيق على هذا البرنامج يكون قد صدَّق على المطالب والخطط السابقة الرامية — في الواقع — إلى إصدار دستور مصري، والتي أُثيرت لأول مرة بمجلس النواب في فبراير، ثم في مجلس النظار (وخاصة وزارة محمود سامي)، وأخيرًا أثارها الضباط.٢٣ ومفهوم الحاجة إلى قوانين أساسية (بالإضافة إلى قانون مجلس النواب) قد استقر خلال التجارب والممارسات السياسية. وتحقَّق مجلس النواب من أن اللائحة الأساسية لا تكفي لإضفاء الشرعية على صلاحيات مراقبة السلطة التي كان يتوق إليها. وأدرك مجلس النظار أن علاقته بالخديو يجب أن يُنظِّمها قانون، إذا أراد المجلس أن يحتفظ باستقلال نسبي عن شخص الحاكم. وقد أثبتت اللائحة الأساسية لمجلس النواب — الصادرة في ٧ فبراير — أنها مناسبة إلى حد ما لتنظيم العلاقة بين مجلس النواب ومجلس النظار، غير أن العلاقات بين مجلس النواب والخديو، وبين مجلس النظار والخديو، لم يكن يُنظِّمها قانون على الإطلاق. أضف إلى ذلك، أن وضع الصلاحيات العامة الباقية كان بحاجة إلى تحديد، ويتضمَّن ذلك صلاحيات موظفي المديريات من المدير حتى العمدة. ومن بينها حق التظلُّم وحق الاقتراع اللذان كفلهما القانون، وإن كان الحق الأخير يقتصر على مجموعة محدودة من الأهالي.

وظنَّ درويش باشا أن إقامة «وزارة ائتلافية» لإرضاء جميع الأطراف يفي بالغرض من مهمته، وأبرق بذلك إلى الباب العالي. وفي الواقع لم يُحقِّق درويش شيئًا؛ فتشكيل الوزارة الجديدة لم يكن ثمرة جهده، كما أن السلطان لم يكن يرى أن مهمة بعثته قد انتهت. وفي ٢٠ يوليو، تلقى درويش أمرًا من السلطان لحث عرابي على «زيارة» الآستانة، ليُقدِّم الشكر إلى السلطان على منحه إياه الوسام المجيدي. ولكنَّ درويشًا كان قد أبلغ القنصلين الألماني والنمساوي أن محاولة إبعاد عرابي عن مصر محاولة غير مجدية. ومن الواضح أن السلطان كان يظن أن الدولتَين الأوروبيتَين قد تعدلان عن التدخل العسكري في مصر، إذا نجح الباب العالي فيما فشلتا فيه، وهو إبعاد عرابي عن المسرح السياسي المصري. أضف إلى ذلك، أن تحقيق مثل هذا النجاح يُقوِّي نفوذ السلطان في مصر.

ولكن عرابي لم يتحمَّس لزيارة الآستانة. ولمَّا كان درويش يعتبر أن ليس ثمة ما يمكن عمله، أهدى الخديو بعض المجوهرات، ومنح سلطان باشا وسامًا تركيًّا رفيعًا، كما منح أوسمة لثلاثة وثلاثين شخصًا (كان من بينهم وفقًا لما يذكره كارترايت ثمانية من مؤيدي الضباط و١٦ من أتباع الخديو وتسعة من «المحايدين»). وحاول درويش مرة أخرى أن يُقنع مجلس النظار بالموافقة على استدعاء قوات تركية لتقف إلى جانب الجيش المصري ضد الغزو الإنجليزي المتوقع، ولكن المجلس رفض ذلك العرض.

وعلى كلٍّ، أصبح الضباط يتشككون بالتأكيد في نوايا درويش. فقد فشل في أن يتدخَّل تدخلًا حاسمًا لمصلحتهم في الصراع الذي دار بينهم وبين الخديو على نحو ما كانوا يتوقَّعون، كما أنه قدَّم لعرابي تلك الدعوة المشكوك فيها لزيارة الآستانة. وفي ٧ يوليو، حاول أحمد رفعت — بتعليمات من درويش باشا — للمرة الأخيرة أن يُقنع عرابي «بالعيش في كنف السلطان».٢٤ وغادر أحمد أسعد القاهرة، في ٨ يوليو، دون أن يصطحب عرابي معه إلى الآستانة كما كان مقررًا. وأحسَّ درويش أن عليه أن يحذو حذو أسعد فيُغادر البلاد بدوره؛ لأن الضباط لم يتوقعوا شيئًا من بعثته. ولكن المبعوث التركي ظلَّ مُقيمًا بالإسكندرية حتى شهد قصفها، وأخيرًا استدعاه السلطان عن طريق القنصل الألماني، فترك قدري بالإسكندرية وأبحر على ظهر يخته في ١٩ يوليو.

وفي نفس الوقت، ثار نقاش في الآستانة حول المصير الذي ينتظر مصر، حيث عُقِد في ٢٣ يوليو مؤتمر سفراء الدول المعنية بأمر مصر. ولا يعنينا هنا أمر المشادات الدبلوماسية، خاصة أنها ظلَّت غير ذات معنى بالنسبة لمجرى الأحداث في مصر. وبعدما فرض الإنجليز الأمر الواقع على ضفاف النيل، انفض المؤتمر في ١٤ أغسطس دون أن يفعل شيئًا.

وفي تقييمه لتشكيل وزارة راغب باشا، كان القنصل الألماني متأكِّدًا تمامًا من أن هذا الحل للصراع الداخلي في مصر يمكن أن يستمر إذا ما كان هناك تغيير جذري في مواقف إنجلترا وفرنسا. ولم يطُل التغيير المتوقع في السياسة الفرنسية، فقد جاء ذلك في أول يوليو، عندما عُيِّن قنصل جديد لفرنسا هو دومي دي فورج، أما الموقف البريطاني فلم يطرأ عليه أي تغيير. ولذلك لم يكن ثمة خلاف حول مصير مصر؛ فقد كان الغزو الإنجليزي متوقعًا منذ نهاية يونيو في كل يوم بل وفي كل ساعة، وغادر الكثير من الأوروبيين مصر، كما التمس الشوام والأتراك الجراكسة، وحتى بعض أعيان البلاد، سبيل الفرار في حشود كبيرة. وعلى سبيل المثال، فرَّ عبد السلام المويلحي «البطل القومي وميرابو مصر»٢٥ إلى سوريا. وتوقَّفت الحياة الاقتصادية في البلاد، ونَقَلَت المصالح الحكومية التي يُديرها موظفون أوروبيون أعمالَها إلى الإسكندرية أو منطقة القناة.٢٦ أما المصريون فقد بقوا في بلادهم.

وفشلت آخر محاولة من جانب السلطان لمنع وقوع الغزو الإنجليزي لمصر. ففي ٥ يوليو طلب السلطان من والاس — السفير الأمريكي بالآستانة — أن يتوسَّط في الأمر عند الإنجليز، ولكنَّهم لم يستجيبوا للوساطة، وألقى والاس باللوم على دافرين باعتباره المسئول من فشل الوساطة.

ويمكننا أن نتغاضى هنا عن المناقشات التفصيلية التي دارت حول الإرهاصات الحزينة لقصف الإسكندرية. ويمكننا تلخيصها في جملة واحدة، فقد أراد الأميرال سيمور أن يجد مبررًا لقصف الإسكندرية، وعلى حد تعبير الجنرال ستون في خطاب أرسله إلى أسرته في القاهرة في ٨ يوليو «إذا لم يجد المبرر فسوف يصنعه».٢٧ وفي أوائل يونيو، هدَّدت الحكومة البريطانية الباب العالي بالتدخل العسكري في مصر إذا لم يتوقَّف العمل في تحصين دفاعات الإسكندرية. وفي ٥ يونيو، أصدر السلطان أمره إلى الخديو الذي نقله بدوره إلى عرابي بوقف التحصينات فورًا، وردَّ عرابي على توفيق في نفس اليوم بأن ما يجري هو مجرد إصلاحات ليس إلَّا، لترميم التحصينات المتداعية، لحماية «المصريين العثمانيين» من تهديد الأسطول. غير أنه كان باستطاعته أن يُوقف إجراءات الترميم استجابة لطلب أمير المؤمنين، وكان على الخديو — من ناحية أخرى — أن يتأكَّد من مغادرة الأسطول للمياه المصرية. غير أن الأميرال أصرَّ على أن التحصينات ما زالت مستمرة، وأبرق توفيق — الذي لم يتهيأ بعد للقبول بغزو إنجليزي — إلى الباب العالي مؤكِّدًا أن ادعاءات سيمور لا أساس لها من الصحة.

وعلى كلٍّ، لم يكن لذلك كله صلة بالموضوع، فحتى لو لم يكن السلطان مُكبَّل اليدين فإنَّه لا يستطيع أن يُرسل جيشًا تركيًّا لينصب حليم حاكمًا على مصر؛ لأن دافرن كان يستطيع أن يمنع ذلك. واعترف سيمور لكارترايت — في ٦ يوليو — أن ليس ثمة أي تعزيز للتحصينات، غير أنه طلب من القائد العام إيقاف تلك الأعمال الوهمية. وترك الأميرال القناصل الخمسة، الذين طلبوا منه ضمانات ببقاء التحصينات على ما هي عليه دون تغيير، يعتقدون أنه لا يهتم بإعطاء مثل هذه الضمانات. لقد كانت الكارثة واقعة لا محالة.

وفي ١١، ١٢ يوليو ١٨٨٢م تحوَّلت الإسكندرية إلى أنقاض ورماد. وفي نفس الوقت، انهارت سياسة عدم التدخُّل التي تبناها حزب الأحرار البريطاني كما ينهار بيت من ورق. «إن الأزمة المصرية تُقدِّم لنا نموذجًا ممتعًا للكيفية التي يستطيع بها الدفع الإمبريالي أن يُغيِّر نغمة واتجاه السياسة الخارجية لحزب بريطاني.»

(٤) مصر في حالة حرب

الاختيار بين توفيق وعرابي

لقد فشلت سياسة الزوارق الحربية البريطانية-الفرنسية في مصر فشلًا ذريعًا، فلا ريب أن التهديد أخذ مأخذ الجد، ولكنَّه لم يؤدِّ إلى النتائج التي توقعتها الدولتان أصلًا؛ لأن الادعاءات التي برَّرت مجيء الأسطول بالحاجة إلى حماية أرواح وممتلكات الرعايا البريطانيين والفرنسيين المقيمين في مصر، تلاشت كما تتلاشى فقاعة الصابون، فما ادعى الأسطول أنه جاء ليحول دون وقوعه حدث بالفعل؛ ونعني بذلك «مذبحة» ١١ يوليو، وتدمير الأحياء الأوروبية بالإسكندرية في ١١-١٢ يوليو، فقد تمَّ التغاضي عن الاهتمام بحماية أرواح وممتلكات الأوروبيين.

ويذكر دي كوسيل — الإنجليزي الذي كان يعمل مديرًا للجمارك المصرية (والذي عيَّنه الخديو في هذه الوظيفة) — وكان يرقب تحطيم التحصينات من على متن سفينة حربية إنجليزية أن «المنظر كان رائعًا»،٢٨ ومقابلة احتراق المدينة بهذا القدر من الارتياح يدل على شذوذ نيروني مجرد من الإحساس. وبرَّر هذا «المنظر الرائع» بأن الأسطول كان «مُهدَّدًا» نتيجة تحصين استحكامات الشواطئ المصرية. ولا بد أن يكون الأميرال البريطاني قد أحسَّ بالمتعة في السفه والحماقة.

وأدى «الإنجاز العظيم» المتمثل في تحطيم التحصينات إلى وضع حامية الإسكندرية وسكانها في حالة يأس وقنوط، فخلق الذعر والدمار والبدو المتعطشون للنهب جوًّا من الرعب والفزع يومَي ١٢، ١٣ يوليو، وخلال هذين اليومين نشط النهابون ومشعلو الحرائق لملء الفراغ الناجم عن غياب السلطة والقيادة، وترك لهم الجنود الإنجليز الحبل على الغارب. وضمن الخديو سلامته الشخصية حيث كان يُقيم بقصر الرمل خارج أسوار المدينة، على حين أخذ عرابي ينتقل من مكان إلى آخر. وبعد يومين من الفوضى العارمة، بدأ الجميع يتطلَّعون إلى وضع جغرافي وسياسي جديد، فعاد الخديو إلى قصر رأس التين حيث ألقى الأسطول الإنجليزي — الذي وضع الخديو مصيره في يده — مراسيه، وحيث البقايا الحزينة لما كان بالأمس مدينة باهرة. وتحرَّك عرابي وأتباعه المخلصون عبر ترعة المحمودية وعلى الخط الحديدي إلى أعماق الدلتا وسط الجنود والأهالي الذين كانوا يلتمسون سبيل الفرار بما استطاعوا استخلاصه من أسلاب الإسكندرية. وفي ١٤ يوليو، بدأ عرابي تنظيم جنوده عند كفر الدوار، وأخذ يبني خطًّا دفاعيًّا يحول بين الإنجليز والتوغُّل داخل البلاد.

وحاول لورد كرومر أن يلخص أحداث الشهرين التاليين في عبارة واحدة فقال: «تقدَّمت إنجلترا في البلاد، واستطاعت بضربة سريعة صائبة أن تسحق المتمردين»٢٩ ولكنَّنا نرى أن الأمر لم يكن بهذه السهولة، وسوف نرى كيف واجهت القوى الاجتماعية المختلفة بداية الصراع العسكري، وكيف نظمت الحياة الاجتماعية والسياسية عندما تركت أمور البلاد بأيدي المصريين، وكيف استطاع الإنجليز احتلال البلاد تحت عباءة «التدخل لإقرار الشرعية».

وحتى ١٣ يوليو، كان التنبؤ بمسار الأحداث أمرًا مستحيلًا؛ لأن ذلك كان يعتمد على ما يُقرِّره الخديو وبطانته من النظار والموظفين والأعيان، فطالما بقي هؤلاء بقصر الرمل كان كل شيء يُشير إلى استعدادهم لتولي قيادة المواجهة ضد المعتدين. وعند بداية الصدام في ١١ يوليو، أبرق رئيس النظار العجوز — إسماعيل راغب — إلى مديرِي المديريات ورؤساء المصالح الحكومية معلنًا بداية الحرب وفرض الأحكام العرفية، آمرًا بالاستيلاء على الخيول والبغال لصالح الجيش. وفي برقية أخرى طلب من هؤلاء العمل على حماية أرواح وممتلكات الأجانب. وفي منشور صادر في ١٢ يوليو، أمر أحمد راشد — ناظر الداخلية — المديرين بجمع المجندين الذين تطلبهم نظارة الجهادية على وجه السرعة، وتبع ذلك توجيه نداء على صفحات الوقائع المصرية قُرِئ بالمساجد، أعلن فيه أن الاستعدادات قد بدأت للجهاد، وفي نفس الوقت وردت برقيتان وضعتا البلاد في حالة ارتباك؛ ففي ١٤ يوليو أعلن ناظر الداخلية أن السلام والأمن قد عادا إلى الإسكندرية، وأمر المديرين بأن يضربوا بشدة على أيدي مثيري الشغب من أي نوع، وفي اليوم التالي ألغى رئيس مجلس النظار أوامره السابقة وأعلن رفع الأحكام العرفية.

ولا نجد صعوبة في تفسير هذا التحوُّل؛ فقد انتقل الخديو وحاشيته إلى رأس التين في ١٣ يوليو، ووضع نفسه تحت حماية القوات البريطانية، وتبعه النظار في ذلك. وكان من الضروري تبين ما إذا كان توفيق لا يزال حاكم مصر، وما إذا كانت الحكومة قادرة على العمل وإصدار القرارات الملزمة للجهات الخاضعة لها. ولمَّا كان طابع التدخل العسكري البريطاني لم يتحدَّد بعد، وكان ضرب تحصينات الإسكندرية إجراءً سابقًا لأوانه، فقد كان لدى المصريين وقت كافٍ لتهيئة الجبهة الداخلية وتحريك «آلة الحرب».

وعندما عجزت وحدتان من الجيش عن «حماية» الخديو من الأعداء بقصر الرمل،٣٠ فكَّر عرابي في أن يأخذ الخديو إلى القاهرة بقطار خاص، ولكن بعد أن فات الأوان؛ فقد انحاز توفيق إلى الأعداء. وبادر عرابي إلى إقرار الوضع السياسي القائم غير المستقر، وكان قد أبرق إلى وكيله بالقاهرة — في ١١ يوليو — يأمره بأن يُخضع جهات الإدارة للجيش للوفاء بمطالبه واحتياجاته؛ لأن عرابي اعتبر أن الخديو والنظار قد تركوا البلاد دون قيادة، وأصدر بيانًا لكل مدير ومحافظ — نُشِر بالوقائع المصرية في ١٧ يوليو — أعلن فيه أنه أخذ على عاتقه الدفاع عن الوطن، وفسَّر التعليمات المتناقضة الصادرة عن النظار بالإسكندرية بخيانة الخديو الذي أجبر النظار على اتباع نفس السبيل، والذي ترك الأهالي المسلمين يُذبَحون لأن أغراضه التقت مع أغراض الإنجليز، ولأنه لجأ في الليل إلى إحدى السفن الحربية ليُكمل العمل المشئوم الذي بدأه نهارًا؛ ولذلك لا يجب — من الآن فصاعدًا — طاعة أوامره، وإنَّما تُطاع أوامر عرابي وحده. وعلى وجه العموم، لُبِّيَت مطالب العسكريين، وأصبح التقاعس عن تلبيتها يُعرِّض صاحبه للعقاب وفق الأحكام العرفية. واعتقد عرابي أن توفيقًا قد فقد إرادته الحرة لصالح الإنجليز، وأن النظار وُضِعوا في مأزق لا يُحسَدون عليه.

وفي ١٧ يوليو، تلقى ناظر الجهادية برقية من الخديو حاول أن يشرح فيها كيف أن الإنجليز ليسوا في حالة حرب مع الحكومة الخديوية، فذكر أن ضرب الإسكندرية جاء نتيجة للاستمرار في بناء التحصينات (رغم أن تقارير المراقبَين أشارت إلى توقف بناء التحصينات) ونصب المدافع؛ لأن ذلك يُعد تهديدًا واستهانة بالأسطول البريطاني (!) وأن الأميرال البريطاني على استعداد لتسليم المدينة إلى جيش موالٍ للخديو، ويفضل تسليمها إلى قوة تركية، وأن بريطانيا لا تُكنُّ عداءً للحكومة الخديوية، ولا ترمي إلى تقييد حريتها أو امتيازاتها أو المساس بحقوق الباب العالي، ومن ثم يجب أن يُوقف عرابي الاستعدادات للحرب، وأن يتجه مباشرة إلى رأس التين لتلقي تعليمات أخرى.

ولم يكن توفيق يعتقد أن هذه المحاولة المكشوفة ستنجح في جعل عرابي يسعى إلى عرين الأسد بقدميه، وكان ناظر الجهادية يعلم أن طريق العودة إلى الوراء قد أصبح بعيدًا، وأن التقدُّم إلى الأمام يحتاج إلى موافقة الشعب. وفي البرقية التي أرسلها للخديو ردًّا على برقيته السابقة. ذكَّر عرابي الخديو بالحقائق التي لا سبيل إلى إنكارها، فأشار إلى الاجتماع الموسع لمجلس النظار برئاسة الخديو وحضور درويش باشا الذي تقرَّر فيه رفض مطالب الأميرال البريطاني حتى لو أدى ذلك إلى وقوع الحرب، وأن قرار تعبئة ٢٥ ألفًا من المجندين قد اتُّخذ بنفس الجلسة، وأن رئيس مجلس النظار أعلن حالة الحرب والأحكام العرفية، وأن الحكومة المصرية وجدت نفسها بذلك في حالة حرب مع بريطانيا العظمى، فُرِضَت عليها دون إعلان رسمي للحرب، وأنه ما دامت السفن الحربية الإنجليزية بالإسكندرية، فلن تتوقَّف الاستعدادات العسكرية؛ لأن الجيش يجب أن يتأهَّب للدفاع عن شرف الحكومة وكرامة الوطن، وأنه ما دامت قوات الأعداء تحتل المدينة، لن يستطيع عرابي الحضور إليها، واقترح عرابي أن يتوجَّه رئيس مجلس النظار والنظار إليه في كفر الدوار للتباحث حول الموقف.

