الموازنة بين ثروت وكافور
من أعجب أكاذيب العصر الذي نعيش فيه أن الوطنية لا تتجلى إلا في الشارع، ولا مظهر لها إلا الطريق، وأنها احتكار لأبناء الشعب، وحق مطلق لأفراد العامة، وأن الذين يجلسون في مقاعد الحكومة، ويتربعون في دسوت السلطان؛ يخلعون أردية الوطنية عند عتبة «الديوان»، وما رأينا ضلة كهذه هي السخف بعينه، والكذب بمادته، كأنما رئاسات الحكومة في بلادنا هذه لا تعطى إلا للخونة، وكأنما الرجل منا لا يبلغ أول مقعد للحكم في هذه الأمة إلا بعد سلسلة مستطيلة من أعمال العسف؛ وفعال الجور والبطش، وكأنما ينتخب وزراؤنا من غيابات السجون، ومن إصلاحيات الرجال، وكأنما لم يكونوا يومًا من شباب الأمة المهذبين، وصفوة بنائها في العلم والرقي، وعظمة الذهن، وكأنما لم يكونوا قبل المنصب من النوابغ في القانون، والأعلام في القضاء، والمراجيح في الفضل والحمية والذكاء، وكأنما الوطنية في بلادنا تغتذي من الجهل، وتستمد قوتها من سوقية العاطفة، ومن عامية الوجدان، على حين أن الوطنية عاطفة لا تسكن في الأمعاء، ولا تستقر في الأجواف، ولا تكمن في الحلوق؛ وإنما هي أبدًا بحاجة إلى فؤاد كبير تتربع فيه، وإلى ذهن ذكي تتقدم في ظله، وتستحثه على المضي بها إلى الطليعة، والمشي معها إلى المقدمة، ونحن رأينا جمهرة العامة يعيشون في هذا البلد ببطونهم وأمعائهم، وتعيش الوطنية منهم في حناجرهم وحلوقهم؛ لأنها لا تستطيع أن تقيم في ركن معتم مقرور من أفئدتهم الباردة.
والعامة — كما رأيتم — عبدة أهوائهم، وأشباح تتمشى وراء الصارخ فيهم، الناعق في بهرتهم، فالوطنية لا مقياس لها عندهم إلا في رنة الصوت، وفي عمق الحنجرة، وبين الدعاء بالحياة، والنداء بالسقوط؛ إذ هم لا يرون من كل حركة وطنية إلا ظاهرها، والغشاء الذي يكسوها، أما اللب والباطن، وأسرار النهضة ومطالبها، ومستلزماتها الأولى، فقد عميت بصائرهم عنها، وغشيت الغاشية أعينهم، فالحكومة عندهم في ناحية، والأمة على الضفة الأخرى، ولا يصل الرجل منا إلى الشاطئ الثاني إلا إذا قذف بوطنيته في اليم، يقذفها اليم بالساحل؛ لكي ترتد إلى العامة فتزيدهم وطنية على وطنيتهم، فوطنية كل رجل في الحكومة هاربة عادية لتتنزل على فؤاد رجل من الأمة، وهذا منتهى ما بلغ بالناس سوء الظن، وقصر البصر، وطيش الرأي، والجهل بالحقائق، ومغالطة التاريخ.
