الرجل العظيم والعصر الذي يعيش فيه
ليست العظمة من النباتات التي تخرجها كل تربة، وينميها كل جو، وتزكو في كل حقل، وليست من الفواكه الإنسانية التي تطلع على الناس في مواقيت محدودة، وتحمل إليهم من الفصل إلى الفصل، وينادى عليها في عرض الطريق، فلو أنها كانت كذلك لكان ظهورها في العالم أمرًا اعتياديًّا لا يحتفل به، ولمضت رخيصة الثمن، مبتذلة القيمة، ولكسدت سوقها فأضحت تخزن فوق الرفوف، وترمى فوق الدواليب، ولكان هناك في حوانيت الفاكهة الإنسانية جملة من العظمة العفنة الجوف من طول رقادها في الحانوت، واختناق عصارتها في جو الدكاكين.
ولكن العظمة نبات غريب، لا موعد لظهوره، ولا أوان لخروجه. ولم يهتد العلم بعد إلى أصل بذرته، ولم يكتشف بعد طبائعه، وخصائصه ومزاياه، ولا يزال الناس لا يسيغون ثماره إذا طعموا منها، وفي القوم عديد لا يستلذون بشرابه، ولا يجدون له رائحة جميلة في مذاقه، وكأين من نباتات صغيرة منحتها الطبيعة بعض مزايا ذلك النبات النادر المستغرب، فلم تجد طلابًا، ولم يرج لها سوق، في وسط الخضروات الأخرى التي ألفها الناس، وعاشوا عليها، ووجدوا فيها سمنهم وشبعهم، فذبلت تلك الأعواد الناضرة، وذوت تلك النجوم التي كادت تخرج شطأها.
تلكم العبقريات الصغيرة، وأهل الموهبة الذكية المتقدة، من كتاب لم يتحدوا أدب الماضي، ولم يأخذوا عن أساليب الكتب، وإنما خرجت أذهانهم قوية بنفسها، عظيمة من ذلك الوحي الذي يتنزل على أفئدتها.
فسخرت من كل ما جاء قبلها، وطلعت على الناس بأمثلة جديدة من الفكر الإلهي، لم يكن له في الماضي مثال أو غرار، فلم تستقبلهم الإنسانية كما استقبلت غيرهم ممن استطاعت أن تفهمهم، ولم تجد العناء في إدراك حقائقهم، وعجزت عن أن تدرك ماذا تصنع بهم، وحارت فيما ينبغي أن تفعل من أجلهم، فتركت تلك الأعواد الحلوة المعسولة الثمر في فم الخلود، تذبل على أشجارها، وتذوى دون أن تقتطف شيئًا من دانية قطوفها.
وكم من أولئك النوابغ الذين لم يفهمهم الدهر، ولم يحتفل بظهورهم الجميل، قضوا حياتهم في غيابة سجن، أو ماتوا في مقعد حان، أو طرائح على سرر خشبية، أو هائمين على وجوههم في مستشفيات المجانين، أو مرضى جياعًا، وكلاب الإنسانية السعيدة المنهومة تأكل، وتجد في الأسواق شبعًا وريًّا.
لقد كانت مادة العظمة الإنسانية غنية كثيرة الظهور، دائبة النتاج، يوم كانت الدنيا خيرًا مما هي فيه اليوم، ويوم كان العالم لم يجن بعد جنونه بالماديات، ولم يحشد قوته كلها لاكتشاف مشتهيات طريفة للذة البدن، ويوم كانت الفضيلة لا تزال لها عبدة في العالم، ولا يزال لها مسمى لم يعتصر حتى يصبح كما هو اليوم ضعيفًا لا عصارة له، ولا قوة، ولا ذكر، فكانت الطبيعة تخرج العظمة على مستهل الجيل، ثم تلغي ما ظهر منها بقالب آخر أبدع وأمتن وأجل، إذ كانت الطبيعة إذ ذاك قد جعلت من هذه الأرض، واتخذت من هذا الكوكب المنطفئ حقولًا للتجارب، و«مشاتل» لزراعة العظمة الإنسانية، فلم تفلح تلك التجربة، ولم تخرج تلك الحقول ما يشجع الطبيعة على عملها المقدس.
