الحياة الجديدة
ما كادت تخفت نار تلك الحرب التي أرسلت شعلتها في جوانب العالم كله، وهزت حضارة الإنسانية من القواعد، حتى ارتفع من هذه القطعة من الدنيا صوت رهيب، يتردد في أنحاء المجتمع الإنساني كافة، ونهضت هذه الأمة تريد أن يكون لها مكانها في صف الأمم التي تنعم بحريتها، وتعيش طليقة اليد في حياتها بعد أن ساقت إلى سُوح الحرب جموعًا عظيمة من أذرعها القوية، وسوقها الحديدية، وأنفسها الشابة الفتية؛ لتعين أممًا على أمم، وتقاتل في جانب الحلفاء ضد الإنسانية المجنونة بالعظمة العظيمة في جنونها، وبعد أن طاح الردى بالألوف من أبنائها في سبيل نصرة الشعوب التي تزهى بأنها كانت تحارب في سبيل الحق، وتناضل في سبيل حرية الأمم المستضعفة.
وكان على أثر ما وقع من تلك الأحداث الرهيبة في جو هذا البلد الهادئ الساكن، وما كان من فعل السياسة الغاشمة من الوقوف في سبيل أمة مجيدة، احتملت نصيبها من ويلات الحرب، واضطلعت بسهم من وحشة المجزرة، ونكبة الكارثة الإنسانية الكبرى؛ فأنكرت حكومة الإنكليز عليها ما فعلت؛ واحتالت على تجاهل ما أحدثت، وناءت بجانبها فما استمعت، ولا احتفلت؛ وارتدت على الذين أعانوها على أمرها في خلال الحرب، وانتصروا لها؛ وساقوا بفتيانهم إلى ساحاتها، فنصبت المدافع للفتك بهم، وأرسلت مدمراتها لتعفية آثارهم، وخنق أصواتهم المرتفعة بتلك الكلمة الحلوة العذبة، التي طالما سالت النفوس مترنمة بها؛ تلك الكلمة التي خرجت من فم الطبيعة يوم خلقت الكون، ويوم أسست نظام العالم، ووضعت خطة بناء الدنيا، تلك الكلمة التي جن الناس بها جنونًا على محتضر القرن الثامن عشر؛ فهدموا كل شيء في طريقهم إليها … نعم كلمة الحرية المقدسة الرهيبة المعسولة الجليلة، الموسيقية في أذن السليب منها، المجاهد للوثوب إليها من ذلة الإسار، ومعرة القيد، والبقاء في سجن ضيق، وحصير أليم.
وذهبت الوفود، وانطلقت البرد إلى الغرب، مجاهدة في سبيل بلوغ تلك الأمنية التي ظللنا نتعلل بها في صمت، ونناجيها في سكون، ونتلهف على نوالها، ولا نجد الطريق إليها معبَّدًا ذلولًا مواتيًا، وراحت تحمل على نفسها، وتنشر الدعوة في بلاد الحضارة، وتستصرخ أهل القلوب الكبيرة من الساسة، والحريين من الكتاب، وبدأت على أثر ذلك المفاوضات، واستمرت المجادلات والمباحثات، وأخفق فيها من أخفق، وأفلح من أفلح.
وذهب وفد أهلي، ومضى وفد رسمي، واشتبك الوفدان، وتناوحت السبيل، وهي جميعًا مفضية إلى ثنية واحدة، ومعلم فذ، إلى ربوة عالية أسففنا دونها، وانحدرنا عنها، وسقط مكاننا عن ذؤابتها.
ولسنا نحن بسبيل بسط ذلك الجهاد العظيم المستمر المستطيل، الذي جاهد الشعب وقادته في سبيل قضية مصر ووادي النيل الخصيب، فذلكم لا يزال في ذاكرة كل رجل منا، ولا يني وحيه يستفيض في الفؤاد، وينبعث من قرارة النفس، وإنما نحن تصدينا في هذه الرسالة الموجزة إلى تحليل تاريخ عظيم مصر الذي وثب في بهرة الثورة الأهلية؛ فقاد الجموع إلى البقية التي طالما تاقت النفوس إلى الدنو منها، ومشى في الطليعة جريئًا مستبسلًا؛ فعاجل النهضة، وهي على مستشرف من الخمود والموت، فأنقذ مواتها، ورد إليها حياتها، وأجرى أمواهها إلى نبعة الأمل القوي الناضر الأغن.
