بين القديم والحديث في أيام الفرنسويين
(١) تفصيلات العلامة جومار
لما احتل الفرنسويون مصر قسموا مدينة القاهرة إلى ثمانية أقسام — أثمان — يتراوح عدد ما في كل منها من الحارات والعُطف والأزقَّة بين ٢٥٠ و٤٠٠.
وقد دوَّن أسماءها العلَّامة جومار في الجزء الثامن عشر من كتاب «خطط مصر»، وذكر في القسم — الثُمُن — الخامس منها اسم «الفجالة» والعطف والأزقة المجاورة لها، وهذا بيانها: «قنطرة الوز، سبيل العدوي، قنطرة الخروبي، زاوية العدوي، باب العدوي، وكالة الحمير، درب الطشطوشي، درب الفجالة، وكالة القمح، جامع الطشطوشي، جنينة الشيخ البكري، درب حاتم، عطفة أبو الريش، جامع الخربوطلي، جامع البكرية، الخليج السلطاني، باب البكرية، جنينة الخربوطلي، باب قنطرة البكرية، تل الطوابة، بركة الشيخة قمر، درب الطنبلي … إلخ.»
(٢) مذكرات الجبرتي
وذكر العلامة الشيخ عبد الرحمن الجبرتي الفجالة في مواضع عدة من الجزء الثالث من تاريخه «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، فقال مؤرخًا حوادث يوم ٢٥ جمادى الأولى سنة ١٢١٣ — وهي السنة الأُولى للاحتلال الفرنسوي: «… وأحدثوا — الفرنسويون — طريقًا فيما بين باب الحديد وباب العدوي عند المكان المعروف بالشيخ شعيب، حيث معمل الفواخير، وردموا جسرًا ممتدًّا ممهدًا مستطيلًا يبتدي من الحد المذكور، وينتهي إلى جهة المذبح خارج الحسينية، وأزالوا ما يتخلل ذلك من الأبنية والغيطان والأشجار والتلول، وقطعوا جانبًا كبيرًا من التل الكبير المجاور لقنطرة الحاجب، وردموا في طريقهم قطعة من خليج بركة الرطلي، وقطعوا أشجار بستان كاتب البهار المقابل لجسر بركة الرطلي، وأشجار الجسر أيضًا، والأبنية التي بين باب الحديد والرحبة التي بظاهر جامع المقس.»
وقال في حوادث شهر شوال سنة ١٢١٤ عند ذكر ما جرى بين الفرنسويين والعثمانيين في القاهرة: «… وعملوا — الفرنسويون — فتائل مغمسة بالزيت والقطران وكعكات غليظة ملوية على أعناقهم، معمولة بالنفط والمياه المصنوعة المقطرة التي تشتعل ويقوى لهبها بالماء، وكان معظم كبستهم من ناحية باب الحديد، وكوم أبي الريش، وجهة بركة الرطلي، وقنطرة الحاجب، وجهة الحسينية، والرميلة، فكانوا يرمون المدافع والبنبات من قلعة جامع الظاهر وقلعة قنطرة الليمون ويهجمون أيضًا، وأمامهم المدافع، وطائفة خلفهم بواردة يقال لهم السلطات يرمون بالبندق المتتابع، وطائفة بأيديهم الفتائل والكعكات المشتعلة بالنيران يلهبون بها السقائف، وضرف الحوانيت، وشبابيك الدور، ويزحفون على هذه الصورة شيئًا فشيئًا …»
إلى أن قال: «… فدخلوا من ناحية باب الحديد وناحية كوم أبي الريش وقنطرة الحاجب وتلك النواحي وهم يحرقون بالفتائل والنيران الموقدة، ويملكون المتاريس، إلى أن وصلوا من ناحية قنطرة الخروبي، وناحية باب الحديد إلى قرب باب الشعرية، وكان شاهين أغا هناك عند المتاريس، فأصابته جراحة (كذا)، فقام من مكانه، ورجع القهقرى فعند رجوعه وقعت الهزيمة، ورجع الناس يدوسون بعضهم البعض، وملك الفرنساوية كوم أبي الريش …»
وقال في تلخيصه لحوادث سنة ١٢١٥ﻫ/١٨٠٠م: «… وانقضت هذه السنة بحوادثها وما حصل فيها، فمنها توالي الهدم والخراب وتغيير المعالم … واتصل هدم خارج باب النصر بخارج باب الفتوح، وباب القوس إلى باب الحديد، حتى بقي ذلك كله خرابًا متصلًا، وبقي سور المدينة الأصلي ظاهرًا مكشوفًا، فعمروه ورموا ما تشعب منه، وأوصلوا بعضه ببعض بالبناء، ورفعوا بنيانه في العلو، وعملوا عند كل باب كرانك وبدنات عظامًا وأبو ابًا داخلة وخارجة وأخشابًا مغروسة بالأرض مشبكة بكيفية مخصوصة، وركزوا عند كل باب عدة من العسكر مقيمين وملازمين ليلًا ونهارًا … ومنها — من حوادث السنة — قطعهم الأشجار والنخيل من جميع البساتين والجنائن خارج باب الحسينية، وبساتين بركة الرطلي، وأرض الطبالة.»