وفي نفس الوقت، أرسل عرابي برقيتَين إلى القاهرة؛ إحداهما لوكيله يعقوب سامي، والأخرى لناظر الضبطية إبراهيم فوزي. وفي البرقية الأخيرة أكَّد مرة أخرى على بقاء النظار بالإسكندرية، وعلى أنهم موضع استغلال الخديو والإنجليز لتحقيق أغراضهم الدنيئة، فإذا كانت أوامر رئيس الوزارة تصدر تحت الإكراه، فلا يجب أن تُوضع موضع الاعتبار. وأكَّد على حق وواجب المصريين في الدفاع عن كرامة الدين والوطن، فأولئك الذين يقفون في طريق سد الاحتياجات التي تتطلَّبها الظروف الراهنة تلحقهم اللعنة في الدنيا والآخرة، بل ويجب عقابهم وفق ما تقضي به الأحكام العرفية. وفي البرقية التي أرسلها عرابي إلى وكيله تناول جُرم الخديو وعدَّه من سوء الطالع؛ لأنه بيَّت النية لوقوع الحرب بين الإنجليز و«مِصْرَ العُثْمَانِيَّةِ المُسْلِمَةِ» وخطَّط لتلك الحرب. وأصبح توفيق الآن القوة الدافعة للحرب، فاحتُجِز النظار بناءً على أوامره، وأُجبِرُوا على خداع الأهالي بإصدار البيانات الكاذبة. وبعد أن هيَّأ وكيله لتقبُّل ما جاء بالبرقية، أمره عرابي بوضع الحقائق أمام جمعية من الأعيان حتى يستطيعوا مناقشة الأوضاع ويُقرِّروا ما إذا كان سلوك الحاكم لا يزال متمشيًا مع الشريعة.

وكان لهذه الإشارة مغزاها؛ فعلى الأهالي أن يُحِلُّوا أنفسهم من طاعة الحاكم من خلال ممثليهم «الطبيعيين»، وأن يستمدوا شرعيتهم من الشريعة الإسلامية ذاتها. وقام وكيل الجهادية — الذي كان يُدير أمور التعبئة العسكرية من قصر النيل منذ ١١ يوليو — على الفور بدعوة كبار الضباط وكبار الموظفين ورئيس مجلس النظار السابق محمود سامي إلى اجتماع لبحث الأوضاع الراهنة. وقرَّر في ذلك الاجتماع عقد الجمعية التي دعا إليها ناظر الجهادية في مساء اليوم نفسه بمقر نظارة الداخلية برئاسة وكيل الداخلية حسين الدرملِّي. ودعا أعيان العاصمة على عَجَل، بالإضافة إلى كبار الضباط الموجودين بالعاصمة، ورؤساء المصالح الحكومية، وكبار العلماء، والرؤساء الروحانيين غير المسلمين، ورجال القضاء، وكبار التجار، وكبار الموظفين السابقين، ورؤساء العائلات الكبيرة، وترك لحسين الدرملِّي وإبراهيم فوزي أمر إحضار هؤلاء جميعًا إلى نظارة الداخلية خلال بضع ساعات.٣١ وكان الأمل معقودًا على التوصُّل إلى إجابة سريعة مُحدَّدة للسؤال الذي طرحه عرابي. وعقد الاجتماع في اليوم الأول من رمضان حيث كان على المجتمعين أن يعودوا إلى بيوتهم قبل أذان المغرب؛ ومن ثَم كان يجب إنهاء الاجتماع قبل المغرب، ولكنَّه مضى وفق الخطة المقررة.

وعندما تدفَّق الأعيان على نظارة الداخلية كان الكثيرون منهم لا يعرفون حقيقة ما حدث، ولكنَّهم لم يُتركوا طويلًا للحدس، فقام اثنان من كبار علماء الأزهر بتحديد اتجاه المناقشات حتى قبل عقد الاجتماع؛ فدعا الشيخ عليش إلى الجهاد ضد الكفار الدخلاء، وذكر الشيخ العدوي أن سلوك الخديو يؤدي إلى نتيجة لا جدال فيها، هي ضرورة خلعه من منصبه، وأيَّد الضباط هذه الفكرة، وأخيرًا طلب من الحضور أن يتحلَّقوا حول المنضدة التي كان يجلس إليها حسين الدرملِّي رئيس الاجتماع، والشيخ محمد عبده الذي كان يتولَّى أمانة الجلسة. وجلس في مواجهة المنضدة يعقوب سامي، وإبراهيم فوزي، ومحمود سامي، والشيخ عليش، والشيخ العدوي وكبار الضباط. وبدأ الشيخ محمد عبده الحديث بقراءة البرقيات التي تعطي صورة الموقف الراهن والتي تبودلت بين الخديو وعرابي، وذكر للحاضرين أن الغرض من الاجتماع مناقشة المسائل التي تُثيرها هذه البرقيات.

وكان من الواضح أن الأعيان انقسموا إلى معسكرين. فتحدَّث اثنان من الباشاوات الأتراك الجراكسة هما عبد اللطيف (أحد مماليك محمد علي)،٣٢ ومصطفى عكوش (مفتش فاوريقات الصعيد وصنيعة إسماعيل) حول «الشرعية» في إطار تأييد الخديو، أما دعاة الشرعية الثورية من معارضي الخديو فكانا الشيخ محمد عبده والشيخ العدوي. وبعد أن أنهى الشيخ محمد عبده حديثه، وقف الشيخ العدوي وطالب بخلع الخديو في ضوء المعلومات التي بسطت أمام المجتمعين، بالأصالة عن نفسه وبالنيابة عن علماء الأزهر الذين يُمثِّلهم بالاجتماع. وكان العلماء على استعداد لتأييد هذا القرار بما لهم من نفوذ ديني، ولكن عبد اللطيف باشا أصرَّ على أن الخديو هو الحاكم الشرعي للبلاد وفق الفرمانات الصادرة من السلطان، ولا يجوز خلعه إلَّا بقرار من الباب العالي، ووجه اعتراضه باحتجاج شديد من جانب الضباط لأنه كان يتحدث بالتركية … وعندما دعا الشيخ عليش إلى إعلان الجهاد لاحظ أحد رجال الدين الأقباط أن إخوانه في العقيدة قد يُحجمون عن الاشتراك في الحرب إذا لم تتخذ طابعًا وطنيًّا؛ فالأقباط على استعداد للوقوف إلى جانب إخوانهم المسلمين في حرب وطنية للدفاع عن النفس. واعترض علي مبارك على الفكرة مؤكِّدًا أن الحرب لا يمكن أن تُعلن إلَّا بأمر السلطان، ولكن محمد عبده لم يُعِر اعتراضه اهتمامًا، وذكر أن مبدأ المقاومة المسلحة قد أُقِر بالإسكندرية بحضور درويش باشا مُمثِّل الباب العالي، وأن هذه القضية قد حُسِمَت بالفعل. وعندما حاول عكوش باشا أن يُدافع عن الخديو مرة أخرى، اتهم بمحاولة كسب رضاء الخديو لتحقيق منفعة شخصية. وواجه رئيس الاجتماع صعوبة شديدة في السيطرة على الاجتماع مرة أخرى، وعندما هدأ الجميع اتخذ قرار بأغلبية الأصوات يقضي باستمرار الاستعدادات العسكرية.

وطُرِحَت مشكلة العلاقات مع الخديو — بعد ذلك — على بساط البحث. فأعلن علي مبارك خشيته من التوصل إلى قرار بصددها يتأثر بجو الانفعال السائد، وحاول أن يتحاشى «أسوأ الفروض» باقتراح إرجاء بحث المشكلة، وصاح في الأعيان مؤكِّدًا أن هذا الاجتماع ليس له طبيعة رسمية، وأنه يجب أن يُعد أسلوبًا لتبادل الآراء؛ لأنه ليس له الحق في اتخاذ قرار مُلْزِم لأهالي البلاد، فالجميع يعنيهم سلامة الوطن ورخائه؛ ومن ثَم يجب معالجة هذه المسائل الحساسة بالحذر الشديد والحكمة. وقد سمع المجتمعون روايتين لما حدث، إحداهما من حاكم مصر الشرعي، والأخرى من ناظر الجهادية، والأمر يتطلَّب الآن تحرِّي الحقيقة التي يجب التوصُّل إليها سواء كان الخديو ونظاره محتجَزين بالإسكندرية، أو كانوا يُقيمون هناك باختيارهم، وبعدهم يمكن أن تعقد الجمعية اجتماعًا آخر للتوصل إلى قرار نهائي.

وتساءل يعقوب سامي — بانفعال شديد — عمَّا إذا كان علي مبارك يُريد إيقاف الحرب. وفي نفس الوقت كان الشيخ محمد عبده يخشى من أن يتوصَّل الخديو إلى اتفاق مع الإنجليز يُحدِّد مصير البلاد ما لم يُعلن خلعه على الفور. ولكن عندما فهم الجميع أن الإجراءات التي اتخذتها نظارة الجهادية قد تمَّت بالفعل، وأن أحدًا لن يستطيع إلغاءها. وعندما فنَّد بطرس غالي — وكيل الحقانية — وجهة نظر محمد عبده مُلفتًا النظر إلى أن أي اتفاق سياسي يُصبح غير ذي موضوع ما لم يُصدِّق عليه السلطان، وافق الجميع على اقتراح علي مبارك. واختير وفد للتوجُّه إلى الإسكندرية للتأكُّد من الحالة هناك ويعلن للخديو قرار الأعيان ويُطالب بعودة النظار إلى القاهرة. وضمَّ الوفد عالمَين هما الشيخ علي نايل، والشيخ أحمد كبوة الذي كان شيخًا لرواق الصعايدة بالأزهر، كما ضمَّ تاجرَين هما سعيد الصماخي — ممثل تونس بمصر — وأحمد السيوفي عضو مجلس النواب، وكذلك ممثلَين للذوات هما علي مبارك ورءوف باشا حاكم السودان السابق.

وعلى كلٍّ، تأخر سفر الوفد بضعة أيام حتى يحصلوا على نسخة من مضبطة الاجتماع مُوقَّعًا عليها من المشاركين فيه، مما أدى إلى نشوء صعوبات؛ لأن محمد عبده لم يُسجِّل ما دار بالاجتماع، وتتابع الحوادث بعد الاجتماع جعل الكثير من الأعيان يحجمون عن التوقيع على المضبطة، وبغضِّ النظر عن ذلك عُرِضَت المضبطة على أناس لم يحضروا الاجتماع ليوقعوا عليها، فرفضوا ذلك أيضًا. وفي بعض الحالات تعرَّض البعض لضغط مُعيَّن حتى يُغيِّروا موقفهم، فقيل إن حسين الدرملِّي ذكر لحاخام اليهود أن توقيعه على المضبطة قد يكون لصالح طائفته، وهكذا وقع بعض الأعيان تحت لون من ألوان الضغط بينما تمسَّك البعض الآخر بمواقفهم. وفي مساء السادس من رمضان، استطاع الوفد — أخيرًا — أن يشد الرحال إلى الإسكندرية بعد أن أجيب أعضاؤه إلى طلبهم بالحصول على تفويض بمهمتهم من كل من عرابي وراغب باشا.

وكان الظلام لا يزال مُخيِّمًا عندما وصل القطار الخاص الذي حمل الوفد إلى كفر الدوار، ولمَّا كان على رجال الوفد الانتظار حتى الصباح فقد توجَّهوا للقاء عرابي. وخلال المناقشات الطويلة التي دارت بين الوفد وناظر الجهادية، اتضح أن علي مبارك لا يريد أن يلعب الوفد دور المُحقِّق فقط، بل يريد التوصُّل إلى حل للأزمة يقي البلاد فظائع الحرب. ولكن عرابي جعلهم يفهمون ألَّا سبيل لحل الأزمة سوى خلع الخديو، غير أنه لم يُبيِّن لهم تصوره للكيفية التي يتم بها إقرار السلام. وبيَّن علي مبارك ما قد يترتَّب على اتخاذ هذه الخطوة من معارضة الباب العالي ومن التعقيدات الدولية، وسأل عرابي إذا كان يعتقد أن باستطاعته الاحتفاظ بمنصبه لو أسند الحكم إلى خديو آخر؟ وعلى كلٍّ، على المصريين أن يُواجهوا الإنجليز وأي رجل منطقي يُوافق على أن مصر لا تتساوى مع بريطانيا من حيث القوة العسكرية، وأي صدام مسلح يضع مصير الإصلاحات الناجحة التي تمَّت في السنوات الثلاث الأخيرة موضع التساؤل، ويعرِّض البلاد لدمار غير محدود. إنَّهم جميعًا ينشدون مصلحة مصر، ومصلحة مصر تتركَّز في السلام، والسلام لن يتحقَّق بإبعاد الخديو عن منصبه. ومن أجل تحقيق السلام يجب على عرابي أن يُنحِّي مصالحه الشخصية جانبًا، وأن يقبل بشروط الدولتَين التي جاءت بمذكرة ٢٥ مايو، وبذلك لا يتأثر مركزه الأدبي أو وضعه المالي بشيء.

وأدت هذه التعليقات إلى جعل طُلبة عصمت يستغرق في التفكير، فاقترح أن ينتحي الضباط جانبًا للتشاور، ولكن عرابي لم يكن مستعدًّا للعدول عن موقفه؛ ففيما يتعلَّق بمصيره الشخصي لم يكن ليثق في تأكيدات الخديو، (ولذلك ما يُبرِّره). وبعدما تشاوَر مع رفاقه حكى لعلي مبارك قصة المؤامرة التي دبَّرها الخديو ضده وضد زملائه، ثم إنَّه يرى استحالة مغادرة مصر بعدما أصبح حامي حمى الدين والوطن، وقال إنَّه عندما مرَّ بشوارع القاهرة والإسكندرية بصحبة الخديو ودرويش باشا كانت الجماهير المتحمسة تهتف باسمه وحده، وتجاهلت الخديو والمبعوث العثماني. وعدَّ عرابي نصيحة علي مبارك مجرد حيلة جديدة كحيلة درويش باشا الذي حثَّه على الذهاب إلى الآستانة، فليس أمامه خيار سوى أن يُؤدي واجبه الذي لا يخالجه الشك في استطاعته القيام به.

ولكن علي مبارك نجح مرة أخرى في هز قناعات عرابي، عندما أشار إلى ما قد يترتَّب على الحرب من آثار تلحق بالأهالي. وتأثَّر طُلبة عصمت بهذا القول، وذكر أن علي مبارك يتحدَّث إليهم كوالد، وتمَّ الاتفاق على أن يقوم الوفد بمهمته بالإسكندرية لاستطلاع الأحوال هناك، على أن يتم لقاؤه بالضباط بعد ذلك للنظر فيما يمكن عمله. وأبدى ناظر الجهادية استعداده لتزويد الوفد بالخيول، ولكنَّه عبَّر عن مخاوفه مما قد يتعرَّض له على يد الإنجليز أو البدو المتعطشين للقتل والنهب.

وسافر أعضاء الوفد الستة بالقطار إلى خط الجبهة، ولكنَّهم لم يجدوا الخيول في انتظارهم، فخشي أربعة منهم مغبة السير على الأقدام حتى الإسكندرية، وما قد يتعرضون له من أخطار وراء خط الجبهة، وآثروا العودة إلى كفر الدوار، أما علي مبارك وأحمد السيوفي فقد تابَعَا الرحلة وحدهما سيرًا على الأقدام بجوار ترعة المحمودية حتى بلغا الإسكندرية في اليوم التالي، حيث استقبلهما الخديو والنظار للاستماع إليهما. وشكا علي مبارك من أن البرقيتَين اللتين أرسلهما رئيس مجلس النظار ونظار الداخلية قد وضعتا البلاد بكاملها في أيدي العسكريين وأعطتا لناظر الجهادية بالذات سلطانًا مطلقًا. وذكر أنه وجد في كفر الدوار استعدادًا للتوصُّل إلى تفاهم؛ ومن ثَم قد يكون بالإمكان تحقيق تسوية سلمية على أساس مذكرة مايو، وأنه لا يجب وضع الضباط في مأزق حتى لا يؤدي ذلك إلى وقوع كارثة بالبلاد. غير أن آراءه وُوجِهَت برفض تام، على أساس أن حل المسألة سلميًّا لم يعد ممكنًا، وخاصة أن درويش باشا وغيره قد حاولوا ذلك مرارًا دون جدوى. والتمس علي مبارك منحه فرصة القيام بمحاولة جديدة طالما كان في الوقت متسع لشن الحرب، فطلب إليه أن يبحث الأمر مع كولفن باعتباره مبادرة شخصية وليس مطلبًا رسميًّا.

وفي ٢٥ يوليو، أبلغ علي مبارك المراقب الإنجليزي أن عرابي وطُلبة عصمت «قد شجعاه بصفة خاصة على التوصُّل إلى تسوية مع الإنجليز»، وأنه يعتقد أن بالإمكان شق صفوف الضباط.٣٣ ووفقًا لما جاء بتقرير القنصل البريطاني، لم يُرد كولفن تقديم أي مقترحات تتمشى مع أفكار علي مبارك، بينما ذكر مبارك أن كولفن أكَّد له أنه يتوق أيضًا إلى حل سِلمي، ولكن على أساس معاقبة «العصاة» وحل الجيش، فإذا وافق «العصاة» على ذلك، عليهم أن يثبتوا حسن نواياهم بفتح ترعة المحمودية لتزويد الإسكندرية بالمياه.

وأرسل علي مبارك رسولًا إلى ناظر الجهادية حمل خطابًا ضمَّنه المقترحات الفنية الخاصة بالتمهيد للمفاوضات، على أن يُسهِّل عرابي أولًا وصول أعضاء الوفد الأربعة — الذين تخلفوا عند كفر الدوار — إلى الإسكندرية، وأن يُعيد الاتصال التلغرافي مع الإسكندرية حتى يسهل تبادل الاتصالات، على أن يُستخدم الخط في نقل المعلومات التي تُجنِّب الوطن الوقوع في الكوارث. ويتولَّى ناظر الجهادية تشكيل وفد من الضباط يلتقي في مكان يُحدده بمعرفته مع وفد علي مبارك للبحث عن حل للموقف المتأزم ولدفع الأذى عن الوطن الحبيب. وبعدما تشاور عرابي مع زملائه ردَّ على رسالة علي مبارك — في ٢٧ يوليو — ردًّا سلبيًّا، فذكر أن الاجتماع الذي عُقِد بنظارة الداخلية عُقِد بهدف مناقشة أوضاع البلاد وما يمكن عمله بشأنها، وأنه قد تقرَّر في ذلك الاجتماع استمرار الاستعداد للحرب وإرسال وفد إلى الإسكندرية بمهمة محددة، وأنه لا يملك تعيين وفد من قِبَله؛ لأنه ليس وحده صانع القرار، ولكنَّه على استعداد أن يذهب إلى المدى الذي يأمره الشعب بالذهاب إليه.