وما منع رجلًا كالوزير الإيطالي كافور أن يكون وزيرًا في الحكومة، ورأس الوطنيين في الأمة، فما تخونه إذ مشى إلى مقاعد الحكومة أحد من قومه، ولا استزرى به أهل وطنه، في عصر تلك النهضة الكبرى التي كانت تجاهد فيها إيطاليا المشتتة المنقسمة، المنتهبة المحكومة لتكون إيطاليا الحرة الفتاة المجتمعة المتحدة، وكان أحقر رجل في صفوف العامة يستطيع أن يقف في وجه أكبر وزير في الحكومة يناقشه الحساب، ويقوم اعوجاج الوزير بحد سيفه؛ فلم يفعل أحد منهم شيئًا من ذلك، ولم يتهموه في الوطنية بحكوميته، ولم يقرفوه بالضعف في عقيدته، ولكن أين لنا بعامة كعامة الطليان؛ في وطنية عاقلة رشيدة متقدة كوطنيتهم، ونحن في ذلك نختلف عن أهل الغرب، وتتباين عامتنا وعامتهم؛ لأننا لا نزال شرقيين نعيش على الخيال، رهائن الوساوس، عرضة للأوهام، وليست وطنية سوادنا إلا قصيدًا من الشعر، ومعلقة من المعلقات، فنحن نرد الحقائق أوهامًا، ونحيلها خيالًا، ونجعل من الوهم حقًّا، ومن الباطل صدقًا، فإذا نهض فينا رجل بوطنية عملية، لا تعرف ثرثرة، وليست مغنية، والناس زامرون وراءها، فما هو بمصيب عند الناس من الإعجاب ما يصيبه الحوذي الجالس فوق مصطبة مركبته؛ يلوح بالسوط في يده، وفي حنجرته مادة الوطنية الصخابة الجوفاء.
هذا الوزير كافور تقدم إلى قومه بحب عميق في حبة فؤاده لبلاده، ورغبة صادقة في تحرير أمته؛ فعمل أكثر مما تكلم، وتكلم أقل مما صرخ؛ ولم يصرخ إذ عرف أن قومه سميعون لصوته الهادئ غير صُمّ الآذان عن ساكنة كلماته، فأحبه قومه: بل رفعوه إلى مصاف البطولة النادرة المثال، ونصبوا له تماثيل من نفوسهم، قبل أن يرفعوا له تمثالًا من الحجر.
ونحن قد تبينا في وزيرنا الأول، صاحب هذه الترجمة؛ وجوهًا عدة من الشبه، وروابط متنوعة من الصلة والمقارنة بينه وبين الوزير كافور، ذلكم الرجل الذي نازع أممًا عديدة فغلبها في سبيل حرية إيطالية الجميلة، وتقدم إلى الحكومة بقلب ثبت، وجأش رابط، فجعل في الحكومة وطنية أعلا وأمتن من وطنية الصفوف.
ولد كافور عام ١٨١٠ من أسرة أرستقراطية، نبيلة المحتد، مؤثلة المجد، من بيت قديم، وأجداد أمجاد في ذروة العلا شرفهم، وكذلك كان منشأ صاحب الدولة ثروت باشا، فجده لأبيه كان في عهد محمد علي العظيم سر خليفة الرزقة، وكان جده لأمه قبل ذلك مستحفظان مصر.
وكان كافور في شبيبته ذكيًّا، ملتهب الذهن، نشيطًا، مستحر الذكاء، فلم يكد يناهز الحول السادس عشر حتى كان أول فرقته في المعهد، وفي رأس الطلبة في المدرسة، وكذلك كان صاحب الترجمة في صباه فتى متقد الوجدان؛ سريع الخاطر، حاضر البديهة، فنال وهو في الحول السادس عشر كالوزير كافور شهادة «البكالوريا»، وكان فيها أول الناجحين، وعلى رأس من فازوا من طلبة المدارس الثانوية.
وكانت الصراحة أول مزايا شخصية كافور وعبقريته فلم يستطع منذ نشأته إخفاء آرائه المتحررة من التقاليد العتيقة، ولم يكتم عن الذين كانوا حوله كراهيته للجمود؛ وعبثه بالقديم؛ وسخريته من البالي المهدم، وفي الحق علم أهل عصر الشباب في صبا ثروت باشا وَلِدَاته في مدرسة الحقوق، وأقرانه في المعهد شيئًا كثيرًا من هذا الخلق، فكان صاحب الترجمة فتى مهذبًا، سامي النفس، متخلصًا من آداب الجمود، يعيش منساقًا مع فطرته النقية، وذهنه الخصيب، وعاطفته الحادة الفوارة الفياضة النبع، فكان صريحًا في قوله، مهذبًا في آرائه، جديدًا في خواطره.