(٣) إجمال لعلي باشا مبارك
ووصف المرحوم علي باشا مبارك حالة الفجالة في عصر الفرنسويين بقوله: «… وقبل مجيء الفرنسوية كانت أرض الفجالة صعبة يعسر المرور بها، ثم لما دخلت الفرنسوية أرض مصر ونظمت بعض الجهات، نظمت هذا الشارع وجعلته ممتدًا من قنطرة باب الحديد إلى قنطرة العدوي.»
(٤) آثار الفرنسويين في الفجالة
ومن هذا الإجمال يتبين أن الفرنسويين هم أول من نظَّم شارع الفجالة، ويعتقد البعض خطأ أن السور الباقية آثاره بين شارع الفجالة البراني وباب البحر هو سور قراقوش، والحقيقة أنه من صنع الحملة الفرنسوية، حدثني الباحث المدقق يوسف أفندي أحمد المفتش في لجنة الآثار العربية، قال: إن سور قراقوش كان عرضه ٣ أمتار و٦٠ سنتيًا، وهو ينتهي الآن بحصن واقع في مخبز بباب الشعرية، وقد استولت لجنة الآثار على هذا المخبز احتفاظًا بالأثر الذي فيه، أما السور الفرنسوي فإن عرضه لا يتجاوز ٦٠ سنتيًا، والفرق ظاهر في بناء السورين ونوع المونة المشيد بها كل منهما.
ومما يذكرنا بأعمال الفرنسويين في الفجالة «شارع البرج»، الذي يسميه الأهالي «شرم الفجالة»؛ إشارة إلى اختراق السور، وهذا البرج هو أحد الاستحكامات التي أقامها الفرنسويون في ظاهر البلد.
(٥) حي أعيان الأقباط في الفجالة
(٥-١) عائلة تادرس أفندي عريان
وكانت الفجالة في أول عهد محمد علي باشا، مؤسس العائلة السلطانية، أرضًا زراعية، ولم يكن أحد يستطيع اجتيازها بعد الغروب، فلما اتخذ عباس باشا الأول حي العباسية مقرًّا له، وكثر عدد قاصديها عن طريق الفجالة، وزاد عمرانها إنشاءُ سكة الحديد، وقرب المحطة منها.
وكان أول من أنشأ دارًا في الفجالة المرحوم تادرس أفندي عريان الخناني ابن المرحوم عريان إسحق الوزان، وكان من أعيان الأقباط في أيامه، خدم الحكومة زمنًا، ثم اقتصر على العمل في أرزاقه الخاصة، والدار التي بناها لا تزال قائمة حتى اليوم في آخر شارع قصر اللؤلؤة بين مدرسة الآباء اليسوعيين وكوم الريش، ثم بنى دارًا داخلية سكنها أولاده؛ وهم: المرحوم عريان بك باشكاتب المالية، وسيدهم أفندي، وكركور أفندي، وباسيلي باشا الذي كان مستشارًا في الاستئناف الأهلي، وقد ترك أملاك أبيه، وابتنى قصرًا في شارع الظاهر على ناصية شارع كنيسة الروم الكاثوليك، وتوفي أثناء تدوين هذه الرسالة (يوم السبت ٧ ديسمبر سنة ١٩١٨).