عندئذٍ توقَّف علي مبارك عن مواصلة جهوده، وعكف على كتابة تقرير ليُرسله إلى الجمعية بالقاهرة التي أوفدته بهذه المهمة، أشار فيه إلى رفض مجلس النظار الانتقال إلى القاهرة، وأن النظار يرون أن الموقف يتطلب وجودهم بالإسكندرية حيث القناصل والخديو الذي يلتقون به للتشاور من حين لآخر، كما أن وكلاء النظارات موجودون بالقاهرة لمتابعة الشئون الجارية وتَبِعة قطع الاتصال معهم تقع على عاتق عرابي، وأشار علي مبارك إلى أنه ذكر للوزارة أن القرارات التي اتُّخذت بالعاصمة تمَّ اتخاذها بحرية كاملة وأن النواب أيَّدوها.

ولمَّا كانت محاولة علي مبارك لإقرار السلام باءت بالفشل، فقد قرَّر وزميله السيوفي البقاء بالإسكندرية، بينما عاد الأعضاء الأربعة — الذين وصلوا الإسكندرية أخيرًا — إلى القاهرة عن طريق كفر الدوار. وفي طريق العودة أطلعوا ناظر الجهادية على فحوى تقريرهم الذي تضمَّن أكذوبة صلاحيات النظار، فلم يُبدِ عرابي أي تعليق عليه، وذكر أن المسألة تدخل في اختصاص «المجلس العرفي» الذي تمَّ تشكيله بالقاهرة كحكومة مؤقتة، وأن عليهم عرض التقرير عليه. ولم يكن عرابي بحاجة إلى الاستياء مما توصَّل إليه الوفد؛ لأن المسألة لم تعد ذات أهمية بالنسبة له، وكان ذلك ما سمعه أعضاء الوفد عندما عرضوا تقريرهم على «المجلس العرفي» في ٢ أغسطس، وبعد ستة عشر يومًا تولَّى المجلس مهامه دون أن يتذكَّر أحد أن ثمة وفدًا أُرسل إلى الإسكندرية.

بعدما علم الخديو بما دار في اجتماع القاهرة في ١٧ يوليو، تشاور مع مجلس النظار وأصدر قرارًا في ٢٠ يوليو أعلن فيه عزل عرابي من منصبه كناظر للجهادية والبحرية، وبرَّر ذلك بإخلائه الإسكندرية وتقهقره إلى كفر الدوار دون أوامر من الخديو، وقطع الخط الحديدي والخدمات البريدية والتلغرافية وسد ترعة المحمودية، ومنعه للإسكندريِّين الذين رغبوا في العودة إلى المدينة، واستمراره في الاستعداد للحرب، وامتناعه عن الذهاب إلى رأس التين وكان عرابي قد تلقَّى نبأ إقصائه عن منصبه عندما وصله وفد القاهرة. ولكن إذا أخذنا في الاعتبار علاقات السلطة الحقيقية، فإن هذا الطرد من المنصب يفقد معناه.

وأصبح عرابي الآن يستخدم شعبيته للحصول على السلطة الجديدة، فأصدر بيانًا إلى الأمة المصرية، ومهما كان ما أُثير في هذا البيان فإن تأثيره على الناس كان بعيد المدى. ومرة أخرى اتَّهم عرابي الخديو بالتماس العون من الإنجليز، وبأنه يتحمَّل مسئولية وضع البلاد في حالة الحرب، وأن الانسحاب إلى كفر الدوار كانت تمليه الضرورة العسكرية. ومرة أخرى أدان عرابي خيانة الخديو، فقد سلَّم بلاده وشعبه بإرادته إلى الأعداء من ناحية، ومن ناحية أخرى كان توفيق ينطق بلسان الإنجليز الذين أرادوا بمساعدته أن يأخذوا مصر على غرة. وكان لهذين البيانَين أساس حقيقي؛ فقد كان بمثابة «عقد صفقة» حاول كل طرف فيه أن يستخدِم الآخرَ «كأداة».

وأضاف عرابي أن الشعب ليس مستعدًّا لتسليم البلاد للإنجليز دون قتال. فقد أخذوا مصيرهم وكرامتهم بأيديهم، وقرَّر الأعيان استمرار جهود الحرب؛ ومن ثَم فإن واجب الجيش المصري أن يُقاتل بضراوة دفاعًا عن الدين والعرض والوطن، ويجب على كل فرد أن يُؤيِّد ذلك بطاعة الأوامر العسكرية دون قيد أو شرط. وأشار عرابي إلى أن إدارة البلاد وحماية مصالح الأهالي قد أُنيطت بالمجلس العرفي. ويجب على كل مصري أن يكون حَذِرًا من الخونة، وأن يُرشد إليهم الجهات المسئولة لإلقاء القبض عليهم. ولا يجب طاعة الأوامر التي تصدر إلَّا من عرابي نفسه (ولن نلبث أن نرى أن هذا الادعاء لم يصمد طويلًا)، وقدَّم عرابي إلى السلطان تقريرًا عن الأوضاع في مصر.

وطلب عرابي أيضًا من وكيله أن يدعو ممثلي الشعب للاجتماع مرة أخرى للتوصُّل إلى قرار نهائي بشأن الخديو وشأنه؛ ولذلك وجَّه المجلس العرفي الدعوة إلى الأعيان من مختلف أنحاء البلاد ولم يقتصر على أعيان القاهرة — كما حدث من قبل — وفي ٢٤ يوليو أبرقت نظارة الجهادية إلى جميع مديرِي المديريات طالِبةً منهم الحضور إلى القاهرة، وبصحبة كل منهم أربعة من عُمَد الأقسام المختلفة يوم ١٢ رمضان (٢٨ يوليو) على أن يُعقد الاجتماع بنظارة الداخلية في ١٣ رمضان — ولم تُوضِّح البرقية سبب هذه الدعوة — ودُعِي أعيان القاهرة مرة أخرى للاجتماع بناظر الضبطية ووكيل الداخلية.

ولم يُفكِّر أحد في مجلس النواب، سواء في ذلك عرابي أو المجلس العرفي، وخلال الشهور الثلاثة الأولى من عام ١٨٨٢م كان الاحتفاء شديدًا بمجلس النواب باعتباره المُمثِّل الشرعي للشعب المصري ولمصالح المصريين، وخلال أزمة مايو عُلِّقت الآمال كلها عليه، وعندئذٍ تبخرت مواقفه الثورية، ولذلك يحتمل أن يكون مجلس النواب قد «نُسِي» عمدًا طالما كان رئيسه وبعض قادته موجودين بالإسكندرية إلى جانب الخديو.٣٤ وفي هذا الاجتماع الثاني للأعيان كان هناك ثمانية من أعضاء مجلس النواب، ولكنَّهم لم يحضروا الاجتماع بصفتهم نوابًا ولكن بصفتهم عُمدًا دعاهم مديرو مديرياتهم للحضور إلى القاهرة.٣٥
وعُقِدَ الاجتماع — في ٢٩ يوليو — بنظارة الداخلية، وتولَّى أمانة الجلسة الشيخ محمد عبده وتلميذه حسين صقر. وكان الاجتماع من أكبر الاجتماعات التي لم ترَ القاهرة نظيرًا لها بعد ذلك بوقت طويل. وضمَّ الاجتماع أكثر من ٢٥٠ من أعيان العاصمة وأحد عشر مديرية بالدلتا ومصر الوسطى (لم تُمثَّل بالاجتماع محافظات المدن الساحلية والقناة كالإسكندرية ورشيد ودمياط والعريش وبورسعيد والإسماعيلية والسويس، كما لم تُمثَّل مديريات الصعيد والسودان والبحر الأحمر). ولمَّا كان على الحاضرين أن يُوقِّعوا على مضبطة الاجتماع فإن من الممكن أن نُعطي وصفًا لإطار ذلك الاجتماع.٣٦

ووفقًا للتقارير المتاحة كان الانقسام يسود هذا الاجتماع أيضًا، فوقف أتباع عرابي الذين اعتبروا أنفسهم «حزب الله» في جانب، بينما وقف في الجانب الآخر المترددون والمخلصون للخديو. ولكن الفريق الثاني لم ينجح في تعويق الاختيار بين عرابي وتوفيق وتحويل الاتجاه عن «حزب الله».

ومرة أخرى أخذ محمد عبده، على عاتقه مهمة إبلاغ الحاضرين بالغرض من الاجتماع، فقرأ عليهم قرار توفيق بعزل ناظر الجهادية، وبرقية عرابي التي طلب فيها عقد هذا الاجتماع. وعندما فرغ من قراءة الوثيقتين وقف علي الروبي وألقى خطبة عصماء ضد أعداء البلاد؛ الخديو والإنجليز معًا، أثار فيها المشاعر الدينية بقدر كبير من النجاح، فذكر أنهم يعتبرون عرابي أصلح ناظر للجهادية، وأنهم يحسون تحت قيادته بالقوة والقدرة على الدفاع عن الدين والوطن، فلا يستطيع أي شعب متحضر أن يستسلم ببساطة للمعتدين. ولقي حديثه قبولًا عند الحاضرين. وطلب إلى الحاضرين أن يرفع من يؤيد منهم عرابي — ومن ثَم يؤيد الله — يدَه، وتساءل عمَّن يقفون ضد الله؟

وأراد يعقوب سامي أن يحصل من الحاضرين على قرار حول الأوامر التي يجب أن تُطاع؛ أهي تلك التي يُصدرها الخديو ونظاره، أم تلك التي يُصدرها عرابي؟ وقرَّرت الجمعية اعتبار الأوامر الأولى باطلة. كان التيار عارمًا، وفضَّل مؤيدو الخديو أن يلوذوا بالصمت. وقيل إن الجنود كانوا يقفون على أبواب النظارة بقيادة محمد عبيد حتى لا يُغادر الحاضرون الاجتماع دون أن يُوقِّعوا على المضبطة التي أعدَّها محمد عبده وعلي الروبي. ولذلك وقَّع الجميع على الوثيقة بأختامهم على عكس ما حدث في الاجتماع الأول. وأُرسلت على الفور برقية إلى الآستانة تحمل قرار «الشعب المصري».

ولكن وكيل الجهادية وزملاءه لم يَقنعوا بتلك التوقيعات، فاستدعوا قضاة، ومفتي المديريات ودمياط ورشيد وممثلين لتجار هاتين المدينتَين برقيًّا للحضور إلى القاهرة. وفي نظارة الجهادية وضع هؤلاء أختامهم على الوثيقة، وإن كانت أسماؤهم لم تظهر بين من حضروا الاجتماع الذي نُشر تقرير عنه في الوقائع المصرية في ٣١ يوليو. ولذلك لا نعرف عدد الحاضرين عندما اتُّخِذ القرار قبل توقيع الوثيقة.

وتضمَّن التقرير الذي نُشر في الوقائع المصرية عرْضًا للأحداث منذ قصف تحصينات الإسكندرية، وملخصًا للصراع بين توفيق وعرابي منذ بداية الحرب دون تحديد قرار بشأن سلوك الخديو. وأُشير — من ناحية — إلى أن الخديو لم يعد حرًّا ولكنَّه أصبح أداةً في يد الأعداء وأن القرارات التي يُصدرها ليست صادرة عنه؛ فالأوامر التي يُصدرها هي أوامر الإنجليز؛ ومن ثَم لا يجب طاعتها، ومن ناحية أخرى ورد في الملاحظات الختامية ما يُشير إلى أن أوامر الخديو يجب تجاهلها؛ لأن توفيقًا خرج على مبادئ الشرع والقانون، واتسمت الجملة الأخيرة بالاعتدال، وقيل إن محمد عبده أضافها إلى قرار الجمعية. وعلى أيَّة حال، لم تتحقَّق مطالب الضباط والعلماء بإعلان عزل الخديو، فكل ما حدث من الناحية العملية هو إعطاء الأصوات لصالح عرابي وضد توفيق ولكن دون أن تقع الثورة. وبدلًا من ذلك رفع أمر الخديو إلى الباب العالي حيث كان مُتوقَّعًا أن يتخذ الباب العالي قرارًا بشأنه، فكان هناك قرار بلا قرار! وأغلق طريق العصيان، ولكن لم يستطع العرابيون أن يأخذوا على عاتقهم القيام بعمل ثوري مستقل، فقد نفروا من الشرعية الثورية من منطلق إسلامي؛ لأن أمير المؤمنين وحده صاحب القرار، فلم يُعلن تنصيب حاكم جديد أو وصي أو دكتاتور، كما لم تُعلَن الجمهورية، ولم تُنصَّب حكومة جديدة أو رئيس جديد لمجلس النظار، لقد قنعوا بالحل المؤقت. ورغم بقاء توفيق كخديو، أُسنِدَت إلى عرابي مهمة قيادة الجيش المصري دون النظر إلى قرارات الخديو. وكانت قيادته قاصرة على المسائل العسكرية، أما بقية أعمال الحكومة فقد أُنيطت بالمجلس العرفي. وهذا التوزيع للاختصاصات كان ملحوظًا، مما يعني أن عرابي لم يكن دكتاتورًا على نحو ما ذكرت المصادر الأوروبية، وحتى في المجال العسكري، لم يتخذ قرارًا وحده، بل أن بعض أوامره ومطالبه تعرَّضت للرفض من المجلس العرفي.

المجلس العرفي

أضْفَت قرارات الاجتماع الثاني للأعيان الشرعية على سياسة المجلس العرفي الذي كان يضم مجموعة من الخبراء الإداريين والعسكريين، تكوَّن بصفة غير رسمية بدافع الحاجة. وكان يعقوب سامي — في بداية الأمر — يتخذ الإجراءات الضرورية بمعاونة بعض الضباط في ضوء ما تفرضه الأحكام العرفية، وتولَّت نظارة الجهادية — على الفور — الإشراف على الصحافة. وأعلن يعقوب سامي في ١٤ يوليو — بالتعاون مع ثلاثة لواءات وخمسة أميرالايات — أن مَن يقوم بعملٍ من شأنه إثارة الاضطرابات أو القلاقل يُعاقَب بالإعدام، وتعهَّد بحماية أرواح وممتلكات جميع سكان مصر بِغَضِّ النظر عن جنسياتهم أو معتقداتهم الدينية بما في ذلك الإنجليز المقيمين بمصر.

وعندما أيقن ضباط نظارة الجهادية أنهم لن يستطيعوا الاعتماد على النظار الذين قبعوا بالإسكندرية، حاولوا تحقيق استمرار الإدارة المدنية، فكوَّنوا من الأربعة عشر موظفًا وضابطًا الذين دعوا إلى عقد اجتماع الأعيان الأول مجلسًا عرفيًّا شكَّله يعقوب سامي ليُصبح بمثابة حكومة طوارئ مؤقتة، فوجَّه الدعوة إلى وكلاء نظارات الداخلية والحقانية والمعارف والأوقاف وشئون السودان وسكرتيرَي نظارتَي المالية والأشغال العمومية وناظر ووكيل وباشكاتب الدائرة السنية، ومدير إدارة المطبوعات، وناظر ضبطية مصر — وهم جميعًا ١٢ فردًا — للاجتماع مساء كل يوم (وكان ذلك في رمضان) بنظارة الجهادية. وضمَّت هذه المجموعة بعض الموظفين المدنيين وأحد عشر لواءً وأميرالايًا. وفي ٣ أغسطس، أُعلن تشكيل المجلس العرفي من ٢٩ عضوًا هم:

يعقوب سامي وكيل الجهادية، وحسين الدرملِّي وكيل الداخلية، وبطرس غالي وكيل الحقانية، وعلي الروبي وكيل نظارة شئون السودان، وعلي فهمي رفاعة وكيل المعارف، وحسين فهمي وكيل الأوقاف، وعريان تادرس سكرتير عام المالية، وإسماعيل محمد مفتش عام (ثم وكيل) الأشغال العمومية، وإبراهيم فوزي ناظر ضبطية مصر، وأحمد رفعت مدير المطبوعات، وأحمد نشأت ناظر الدائرة السنية، وأحمد شكري وكيل الدائرة السنية،٣٧ وحافظ رمضان باشكاتب الدائرة السنية، وإبراهيم سامي ناظر مصلحة تحرير الرقيق، وجعفر صادق رئيس المحكمة العليا، وإسماعيل حقي أبو جبل رئيس المحكمة العليا سابقًا،٣٨ وأحمد حسنين قائد أسطول النيل،٣٩ ومحمد رءوف حكمدار السودان السابق، وراشد حسني الفريق، والأميرالاي علي فهمي، والأميرالاي محمد رضا، والأميرالاي خليل الجركسي، والأميرالاي حسن مظهر، والقائم مقام أحمد فرج، والقائم مقام علي يوسف، والقائم مقام أحمد نور، والقائم مقام عبد الرحمن حسن، والقائم مقام حسن رفعت، والقائم مقام محمد بهجت.

وكان القائم مقام محمد عبيد، وحسن جاد، وعبد القادر عبد الصمد، وأحمد عبد الغفار، وبدوي منسي يحضرون اجتماعات المجلس من حين لآخر.

وكانت قرارات المجلس العرفي تُمهر بأختام ما يتراوح بين١٢–٢٥ من أعضائه، ولكن قلة عدد الأختام لا تعني أن ثمة معارضة قوية لتلك القرارات، أو حتى وجود معارضة ما لرئاسة المجلس؛ فقد كانت القرارات تُتَّخذ بالإجماع، على نحو ما كانوا يؤكِّدون دائمًا، ولم يؤخذ بنظام اتخاذ القرارات بأغلبية الأصوات، فإذا توافرت أغلبية كافية وافق الجميع على القرار. ومن الواضح أن جميع الأعضاء قد شاركوا في صنع القرارات؛ لأن مجموعة الضباط من أعضاء المجلس كانت عرضة للنقص (بسبب ظروف الحرب).

ويبدو أن المجلس العرفي كان يُدار إدارة جماعية على يد «مجلس داخلي» يتكوَّن من يعقوب سامي، وحسين الدرملِّي، وإبراهيم فوزي، وأحمد رفعت، ثم انتُخِب محمود سامي — في ٢٤ يوليو — رئيسًا للمجلس. وكانت المجموعة سالفة الذكر تُحدِّد «محددات السياسة»، وقيل إنَّهم كانوا يجتمعون خارج جلسات المجلس، وكانوا يتخذون القرارات مُقدَّمًا، ويتشاورون من حين لآخر مع بعض الضباط، ومحمد عبده، وحسين صقر، ومحمود سامي. وبعد الاحتلال اعتبر بعض أعضاء المجلس مثل: رءوف باشا، وبطرس غالي، وعلي فهمي رفاعة، من المعتدلين، وأُخِذ سلوكهم ككل موضع الاعتبار. ولكن المجلس كان على أيَّة حال مؤسسة «معتدلة»، وكانت هذه الحكومة الطارئة بمثابة لجنة منبثقة عن جمعية الأعيان، ولكنَّها لم تكن من صنع الأعيان، بل كانت تتولَّى دعوتهم للاجتماع. وأراد الأعضاء — الذين كان يقع على عاتقهم مهمة إدارة أمور مصر — أن يقوموا بالمهام الموكلة إليهم بصورة طبيعية رغم الظروف الصعبة التي أحاطت بهم، فيقوم المجلس بالتعبئة العسكرية وحماية البلاد؛ لأن الوزارة الرسمية لم تعد تمارس سلطاتها. وكان أعضاء المجلس من البيروقراطية وليسوا من الأعيان، فلم يضم المجلس أعضاء من العلماء أو التجار أو رؤساء العائلات الكبيرة باستثناء أولئك الذين كانوا من بين كبار الموظفين. ومن الواضح أنه كانت هناك محاولة لتحديد ما يمكن تقريره على مستوى المسئولية الفردية، وما يجب عرضه على المجلس للتوصل إلى قرار بشأنه. وجدير بالملاحظة أن الأتراك-الجراكسة، والمسلمين، والأقباط من المصريين قد عملوا داخل المجلس بانسجام تام.