وقد شهد كافور ما كان من تلك الثورة التي نشبت في فرنسا عام ١٨٣٠، وما أحدثته من الشر والضر؛ فتعلم منها فضل الملكية الديمقراطية على سائر الأنظمة؛ وبقية أساليب الحكم، وكان أكبر أحلامه البديعة الجميلة أن يشهد مملكة إيطالية مستقلة ملتئمة الأطراف؛ متحررة من كل يد أجنبية، متخلصة من كل سلطة واغلة، وكان كافور يؤثر أن يهب من نفسه أعز ما لديها، ويعمل دؤوبًا؛ فاتحًا للعمل في سبيل قضية قومه طرقًا وأبوابًا جديدة إن عزت عليه الوسائل والطرق؛ على أن يرى وطنه جامد الحركة؛ راكدًا مستسلمًا غير عامل.
وفي عصر كافور قامت الثورات الوطنية في أنحاء العالم كله، وطغى مد الحمية الأهلية، فحمل كل شيء في طريقه، في المجر، وفي ألمانيا، وفي باريس، وعاصمة النمسا، وكانت الثورات هي المنتصرة الجياشة الفائزة؛ فمنحت الدساتير، ووهبت الحريات، وسقطت البيوت المالكة، وتداعت إلى الأرض أنقاضًا، وأطلالًا عافيات.
وهذا كله أو أكثره ما وقع للمترجم به، وما حدث في عصره هذا، فذلكم مبدأه منذ تولى العمل في الوزارة، وتلكم آراؤه بعينها في إيثار الحركة على الجمود، والعمل على السكون، ونومة الموت، وها هو عصره عهد المطالبة بالحرية، ونتاج هذه الحرب الطاحنة التي قام الضعفاء وراءها يصرخون في وجوه سالبيهم حقوقهم، والأقوياء الذين عدوا على حريتهم، فكان هو في طليعة من قاموا لأجل مصر قومتهم، ونهض للحرية مع الناهضين.
وكان كافور رجلًا غير كثير الكلام، صموتًا في مواطن السكوت، وأعجب ما كان من أمره أنه كان لا يجيد الكلام باللغة الإيطالية، ولم يضطلع بأفانين بلاغتها، وسحر أدبها، ولم يلم بأسرارها ومحسناتها على حين كان يجيد الفرنسية الإجادة كلها، ويعلم مناحيها، ومداخل البيان فيها، وكان يؤذن للناس في ندوة البرلمان أن يتكلموا بالفرنسية إذا شاؤوا، ولكنه كان يؤثر الكلام بلغة وطنه، ولسان أمته على ضعفه فيها، وجهله بدلائل الإعجاز من أدبها.
على أنه إذا كان كافور مقلًّا من الكلام بطبيعته، وسجية نفسه، فقد كان إذا استنفره موطن من مواطن الوطنية إلى الكلام أكبر الخطباء، وأبلغ المحدثين، إذ خلعت عليه حميته لوطنه قوة من الخطابة؛ فنهضت بلاغته به إلى أبعد أوج.
وهذا بجملته ما كان من صاحب الدولة الوزير الأول، في بلادنا لعصرنا، فقد شهدناه دؤوبًا على العمل، صامتًا في دأبه، دائبًا على صمته، فلما استفزه القوم إلى الكلام تكلم فكانت خطبته في فندق «الكونتيننتال» مهارة سياسية نادرة، وحذقًا بأساليب الكلام لا ينكر على صاحبه.