(٥-٢) بيوت جاد شيحة وأولاده
وممن عاصروا المرحوم تادرس أفندي عريان في السكنى بالفجالة المرحوم جاد أفندي شيحة، وكان أيضًا من الأعيان، تقلب في الوظائف الأميرية من أيام محمد علي، وكان في آخر أيامه معاونًا في دائرة عباس باشا، وكانت له دار وسيعة الرحاب واقعة بين الدرب الإبراهيمي والجبروني — في مدخل شارع كلوت بك من جهة المحطة — ولا تزال هناك عطفة باسمه هي عطفة شيحة، فابتاع فدانًا من أرض الفجالة منذ ٨٠ سنة، وشيَّد فيه دارًا صغيرة لا تزال باقية إلى اليوم — رقم ١٤ شارع بستان الكافوري — ويسكنها حفيده لبنته صاحب العزة حبشي بك مفتاح.
وكان جاد أفندي شيحة متخذًا هذه الدار منتزهًا يقضي فيه مع عائلته فترات قصيرة، ثم بنى دارًا صغيرة أخرى، فلما شب أولاد الثلاثة؛ وهم واصف ودميان وميخائيل، أعجبوا بالفجالة وأحبوا السكنى فيها، خصوصًا بعد أن أنعم سعيد باشا على دميان بك جاد بفدانين من الأرض مجاورين لدار أبيه جاد شيحة.
وبلغت مساحة الأرض التي امتلكها أولاد جاد شيحة وذريتهم في الفجالة نحو أربعة أفدنة، يحدها شمالًا شارع بستان الكافوري، وجنوبًا شارع الفجالة العام، وشرقًا شارع علاء الدين، وغربًا شارع سيف الدين المهراني.
وترقَّى دميان بك جاد في وظائف الحكومة وعظم شأنه، فبنى العمارة «رقم ٥ في شارع سيف الدين المهراني»؛ حيث توجد الآن إدارة جريدة الأخبار ومطبعتها وإدارة جريدة مصر ومطبعتها ومنزل صاحبها، وهذه العمارة هي أولى العمارات الكبيرة التي أنشئت في شارع الفجالة من الجهة الغربية، ويرجع تاريخ إنشائها إلى ما قبل سنة ١٨٦٥م، ثم بنى آل جاد عمارات واسعة، منها دار خاصة في الجهة الشمالية الشرقية، وبيوت للأجرة على الشارع العام، يحيط بمجموعها ويتخللها حدائق غنَّاء محاطة من الجهتين الغربية والشمالية بسور.
(٥-٣) سكان آخرون
وكان لعائلة القطاوي أرض خربة في الجهة الشرقية الجنوبية، أنشَئوا بها في أول عهد الخديوي إسماعيل إسطبلات ومخازن خشبية، ثم باعوها بسعر بخس لجماعة من أعيان الأقباط وكبار موظفي الحكومة منهم، الذين ضافت بهم حارة السقايين ودرب الإبراهيمي وسنقر، وطاب هم مناخ الفجالة، فكان في مقدمة من سكنوها وهْبة بك الجيزاوي باشكاتب المالية، وميخائيل أفندي أبو جرجس باشكاتب دائرة جلال باشا، وعياد أفندي حنا من كبار الموظفين في المالية، ونسيم بك شحاتة باشكاتب مصلحة سكة الحديد، ومنصور بك جرجس من موظفي سكة الحديد، وحنا بك ضبيع، وميخائيل أفندي عبد السيد صاحب جريدة الوطن، ومقار باشا عبد الشهيد العضو النائب عن الأقباط في مجلس شورى القوانين، وغيرهم ممن كان يساعدهم مركزهم على السكنى في هذه الضاحية، ويقدرون على الانتقال اليومي إلى دواوين الحكومة، فكان الأكابر يركبون عرباتهم الخاصة، والمتوسطون يقتنون الحمير أو يشتركون في أجرة عربة تقلهم يوميًّا إلى شارع الدواوين.