وبرزت أهمية المجلس العرفي بسرعة كبيرة سواء فيما يتعلَّق بصلاحياته أو في نظر أعضائه؛ ففي ٢ أغسطس، صدر أمر إلى وكيل السويس للاحتجاج لدى القائد البريطاني باسم «الحكومة المصرية» على احتلال المدينة بواسطة القوات البريطانية. وفي مقال حول خيانة سلطان باشا، كتب محمد عبده أن «الحكومة» قد ضبطت بعض خطاباته. وفي بيان صادر في ٣ أغسطس لم يكتفِ المجلس العرفي بالقول باختصاصه في نظر الأمور المدنية فحسب، بل ادعى مسئوليته عن القيادة العسكرية العليا رغم بقاء عرابي قائدًا للجيش. ومثَّل يعقوب سامي الحكومة في احتفالات وفاء النيل — يوم ٢٤ أغسطس — التي حضرها جمع غفير من الناس. وتفقَّد محمود سامي وبطانته مراكز تدريب المجندين واستعراضهم بميدان عابدين على إيقاع الموسيقى العسكرية التي جذبت انتباه الحاضرين. وأصبح يعقوب سامي «رأس الحكومة» ولكن «أسلوب الحكم» ظلَّ جماعيًّا، وكان المجلس العرفي يجتمع يوميًّا منذ ١٩ يوليو حتى سقوط القاهرة.

وحتى يضمن المجلس نجاح عملية التعبئة وضع إدارة المديريات التي قد تُتَّخذ فيها إجراءات مضادة لسياسة العرابيين تحت إشرافه المباشر. وكانت الجماعة التي دعت إلى عقد أول جمعية للأعيان قد قرَّرت — في ١٧ يوليو — فصل مدير الغربية والمنوفية إبراهيم آدم، وحسن فهمي تطبيقًا للأحكام العرفية التي استمد منها يعقوب سامي سلطته. فاتُّهم المُديران بإهمال واجباتهما وتقاعسهما عن تنفيذ الأوامر الصادرة إليهما بالمحافظة على النظام في مديريتيهما، وأُلقي القبض عليهما وسُجنا بالقاهرة، ثم أُطْلِق سراحهما في ٢٠ يوليو بواسطة أحد الضباط برتبة الفريق ولكنَّهما وُضعا قيد الإقامة الجبرية بمنزليها. وعُيِّن اثنان آخران بدلًا منهما هما إسماعيل دانش (للغربية) وخليل عفت (للمنوفية).

واستمرت حركة التنقلات في الوظائف بالمديريات والإدارة المركزية نتيجة الفصل أو النقل أو شغل الوظائف الشاغرة بسبب انضمام أصحابها إلى الخديو بالإسكندرية طوال شهرَي يوليو وأغسطس. والأمثلة التي ذُكرت آنفًا لا تعطي — بالتأكيد — صورة كاملة للموقف؛ فلا تتضمَّن حالات فصل أو هرب الأوروبيين الملتحقين بخدمة الحكومة المصرية؛ لأنها ليست ملفتة للنظر طالما أنهم عملوا ضد مصلحة مصر، فقد كان همهم الأكبر خدمة مصالح الدائنين ومصالح الدول الأوروبية. وكان الكثيرون منهم يعتبرون عرابي «عطيل الصغير» على حد قول الفارد ألكسندري في أول أغسطس التي حثت الإنجليز المترددين على «قطع رأسه».

وجاء فصل موظفي المديريات المتقاعسين غير المتعاونين نتيجة ما جاء بتقارير زملائهم عن لجوئهم إلى العدو (الذي دخل بعضهم في حمايته خوفًا من العزل أو السجن)، وكان هؤلاء من موظفي المناطق القريبة من الأسطول البريطاني مثل محافظ ووكيل محافظة بورسعيد (إسماعيل حمدي، وعلي ثابت) ومحافظ الإسماعيلية ووكيله (علي ياور)، ومدير البحيرة (إبراهيم توفيق)٤٠ الذي قُبِض عليه بالمنصورة فيما بعد وأُودِع السجن بالقاهرة بتهمة العمالة للخديو، وعُيِّن محمد الصيرفي بدلًا منه، ورؤساء أقلام المالية بالدقهلية والقليوبية والفيوم، كما ترك محافظ السويس منصبه، وظلَّ محافظ رشيد (حسين فهمي) مواليًا للخديو، ولكنَّه لم يهرب إلى الإسكندرية، وثبت في منصبه بعد الاحتلال.

وخُلِعَ مدير المنيا (محمد شاكر) من منصبه وأُلقي القبض عليه، عندما أبلغ أحد الضباط عن إثارته العقبات في طريق الإجراءات العسكرية التي دعت الضرورة إليها، وتحريضه العُمَد والمشايخ ضد العسكريين، وعُيِّن إسماعيل رفعت مديرًا للمنيا. وطرد رئيس قلم المالية بالبحيرة من منصبه لأنه لم ينزل على «إرادة الأمة». وعندما أبلغ عبد العال حلمي المجلس العرفي أن محافظ دمياط ووكيله يُعارضان الجيش ويُثيران البلبلة بين الناس، خُلِعَا من منصبيهما وعَيَّن عبد العال أحد ضباطه مكانهما. وكان مدير القليوبية (كمال بك) هو أقدر المديرين على مجاراة الوضع الجديد، فلم يهرب وترك لوكيله إدارة أمور المديرية وانسحب إلى منزله، وعندما عُيِّن آخر بدلًا منه قدَّم شهادة طبية تثبت حاجته إلى الراحة، فمُنِحَ إجازة حتى يتم شفاؤه، وأصبح باستطاعته — بالتالي — أن يُثبت أنه كان مواليًا للخديو دون حاجة إلى الهرب إلى الإسكندرية أو دخول سجن القلعة بالقاهرة أو التعرض للإقامة الجبرية بمنزله.

وجدير بالذكر أن فرصه استبدال أولئك الموظفين بغيرهم لم تُستَغل لتعيين ضباط عرابي في الأماكن الشاغرة فيما عدا حالة دمياط والدقهلية، وإن كان عبد العال حلمي قد تولى إدارتها منذ أكتوبر ١٨٨١م؛ فقد فَقَدَ محافظ دمياط سلطته الفعلية لصالح آلاي السودانيين.

وفي الحالات الأخرى، رُقِّي شاغلو الوظائف الأقل مرتبة لشغل الأماكن الشاغرة، كما أُسندت بعض هذه الوظائف إلى الموظفين المتقاعدين واللاجئين من الإسكندرية وبعض المتصلين بالمجلس العرفي. وتُعد حالة بورسعيد أدق تصوير لهذه السياسة، فقد أُسند منصب وكيل المحافظة إلى مأمور المستحفظين محمد أبو العطا وتولَّى منصب المحافظ إبراهيم رشدي رئيس المحكمة المختلطة بالقاهرة — قريب ناظر المالية عبد الرحمن رشدي — وكان معروفًا بصداقته للأجانب.

وأخيرًا، يجب أن نُشير إلى أن مراد السعودي عضو مجلس النواب عن الجيزة عُيِّن مديرًا لبني سويف بدلًا من أحمد ناشد الذي حلَّ محل إبراهيم زكي مدير الشرقية الذي نُقِل إلى القاهرة ليُصبح رئيسًا لدائرة البلدية.

ولم يتأثَّر الصعيد والبحر الأحمر بتلك التغييرات في الموظفين، فلم يشغل من مناصب الإدارة هناك سوى منصب وكيل جرجا، وقيل إن عثمان غالب مدير أسيوط لعب دور الحاجز الذي منع وصول «الثورة» إلى الصعيد، وكوفئ على موقفه بعد الاحتلال بتعيينه ناظرًا لضبطية القاهرة، وكان قد أقنع تسعة من عُمَد المديرية بإرسال برقية إلى عرابي — في ٩ سبتمبر — أعلنوا فيها ولاءهم للعرابيين، ولكن عرابي ظلَّ يتشكَّك في هذا الولاء، واعتبر عثمان غالب حصانًا جامحًا، وطالب بعزله، ولكن المجلس العرفي لم يستجب لطلبه. وبعد الاحتلال، أنعم الخديو على مدير جرجا التركي علي رضا الطوبجي بوسامٍ جزاءَ ولائه له، على حين كان مديرَا قنا وإسنا من الموالين للعرابيين.

ولا تُعد أمثلة مديرَي أسيوط وجرجا ومحافظ رشيد الدليل الوحيد على أن العرابيين أو المجلس العرفي لم ينجحوا في فرض سيطرتهم على البلاد كلها؛ ففي ١٢ سبتمبر شكا أعيان منوف إلى المدير وعرابي من أن مأمور المدينة الجركسي قبض على أحد الجنود الذي اندفع في طرقات المدينة معلنًا انتصار الجيش المصري على الكفار داعيًا الله أن ينصر «رئيس الجيش»، وأوسعه ضربًا وألقى به في السجن، وأن الأهالي أصبحوا لا يُبدون آراءهم في الأوضاع الراهنة جهرًا.

ولم تكن هناك سوى أقلية ضئيلة من الطبقة الحاكمة السابقة التركية الجركسية تتمثَّل في بعض الموظفين والضباط الذين تعاونوا بإخلاص مع العرابيين منذ ربيع ١٨٨٢م، وكانوا من بين أعضاء المجلس العرفي أو من كبار القادة بالجيش، أبدوا استعدادهم للدفاع عن مصر ضد الغزاة. وكانت المصالح الشخصية تأتي في المرتبة الأولى عند غالبية أفراد هذه الطبقة، فاجتمعوا وبعض الأعيان البارزين حول الخديو وتحت جناح الإنجليز ضد مصلحة وطنهم. وانتظر بعضهم يوم العودة إلى سابق عهدهم فوق متن السفن الحربية البريطانية (أمام شواطئ السويس وبورسعيد). وذهب بعضهم — مثل عمر لطفي وشريف باشا وإبراهيم توفيق — إلى الإسكندرية مباشرة عن طريق قناة السويس ليكونوا إلى جانب الإنجليز لاستعادة البلاد التي تسرَّبت من بين أصابعهم. وأصبحت العناصر القيادية في «الحزب الوطني» (جماعة حلوان) ومجلس النواب تجمعها مصالح مشتركة مع العدو الذي يتدخَّل في شئون بلادهم الداخلية والذي طالما تعرَّض من قبل لانتقاداتهم وهجومهم، كما تحالفوا مع السياسيين الذين وصفوهم يومًا ما بالاستبداد والتعاون مع الأجانب (واستُدعِي رياض باشا عندئذٍ من أوروبا).

وأخذ توفيق يُزوِّد نفسه بأسباب القوة ويُشكِّل جيشًا خاصًّا، فكلَّف عمر لطفي ناظر الحربية الجديد باستدعاء الضباط الأتراك الجراكسة المنفيِّين، وعلى رأسهم عثمان رفقي الذي كان يُقيم بالآستانة. فلبَّوا الدعوة جميعًا، وجاء معهم ثلاثون مرتزقًا تركيًّا، وكان الهدف من ذلك أن يُصبحوا العمود الفقري لجيش جديد موالٍ للخديو. ولم يكن الخديو مُصمِّمًا على عدم تكرار تجربة «تمصير» هيئة الضباط فحسب، بل كان يعتزم العدول عن سياسة محمد علي والكف عن تجنيد المصريين وتعيين صغار الموظفين من المصريين، فيما عدا المصريين الذين يشغلون مناصب رئيسية، استجابة لنصيحة ثابت باشا ممثله بالآستانة في ٢٣ مايو نزولًا على إرادة الجراكسة. ودفعته روحه المتعطشة للانتقام إلى تفضيل فكرة تشكيل جيش من المرتزقة يتولَّى حراسته ويُخلص الولاء له. ولتحقيق هذه الغاية أراد تجنيد أكبر عدد ممكن من الأتراك والألبان، ولكن عندما احتج الباب العالي على ذلك اتجه توفيق إلى إمبراطورية النمسا طالبًا السماح له بتجنيد المرتزقة من البوسنة والهرسك. وفي منتصف سبتمبر أبحرت أول مجموعة من رجال «الشرطة» من ميناء تريستا على متن باخرتَين.

وعلى كلٍّ، كان على الخديو أن يتحفَّظ في حماسه عندئذٍ؛ فنفوذه لم يكن يتعدَّى أسوار قصره، ونفوذ الإنجليز لم يكن يتعدَّى أسوار الإسكندرية، وكانت الوزارة الجديدة٤١ التي شكَّلها الخديو في ٢٨ أغسطس وزارة ترقب.

وفي نفس الوقت، كان المجلس العرفي يحكم البلاد، فمن ناحية بُذلت جهود كبيرة لتعبئة الموارد البشرية والمادية لمصر، ومن ناحية أخرى اهتم المجلس بالمحافظة على النظام وحماية أرواح وممتلكات الأجانب. ولم تستخدم الرقابة على البريد والبرق والصحافة لمواجهة «دعاية العدو» فحسب، بل استُخدمت ضد «المتعصبين» من الوطنيين أنفسهم. فتمَّت مصادرة «الوقائع المصرية» التي وصلت من الإسكندرية، وكذلك «الفسطاط» التي بدأت بالصدور في ٢٠ أبريل أُوقفت لمدة ثلاثة شهور بسبب مقالاتها التحريضية. واستقال حسن الشمسي — الموظف بالمعارف — من رئاسة تحرير «المفيد» عندما حذَّره مدير المطبوعات من كتابة المقالات «التعصبية»، ولكنَّه حصل في ٨ أغسطس على ترخيص بإصدار جريدة «السفير».

ولكنَّ تهديدًا خطيرًا للأمن العام وقع بطنطا على يد اللاجئين السكندريين الذين غادروا الثغر بعد القصف في طريقهم إلى القاهرة، وانضم إليهم — فيما بعد — اللاجئون من مدن القناة. وبذل إبراهيم فوزي ناظر ضبطية مصر جهودًا كبيرة ليمنع تكرار ما حدث بالإسكندرية والدلتا في العاصمة، وكان يجب توفير المواد الغذائية والمأوى والرعاية الطبية لنحو ٦٠ ألفًا من المهاجرين؛ فشُكِّلت لجنة لهذا الغرض، ونُقِل بعض الوافدين الجدد إلى مدن أخرى حيث بذلت السلطات جهدًا كبيرًا لرعايتهم والمحافظة على الأمن. وقرَّر المجلس العرفي خصم ٥٪ من رواتب الموظفين والمعاشات — اعتبارًا من أول سبتمبر وحتى نهاية الحرب — على أن تُخصَّص لرعاية اللاجئين. واستطاع إبراهيم فوزي أن يُحقِّق الحماية لأرواح وممتلكات الأجانب بالقاهرة، فسمح لعائلة الجنرال ستون بالانتقال إلى الإسكندرية في أغسطس، بل وأقام الضباط لزوجته حفل وداع بالقاهرة! وعومل البحار الإنجليزي الشهير الذي وقع في أيدي المصريين عند كفر الدوار معاملة كريمة.

وإلى جانب قادة مصر السياسيين والعسكريين الذين خلقتهم الحوادث، احتلَّ عرابي — ممثل سلطة الدولة — مكانًا ثانويًّا، وتحمَّل المجلس العرفي مسئولية المحافظة على البلاد كأمر واقع، واتخذت الترتيبات حتى لا تُؤثِّر الحرب على إيقاع الحياة المدنية اليومية. وتقرَّر تأجيل الاحتفال بمولد اثنين من الأولياء بالقاهرة بسبب ازدحام المدينة باللاجئين، وصدرت قرارات بتحديد أسعار المواد الغذائية، وإصلاح الشئون، وتقوية الجسور، وصيانة الترع، وزيادة الرواتب ومساعدة الموظفين من بين اللاجئين. واهتم المجلس العرفي بصرف رواتب الموظفين قبل عيد الفطر، وإعداد الكسوة الشريفة — التي كانت تُصنع كل عام في مصر وتُرسل إلى مكة مع قافلة الحج — دون أن يتأثَّر إعدادها بظروف الحرب.

المصريون في الحرب

قال أحمد فتحي رمضان: «درجت الكتب والكُتَّاب عند تناولها لمختلف مظاهر ثورة عرابي على إغفال قضية السلطة والدور الذي يلعبه المصريون فيها. فإذا بحثنا عن الشعب وما يفعله وحجم مساهمته في السلطة، وهل كان مجرد مراقب لها وليس مشاركًا فيها، نستطيع القول إن الثورة ساعدت الشعب على الدخول في دائرة السلطة، ورفعته من القاع (إلى القمة).٤٢ وعندما نتناول هذه القضية نتساءل: ما مدى حجم التأييد الذي نالته قيادة الجيش والمجلس العرفي من الشعب؟ وهل اندفع الرجال مُتحمِّسين لحمل السلاح، وهل ساهم الأغنياء والفقراء بسخاء لسد الحاجات المادية للجيش كما ذكر العرابيون والأوروبيون المتحمسون لهم؟»

لا ريب أن الشعب المصري — بما في ذلك قسم كبير من الأعيان (القضاة والمفتون – موظفو المديريات – والعمد خاصة) — وقفوا إلى جانب عرابي وليس إلى جانب «الترك» الذين يُحركهم الخديو والإنجليز. والاهتمام الرئيسي هنا ينصبُّ في قالب أيديولوجي يقوم على إرادة المقاومة ودرجة الاستعداد للعمل، واستطاع الضمير الثوري للشعب — الناتج عن التعبئة السياسية التي استغرقت شهرين — أن يبرز في يوم أو يومين، وربما كان من الممكن الاستفادة بتيار المهدية لتوجيه التعبئة السياسية صوب الثورة الاجتماعية، وكان من الضروري الإشارة إلى أن ممثلي النظام القائم على الامتيازات والاستغلال والقمع ربطوا قضيتهم بقضية العدو وكان من الممكن إعلان قيام دولة مستقلة وثورة قومية ضد وصاية غير المصريين على البلاد. ولكن تلك الإمكانات كانت غريبة على فكر العرابيين.

فقد وقع عبء التعبئة الروحية للمعركة ضد العدو على عاتق العلماء الذين أدوا مهمتهم بطريقة تقليدية بإعلان الجهاد ضد الغزاة الكفار. أضِف إلى ذلك أن رُسل عرابي جابوا البلاد من أدناها إلى أقصاها يعدُون الفلاحون بتخليصهم من الديون التي أثقل بها المرابون والمحاكم المختلطة كواهلهم. وإلى جانب الدعوة إلى الجهاد، لعبت تلك الوعود دورًا هامًّا في كسب تأييد أهالي الريف للعرابيين. ولكن لم تكن هناك أي دعاية حول إعادة توزيع الملكية أو إذابة الفوارق الطبقية.