ولم يقع اليأس في فؤاد كافور من خيبة النهضة في بادئ الأمر، ولم يستحوذ عليه، ثم تقلد منصب الوزارة وزيرًا عاديًّا، ثم ارتفع إلى منصب الرئاسة، على كثرة خصومه، وتألب أعدائه، فتغلب عليهم جميعًا، وبرز عليهم جملة، وكان أكبر ما كان يعمل له، ويسعى لبلوغه، أن يقنع أوروبا والعالم بأسره أن أمته قديرة على أن تجمع بين منحة الحرية، ومزية النظام، وأن لا خطر يخشى منه عليها؛ إذا تحررت وتخلصت من سلطان الأجنبي، ومنحت استقلالها الذي تنشده، حتى لقد تمكن من فؤاده ذلك المبدأ، فوقع في خلاف وذلك الوطني الجريء الجسور جويسب مازيني؛ إذ خشي من آراء هذا الزعيم الباسل الفيلسوف أن تسوء سمعة إيطاليا؛ فتخسر عطف أهل الغرب عليها، وتطيش سهامها فلا تقع لها أمنيتها المعسولة؛ واستقلالها المنشود، وكان كافور يتحبب إلى نابوليون الثالث، ويستميله إلى قضية إيطاليا، ويستعطفه عليها؛ فوقع في رأس رجل مجنون أعمى البصر من عامة الطليان أن يغتال حياة ذلك الإمبراطور، فأقدم على فعلته المجنونة الطائشة، ولكن الأقدار أبت إلا أن ينجو نابوليون من شر غيلته؛ ولكنه غضب، ولا ريب أن يكون المغتال من الطليان، وكاد يترك الانتصار لقضية كافور وأمنية أمته.
وذلكم كله ما رأيناه من المترجم به، ومن مسعاه المحمود، ومن احتياله على تبرئة سمعة القضية المصرية من الأذى الذي يلحقه به المذهوبو الرشد الطائشون الذين لا يدركون الوجوه الصحيحة الرشيدة للعمل، ولا يحملون إخلاصًا في نفوسهم لطلبتهم المقدسة، وما وجدناه من غضبته الصادقة من الغيلات التي نسمع الفينة بعد الفينة بأنبائها، وهي لا ترد على وطننا مردًّا؛ وإنما نتراءى بها في أعين أهل الحضارة قومًا وحوشًا أهل براثن ومخالب، ونفوسًا رعاديد أوغادًا جبناء، تطعن الناس في الظهور، وتجيئهم لغرتهم من الأقفية، وهم أبرياء أفرادًا؛ وإن كانت الأمة التي هم منها علينا جانية.
وكان كافور يحتال بذكائه الحيل على صديقه ومنافسه الوطني جاريبالدي ليوقف تيار جراءته، ويخفف من حدة وطنيته، وإن كان في الوقت عينه لا يريد أن يبدو في عينه ناكرًا لجميله على وطنه؛ جاحدًا فضل إخلاصه في سبيل قومه، ولم يكن يريد أن يسيء إليه أو إلى صحابته، ولكنه مع ذلك لم يكن يود أن يعرض سلامة الحرية الأهلية، والقضية العامة لخطر الطيش، والجراءة وركوب الرأس، وما ذلك إلا لأن ذلك الوزير المخلص لم يكن من أهل الأحلام السياسية، ولا من غواة الشعر، بل كان في كل مرحلة من مراحل الحياة يكشف أفقًا جديدًا من الفكر، وجوًّا جديدًا للعمل، وكان يتابع طريقه دون أن يتطلب شيئًا إلا ما كان حقًّا وممكنًا؛ إذ منحته الطبيعة عبقرية سياسية لا تنكر، وكان قوي الفراسة بعيد مطارح النظر، وقد اتهم بأنه غَيَّرَ شيئًا من مبادئه، ولكن أي سياسي لعمركم لم يفعل؟
وكان بجانب كافور زعيم آخر ظل مشردًا في البلاد منفيًّا، وذلكم مازيني وطني إيطالي من الشعب، تخرج في القانون، وبرع في البلاغة والأدب، وكان يؤمن بأن الإيطاليين وهو في مقدمتهم مستطيعون — ولذلك يجب عليهم — أن يناضلوا لتحرير بلادهم، فانصرف بكليته إلى التفكير في بلاده، وما منعه اعتقاله في حصن سافونا أشهرًا معدودات أن يكون جريئًا باسلًا، مستهترًا بوطنيته، حتى لقد جعل شعاره هاتين اللفظتين الرهيبتين المقدستين هما: «الله، والشعب!».
نعم، لقد كان مازيني «نبي» الوطنية، وكان جاريبالدي فارسها المعلم، وأما كافور فقد أصاب وحده الشرف الأكبر بأن راح في إيطاليا السياسي الذي تحققت على يده حرية بلاده!