ومن أعيان السوريين الذين سكنوا وسط الأقباط في هذه الجهة منذ نشأتها الخواجا يوسف نصرة، وكان تاجرًا في البياضات، وله معاملة مع دائرة الخديوي إسماعيل، وتجمد له مبلغ من المال، فأعطته الدائرة بدله قطعة واسعة من أرض الفجالة واقعة على جسر الشارع العباسي، ومنه ابتاع الآباء اليسوعيون أرض مدرستهم بسعر المتر ٢٠ قرشًا.
(٥-٤) دميان بك جاد
ومن الغريب أن ينسى اسم دميان جاد، فلم يطلق على أحد الشوارع، وعذر مصلحة التنظيم في هذا الإهمال أن دميان بك توفي قبل أن توضع اللوحات.
وقد عني بتفصيل تاريخه وأعماله في الحكومة حضرة صديقنا الباحث المحقق توفيق أفندي اسكاروس، وسينشره في الجزء الثالث من كتابه «تاريخ مشاهير الأقباط».
(٥-٥) ميخائيل بك جاد
وقد حفظت لنا مصلحة التنظيم حتى آخر سنة ١٩١١ اسم «ميخائيل جاد» في لوحات أربع وضعت في أكبر شارع موصل بين الفجالة وشارع عباس، وكان ميخائيل جاد موظفًا في وزارة المالية، وشارك سعادة المالي الماهر فيتا هراري باشا في إصلاح حسابات الحكومة المصرية بحسب البروجرام الذي سنَّه المستر فيتز جرالد مؤسس النظامات الحديثة للمالية المصرية.
ومن آثار المرحوم ميخائيل بك جاد في شارع الفجالة كنيسة العذراء التي شيدها في زاوية من أملاك عائلته، وخصص مبلغًا من ريع الوقف للإنفاق عليها.
(٥-٦) تشابه في وقفيتين
وكما تشابه المرحومان عريان بك ودميان بك في الوجاهة والسكنى والوظيفة، فقد اقتفى ثانيهما أثر والد الأول في وقفيته الخيرية، وهي تقضي بحرمان كل أنثى في العائلة توريث خلفها مما ورثته عن عائلتها، سواء كان الورثة ذكورًا أم إناثًا.
وقد قرأت في مؤلفات المرحوم قاسم بك أمين أن من احتقار أهل الوجه القبلي لبناتهم أنهم يمنعون توريثهن، وسألت سعادة أندراوس باشا — والرجل من صميم الصعيد وأقدم عائلاته — عن صحة هذه الرواية، فقال: هذا حديث لا حقيقة له بالمرة، ولم نسمع عن حرمان البنات إلَّا في وقفيتي عريان ودميان.
(٥-٧) العلَّامة لينان باشا ده بلفون
وممن راقتهم الفجالة وسكنوها، قبل الاحتلال الإنكليزي، العلَّامة الشهير لينان باشا الفرنسوي صاحب المآثر الخالدة في هندسة القناطر الخيرية، وإنشاء قنال السويس. حضر إلى مصر سنة ١٨١٨ وهو في العشرين من سني حياته، بوظيفة رسام في بعثة يرأسها الكونت ده فوربين للبحث عن الآثارات، ثم التحق بخدمة لجنة إنكليزية تشتغل بالمسائل الجغرافية والري، فطاف أنحاء البلاد طولًا وعرضًا، ودوَّن بحثًا دقيقًا عن بحيرة موريس، وبتدبيره تم نقل المسلات الأثرية، التي أهداها محمد علي باشا إلى الحكومة الإنكليزية، من الإسكندرية إلى مدينة لندن.
وبدأ سنة ١٨٢٣ بجس أرض برزخ السويس، والنظر في أرض شبه جزيرة سينا، فقضى ١٨ شهرًا، وهو يتجول بين العريش والعقبة، ثم قضى زمنًا آخر على ساحل البحر الأحمر في المنطقة الواقعة بين السويس وجبل الزيت.
ثم سافر إلى لندن، وهناك قابل إبراهيم باشا ابن محمد علي، فعرض عليه الباشا الخدمة في الحكومة المصرية، فقبل الطلب مشترطًا أن يبقى سنة للبحث والتنقيب في جزيرة سينا، وعلى أثر ذلك عين مهندسًا للحكومة في الوجه القبلي سنة ١٨٢٨.