ولذلك لم تكن الأمثلةُ المعروفة للنشاط ذي الطابع الاجتماعي الذي اتخذ طابع الانتفاضات العنيفة؛ موجهةً ضد الأتراك الجراكسة، أو كبار المُلَّاك الوطنيين، ولكنَّها كانت موجهة ضد من اعتبروا مسئولين مسئولية مباشرة عن بؤس الفلاحين، ونعني بهم «المرابين». ولم تكن تلك الانتفاضات مرتبطة بتمزيق صكوك الدين الذي أنكره كرومر. وفيما يتعلَّق «بمذبحة الدلتا» كان ضحاياها الرئيسيون من اليهود والمسيحيين الشوام إلى جانب بعض الأقباط والأوروبيين، واتُّهم مهاجرو الإسكندرية بتدبيرها لأول وهلة ولكن أهالي المنطقة شاركوا فيها. وقد وقعت تلك الحوادث العنيفة في طنطا وكفر الزيات ودمنهور والمحلة الكبرى وبنها ومحلة أبو علي. وكثيرًا ما حال تدخُّل أعيان تلك البلاد دون إراقة الدماء، على نحو ما فعل أحمد المنشاوي بطنطا، وما حدث بكفر الزيات، ومدينة الفيوم حيث لعب هذا الدور الشيخ سعداوي الجبالي شيخ قبيلة الخرابي. وقيل إنَّه عندما شاع انضمام سلطان باشا للعدو قام المهاجرون بمهاجمة بيته ونهبه وأُلقي القبض على وكيله. ووقع حادث «ثوري» آخر على يد جمهور القاهرة اتخذ طابع تحطيم التماثيل؛ ففي أوائل سبتمبر قاد الشيخ عليش جماعة من الأهالي قامت بإزالة تماثيل الأسود الأربعة من مداخل كوبري قصر النيل، وأنزلت تمثال إبراهيم باشا من فوق قاعدته بالأزبكية؛ إذ كان ذلك الشيخ المتزمت يكره الصور وخاصة تمثال جد توفيق! ولكنَّه وجماعته كانوا يعملون بحذر شديد فلم يُحطِّموا تلك التماثيل وإنَّما أودعوها مخازن المتحف المصري ببولاق.

ومن الواضح أن التخلُّص من الديون كقضية اجتماعية قد استُخدِم لتقوية المعارضة بين سكان الريف. وكان عرابي ورفاقه قد وعدوا الفلاحين قبل ذلك بقدر كبير من العدالة الاجتماعية وتحسين أحوالهم المادية، ولكن لم تكن هناك أي دعوة للثورة الاجتماعية؛ فليس ثمة إشارة إلى الرغبة في تغيير النظام الاقتصادي تغييرًا جذريًّا أو إعادة توزيع الملكية الزراعية. تُرى، مَن الذي كان باستطاعته أن يُحدث مثل هذا التغيير؟ أهو المجلس العرفي؟ أم أعيان الريف؟ أم عرابي الذي حصل من الدولة على ٨١٠ فدادين؟ إنَّنا نشك في أن هيكل الملكية الزراعية قد يتعرَّض لتنظيم ثوري في حالة انتصار المقاومة الشعبية على الإنجليز وحلفائهم (من الأتراك الجراكسة وكبار المُلَّاك الوطنيين)؛ ففي تلك الحالة، كان العمد و«أبناؤهم وإخوتهم» (الضباط) سيلعبون — أكثر من ذي قبل — الدور السياسي والاجتماعي والاقتصادي لمُمثلي النظام القديم، بعدما يفقد كبار المُلَّاك المتحالفين مع الخديو مراكزهم.

لم تتحقق الثورة السياسية بإلغاء الخديوية أو حتى خلع الخديو، بينما لم تكن الثورة الاجتماعية واردة، وكانت تعبئة الجماهير سياسيًّا تتم — بالدرجة الأولى — من خلال القيم التقليدية. فكان الاعتماد على القوة السحرية للجهاد الذي أعلنته «الوقائع المصرية» في ١١ يوليو، فذكَّرت قراءها بالثواب الذي ينتظر مَن يجاهدون ضد أعداء الله، وبأن من يتبعون تعاليم الدين ويجاهدون بدمائهم يدخلون في زمرة الشهداء، وأن النبي وعد المؤمنين الذين يذودون عن حِياض بلاد الإسلام بعونٍ من الله. وتردَّدت تلك العبارات في المساجد يوم الجمعة التالي لضرب الإسكندرية، وذكر نقيب الأشراف في خطاب ألقاه بأسيوط — وأوردته «الوقائع المصرية» الآية الكريمة: إنَّ اللهَ اشْتَرَى منَ الْمُؤْمنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأن لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حقًّا (سورة ٩: ١١١)، والآية الكريمة: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (سورة ٤٧: ٤، ٥، ٦) والآية الكريمة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ منْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ منْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا منَ الَّذِينَ كَفَرُوا (سورة ٨: ٦٥).

وفي وثائق هذين الشهرين التي يمكن أن نستشف منها الأساس الفكري للمقاومة، نجد الجهاد يُشكِّل الطابع المميز، وكذلك النضال في سبيل الله تحت رايات الإسلام لتدعيم أركان الإسلام ضد الكفار — على النحو الذي أشرنا إليه من قبل — ولحماية الحرمَين الشريفَين اللذين يتعرَّضان لتهديد الإنجليز. وحاول أحمد رفعت تبرير تلك الأفكار في خطاب بعث به إلى وكالة هافاس للأنباء، جاء فيه: «إن الطغيان الصليبي للإنجليز يُبرِّر استنفارنا لقوى الإسلام.»٤٣ وعلى كل حال، شملت الدعوة للجهاد من أجل الدين الدفاع عن العرض والوطن. ولم يكن استنفار الوطنية يرتكز — بالطبع — على أي أُسس نظرية أو أيديولوجية. ومن ثَم يمكننا أن نصف نضال المصريين بأنه كان نضالًا دينيًّا وطنيًّا، ولم يكن مفهوم الدولة القومية «العلمانية» واردًا، وكذلك كان الحال بالنسبة للفكرة الجمهورية أو الملكية المرتكزة على أساس قومي، ولا يُستثنَى من ذلك عبد الله النديم الذي كان يتولى تحرير «الطائف» ويُعد أداة الدعاية للجيش وسكرتيرًا مؤقَّتًا لعرابي، وكان مسئولًا عن إيفاد العلماء إلى الريف لحث الناس على تأييد عرابي رئيس حزب الله. ومارس النديم دعايته لعرابي بالمساجد والشوارع، وإن اختلفت لهجته عن أولئك الذين كانوا يستنفرون النوازع الدينية-الوطنية عند الناس الذين اتهموا الإنجليز بالسعي للاستيلاء على الكعبة في مكة المكرمة.

وكانت الوطنية التي عبَّرت عن نفسها في تلك الفترة «حب الوطن وأهله» لا تُمثِّل قومية مصرية ضيقة، بل كانت تتضمَّن شعورًا بالانتماء إلى الدولة الإسلامية العثمانية. ومَن يكون ضد الإنجليز يُصبح — آليًّا — مُدافعًا عن حقوق السلطان وحِياض الإسلام؛ فالصحف، والخطابات والرسل لم يبعثها العرابيون إلى البلاد العربية (دمشق، تونس، طرابلس، الحجاز) فحسب، بل بعثوا بها إلى الهند. واستُقْبِل هؤلاء بالحفاوة، لا في الولايات العربية فحسب، بل وفي الآستانة وولايات البلقان. ولتأكيد انتماء مصر إلى الدولة العثمانية وولاتها لأمير المؤمنين، أُطلق على جيشها وحكومتها وشعبها لقب الشاهاني أو الشاهانية. وحتى لحظة إعلان السلطان عصيان عرابي، كان الأمل قويًّا في سماع كلمة حاسمة من السلطان لنصرة قضية عرابي ورفاقه العادلة ضد توفيق ومن شايعوه.

وفي نفس الوقت، كان الخديو ينتظر بفارغ الصبر وصول الجيش التركي الذي يمحق عرابي ورفاقه، وكان مُستعدًّا — في المقابل — أن يبطش بالشعور الوطني في مصر الذي قد يؤدي إلى استقلال البلاد ومن ثَم يهدد الدولة العثمانية. ومرة أخرى طلب الخديو من ثابت باشا أن يُبلغ السلطان بضرورة تدخله في مصر حيث يتهدَّد الخديو خطر مُحقَّق، وتتعرَّض البلاد للاحتلال الأجنبي. وأيَّدت جريدة «الأهرام» تلك المطالب، فكتب بشارة تقلا في عدد ٢٤ أغسطس مناشدًا الباب العالي غير مرة بالتدخل لأن التدخل «السريع ضروري».٤٤ وأكَّد توفيق أنه يعتقد أن الإنجليز سوف ينسحبون بمجرد وصول الأتراك، وأن إخضاع عرابي يزداد صعوبة كلما مرت الأيام، ومن الواضح أن ثابت باشا لم يكن على درجة كافية من العلم بتدخل الدول، وبسياسة دافرين الملتوية بالآستانة، وبعدم إخلاص السلطان؛ لأنه استمر يُغذي آمال الخديو حتى اللحظة الأخيرة. ولذلك كاد توفيق يستسلم للفكرة القائلة بأن الجيش التركي سيُخلِّصه من عرابي والإنجليز معًا. وكان الثمن الذي عليه أن يدفعه إقامة روابط أقوى بالباب العالي، طالما أن هذه التضحية تضمن له استعادة السلطة والعظمة والاحترام، واستعادة الأمن والنظام في ربوع مصر، وكان مستعدًّا — إذا دعت الضرورة لذلك — أن يُعلِّق الأمل على الإنجليز إذا عجز الباب العالي عن حماية أرواح وممتلكات عائلته وأتباعه وعجز عن تصفية عرابي. وفي ضوء هذا الاعتبار طلب إلى الحكومة الإنجليزية في ١٩ يوليو «أن تتخذ إجراءات أبعد دون تأخير»٤٥ وكان شريف — الذي دُعِي لتشكيل وزارة جديدة — مستعدًّا للقيام بهذا العمل في حالة وجود قوات عسكرية كافية بغضِّ النظر عن موعد وصول تلك القوات.

وشرح عرابي موقفه — في ثلاث برقيات أرسلها إلى الباب العالي — في مواجهة العدوان البريطاني، وطلب مساعدة السلطان، وأصرَّ على أنه قد تقرَّر مقاومة الإنجليز بحضور درويش باشا؛ لأن مطالب الأميرال البريطاني كانت إهانة للدولة العثمانية. وأضاف أن الجيش المصري الشاهاني لم يكن — لسوء الحظ — مستعدًّا بما فيه الكفاية؛ لأن السلطان أصدر أوامره بإيقاف استعدادات الدفاع. وكرَّر عرابي اتهاماته للخديو الذي وقف بخيانته ضد جيش السلطان. فكان توفيق بهذا التصرف يُشبه باي تونس. وذكر عرابي أن درويش باشا أيَّد الخديو في موقفه بدلًا من أن يناشد ضميره، وبذلك خدع المبعوث العثماني الجيش العثماني المسلم (أي الجيش المصري) وانضم إلى العدو الكافر. وفي برقيته الثالثة (٢٤ يوليو) أشار عرابي إلى توفيق بكلمة «الباشا» بينما وصف أمير المؤمنين بالقائد والسيد، وذكر أن المصريين — على خلاف توفيق — ظلُّوا موالين للدولة الإسلامية، وأنهم يتولَّون الدفاع عن حقوق السلطان، وأنهم على ثقة من أنه سينقذ البلاد من المحنة التي جعلها توفيق تتردى فيها.

وشعر عرابي بخيبة أمل مُرة من الإجابة التي تلقاها من سعيد باشا الصدر الأعظم ووزير خارجية الباب العالي، الذي أبلغه — باسم السلطان — أن مسئولية الصعوبات التي تُعانيها مصر تقع — من وجهة نظر الآستانة — على عاتق عرابي نفسه، الذي يتصرَّف بدافع من مصلحته الشخصية، وأن تلك الصعوبات تضع كلًّا من الدول الأوروبية والباب العالي من مأزق وأن عزل الخديو لعرابي كان يجب أن يُنفَّذ، وأن سلوكه المتعنت مكروه عند الله ونبيه والخليفة.

وأصابت هذه البرقية عرابي بالارتباك والحيرة؛ فلا بد أن السلطان لم يُقدِم على ذلك بدافع منه، ولا بد أن يكون الإنجليز وراء هذا الموقف! فالباب العالي لم ينشر هذه البرقية لأنه يرى أن الوقت غير ملائم لكشف أوراقه. ولذلك لم يأخذ عرابي هذه البرقية مأخذ الجد رغم نصيحة عبد الله النديم الذي أراد نشرها في «الطائف» مُحدِّدًا مصدرها مُتَّخذًا موقفًا إزاءها. فقد اعتقد عرابي أن نشر البرقية يُفقده تأييد الناس والجيش، إذا تبينوا أن أمير المؤمنين قد انقلب عليه مهما كانت الظروف. ثم ماذا يكون الموقف من ادعائه الدفاع عن حقوق السلطان؟ وافتراض أن السلطان قد أُجبر على اتخاذ هذا الإجراء ربما كان مسئولًا عن رد عرابي السريع على الباب العالي مُعلنًا احتلال السويس وقناة السويس في ٢، ٢٠ أغسطس والاحتجاج على الإنجليز من أجل ذلك.

ومن الواضح أن أحدًا بالقاهرة لم يكن يعلم ببرقية سعيد باشا، ويبدو أن رفاق عرابي في كفر الدوار هم وحدهم الذين تحملوا عبء هذا السر المثير للإحباط. واستمر المجلس العرفي في إرسال تقاريره وشكاواه إلى السلطان على أمل أن يمد لهم يد العون. ورغم أن وكلاء النظارات الثمانية أبرقوا إلى الباب العالي بقرار جمعية الأعيان الثانية، إلَّا أنهم لم يتلقوا جوابًا على برقيتهم. وفي ٣ أغسطس، استطلع المجلس العرفي بصبر نافد ما إذا كانت التقارير الخاصة بالأوضاع الراهنة في مصر قد وصلت إلى الآستانة، وما إذا كانت قد قُدِّمت إلى السلطان. ولمَّا كانت التطورات قد دخلت مرحلة حرجة، فقد كان من الضروري أن يتعرَّف كلٌّ على موقعه؛ ومن ثَم كان أعضاء المجلس ينتظرون أمر سيدهم السلطان. وفي نفس اليوم، أبرق المجلس إلى الآستانة مُعلنًا سقوط السويس في أيدي قوات الأعداء، وأن العلم البريطاني يرفرف الآن على هذه البقعة من أرض الدولة العثمانية! وفي ٨، ١٠ أغسطس أبرق المجلس العرفي مرة أخرى بتقرير عن الحرب مُكرِّرًا اعترافه بالسلطان كسيد للبلاد.

وكانت الثقة بالسلطان عند قيادة القاهرة مجرد فكرة حتى اللحظة الأخيرة، عندما أُعلن قبيل نهاية الحرب عصيان عرابي ونُشِر ذلك الإعلان. وحتى في الأيام الأخيرة للحرب، عندما كانت الصلوات تُقام في المساجد من أجل النصر، وكانت الميادين تمتلئ بالأذكار، لم يكن أحدٌ من المصريين يعتقد أن البلاد فقدت تأييد أمير المؤمنين. وعلى كلٍّ، عندما حانت ساعة الحسم كان ذلك التأييد لا معنى له. فقد دُعِي الناس إلى الدفاع عن الإسلام فلبوا النداء، ويتساءل جاك بيرك: «أي إسلام هذا؟ أهو الإسلام الحديث أم الإسلام التقليدي؟ أهو الخليفة الذي يُحيط به الغموض، أم هي شعبيته التي ترجع إلى ألف عام؟ لقد كان ذلك جميعًا، وإنَّه الإسلام كحقيقة وكمعنًى مطلق إنَّه العودة به إلى سيرته الأولى.»٤٦ ولكن هل كان الناس مُستعدين لذلك، وهل دخلوا حربًا مقدسة باختيارهم وهم مستعدون لها؟ وهل قدَّموا تضحيات مادية كبرى؟ لا ريب أن الغالبية العظمى من المصريين قد أعطت عرابي تأييدها المعنوي وجمعت عواطفها تحت رايته. وكان عرابي خلال شهور الحرب خاصة يحظى بالولاء. وقد نشرت «الوقائع المصرية» — التي أصبحت لسان حال المجلس العرفي — بعض الأمثلة لذلك، منها برقية من مدير الغربية يُعلن فيها أن اجتماعًا لعُمَد وأعيان المديرية قد عُقِد، وأنهم أعلنوا فيه وقوفهم إلى جانب الجيش بلا قيد أو شرط. كما نُشرت مراسلات من المحلة الكبرى والمنصورة وأسيوط تُصوِّر الحماس الوطني للشعب وتصميمه على الدفاع عن الدين والوطن. وكانت الكثير من البرقيات تُرسل إلى «حامي الإسلام». ودعا محافظ القصير عرابي ألَّا يحمل همًّا؛ لأن الأعداء لن ينالوا منه؛ فالله ينصر من ينصره.

ولم يُصبح عرابي رمزًا للوطنية فحسب، بل أصبح مُحاطًا بهالة دينية، وكان قبوله للعزل أو النفي يُعد ردَّة. وعندما ذكر عرابي لعلي مبارك أنه لن يُخيِّب الآمال التي عقدها الناس عليه، وأنه سوف يؤدي رسالته، إنَّما كان يُعبِّر عن إيمان عميق، والزيارات التي كان يقوم بها الناس إلى مقر قيادته لم تكن زيارات لدكتاتور أو لقائد عسكري، ولكنَّها كانت زيارات لأبي الوطن وحامي الإسلام. واختلف العلماء إلى خيمته، وقصدته الوفود في عيد الفطر من القاهرة تحمل إليه تهاني وتمنيات المجلس العرفي، وكانت تضم بين أعضائها إسماعيل أيوب ورءوف باشا الذي أصبح — فيما بعد — رئيسًا للجنة التحقيق والمحكمة العسكرية.

ووُضعت المواد التموينية والأموال والخيول والبغال التي كان يتطلَّبها المجهود الحربي تحت تصرُّف عرابي، ونشرت «الوقائع المصرية» قوائم طويلة بأسماء المتبرعين ونصوص البرقيات التي أُرسلت إلى عرابي تُعلن عن تلك التبرعات. تُرى، هل عبَّر الناس عن سلوك اجتماعي سيكولوجي لم يكن مُتوقَّعًا في ضوء التجربة التاريخية؟ وهل كانوا على استعداد حقًّا للتضحية بأرواحهم وممتلكاتهم من أجل القيم التي لم توجه إليهم الدعوة من قبل للدفاع عنها، وللدفاع عن «الدين والعرض والوطن»؟

وفي ١٢ يوليو، دعت «الوقائع المصرية» إلى جمع التبرعات من كل لون للإخوان الذين يُحاربون في الجبهة. وفي اليوم التالي نشرت المجلة القائمة الأولى لأسماء المتبرعين، واستمر ذلك حتى قبيل نهاية الحرب. وكانت الجِياد والبِغال في مقدمة التبرعات التي قدَّمها الذوات بالعاصمة (الأمراء – رجال البلاط – الوزراء السابقون) ثم تدفَّقت التبرعات وخاصة المواد الغذائية والأموال التي استُخدمت لرعاية اللاجئين من مختلف المديريات — قدَّمها الأعيان والعمد والتجار وأعضاء مجلس النواب ورجال الدين — وفي منتصف أغسطس وردت تقارير عن تبرعات جماعية قدَّمها أفراد من مختلف القرى. تُرى، هل كانت هذه التبرعات استجابة لدعوة الجهاد، أم لشعبية عرابي تعبيرًا عن الشعور الوطني الذي جعل المصريين جميعًا يهتمون بأمر الحرب؟

وليس لدينا ما يؤكِّد ما إذا كانت هذه التبرعات قد قُدِّمت طوعًا لا قسرًا. وكان طلب الخيول والبغال قد جاء في شكل برقية دورية أصدرها رئيس مجلس النظار في ١١ يوليو. وتابع ناظر الجهادية إصدار مثل هذه الأوامر. وفي ١٢ يوليو طلب من مدير المنوفية برقيًّا إرسال ٥٠٠ بغل إلى القاهرة بالإضافة إلى الجياد التي طُلبت، واعتبر مسئولًا مسئولية شخصية عن أي تأخير في إرسالها. كذلك تسلَّم مدير الفيوم أمرًا مُشابهًا. وفي ١٨ يوليو أُرسلت برقية دورية إلى جميع المديرين تأمرهم بإرسال المجندين المطلوبين والخيول والمؤن إلى قصر النيل أو إلى بولاق، وهدَّدت من يتقاعس من المديرين بمحاكمته عسكريًّا. وتلقى مدير الدقهلية في ١٣ أغسطس أمرًا بإرسال ٢٧٠٠ إردبٍّ من القمح على وجه السرعة إلى حامية دمياط. وفُرض على كل فدان ضريبة حرب مقدارها عشرة قروش.