لقد كان الناس يوم كانت الدنيا كما وصفنا ينظرون إلى النوابغ نظرهم إلى نوع غريب من الحيوانات ظهر بينهم، وفصيلة جديدة من الناس لم تخلق على غرارهم، ولكن العظماء كانوا أقوى من الناس، وكان العبقريون أعظم بأسًا من الإنسانية التي نشأوا بينها؛ فثأروا لأنفسهم منها، وكتبوا هذا التاريخ وحدهم، إذ ليس تاريخ الدنيا إلا تراجم حياة النوابغ الذين ظهروا على مسرح العالم في مختلف العصور الغابرة، ولو أنك جمعتهم في حي واحد، وضممت غابرهم إلى حاضرهم، لما زادوا في مجموعهم عن سكان حي صغير في أحد شوارع المدينة.
إن أولئك الذين يذهبون إلى أن الرجل العظيم إنما يستمد عظمته من العصر، وأن العظماء ليسوا إلا مخلوقات الظروف، قد أخطأوا في فهم العظمة، وعجزوا عن إدراك أسرار الطبيعة التي أظهرتها، فإن القوة الإلهية لا تسير العظماء على هوى الناس، ولا ترسلهم إلى الدنيا ليزينوا العصور التي يعيشون فيها، ويجملون الأجيال التي بدوا على مستهلها، ولم ترض القوة الإلهية أن تنشئ في قطعة ناضرة من هذه الدنيا كل تلك الثورة الفرنسية، ولم تسكن أمام تلك المشاهد الرائعة التي تجلت في بهرة تلك الجنة الإنسانية، ولم تنظر صامتة إلى كل تلك النفوس التي طيح بها، وتلك الدماء التي سفحت وغيرت لون الأرض؛ لكي تخرج بعدها ضابطًا شابًّا في المدفعية، ولكي ينبري لهذه الثورة الطائشة الحمقاء، فتى حدث فقير، لم تخرجه مقاعد الجامعة، ولم يجتز في المعهد العالي، وإنما أخذ بنصيب من فنون الحرب، في مدرسة صغيرة لم تكن شيئًا بجانب مدرسة الثورة، وما خلقت من فنون الحرب ومدهشاتها، تحت عبقربة القتل، والسفك، والتعذيب، وإلا فماذا كان يكون مصير ذلك الشاب بونابرت، لو أن الناس في فرنسا ظلوا ناسًا، ولم تجعل منهم الثورة مردة شياطين يعيشون على الدماء، ويغتذون من لحم الملوك، وماذا لعمري كانت ستكون سيرته وحياته؛ لو أن العصر الذي جيء به فيه، والعهد الذي وثب إليه من أحشاء الكون كان عصرًا هادئًا صامتًا، لا تسمع فيه قذيفة، ولا يتردد في أنحائه صوت مدفع؛ أفكانت القوة الإلهية التي خلعت عليه من المولد ذلك الوحي الذي جعل يمشي وهو في صدره، راضية أن يموت وحيها في فؤاده، وأن يفسد عليها صنعها المتقن، ويخيب غرضها الإلهي الذي أرادته من خلقه، فيمضي نابوليون في العالم طفلًا صغيرًا من أطفال الدنيا، ويموت خاملًا ضئيلًا، حقير الذكر، فلا يكتب له في تاريخ العالم ما كتب من تلك الصفحات التي لا يزال الناس في عجب ودهشة عند قراءتها.