وشرع في النظر في إصلاح حالة الري في الوجه البحري سنة ١٨٣٣، ولبث يعمل في هذه المهمة بالاشتراك مع جماعة من المهندسين الفرنسويين حتى سنة ١٨٣٥، وفي ذاك الحين نظمت نظارة للمعارف والأشغال العمومية، وعين لينان أفندي مديرًا لقسم الأشغال، فوضع أساس وزارة الأشغال الحاضرة، ورتب مشروعات محمد علي وبدأ في تنفيذها، ففي سنة ١٨٣٨ حَفر ترعة الزعفران، وسهل الملاحة في الشلالات بين أصوان والخرطوم، وفي سنة ١٨٣٩ أنشأ قنطرة على بحر شبين، وبينا هو مهتم بتنجيز هذه المشروعات استدعي إلى سوريا، وبعد أن عاد منها أتم خريطة الفيوم والوجه البحري، ووضع مشروع حفر قنال السويس مستندًا في عمله إلى المباحث التي قام بها رجال بعثة نابليون والمسيو ليبير والمسيو مينو.
وحضر الدوق دومونبانسييه إلى القطر المصري في سنة ١٨٤٥، فزار برزخ السويس مع المسيو لينان، فكانت هذه الزيارة النواة التي بنى عليها تنفيذ مشروع القنال، فتألفت لذلك جمعية دولية كان المسيو لينان مرشدها في كل ما يختص بالبرزخ وبحيراته ومناسيبه.
وفي سنة ١٨٤٩ عهد إلى المسيو لينان إنشاء طريق للعربات بين القاهرة والسويس، وفي سنة ١٨٥٠ كلف وضع نظام لتوزيع المياه في القاهرة، ثم انتدب نائبًا عن الحكومة المصرية لمفاوضة شركة قنال السويس بمدينتي لندن وباريس.
وفي سنة ١٨٥٦ أتم مشروع مد المياه الحلوة من النيل إلى قنال السويس، وكان في أيام سعيد باشا يد الحكومة العاملة في حفر القنال.
وفي سنة ١٨٦٢ عُيِّن مديرًا عامًّا للأشغال العمومية، ولبث في هذه الوظيفة حتى آخر سنة ١٨٦٤، حيث طلب إحالته إلى المعاش وبقي ملازمًا داره حتى سنة ١٨٦٩، فاستدعته الحكومة، وعينته ناظرًا للأشغال، وأنعم عليه برتبة الميرميران الرفيعة.
ومن أعماله المهمة وهو في نظارة الأشغال إنشاء ميناء الإسكندرية وكوبري قصر النيل، ولما أتم أربعين سنة في خدمة الحكومة أعطي معاشًا كاملًا، فشرع في وضع كتابه الكبير المسمى «مذكرات عن أعمال المنافع العمومية في مصر من أقدم الأزمان إلى الوقت الحاضر»، وهو مؤلَّف كبير مرفق بتسع خريطات ملونة، ثم وضع كتابًا آخر عن مناجم الذهب في مصر، وترك عدة أوراق في شئون جغرافيَّة وهندسية، وتوفي سنة ١٨٨٣.
جزيرة صخرية في بحيرة فيكتوريا نيانزا عند مدخل خليج مورشيسون في الجهة الجنوبية من البحيرة بين موفو وأومبيريو، وقد أطلق عليها الرحالة ستانلي اسم «لينان»؛ إحياء لذكرى مواطننا لينان ده بلفون.
وفي المكتبة السلطانية تحت رقم ١٧٧٥ رسالة مطبوعة في ٢٠ صفحة عنوانها «تركة لينان ده بلفون، فهرست خزانة الكتب»، وتشمل هذه الفهرست على أسماء نحو ٤٠٠ مؤلف في العلوم والأعمال الهندسية، والصناعة، والفنون، والتاريخ، والجغرافية، والرحلات، والقواميس، ودوائر المعارف، والمؤلفات المختلفة، والخرائط، ومجموعات الصور والروايات.