ومن ثَم يكون من نافلة القول افتراض أن المجهود الحربي كله قام على أساس التطوع، فلا شك أنه كان هناك حماس وطني لتأييد الجيش ماديًّا، وأن الشباب تدفَّقوا للخدمة بالجيش بإرادتهم الحرة. ولكن التعبئة العسكرية لم تأتِ من القاعدة إلى القمة، فجميع احتياجات الجيش من الخيول والبغال والجمال والمؤن والأموال قُدِّرت تقديرًا مُحدَّدًا، وقُسِّمت على المديريات ثم طُلبت من رجال الإدارة جمعها، وكان الموظفون الذين يتقاعسون عن أداء هذا الواجب الوطني يُفصلون من وظائفهم، وانسحب هذا أيضًا على تجنيد الجنود والكفاءات الفنية.

وكان يجب أولًا جمع الجنود والضباط المبعثرين في مختلف أنحاء البلاد، وفي ١١ يوليو صدر أمر من نظارة الجهادية إلى مديري المديريات بإرسال الرجال بأسرع وقت ممكن للالتحاق بوحداتهم العسكرية، غير أن الرجال مُنِحُوا مهلة محددة للاستعداد. ولمَّا كانت جميع الأيدي العاملة مطلوبة للزراعة وخاصة في الدلتا، أصدر المجلس العرفي أمرًا في ٢٧ يوليو يقضي بضرورة إنجاز هذه الأعمال فورًا حتى لا يؤدي ذلك إلى تعطيل التعبئة العسكرية. وعلى كلٍّ، كانت نظارة الجهادية تشكو في ٢ أغسطس — في برقيات دورية — من أن عدد الجنود الذي وصل إلى القاهرة قليل، وحثَّت المديريات مرة أخرى على أداء واجبهم، وتمَّ استدعاء موظفي المديريات الذين كانوا ضباطًا من قبل، وفي مديرية جرجا كان ذلك يعني تجنيد كل موظفي قسم طهطا.

وفي برقية دورية بتاريخ ١٢ أغسطس، بعد قصف الإسكندرية بشهر، أصدر ناظر الجهادية أخيرًا أمرًا بتجنيد ٢٥ ألفًا من الجنود الجدد، وفُرِضَت حصص معلومة على كل مديرية وفقًا لتعداد سكانها، وتُرِك للمديرين توزيع حصص مديرياتهم على القرى، على أن يُبيَّن لأولئك المجندين أنهم سيقومون بعمل وطني مشرف، وأنهم سيُعفون بعد الحرب من الخدمة العسكرية إعفاءً تامًّا. غير أنه كانت هناك أخطاء في التطبيق وشكاوى؛ لأن الوعود التي بُذِلت لم تلقَ — على ما يبدو — أُذنًا صاغية عند الكثيرين. فكان الرجال الذين وصلوا إلى القاهرة من القليوبية من غير الصالحين للخدمة العسكرية، فهم إمَّا مُسنُّون أو مرضى أو عجزة، وتبيَّن من التحقيق أن شيوخ القرى والمأمورين الذين تولَّوا عملية التجنيد كانوا وراء هذا الاختيار. وفي ٤ سبتمبر، شكا بعض شيوخ قسم إسنا إلى عرابي من حالات التمييز عند التجنيد، وذكروا أن أقسام حلفا وإدفو لم تُقدِّم جنودًا على الإطلاق من ناحية، ومن ناحية أخرى زاد الطلب على المجندين من المديرية ككل لأن البدو أُضيفوا إلى حصص الفلاحين.

وتتوفَّر لنا صورة حقيقية لأوضاع البلاد تعكسها بعض الخطابات الخاصة في ذلك الوقت. فقد شكا أحد أهالي المنيا من أن المدير يستفيد من تلك الظروف ليزيد من استغلاله للأهالي. وفي نفس المديرية استجار أحد الشيوخ من ترك الحقول دون رعاية نتيجة لقيام الحكومة بتجنيد الرجال. ولكن تلك الشكاوى التي قُدِّمت في المديريات أو القاهرة لم تنل أي اهتمام وأُضيفت الضرائب التي كان على الأغنياء أن يدفعونها إلى الأعباء الملقاة على عاتق الفقراء. وكان المديرون يؤيدون استغلال الأهالي. وحذَّر نفس الشيخ عرابي من أنه لن يدعو له بالنصر المبين إذا لم يضع حدًّا للظلم؛ لأنه يعرف أن دعوة المظلوم مسموعة عند الله … وفي خطاب آخر أرسله أحد أتباع عرابي من مديرية أسيوط قدَّم فيه مقترحات فعَّالة لفرض ضريبة عسكرية، فنصح ناظر الجهادية بعدم الاعتماد على العُمَد؛ لأنهم قد يعفون الشخص من الجندية إذا دفع لهم عشرة جنيهات؛ ومن ثَم كان الفقراء هم الذين يُجنَّدون إذا لم يهربوا من مكان إلى آخر. وبالإضافة إلى ذلك شكا من أن هناك ألفين من بدو المديرية لم يُجنَّدوا، رغم أنهم يملكون خيولًا وجمالًا، واقترح فرض ضريبة إضافية تتراوح ما بين ١٠٠–٢٠٠ جنيه على الكُتَّاب الأقباط في الصعيد الذين يحصلون على ما يتراوح بين ١٥–١٠٠ جنيه على كل قضية. وشكا رجل من مديرية الغربية من أنه دُعِي وابنه إلى التجنيد رغم أنه لا يملك سوى نصف فدان يفلحه بمساعدة ابنه، بينما الآخرون يملكون ما يتراوح بين أربعة وأربعين فدانًا ولم يتم استدعاؤهم. وذكر خمسة عشر رجلًا بالاسم تمَّ استدعاؤهم أولًا ثم عادوا إلى بيوتهم بعدما تدخَّل العُمَد لصالحهم بالمديرية.

وهكذا لم تُستبعد المصالح الشخصية للفلاحين أو العمد أو موظفي المديريات خلال النضال من أجل الدين والوطن. ولذلك عندما نصف الحماس الديني والوطني للشعب المصري خلال الحرب يجب أن نُميِّز بين هؤلاء وأولئك.

وشيئًا فشيئًا وصل المجندون المطلوبون إلى قصر النيل أو إلى الجبهة، بل قدَّم بعض المديريات فائضًا في الرجال. وقدَّمت مديريات مصر الوسطى والصعيد أعدادًا أقل نسبيًّا من مديريات الدلتا التي تحمَّلت الجانب الأكبر من أعباء الحرب. ففي الدلتا جُنِّد الأهالي للعمل في حفر الخنادق بالقرب من كفر الدوار والتل الكبير، وقدَّمت المنوفية ألفين من العُمَّال، كما قدَّمت الشرقية ٤٠٠٠ عاملٍ. وفي الحقيقة قدَّم مديرَا هاتين المديريتَين ألف رجل من كل مديرية زيادة عن العدد المطلوب. وقدَّمت الدقهلية خمسة آلاف من عُمَّال حفر الخنادق، والغربية ٢٥٠٠، أما الأعداد التي قدَّمتها المديريات الأخرى فلا تتوفر لدينا. وكانت وحدات العمل تتغير من حين لآخر؛ لأن العمال كانوا يُنهَكون أو يتشتتون. وفي أمر أصدره محافظ وقائد دمياط عبد العال حلمي جمع ألفين من الرجال من الشرقية، ١٥٠٠ من الدقهلية ليُكوِّن منهم «ميليشيا شعبية» لدعم حرس السواحل. وعندما ذكر يعقوب سامي أن الله ساعد المصريين بزيادة عدد المقاتلين منهم إلى مائة ألف رجل، كان لا يُشير بذلك إلى الجيش فحسب، ولكن إلى المجندين المستجدين والبدو وعمال الخنادق و«الميليشيا الشعبية».

النهاية المُرَّة

ولم يكن على رأس أولئك المائة ألف جندي قائد عسكري بارز؛ فبعدما عُيِّن عرابي قائدًا للجيش، قضى ستة أسابيع في معسكر كفر الدوار يترقَّب الحوادث. وصُوِّرت المناوشات البسيطة التي تردَّدت أخبارها كانتصارات في معارك كبيرة. وأَوقَف المجلس العرفي مبادرات عرابي المحدودة نحو إقامة «دفاع أمامي» فعَّال، وربما كان «رئيس الجيش» يحظى بشعبية كبيرة، ولكنه لم يتمتع بسلطات فعلية تجعله يقف في مواجهة «الحكومة» بالقاهرة.

ومنذ البداية وضع عرابي حساباته على أساس احتمال التعرض للهجوم من جبهة قناة السويس؛ ولذلك طلب من وكيله إقامة قوة مقاتلة قوية من الأسلحة الثلاثة في رأس الوادي والصالحية للدفاع عن خط السويس-بورسعيد. ولكن المجلس العرفي رفض طلبه في ٢٢ يوليو بعد مناقشات طويلة؛ لأن مثل هذا الوجود العسكري قد يُعد تهديدًا لحرية عبور السفن في القناة! ولا شك أن إعداد الوحدات العسكرية المطلوبة ضروري، ولكن يجب أن تُعسكر بثكنات العباسية خارج القاهرة لتُصبح احتياطيًّا للعمليات. لقد عُيِّن عرابي قائدًا عامًّا للجيش غير أن المجلس العرفي احتفظ لنفسه بحق القرار في المسائل الاستراتيجية، ويبدو أنه لم يجد أن من الضروري إبلاغ ناظر الجهادية رفض طلبه؛ لأن عرابي سأل القاهرة في ٢٥ يوليو عمَّا تمَّ بشأن خطته!

وقدَّم «رئيس الجيش» أفكارًا أخرى، غير أن خطته الخاصة بالتعبئة الشاملة — على سبيل المثال — لقيت نفس المصير. ولمَّا كان يجب على المستحفظين (الشرطة) أن يشتركوا في القتال في حالة وقوع حرب واسعة النطاق، فقد أمر عرابي بإعداد حرس أهلي للدفاع عن المدن. وكان على جميع القادرين على حمل السلاح أن يتدرَّبوا على استخدام البنادق لمدة ساعة ونصف كل صباح قبل أن يتوجَّهوا إلى أعمالهم، على يد ضباط المستحفظين في أحياء المدينة ويبدو أن هذا البرنامج قد نُفِّذ في الدقهلية والشرقية، ولكنَّه لم يُنفَّذ في القاهرة. وذكر يعقوب سامي — في مذكرة إلى المجلس العرفي — أن الدفاع عن العاصمة يجب أن يبقى من واجبات الجيش النظامي وليس الحرس الأهلي، وبسط ناظر الضبطية اعتراضه — في مذكرة أخرى — مؤكِّدًا أنه يستطيع أن يضمن السلام والأمن في المدينة بقوات المستحفظين وحدهم، وأنه يجب تجنيد الرجال مباشرة في الجيش حتى يتم إخضاعهم للنظام العسكري. ورفض أنصاف الحلول المشكوك فيها؛ ولذلك اعتبر المجلس العرفي — في ٢٣ يوليو — أن خطة عرابي خطة غير عملية وصرف النظر عنها.

وبالطبع نُفِّذت بعض مشروعات ناظر الجهادية، غير أن الأمثلة التي ذُكِرت تُشير إلى أن عرابي لم يُصبح دكتاتورًا حتى خلال الحرب؛ فالقرار النهائي الهام كان يتخذه المجلس العرفي. وبعد أن بذل المجلس جهدًا في إبقاء الحرب بعيدًا عن منطقة القناة، أعاد النظر في استراتيجية جبهة القناة عندما احتل الإنجليز السويس. وفي ٢ أغسطس، تمَّ اختيار التل الكبير لتكون المركز الجديد للدفاع عن البلاد، ووُضعت خطة استراتيجية تفصيلية لهذا الغرض. وبقي عرابي حتى ٢٤ أغسطس في كفر الدوار؛ لأن احتمال وقوع هجوم جديد من الإسكندرية لم يكن مستبعدًا.

ولما كانت هذه الدراسة ليست دراسة استراتيجية، فإنَّنا لن نذكر إلَّا بضع كلمات في وصف الحرب؛ فعلى حد قول فولتير: «كلما طالت تقارير المعارك، كانت مصدرًا للسأم عند الرجل العاقل.» وما يهمنا هنا بعض المسائل العامة التي تلقي ضوءًا على ما هو أكثر من أحداث الحرب.

وفيما يتعلَّق بأخبار الانتصارات الواردة من التل الكبير التي تشير إلى أن الإنجليز كانوا يهربون التماسًا للنجاة بأرواحهم، بعدما تكبدوا خسائر فادحة، وما ترتَّب على ذلك من تبادُل برقيات التهاني، فإن تلك الانتصارات لم تكن تُعبِّر عن أن ثمة مخرجًا من الوضع القلق غير الحاسم، ولكنَّها كانت علامات على سوء تقدير الموقف، وكان ذلك نتيجة تكتيكات هيئة أركان الحرب البريطانية. فمخططو وزارة الحرب البريطانية لم يتطرَّق إليهم الشك في أن الخطوة الأولى للتدخل العسكري في مصر يجب أن تكون عن طريق احتلال منطقة القناة، وأن الخطوة الثانية هي التحرُّك من الإسماعيلية إلى القاهرة. ولم يكن لقصف الإسكندرية موضع بهذه الخطة، فكانت تلك جريمة لصقت بالأميرال سيمور شخصيًّا. وكانت المناوشات التي جرت أمام كفر الدوار — ببساطة — مناورات قامت بها القوات الإنجليزية لتكبيل أيدي عرابي حتى يتمكَّن المُخطِّطون للحملة العسكرية من حسم قضية زحف القوات برًّا أو إنزالها عن طريق السفن. وفي ٢٠ يوليو، اتُّخذ قرار بعدم انتظار وصول القوات التركية، وفي ٢٧ يوليو وافق مجلس العموم البريطاني بأغلبية ٢٧٥ صوتًا ضد ١٩ صوتًا على اعتمادات الحرب التي بلغت ٢٣٠٠٠٠٠ جنيه، وفي ٢٩ يوليو، رفضت الجمعية الوطنية الفرنسية اعتماد مخصصات مماثلة. وبينما كانت القوات البريطانية الرئيسية تتدفَّق من بريطانيا ومالطة وجبل طارق وقبرص وعدن وبومباي — خلال ليلة ١٩-٢٠ أغسطس — على منطقة القناة، بما في ذلك بورسعيد والإسماعيلية دون أن تتعرَّض لمقاومة تُذكر، قامت القوات البريطانية بالإسكندرية بمناوشة عرابي ليبقى في موقعه، فقاموا بهجمات متقطعة يكرون فيها ويفرون أمام المصريين، فلا عجب أن يكون النصر إذن حليف المصريين! وحدث نفس الشيء بالنسبة للوحدات الاستطلاعية والهجمات التي تعرَّضت لها المواقع المصرية، والتي قام بها البدو، وانتهت جميعًا — وفقًا لما جاء بالبرقيات — بهزيمة العدو وتكبده الخسائر بعون الله ومساعدة نبيه. وكانت تقارير الاشتباكات ترد «بالوقائع المصرية» محاطة بالتعليقات الحماسية. وفي ٥ أغسطس، زعم عرابي أنه ذهب بنفسه إلى ميدان المعركة وأحصى عدد القتلى من الإنجليز الذين بلغوا ألف رجل، كان من بينهم الكثير من الضباط. وفي ٢٦ أغسطس، أبرق عبد العال حلمي بما يُفيد أنه علم من مصادر موثوقة أن عدد القتلى من الإنجليز على الجبهة الشرقية بلغ ستة آلاف جنديٍّ وضابطٍ من بينهم ضابط برتبة الجنرال. أكان ذلك مجرد ولع بذكر الأرقام الكبيرة أم هروب من الواقع إلى الخيال؟

ولم تتوقَّف تقارير الانتصارات حتى بعد ذهاب عرابي إلى الجبهة الشرقية، حتى أصبح من الصعوبة بمكان أن تحصل القاهرة على صورة واضحة للموقف. وفي الحقيقة كان الإنجليز يستولون على الموقع المصري تلو الآخر، فاستولوا في ٢٤ أغسطس على المغفر، وفي ٢٥ منه على تل المسخوطة والمحمسة، وفي ٢٦ منه على القصاصين. وكان الفشل نصيب الهجوم المضاد المصري سواء في ذلك الهجوم الصغير — في ٢٨ أغسطس — أو الهجوم واسع النطاق في ٩ سبتمبر. ورغم ذلك استمر عرابي يُعلن توالي الانتصارات حتى ١٣ سبتمبر، ولم يجد مفرًّا من أن يُبلِغ القاهرة في كلمات معدودات بالكارثة المفاجئة التي وقعت بالتل الكبير. ففي هجوم مفاجئ عند الفجر اجتاحت القوات البريطانية آخر المعاقل الدفاعية الحقيقية للمصريين. ورغم أن فرقة محمد عبيد استبسلت في المقاومة، استشهد معظم الجنود وهم يلوذون بالفرار. وتوقَّفت المقاومة بعد ٢٠ دقيقة، ولكن الغزاة أصرُّوا على إلحاق «هزيمة ساحقة» بالمصريين: «فكانت الأرض خلف محطات السكك الحديدية مرصعة بأجساد أولئك الذين قُتلوا وهم يفرُّون، واجتاح الفرسان الإنجليز النهاية الشمالية للخنادق يقتلون الهاربين بلا حساب … وحصدت المدفعية الملكية بنيرانها الجنود الهاربين.»٤٧ وقام الجنود الإنجليز «بذبح الجنود الهاربين وكأنهم في رحلة صيد».٤٨ فبلغ عدد من ذُبحوا ألفين من الفلاحين.

واستيقظ عرابي على صوت المعركة، ولم يكن لديه إلَّا وقت محدود ليرتدي بزَّته ويشق طريقه صوب محطة سكك حديد بلبيس، حيث تمكَّن من الهرب بالقطار إلى القاهرة وبصحبته علي الروبي. ورغم هزيمة القائد فإنَّه لم يكن مستعدًّا للاستسلام؛ إذ أراد إعداد القاهرة للدفاع. ولتحقيق هذه الغاية استدعى قوات عبد العال من دمياط (وتتكوَّن من السودانيين والبدو)؛ لأن قوات التل الكبير قد تشتتت على النحو الذي رأيناه وأصبح لا جدوى منها. وأراد عرابي أن يبني خطًّا دفاعيًّا جديدًا قرب ثكنات العباسية، ولكن زملاءه بالقاهرة لم يؤيدوا هذه الفكرة، فلم يكن الضباط منهكين من الحرب فحسب، بل أرادوا تجنيب العاصمة المصير الذي أصاب الإسكندرية، وكان وكيل محافظة الإسماعيلية قد استخدم نفس الحجة عندما أعلن استسلام المدينة. ولذلك أعلن المجلس العرفي الاستسلام بلا قيد أو شرط للخديو وليس للإنجليز الذين كانوا يُعلنون دائمًا أنهم يقاتلون باسم الحاكم الشرعي للبلاد.