كلا، إن القوة الإلهية إنما تخلق العظيم أول أمرها، أو تمتهد لخلقه السبيل؛ أو تجعله في طريق التهذيب والتكوين، ثم تزجي له بعد ذلك العصر الخليق به، وتنشئ له الجيل الذي يسمو فيه، وإلا لو كان للعصر وحده، فضل إظهار عظمة العظيم، وكان للأجيال اليد في خلق العظماء، والانتفاع بهم، لكانت الإنسانية هي التي تزهى بأنهم نتاجها، وتفخر بأن العظمة من صنائعها، وثمرة مجهودها؛ على حين أن العظماء هم الذين أظهروا كلمتهم على الناس، وأنهم قادوا الإنسانية إلى حيث كانت تكره أن تقاد، وأكرهوها على أن تدين بما لم تكن عن طواعية لتدين به، وكم من عظيم ساق الناس بالعصا إلى الإصلاح، ورعى شؤونهم، وعُنِي بأمرهم على كره منهم، وكم من رجل خطير لقي العذاب من أيدي الناس، وعانى التشريد، وشهد ألوان الموت حيًّا في سبيل هدايتهم إلى الحق، والنهوض بهم من وهدة الضلة والجهل، والانحطاط والفساد، حتى لقد تناهى بالناس الحب للسيد المسيح، كما قال برناردشو، فصلبوه — كما زعموا أنهم فعلوا — ثم عبدوه في قطعة من الخشب، ودانوا بتلك الخشبة التي سميت بعد ذلك صليبهم!
إن العظمة الإنسانية ليست من خلق عصرها، وليست وليدة جيلها، وإنما هي تستمد من العصر مجالًا لها تظهر فيه ما تريد القوة الإلهية منها، وهي كالصورة المتقنة الخفية التي تلتقطها الأداة الشمسية، تم لا غنى لها عن الدخول في حجرة مظلمة معتمة، تستقر فيها ردحًا من الزمن، ثم من تلك الأحماض الكريهة الرائحة؛ لإظهار تقاطيعها، ودقائق تركيبها، وقد يكون العصر يومًا مفسدة لها، ومغريًا إياها بجنون القوة، وقد يردها عاتية ظالمة باطشة، وقد يقتل بذور الحنان الكمين فيها؛ فتكون عظمة جزارة، تحمل السكين فوق رأس الجيل، وتعلق السيف مسلولًا فوق عنق الإنسانية.
•••
وإذا كان هذا هكذا، فاعلم أن هذا العصر لم ينشئ صاحب الترجمة، ولم يخرج الرجل من جوقه، ولم يكن له الفضل في ظهوره؛ لأن المترجم به كان منذ نشأته الأولى، يوم كان في مقاعد المدرسة، وفي أفنية المعهد يمشي يحمل مشاعر العظمة في صدره، ويحس بوادر النبوغ متجلية في كراسته، وفي أسئلته وأجوبته، وكان يخطر في الطريق والقوة الإلهية تكوّن فيه فتى حدثًا في ريع العمر، رئيس وزارة خطير على رأس الخمسين!
وإذا كان هذا العصر قد أجدى على هذه الشخصية المتينة المبتكرة التي لم تبلغ ما بلغت وراء صناعة التقليد، ولم تصل إلى ما وصلت نتيجة التحوير في طبيعتها والتزوير، والمحو والإثبات، فذلكم عون العصر له، ومشيه في أذياله، ورضاه بإرادته، وبما جاء به، فقد كان صاحب الترجمة من العظماء الذين أتيح لهم حسن الحظ أن العصر لم يستطع أن ينكرهم، وعجز الجيل عن أن يبدو لهم جاهلًا شأنهم.
وكان لا بد من رجل يثب من ناحية من نواحي هذه الأمة، في وسط هذا النزاع الذي ضل فيه الناس، فلم يتبينوا في أية زاوية كمن الحق، وفي هذا الجمود الساكن الذي خيل إلى الإنسانية فيه أن ملك الموت قد رفرف بجناحيه على هذا الوادي. نعم، كان لا بد من روح قوية عتيدة الإرادة، صادقة العزيمة، تنهض فتجعل اليوم يومها، والكلمة كلمتها، وتكسر من حدة ذلك الشجار الذي ثارت ثورته حولها، وتبدد ذلك الجمود المميت؛ فتثير في مكانه نشاطًا هو مادة الحياة كلها، وتجعل ذلك السكون حركة مباركة، يرجى أن ترد على هذا البلد مستقبلًا مجيدًا مزهرًا، وتعيد إليها حريتها الضائعة، ومكانها القديم من المجد، وعظمة التاريخ، وكان صاحب الترجمة هو ذلكم الرجل الذي أعدته الأقدار لهذا اليوم الرهيب.