(٦) تجديد ذكرى الأقدمين
(٦-١) أقدم مالك وأقدم ساكن
لما تمَّ تنظيم الفجالة الجديدة، وتقسيم أرض بركة الرطلي سميت شوارعها وحاراتها بأسماء أقدم من أنشَئوا فيها عمارات أو سكنوها قبل غيرهم؛ فأطلق على شوارع القسم الغربي الشمالي الأسماء الآتية: حارة ميخائيل جاد، حارة نسيم بك، عشش الخربوطلي، شارع اليسوعية، عطفة عبد العال، شارع مقار بك — باشا — عبد الشهيد، حارة إلياس صوصه، الساقية الحلوة، دهليز الملك، الزهار، شارع ميخائيل أبو جرجس، شارع القطاوي، شارع عريان بك، شارع إلياس.
وأطلق على شوارع القسم الشرقي الشمالي الأسماء الآتية: حارة حبيب شلبي، حارة جرجس فرج، حارة سليم فرج، حارة عتابي، حارة أحمد نافع، عطفة عبد الملاك، عطفة يوسف خزام، عطفة متولي المهندس، عطفة بدر بك الحكيم، شارع بطرس باشا … إلخ.
(٦-٢) لجنة الأحياء
ثم رأت مصلحة التنظيم أن تحيي أثر مشهوري الأقدمين بتسمية الشوارع بأسمائهم، أو بأسماء الخطط القديمة، وألفت لذلك لجنة في سنة ١٩٠١، ولكنها لم تلبث طويلًا حتى حلت بوفاة بعض أعضائها، وانتقال البعض إلى وظائف خارج العاصمة، فأعيد تأليفها في سنة ١٩٠٩، وانتظم في سلكها المسيو موني، وداود أفندي عبد السيد المهندس، وأتمت تسمية شوارع الفجالة وحاراتها وتجهيز اللوحات اللازمة لها في سنة ١٩١١.
(٦-٣) ظروف غير مناسبة
ويعلم المتبعون للتاريخ الحاضر أنه في تلك السنة انعقد المؤتمر القبطي في أسيوط، والمؤتمر المصري في القاهرة، وعلى أثر إرفضاضهما شرع عمال مصلحة التنظيم في رفع اللوحات القديمة بشوارع الفجالة ووضع اللوحات الجديدة، فهاج الأقباط وماجوا، وخيل إلى الكثيرين منهم أن لهذا العمل علاقة بالمؤتمرين، ونشرت كل من جريدة مصر وجريدة الوطن مقالة مسهبة في الموضوع.
(٦-٤) أقوال جريدة مصر
فقالت جريدة مصر الصادرة في ٦ مايو: كان لتغيير أسماء شوارع الفجالة وقع سيئ جدًّا في نفوس جميع المسيحيين، الذين اعتبروا العمل على حقارته الذاتية عملًا مدهشًا، يشف عن إحساس لا يليق أن تتصف به حكومة راقية في هذا الزمان.
والذي زاد في مبلغ تأثيره أنهم أبدلوا أيضًا لوحة شارع مدرسة اليسوعيين بلوحة أخرى باسم شارع «بستان المقسي»، فكأن الغرض هو محاربة المسيحية عمومًا، لا الأقباط خصوصًا.
قد يقال إنه ربما لا يكون هذا العمل مقصودًا بالذات، بدليل أنهم غيَّروا أيضًا أسماء إسلامية مع الأسماء المسيحية، والرد على هذا القول بسيط؛ هو أنهم لم يغيروا الأسماء الإسلامية بأسماء مسيحية، بل غيروها بأسماء إسلامية مثلها، وأما الأسماء المسيحية فلم يخطئوا في واحد منها، ويغيروه باسم مسيحي بدله.
(٦-٥) أقوال جريدة الوطن
وقالت جريدة الوطن: وإنما لفت الناقدون الأنظار إلى هذه المسألة للدلالة على ما فيها من سخافة أولًا، وفساد ذوق ثانيًا.