وتشكَّلت لجنة من رءوف باشا وعلي الروبي وبطرس غالي للتوجُّه إلى الإسكندرية وإعلان استسلام «الثوار» عند أقدام الخديو. وفي مساء ١٣ سبتمبر أبرقت اللجنة إلى قائد القوات البريطانية (التي احتلت الزقازيق عندئذٍ) شاكرة باسم الشعب المصري للمساعدة التي قدَّمتها الحكومة البريطانية لسمو الخديو! ولم تتخذ أي خطوات أخرى دون الرجوع إلى الخديو، وكان هدفهم (وخاصة إبراهيم فوزي) تجنيب سكان القاهرة رؤية القوات البريطانية، فقد خشي ناظر الضبطية من حدوث الفوضى وإراقة الدماء. ولكن مخاوفه كانت لا أساس لها من الصحة إذ احتلَّت وحدة صغيرة من الفرسان الإنجليز قلعة القاهرة مساء ١٤ سبتمبر، وتجنَّبت المرور بالطرق الرئيسية للقاهرة، فدخلت القلعة عن طريق باب الوزير، وشقَّت طريقها إليها عبر الحواري المحيطة بها. «ورمق السكان الذين كانوا يقفون على أبواب بيوتهم القوات البريطانية بنظرة كسيفة، دون أن يُبدوا تظاهرًا من أي نوع، ودون أن تبدو عليهم علامات الدهشة.»٤٩

وقبل أن يستسلم عرابي وطُلبة عصمت للإنجليز مساء ١٤ سبتمبر ويُسلِّم عرابي سيفه، وقَّع خطابات للخديو شرح فيها مأساته الشخصية رغم أنهما قد سبَّبا له الضيق في أول الأمر، فأعلن أنه وإخوانه قاوموا الإنجليز دفاعًا عن الدين والعرض والوطن، وأنه لم يدُر بخلَدهم الوقوف ضد الخديو لذلك يطلب منه العفو عنه وعن رفاقه، وذكر أنهم قد خاضوا الحرب بناءً على تعليمات صدرت لهم من مجلس مُوسَّع عندما أصبح الخديو وحكومته غير قادرين على العمل، وكان استمرارهم في الحرب بناءً على قرار من جمعية الأعيان. وأشار عرابي إلى أنه اضطر إلى الدفاع عن مصر، وأن على توفيق أن يطلب من الإنجليز إيقاف الحرب وعدم التقدُّم إلى القاهرة حتى تتفادى المدينة مصير الإسكندرية.

وفي كل مرة كان العرابيون يثورون فيها ضد الخديو أو وزرائه كان هناك احتفال بالخضوع والعفو يُقام في كل مرة، حتى أصبح هذا المشهد مألوفًا على المسرح السياسي في القاهرة، ولكن كان المنتصر في الماضي هو الذي يطلب العفو، ولذلك كان يحصل عليه فور طلبه، ولكن من بين أسنان المنهزم. غير أن الموقف تغيَّر الآن، فلم يعد الخديو يعتبر نفسه ضعيفًا ولذلك لم يكن هناك ما يدعوه إلى العفو، وهو افتراض ما لبثت الحوادث أن برهنت على عدم صحته.

تُرى، هل كان عرابي يعتقد حقيقةً أن طلبه سوف يجاب بآلاف الحجج؟ إن مأساته كانت تتمثَّل في عباءة السلطة الثقيلة التي ناءت بها كواهله. أضف إلى ذلك أنه خُدِع وأُهمِل أكثر من مرة؛ خدعه السلطان الذي لم تكن سلطته الدينية والزمنية موضع نقاش، والذي منحه الأوسمة لكي يتخذ منه — فقط — أداةً لتقوية نفوذه في مصر، وهو الذي حاول استخدامه كدمية في لعبة ميكيافيلية من صنعه؛ وخدعه الخديو الذي أيَّد التدخل العسكري وفصل عرابي من منصبه لأنه دافع عن الإسكندرية ضد الإنجليز، وأخيرًا خانه لأنه دافع عن البلاد؛ وخدعه أيضًا سلطان باشا زميله في حركة صيف ١٨٨١م؛ وأهمله قادة مجلس النواب، سواء في ذلك الذين ينشطون الآن ضده، أو أولئك الذين قبعوا في قراهم. وبعد سقوط البلاد لم يُلقَ القبض إلَّا على عشرة من بين ٨٣ عضوًا من أعضاء مجلس النواب، كانوا حفنة ممن يعتبرون أنفسهم وطنيين حقيقيين.

وعلى كلٍّ كان عرابي يحظى بتأييد عدد كبير من العمد المعروفين وصغار موظفي المديريات وعدد لا حصر له من العلماء (القضاة والمفتين والأئمة والنقباء) في الريف، فهؤلاء دون غيرهم أطلقوا صيحة الجهاد.٥٠ أما أعيان الريف الذين لم يعتبروا أنفسهم أتباعًا للعرابيين أثناء الحرب فكانوا على استعداد أن يضعوا أختامهم على وثائق تدين «العصاة». وربما كان من الأفضل أن نترك هذا الفصل من فصول الخسة والذلة والهوان دون شرح.

ولم يبقَ مخلصًا لعرابي ولمصر — من بين الناس جميعًا — سوى محمود سامي البارودي الذي أحاطته الكتابات الإنجليزية والفرنسية بهالة خاصة من الازدراء واعتبرته مدفوعًا بالطموح والتطلع إلى السلطة وحدهما؛ فقد وقف إلى جانب أصدقائه، وتمسَّك بكلماته وأعماله، رغم مرارة الموقف، ورغم أنه لم يشغل منصبًا رسميًّا (خلال الحرب)، فلم يكن عضوًا بالمجلس العرفي. لقد كان من بين الحاضرين — حقًّا — في جمعيتَي الأعيان بالقاهرة، ولكن لم يتدخَّل في المناقشات تدخُّلًا حاسمًا. وفي ليلة ١١-١٢ يوليو هُرع إلى عرابي بالإسكندرية ليضع نفسه تحت تصرفه دفاعًا عن الوطن، ولكن أُعيد عندئذٍ إلى «الجبهة السياسية». وعلى كلٍّ لم يقنع محمود سامي بأن يكون مستشارًا في القاهرة، أو يتبادل برقيات التهاني مع عرابي بمناسبة عيد الفطر، فعندما أعلن استعداده لأداء واجبه نحو الوطن، كلَّفه عرابي في ٢٤ أغسطس بقيادة قوات الصالحية وكانت قوات العدو قد احتلت منطقة القناة كلها وأخذت في التقدُّم نحو القاهرة. وكان محمود سامي أبعد نظرًا أو أكثر حكمة ليدرك أن ميادين القتال لن تقوده إلى قيادة مصر المنتصرة. فلم يكن طموحه هو الذي دفعه إلى اتخاذ هذا القرار، وإنَّما دفعته وطنيته. ولا ريب أن محمود سامي كان واسع الطموح ولكنَّه لم يعد يُمثِّل الروح الملهمة للعرابيين على الأقل خلال الحرب.

ولذلك لم يصبح عرابي ضحية هذا الأديب الطموح، وإنَّما أصبح ضحية سياسات الدول والباب العالي والخديو، وضحية المغبونين الذين رأوا فيه مُحرِّرًا، والمهدَّدين الذين رأوا فيه حاميًا. وكثيرًا ما كانت تنتابه الشكوك حول عمله، وما كان يتردَّد في تحقيق رسالته نحو أولئك الذين أضفوا البطولة عليه. لقد تردَّد ثم ترك نفسه للاندفاع بقوة بلاغته، وعندما أصبح ضعيفًا التمس القوة من ثقة الجماهير فيه، ولم يعمل عرابي مطلقًا من أجل الإمساك بزمام القيادة السياسية والعسكرية، كما لم يكن يرى في نفسه ثوريًّا، فكان يرتاب لحظة ويعند أخرى، ويتردَّد لحظة ويندفع أخرى، ويرتبك برهة ويحزم أخرى، فكان في الغالب مدفوعًا لا دافعًا. ولم يكن عرابي دكتاتورًا أو «وحشًا مفترسًا» يتحوَّل إلى «حمل وديع لأنه مس شرف أوروبا»٥١ (تُرى، من الذي مسَّ شرف الآخر عندئذٍ؟!)

وكثيرًا ما أُثيرت مسألة أسباب هزيمة المصريين وقُدِّم السبب تلو الآخر، وكان أكثر الأسباب شيوعًا «الخيانة». ونظرية «الخيانة» التي انسحبت على أولئك الذين لم يكونوا على استعداد لتأييد العرابيين هي أبسط تفسير لشبكة المصالح والتطلعات والآمال التي شكَّلت أساس مواقفهم. وعلى سبيل المثال، كانت دوافع أتباع أولئك الذين ناضلوا من أجل السلام والحيلولة دون الحرب في الغالب بأي ثمن. وإرجاع الهزيمة العسكرية إلى نقص كفاية الضباط المصريين يُعد تغاضيًا عن المشكلة الحقيقية، فعرابي — كما حاول علي مبارك أن يُوضِّح له — لا يستطيع أن ينجح في منع القوات البريطانية من احتلال البلاد. ووضع حد لليوم البغيض لا يؤدي إلَّا إلى المزيد من الموت والدمار.

وكان عرابي نفسه يرى أن الأمور لن تصل إلى صدام عسكري خطير، حقًّا كان التدخُّل البريطاني لا يتجاوز حدود الاحتمال منذ منتصف عام ١٨٨١م، ولكن الأمل كان لا يزال معقودًا على أن الدول الأوروبية المتنافسة سوف تمنع وقوع تدخل عسكري من أي نوع ضد مصر. وحوَّلت تأكيدات الإنجليز الذين نصَّبوا أنفسهم مستشارِين للعرابيين الأمل إلى حقيقة مؤكدة. ففي أول يونيو، طمأن بلنت عرابي بقوله: «لا تهتم بوجود السفن فلن يكون هناك تدخُّل»، وفي ١١ يونيو كانت السفن الحربية تُعد كالدمى في ميناء الإسكندرية، ولم يكن بحارتها موضع اهتمام، وبعد ١١ يوليو عندما كان عرابي في العراء لبضعة أيام قائدًا بلا جيش، لم يُفكِّر العدو في اتخاذ الاستعدادات لتوجيه ضربة حاسمة. ووفقًا لما يذكره نينه — الذي مكث بمعسكر كفر الدوار خلال الحرب — لم يكن العرابيون يعتقدون جديًّا في وقوع هجوم أو قيام الحرب. وبعد قصف الإسكندرية كانت الخطة الرئيسية تقوم على كسب الوقت، وكان عرابي يتطلَّع إلى التوصُّل إلى اتفاق مع الدولتَين.

وبالإضافة إلى ذلك كان الأمل معقودًا على مؤتمر الآستانة أو على الباب العالي، وكان الأمل يترنَّح عندما نشرت صحافة الآستانة — بما فيها جريدة «الجوانب» العربية — إعلان عصيان عرابي «الثائر» السابق ضد الخليفة ومُمثِّله في مصر. وعلى كلٍّ لم يُحدِث هذا تغييرًا في الموقف العسكري، فقد كان الضباط حتى اللحظة الأخيرة يُعانون من الفتور في الحماس، وكان الخونة يزدادون اطمئنانًا.

ولا بد أن يكون عرابي قد عرف منذ وقت طويل — منذ تلقَّى برقية سعيد باشا في ٢٨ يوليو — حقيقة موقف الباب العالي، فإذا كان قد اعتقد أنه قد تورَّط إلى أبعد مدى، وأن مصيره الشخصي قد أصبح مُعقَّدًا، وأنه لا يستطيع الإمساك بزمام الحوادث، فكيف يتأثَّر بهذا الإعلان؟ إنَّه يمكن أن يلام لضعفه ولتردده في كفر الدوار عندما رفض مواجهة الموقف — رغم نصيحة عبد الله النديم — لأنه على ما يبدو كان يعتقد أن إعلان سعيد باشا لا يُعبِّر عن موقف الباب العالي، فكان عليه أن يسلك سبيلًا أكثر تصميمًا بدلًا من اللجوء إلى الخداع والتكتُّم. وعندما وقعت في أيدي بعض الضباط — عشية مأساة التل الكبير — بعض نسخ «الجوانب»، كان على عرابي أن يتخذ موقفًا، فدعا جميع الضباط الذين عارضوا فكرة الاستسلام عندما أبلغهم عرابي أن إعلان السلطان باطل لأنه يُجافي مبادئ الإسلام، وأنهم ما زالوا يُجاهدون في سبيل الله.

ولا يتسع المقام هنا لمناقشة ما يُسمَّى «بأسباب الهزيمة» الأخرى، مثل عجز عرابي عن التأكُّد من تحقيق رغبته في إغلاق قناة السويس نتيجة وعود ديليسبس وتأخره في اتخاذ هذا القرار، أو إرجاع هزيمة التل الكبير إلى وقوع أقدر كبار الضباط أسيرًا في يد العدو (محمود فهمي)٥٢ أو جرح بعض كبار الضباط (علي فهمي وراشد حسني) أو خيانتهم، أو تقاعس أحسن القوات المصرية التي كانت قابعة عند دمياط وكفر الدوار بعيدًا عن ميدان المعركة في التل الكبير. ورأى نينه أن عرابي كان مُحاطًا بالجواسيس والخونة والمخربين وباثنين من رتبة القائم مقام اللذين أثقل جيوبهم ذهب سلطان باشا، وعلى كلٍّ، أنكر الإنجليز كل دعاوى الرشوة فيما يتعلَّق بهزيمة التل الكبير.
ولا شك أن هناك مبالغة في تقدير سلطان باشا وأثر ذلك الدور،٥٣ فحتى قبل أن يُصبح مبعوثًا سياسيًّا نشطًا للجيش البريطاني يعمل من الإسماعيلية، كانت هناك قبيلة بدوية مسلحة بخمسة آلاف بندقية تعمل لحسابه ضد العدو وإلى جانب الجيش. وربما اكتسبت مهمة سلطان باشا أهمية كبيرة لو طالت الحرب وأصبح من الضروري سحب تأييد الأعيان لعرابي. ولهذا الغرض اتصل سلطان باشا بمديرِي بني سويف والمنيا وأسيوط وجرجا وقنا وإسنا وبكبار الأعيان في تلك المديريات٥٤ — الذين كان يعرفهم معرفة شخصية — ليكسبهم إلى صف الخديو.
وكانت التل الكبير نقطة التقاء للمجندين الجدد من الفلاحين أكثر من كونها قلعة حصينة. وكان المجندون يتلقَّون تدريبًا سريعًا، ثم تُعطى لكل منهم بندقية، ويُزج بهم في الخنادق. فكان من بين الجنود الجرحى الذين أُسروا في القصاص جندي لم يمضِ على تجنيده سوى خمسة أيام، لم يستطع حتى أن يُخبر سلطان باشا بالوحدة التي ينتمي إليها أو اسم ضابطها. ووفقًا لتقرير أحد شهود العيان من الضباط المصريين، فشل الهجوم المضاد الثاني بالقرب من القصاصين؛ لأن محمود سامي لم يستطع المحافظة على تشكيل الهجوم؛ لأن الجنود ارتدُّوا إلى معسكرهم فجأة أثناء تقدُّمهم من الصالحية. وتُشير الرواية التي نقلها بيريك عن أحد الجنود المصريين عقب هزيمة التل الكبير مباشرة إلى الحالة النفسية للفلاحين المجندين حديثًا إذ يقول: «لم أكن أعلم بما يفعله الإنجليز في حرب التل الكبير، فقد كانوا يضربوننا بالرصاص كالحيوانات، فوقعت على جنبي، والتمست سبيل النجاة بالاختباء داخل حقول القطن، وأخذت أزحف على جنبي حتى حلَّ الليل فاستطعت الهرب، وها أنا ذا الآن مُنهك القوى، وسوف أعود لجَني قطني ورعاية زوجتي وأولادي، لقد قبلت أن أكون جنديًّا لأن الحكومة أرغمتني على ذلك، فإذا رفضت التجنيد تعرَّضت للقتل.»٥٥

وفي قرى الدلتا التي عانت كثيرًا من التجنيد والتي اخترقتها القوات البريطانية في الطريق إلى القاهرة، كانت تتعالى صيحات الابتهاج، فلم تكن تلك الصيحات ابتهاجًا بانتصار الإنجليز، ولكنَّها كانت ابتهاجًا بانتهاء الحرب وحلول السلام، فقد تلاشت الأخطار ورُفِعَت الأعباء التي أثقلت كواهل الفلاحين. لم يكن هناك شعور بالانهيار، بل كان هناك ابتهاج ساذج تمثَّل في الزغاريد التي سمعها الجنود الإنجليز، وصيحات الناس الذين أخذوا يرددون: «أمان!» ولكن هذا الابتهاج الساذج لا يعني نهاية المعاناة، فقد ظلَّ عرابي حيًّا لوقت طويل في قصص الفلاحين، ينتقل من عالم الواقع إلى عالم الخيال السحري البطولي، فلم يعد عرابي سياسيًّا، بل أصبح رمزًا أسطوريًّا للتحرُّر، عاش برهة ثم ما لبث أن طواه النسيان، فهزيمة عرابي لم تُصبح كارثة عند الفلاحين الذين تحسَّنت أحوالهم بمساعدة الإنجليز ولم تبدأ المتاعب السياسية إلَّا فيما بعد.

وفي البداية، كان هناك دافع واحد يُحرِّك الخديو وأتباعه هو: الانتقام؛ ففي ١٤ سبتمبر عيَّن توفيق سلطان باشا مُفوَّضًا عامًّا بالقاهرة، وأوكل إليه أمر الإشراف على الاعتقالات، وأن يأمر ظهراب بك — ناظر الضبطية — بألَّا تأخذه بالمعتقلين الرأفة.

ومن الصعوبة بمكان تحديد عدد «العصاة» الذين أُلقي القبض عليهم، وربما كان رقم الثلاثين ألف معتقل، الذي يُذكر كثيرًا، ويعتمد على رواية سرهنك، رقمًا مبالغًا فيه. فقد تضمَّنت القائمة التي قدَّمها شريف باشا إلى القنصل البريطاني في أكتوبر ١٨٨٢م أسماء ٧١٠ معتقلين سياسيين بالسجون المصرية «فيما عدا القاهرة»، من بينهم ٤٣ بالإسكندرية و٢٦٧ بعواصم المديريات. وتُشير قائمة رسمية أخرى إلى وجود ٢٤٩ من «العصاة» بسجون المديريات. وفي منتصف نوفمبر أعَّد بورج قائمة تضمَّنت أسماء ٦٥٢ معتقلًا سياسيًّا بالقاهرة والغربية والمنوفية والدقهلية والشرقية وإسنا وقنا. وتتفق الأرقام الرسمية للمسجونين من «العصاة» مع ما يذكره القنصل البريطاني، وقيل إن هناك ٣٥٩ مسجونًا سياسيًّا بسجن طنطا وحده. وبذلك يكون الرقم الذي أورده روبل الذي يُقدِّر المسجونين ﺑ ١٢٠٠ شخص هو أقرب إلى الحقيقة من رقم الثلاثين ألفًا (الذي أورده سرهنك).

وكان مُتوقَّعًا أن يُصفِّي الأتراك الجراكسة حسابهم مع «العصاة»، ولكن — بضغط من الرأي العام البريطاني — قُدِّم هؤلاء إلى محاكمة طويلة نسبيًّا، ولكنَّها لم تكن بكل المقاييس «محاكمة عادلة»، وفُصِلَت الدعاوى الخاصة بالمتهمين في «مذبحة» الإسكندرية والدلتا عن الدعاوى العامة، وأُقيمت لجنتان للتحقيق في كلٍّ على حدة. وأُقيمت بالقاهرة لجنة تحقيق ومحكمة عسكرية للنظر في قضية «العصاة» وحدها، وكانت اللجنة والمحكمة تتشكلان من الضباط الأتراك الجراكسة وحدهم.