فهي من الجهة الأولى لا تؤدي إلى الغرض الذي يزعمونه؛ وهو إعادة بعض الحوادث التاريخية إلى الأذهان، وإلَّا فمَن مِنَ الناس يسير في إحدى حواري الفجالة مثلًا، ويرى على إحداها اسم حارة «بركة بطن البقرة»، فيستفزه هذا الاسم إلى التفتيش في بطون التواريخ القديمة، لكي يستدل على أصل هذه التسمية، ويعرف أين كان بطن البقرة هذا؟ اللهمَّ إلَّا إذا كان عالمًا أثريًّا واقفًا حياته على التنقيب والبحث عن الآثار القديمة، وما كل الناس بعلماء، ولا لمثل هذا وُضعت أسماء الشوارع والبلاد، وإنما وضعت لهداية السائر وإرشاد السابلة، ولا نبالغ إذا قلنا إن تغيير أسماء مفهومة معروفة منذ سنين بأسماء تكاد تكون أعجمية، قد أفسد الغرض منها وأضلَّ الناس وحيَّرهم إلخ إلخ.
(٦-٦) مذكرة مصلحة التنظيم
فرأت مصلحة التنظيم إزالة لهذا الريب أن تنشر مذكرة حاوية أسباب هذا التغيير، وعهدت في تدوينها إلى المسيو موني، وأرسلت صورًا منها إلى الصحف المحلية، فنشرها البعض برمتها، ولخصها البعض، وأهملها الكثيرون.
وقد دبج المسيو موني هذا التقرير بالإشارة إلى لجنتي الأحياء، ثم قال ما خلاصته: «لم تراع اللجنة الأديان في التسمية؛ بدليل تسميتها أحياء باسم يعقوب القبطي، وبهاء الدين بن حنا، وأرمانوسة المصرية، وشجرة مريم، والبلسم، ولما شرعت في تسمية شوارع الفجالة أكثرت من البحث في الكتب التاريخية؛ مثل: الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك، وخطط المقريزي، وابن دقماق، فلم يوجد بها شيء أثري للأقباط، وكان الباحث عن الأسماء المهندس داود أفندي عبد السيد.»
وختم المسيو موني التقرير بقوله: «وأخيرًا فكَّرتُ في مقابلة حضرة جندي بك إبراهيم صاحب جريدة الوطن؛ لعلمي أن له علاقة كبرى ببطريكخانة الأقباط الأرثوذكس، عسى أن يحصل لنا على شيء في هذه البطريكخانة من الآثار التي يهم الجمهور تسمية الجهات التي كانت بها بأسمائها، فأخذت معي صديقًا له ليقدمني لحضرته؛ وهو حضرة مسيحة أفندي ميخائيل، باشكاتب مصلحة الإحصاء الآن. وفعلًا قابلنا حضرته، ووعد أن يوافينا بشيء من ذلك، ولكنه اكتفى بأن شكر للحكومة عملها في أحد أعداد جريدته، ولم يوافنا بشيء من البطريكخانة حتى الآن.»
(٦-٧) الأسماء القديمة المجددة
وقد أزالت مصلحة التنظيم أسماء حارات القسم الغربي كلها، وأبدلتها بالأسماء الآتية؛ وهي: شارع الخليج الناصري، السلطان شعبان، سراج الدين، الوزير شمس الدين، سيف الدين المهراني، بستان الكافوري، بستان المقسي، بستان المهاميزي، بركة بطن البقرة، الوزير علاء الدين، ابن حبيب، قلعة المقسي، قصر اللؤلؤة، منظرة اللؤلؤة، بكتمر الحاجب، المهراني، كوم الريش، أبو الريش، بستان التاج.
وأضافت اسمين عصريين؛ وهما: شارع كنيسة الروم الكاثوليك، وأرض لينان باشا.
أما القسم الشرقي، فقد أَبدلت فيه اسم حارة حبيب شلبي بشارع حبيب شلبي، ورَفعت كلمة «المهندس» من عطفة متولي المهندس وجَعلتها حارة، وكلمتي «بدر بك» من عطفة بدر بك الحكيم وجعلتها شارعًا، وأبقت اسم شارع بطرس باشا، واسم شارع غالي — وهو غالي بك نيروز والد بطرس باشا — أما الأسماء القديمة المجددة فهي: نسب، سكة البشنين، بركة الرطلي، ابن رزيك، الوزير الصاحب، البشيري، ابن بركة، بركة الحاجب، بركة الطوابة، أرض الطبالة، ابن مجير، أبا الحارث، الشيخ خليل.
(٦-٨) معلومات عن الأسماء المجددة
- السلطان شعبان: هو الأشرف زين الدين أبا المعالي شعبان بن حسين بن الناصر محمد بن المنصور قلاوون، وهو السابع عشر من أمراء دولة المماليك الأولى، حكم ١٤ سنة وشهرين وبضعة أيام (من سنة ١٣٦٢–١٣٧٦م) معظمها سكينة وسلام، وفي السنة الثالثة من حكمه أصيبت مصر وسوريا بقحط عظيم، فأكل الناس الكلاب والقطط، بل أكل بعضهم أولاده، وفي السنة الحادية عشرة من حكمه أصابت البلاد حروب أهلية، انتهت بأن قتل الأمراء السلطان شعبان خنقًا.
- ابن رزيك: هو أبو الملك الصالح، كان من الشيعة الإمامية، حضر إلى مصر،
وترقى في الخدم حتى ولِّي منية ابن خصيب — مديرية المنيا — ثم قبض
على أعمال الحكومة في أيام العاضد بن يوسف — آخر الخلفاء الفاطميين
من ١١٦٠–١١٧١م — ولم يكن هذا الخليفة بالغًا رشده، فتزوج ابنة
طلائع، وسماه — الملك — ثم تآمر أهل القصر، وفي طليعتهم عمة
الخليفة، على هذا الوزير الملك، وقتلوه في قصره.
وكان ابن رزيك شجاعًا، جوادًا، محبًّا لأهل الأدب والعلم، شديد المغالاة في التشيع، وهو الذي نقل رأس الحسين من عسقلان إلى القاهرة.
- ابن مجير: هو شاور بن مجير السعدي، كان واليًا على قوص، ثم ثار على العادل رزيك بن طلائع وقبض عليه وقتله، وأجلس نفسه وزيرًا مكانه، وبقي في الوزارة حتى ثار عليه ضرغام، ففر شاور إلى الشام، ثم عاد إلى مصر مع شيركوه، واتفق مع مُرَّى ملك بيت المقدس. ومن أعمال شاور بن مجير حرقه مدينة الفسطاط (سنة ١١٦٨م)، حتى لا يأوي إليها الصليبيون، فبقيت النار مشتعلة فيها أربعة وخمسين يومًا، ثم قتله شيركوه بالاتفاق مع الخليفة العاضد.
- بكتمر الحاجب: كان من رجال الناصر محمد بن قلاوون، وترقى في الوظائف حتى بلغ الوزارة، ثم قبض عليه الملك واعتقله سنة ونصف سنة، وأخذ كثيرًا من ماله، ثم أفرج عنه وعيَّنه نائبًا على صفد، وأعاده إلى مصر. ومع أنه كان خبيرًا بالأمور بصيرًا بالحوادث، فقد اشتهر بالبخل والجشع في جمع المال بكل طريقة، ومن أعماله قنطرة دعيت باسم «قنطرة الحاجب»، كانت موصلة بين أرض الطبالة ومنية السيرج.
- الوزير الصاحب: هذا لقب من كان يتولى الوزارة من أرباب الأقلام، ولم يكن يلقب به أحد من الوزراء أرباب السيوف، وأول من لُقِّب به الصاحب إسماعيل بن عباد أيام وزارته لمؤيد الدولة صاحب بلاد الري.
(٦-٩) مواضع الأمكنة
يخطئ من يظن أن لوحات مصلحة التنظيم تدل دلالة يقينية على الأماكن التي وضعت فيها؛ لأنه يعسر تصور اجتماع الخليج الناصري وبركة بطن البقرة وبستان المهاميزي ومنظرة اللؤلؤة كلها في مساحة لا تزيد على ١٠ أفدنة، بل المقصود من وضع هذه اللوحات هو الذكرى والإشارة إلى قرب الأماكن المشار إليها من الفجالة أو متاخمتها لها. ولو أردنا تتبع آثار الخليج الناصري وحده لسمينا باسمه جزءًا كبيرًا من العاصمة، يحاذي ترامواي مصر القديمة من القصر العيني حتى أبي العلا، ومنه إلى شارع عباس إلخ.