ولسنا بحاجة لتكرار سرد تاريخ المحاكمة هنا، فما جاء بكتابَي برودلي وبلنت يكفينا مئونة ذلك، ولكن حصاد المحاكمة يحتاج منَّا أن نتناوله بالتلخيص. فقد اعتبر أحمد عرابي ومحمود سامي وطُلبة عصمت وعلي فهمي وعبد العال حلمي ويعقوب سامي ومحمود فهمي قادة «العصاة»، ولكن الإنجليز رفضوا السماح للبلاد أو الحكومة أو الضباط الأتراك الجراكسة بالاستمتاع بإعدامهم، فطُرِدُوا من الجيش المصري (الذي لم يعد له وجود رسميًّا!) وانتُزِعت أملاكهم، ونُفوا مع عائلاتهم إلى سيلان،٥٦ على أن تدفع الحكومة المصرية ٥٥ جنيهًا شهريًّا لعائلة عرابي و٣٨ جنيهًا شهريًّا لعائلات كل من الستة الآخرين لمعاشهم.

وفيما يتعلَّق بمصير «العصاة» الآخرين، عُزِل عدد كبير من الضباط من رتبهم، وفُصِلوا من وظائفهم (ولكن دون أن يحصلوا على معاش)، وعوقب المتهمون في حوادث طنطا والإسكندرية بالأشغال الشاقة. وقبل أن يُصدر الخديو العفو العام عمَّن شاركوا في حوادث «الثورة» في ٢ يناير ١٨٨٣م، نُفِيَ علي الروبي وحسن موسى العقاد إلى مصوع لمدة عشرين عامًا، ونفي آخران إلى سواكن لمدة ثلاث سنوات، وأُبعد ٣٣ شخصًا عن مصر لمدة تتراوح بين سنة وثماني سنوات، كان من بينهم أحمد رفعت والشيخ عليش ومحمد عبده وحسن الشمسي وإبراهيم اللقاني. ويُورد الرافعي أسماء ٦٢ شخصًا ممن فقدوا وظائفهم بالقرى وإدارة المديريات أو الإدارة المركزية، وأسماء ٤٤ من الأعيان وُضِعوا تحت رقابة الشرطة، وحُكِم على بعضهم بالغرامة؛ مثل: أحمد أباظة، وأمين الشمسي، وأحمد محمود، وإبراهيم الوكيل، وعثمان فوزي.

(٥) نهاية غير مجدية

وفي مايو ويونيو ١٨٨٣م بدت «الثورة» تلوح من جديد، إذ تلقَّى الخديو والنظار والقناصل بيانات وتهديدات والتماسات أرسلتها جمعية «المؤامرة الوطنية المصرية» تحمل توقيع «المنتقم» ووصف أصحاب تلك البيانات الجمعية بأنها منظمة إرهابية قوية تسعى لتحرير مصر بأقصى سرعة ممكنة من نير الاحتلال البريطاني، ولم تأخذ السلطات بيانات «المنتقم» مأخذ الجد، ولكن الشرطة ما لبثت أن تدخَّلت في الأمر عند نهاية يونيو.

وكان أشياع العرابيين السابقين في طليعة المشتبه فيهم، وخاصة أولئك الذين فُصِلوا من خدمة الحكومة، وانتهزت السلطات هذه الفرصة لتُلقي بعدد منهم في السجن، وبقي ٢٢ فردًا منهم رهن الاعتقال بعض الوقت من بينهم محمد السعيد الحكيم «المنتقم» وسعد زغلول الذي أصبح مُحاميًا، وحسين صقر الذي كان تلميذًا كزغلول لمحمد عبده وشريكًا لسعد زغلول في مكتب للمحاماة، ومحمد فاني الذي كتب «عريضة الضباط» في ١٨٨٠م، وأصبح فيما بعد مُترجمًا بمجلس النظار، وعبد الرازق درويش الذي درس الطب في إدنبرة وكان يتولَّى تدريس الإنجليزية لأبناء إسماعيل ثم أصبح ناظرًا لمدرسة البحرية، وصهره حسين فهمي، ومصطفى صدقي، ومحمد طاهر نجل أحمد طاهر الذي كان يُنظِّم المآدب للعرابيين، وعثمان بن محمد طاهر وأربعة من موظفيه، وموظفان مفصولان من موظفي الأوقاف، ومحمود صادق ومصطفى نشأت الوكيلان السابقان لدائرة محمود سامي، وأحمد نشأت (الشهير بالشيخ أحمد نور)، وخمسة آخرون. وتولَّت اللجنة التي شُكِّلت للتحقيق في «المؤامرة» استجواب هؤلاء، وأسفر التحقيق عن اعتقال أشخاص آخرين لبعض الوقت على الأقل.

وكان محمد السعيد، مُنظِّم «المؤامرة»، شخصية غريبة، وكانت دوافعه غامضة، ويبدو أن والده كان جزائريًّا هاجر إلى فرنسا حيث اعتنق المسيحية هناك. ودرس محمد الطب ثم سافر بعد وفاة والده إلى عدد من البلاد حتى استقر بفلسطين، ومارس الطب في عدد من المدن. وجاء إلى مصر بعد هزيمة التل الكبير للمساهمة في علاج الجرحى، ولكنَّه بدلًا من ذلك حاول إعادة تنظيم «الثوار» السابقين والسياسيين من ضحايا الاحتلال في صورة منظمة إرهابية مُعادية للإنجليز. ويصعب علينا التغاضي عن أن «المنتقم» كان يهتم أساسًا بالمغامرة والمال، فقد كشفت التحقيقات عن غرامياته وعن ديونه، وكان يحصل من الأعضاء الذين ينتمون إلى منظمته على خمسة جنيهات من كلٍّ كرسم انتماء، وحاول التقرُّب إلى الميسورين منهم ليضمن دعمهم المالي، ومن هؤلاء مصطفى صادق وأحمد نشأت قريب إسماعيل صديق المفتش، وناظر الضبطية السابق إبراهيم فوزي ورئيس النظار السابق إسماعيل راغب.

وكانت تصرفاته مكشوفة في مصر، ولمَّا كانت السياسة ميدانًا خطيرًا، فقد كان لا يزال في بداية التجربة؛ ولذلك تبدو المسألة في صورة مأساة فكاهية لو اعتبرت السلطات جمعيته حركة سياسية؛ وخاصة أنه لم يقم أي دليل ضد غالبية المعتقلين؛ فلم يُنْفَ من البلاد سوى مصطفى صدقي و«المنتقم نفسه».

وانقضى عقد من الزمان دون ظهور رد فعل سياسي جاد ضد الاحتلال، ونُسِي عرابي، وظلَّ منسيًّا حتى بعد عودته من منفاه. وكتب أحد المتحمسين السابقين له يقول: «لقد نُسيت ذكرى عرابي، وعندما عاد بعد نفي طويل، لم يكد يلاحظ عودته أحد. لقد شاهدته قبل عام من وفاته فكان طاعنًا في السن هزيلًا، وعاش في بيت صغير في حلوان عند حافة الصحراء، وكان عليَّ أن أسأل الكثيرين حتى استطعت أن أستدل على بيت الدكتاتور السابق الذي كان بطلًا مثاليًّا للجماهير»، ولم يعرف الناس نبأ وفاته في ١٩١١م إلَّا بعد أن وُورِيَ جثمانه الثرى.

١  حامد أمين، مصري أُوفد إلى برلين في ١٨٥٣م وهو في الخامسة عشرة من عمره لدراسة الصيدلة، ولكنَّه تلقى هناك تعليمًا عسكريًّا، وبعد عودته من البعثة أصبح ضابطًا بالجيش، غير أنه لفت الأنظار إليه لإجادته اللغات الأجنبية، وأُحيل إلى التقاعد بعد الاحتلال، فاستبدل بمعاشه ثمانين فدانًا من الأراضي الزراعية وتفرَّغ للزراعة حتى وفاته في ١٩١٦م.
انظر: زكي، ص٨٩، Heyworth-Dunne, p. 307.
٢  سليمان نجاتي، أُرسل إلى فرنسا في ١٨٤٤م ليتلقَّى تعليمًا عسكريًّا، وبعد عودته من البعثة في ١٨٤٩م عمل بالمدارس العسكرية، أُلقي القبض عليه بعد هزيمة العرابيين، ولكن رُدَّ إليه اعتباره كعضو بالمحكمة العسكرية.
انظر: زكي، ص١٤٩. Broadley, p. 333, Heyworth-Dunne, p. 254.
٣  Le Phare d’Alexandrie, 24 April, 1882.
٤  MAE, Corr. Polit., t. 74 (Le Caire 6/5/1882).
٥  F. O. 78, Vol. 3437 (Cairo 7/5/1882).
٦  حول أحداث مساء ٩ وصباح ١٠ مايو، راجع:
Austrian Archives, Box 119 (Cairo, 12/5/1882).
MAE, Corr. Polit., t. 74 (Le Caire, 10/5/1882).
F. O. 68, Vol. 3437. (Cairo 10/11/1882).
٧  Sabry, La Genése, pp. 261-262.
٨  كامل، ص١٢٠.
٩  Austrian Archives, Box 120 (Cairo, 19/5/1882).
١٠  الوثائق التاريخية، محفظة ٨، ملف ٥٣ / ٤ / ٧.
١١  قدَّم عرابي ٥١ من هذه الالتماسات إلى محاميه برودلي، ويوجد ملخص لكل منها بالوثائق البريطانية (F. O. 141, Vol. 156) كما توجد ترجمة لاثنين من هذه الالتماسات الخاصة بتلك الأيام فتوجد في الوثائق التاريخية، محفظة ٨، ملف ٥٣ / ٤ / ٢.
١٢  عن عائلة البكري، راجع: مبارك، الخطط، ج٣، ص١٢١–١٣٥، زاخورا، ج٢، ص٢١٧–٢٢٤.
Cromer, Vol. 2, pp. 175–177.
١٣  كان عبد الخالق السادات يُناصر الخديو شأنه في ذلك شأن الكثير من الشخصيات الدينية الإسلامية. انظر: الوثائق التاريخية، محفظة ١٨، ملف ٢٢، محفظة ١٩، ملف ١٢٢.
Malortie, pp. 315–317.
Blunt: Secret History, pp. 233, 248.
١٤  Adali (in holt), pp. 55-56.
١٥  النص في وثائق الخارجية الألمانية: G. F. O., J. A. B. 9 (Turkei 102, Vol. 6 (Paris 25/5/1878)).
١٦  لا نستطيع تأييد ما ذهب إليه لانداو من احتمال وجود صلات سرية بين حليم وجمعية الضباط الفلاحين، فلم يكن حليم مرشح العرابيين إلَّا في ١٨٨٢م عندما علموا أنه مرشح السلطان لخديوية مصر.
١٧  Blunt: Secret History, p. 237.
١٨  F. O. 78, Vol. 2438 (Cairo 15/6/1882).
١٩  Austrian Archives-Box 122 (Alexandria, 16/6/1882).
٢٠  Ninet: Arabi Pacha, p. 135.
٢١  نص البرنامج ورد الخديو في «كرم»، ص١١٦–١١٨.
٢٢  انظر أيضًا مذكرة عرابي حول الإصلاحات المقترحة لمصر في: Blunt: Gordon at Khartoum, pp. 33–37.
٢٣  Broadley, p. 473.
٢٤  The Times, 16/4/1879, p. 9.
٢٥  Bioves, p. 132.
٢٦  Stone, p. 289.
٢٧  Young, pp. 119-120.
٢٨  Kusel, p. 199.
٢٩  Cromer, Vol. 1, p. 300.
٣٠  حاصر ٤٠٠ جندي من المشاة والفرسان القصر لمنع الخديو من الهرب، وبعد تدخل محمد سلطان وحسن الشريعي وسليمان أباظة، وياوران الخديو ودرويش باشا على التوالي، أمر عرابي طُلبة عصمت بسحب الجنود، وقَبِل أحد الضباط (محمد منيب) رشوة من الخديو، فبقي مع ٢٥٠ من جنوده لحراسة توفيق.
٣١  يذكر سليم النقَّاش (ج٥، ص١٠٣) أن ٧٠ من الأعيان شاركوا في تلك الجمعية، وذكر عرابي نفس الرقم في مذكراته (ج١، ص١٩٢)، ووفقًا لما يذكره عمر لطفي. (F. O. 78, Vol. 3439) وBioves (ص٢٣٣) وRoylo (Vol. 1, 200) كان عدد الحاضرين مائة من الأعيان، بينما ورد بمحضر الاجتماع، وفي الرافعي (الثورة العرابية، ص٤٣١) أن عددهم كان أربعمائة من الأعيان، ولكن المعلومات المتوفرة لدينا. تُرجِّح رقم النقَّاش.
٣٢  كان لطيف باشا ضابطًا بحريًّا، تولى نظارة البحرية في عهد إسماعيل، وكان عضوًا بالمجلس الخصوصي، ومات في ١٨٨٤م (المجاهد، عدد ١٣١).
٣٣  F. O. 78, Vol. 3439 (Trainjore, 25/7/1882).
٣٤  كان كل من محمد سلطان، وسليمان أباظة، وحسن الشريعي، وعبد الماجد البيطاش، وأحمد السيوفي، ومحمد الشواربي، وأحمد عبد الغفار، ومحمود سليمان من معارضي عرابي، بينما هرب زعيم مجلس النواب عبد السلام المويلحي إلى سوريا.
٣٥  النواب الثمانية يمكن أن نتعرَّف عليهم من مقارنة أسماء ٢٥٠ من المُوقِّعين على محضر جمعية الأعيان بأسماء اﻟ ٨٣ نائبًا، وكان ثلاثة منهم من البحيرة، واثنان من المنوفية، وواحد من كلٍّ من القليوبية والغربية والمنيا.
٣٦  كان من بين الحاضرين عشرة من الشخصيات الإسلامية الكبيرة هم: شيخ الأزهر، وقاضي قضاة مصر، والسيد محمد السادات، والسيد عبد العال السادات، والسيد عبد الباقي البكري، والمفتي الحنفي، والمفتي المالكي، والمفتي الحنبلي، ومفتي الضبطية، ومفتي الأوقاف، و١١ من علماء الأزهر، و١٢ من القضاة، و٩ من ممثلي الطوائف غير الإسلامية، و٣ من أعمام الخديو (إبراهيم وأحمد كمال ولدَا الأمير أحمد، وكامل فاضل ابن الأمير مصطفى فاضل)، ٥٠ من كبار الموظفين وكبار الأعيان بما فيهم بعض أفراد أسرة يكن، و٣٣ من التجار، و٥ ضباط برتبة لواء، و٨ برتبة قائم مقام، وكان ثلاثة أرباع الحاضرين من أعيان القاهرة، ومثَّل المديريات الإحدى عشرة المديرون وما يتراوح بين ٤–٦ من عمد المديرية، وقاضي ومفتي الجيزة.
٣٧  أحمد شكري، ربما كان مصريًّا، أُوفد إلى فرنسا في ١٨٥٥م لدراسة القانون والإدارة، وبعد عودته في ١٨٦١م دخل في خدمة الحكومة وارتقى العديد من الوظائف الكبرى وخاصة في إدارة الأقاليم، ومات في ١٨٩٥م.
انظر: المجاهد، عدد ٥٢٩.
Heyworth-Dunne, p. 377.
٣٨  كان إسماعيل حقي تركيًّا، تدَّرج في سلك العسكرية حتى أصبح لواء في ١٨٥٠م، ومنذئذٍ حتى تقاعده من وظيفة رئيس المحكمة العليا في خريف ١٨٧٩م كانت حياته الوظيفية تُعبِّر عن حياة الطبقة الحاكمة، ومات في ١٨٨٣م.
انظر: زاخورا، ج٢، ص٢٠١–٢٠٧، زكي، ص٤٥–٤٩.
٣٩  أحمد حسنين، كان العضو الوطني (المصري) الوحيد في المحكمة العسكرية بعد الاحتلال، يُسمِّيه برودلي من باب السخرية «أميرال أسطول النيل»، كان ضابطًا بحريًّا، ينتمي إلى مديرية الغربية، كان ربانًا ليخوت سعيد وإسماعيل الخاصة، رُقِّيَ إلى رتبة قائم مقام في ١٨٦٣م، ومات في ١٨٩١م.
انظر: مبارك، الخطط، ج١٦، ص٦١، زكي، ص١١٧.
٤٠  إبراهيم توفيق، أُوفد إلى فرنسا في ١٨٥٥م للدراسة، كان ضابط أركان تحت قيادة الجنرال ستون، وصديقًا لتوفيق وجنَّد البدو لحسابه (وخاصة أولاد علي)، ومات في ١٩١٧م.
انظر: Heyworth-Dunne, p. 327; Stone, p. 297; Broadley, p. 234.
٤١  محمد شريف رئيس النظار وناظر الخارجية، عمر لطفي ناظر الجهادية، علي مبارك ناظر الأشغال العمومية، محمد زكي ناظر الأوقاف، ومصطفى رياض ناظر الداخلية (الذي استُدعِي من جنيف)، أحمد خيري أصبح ناظرًا للمعارف، علي حيدر ناظر المالية، حسين فخري ناظر الحقانية، وكانوا جميعًا من أعضاء وزارات شريف ورياض.
٤٢  Le Temps, 16/8/1882.
٤٣  تقلا، ص٢٣٥–٢٣٧.
٤٤  F. O. 78, Vol. 3439 (Tanjore, 19/7/1882).
٤٥  Berque, L’Egypte, p. 105.
٤٦  Berque, L’Egypte, p. 105.
٤٧  Ninet, Arabi Pacha, p. 261.
٤٨  Maurice, p. 99.
٤٩  Austrian Archives, Box 126 (Alexandria, 26/7/1882).
٥٠  لم يُتهم بالعصيان سوى ثلاثة من رجال الدين هم الشيخ عليش والشيخ العدوي والشيخ الخلفاوي، ولم يوجَّه الاتهام إلى باقي العلماء.
٥١  الوثائق التاريخية، محفظة ٨، ملف ٥٣ / ٤ / ٧ (من صابونجي إلى عرابي).
٥٢  يذكر رويل أن محمود فهمي — الذي أُسِر في القصاصين — نُقِل إلى الإسكندرية، وبعدما تلقى وعدًا بالإبقاء على حياته، قدَّم تقريرًا مفصلًا عن خطة عرابي، للخديو ورجاله، ولكنَّنا لا نجد دليلًا على صحة ذلك، ولكن إذا صح ذلك يجب أن نأخذ في اعتبارنا الصورة السلبية التي رسمها محمود فهمي لرفاقه في المنفى في سيرته الذاتية.
٥٣  حصل سلطان باشا على عشرة آلاف جنيه من الخديو ووسام إنجليزي رفيع.
F. O. 78, Vol., (Cairo, 27/11/1882).
٥٤  كان هؤلاء ستة من أتباعه من أعضاء مجلس النواب هم: إسماعيل سليمان، علي حسن الشعراوي، يوسف عبد الشهيد، محمود سليمان، عبد الشهيد بطرس، أحمد علي. وأحد عشر من العمد والموظفين. ويذكر عرابي من بين عمد الوجه البحري الذين تعاونوا مع سلطان: السيد الفقي، أحمد عبد الغفار، محمد الشواربي. (مذكرات عرابي، ج٢) ص١٧، ٢٣،٣٢.
٥٥  Bioves, p. 288.
٥٦  مات عبد العال حلمي (١٨٩١م)، ومحمود فهمي (١٨٩٤م) ويعقوب سامي (١٩٠٠م) بالمنفى، وسُمِحَ لباقي المنفيين بالعودة إلى مصر في ١٩٠٠م و١٩٠١م، ومات طُلبة عصمت في ١٩٠٠م، ومحمود سامي في ١٩٠٤م، وعلي فهمي وأحمد عرابي في ١٩١١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