وقد جاهد قبله الرجل الكريم الشعور الوثاب، الباسل الأروع عدلي باشا يكن، وكافح في وفد كبير سياسة الاستعمار التي أرادت أن تدمج هذا البلد مرنًا لينًا، مطواعًا ذليلًا في حلقة الإمبراطورية «المطاطية» الناعمة المظهر، وأبت عليه نفسه أن يتطامن لتلك العظمة المعجبة بنفسها، المؤمنة بقوتها؛ الجبارة الغاشمة من ناحية؛ الملاينة المصانعة من الأخرى، فلما رمى كيرزون رميته؛ وألقى علينا نذيره وكلمته؛ وتجهم لنا، وظن أنه المنتصر علينا، الآخذ بأعنة نفوسنا، وأننا سنروح خافضي الرؤوس لنذره مقبعين في جلودنا حذر الموت على يده، تجلت يومذاك وطنية هذا اليكني المنحدر من تلك الأصلاب المتينة الصخرية، وبدت بسالته، وعظم في الحق إباؤه، واشتدت غضبته؛ فعاد إلى مصر من المفاوضة أبيًّا شهمًا، أشد في الخيبة فخارًا من الزهو بالانتصار لو أنه انتصر.
وسقطت الوزارة العدلية بعد ذاك، وبقي المكان خاليًا لا يدنو أحد منه، ولا تسول لأحد نفسه بقبوله، وظلت الحكومة بلا وزارة أيامًا طوالًا، وما كان الناس يخشون أن تقع الوزارة لهم، ولم يكن إباء كبارنا، وأهل الأسماء الضخمة فينا عن زهد في المنصب، ورغب عن الترؤس، وإحساس عميق في حبة النفس؛ ووطنية جميلة أخذت باللب؛ وامتلكت الروح، وإنما كانت جبانة من الكثيرين، وضعفًا في الآخرين؛ وتنصلًا واستكانة، وبلادة شخصية في فريق، وعجزًا عن احتمال المسؤولية في فئة.
إذ ذاك نهد لها هذا الرجل لا عن رغبة فيها ومحبة في زهوها، وطلاوة مظهرها، وروعة ما حولها؛ إذ كان له قبل ذاك شيء من ذلك؛ وبشمت من قبل نفسه بالمناصب، ولم يكن ليحفل بها، أو تجري شهوته وراءها، ولكن جرأة الرجل العظيم دفعته، وحمية الوطني الذي يرى نفسه قديرًا على المسؤولية، وأكبر منها أغرته، فتقبل رئاسة الوزارة، وجاهد وكافح حتى حمل عن مصر العبء كله، واضطلع بالأمر جملته، ووقف على الصخرة يستشرف البحر وصخبه، والأنواء وعصفها؛ وركب سفينة الأمل تحبوه قوته، وتغريه شخصيته، وجرأته بالمضي في العباب، واختراق اللج المتقاذف المعتلج، وكان فضله في الناس أن جد حتى رفع عن أهل هذا البلد تلك الحماية البغيضة التي كانت أكبر معرة لهذه الأهرام، التي وقفت تنبئ الإنسانية عن مجد أربعة آلاف عام، وحضارة أدهشت الأجيال الماضية جمعاء.
ونحن نمهد لعمل هذا الرجل بنشر الخطاب الذي أرسلته الحكومة البريطانية إلى صاحب عرش هذه البلاد، يعرض عليه التصريح لمصر بما تريد من الجهاد، وما تبتغي من النضال.
خطاب الحكومة البريطانية إلى عظمة السلطان — تصريح لمصر
يا صاحب العظمة:
-
(١)
أتشرف بأن أعرض لمقام عظمتكم أن الناس قد ذهبوا في تأويل بعض عبارات المذكرة التفسيرية التي قدمتها في الثالث من شهر ديسمبر مذاهب مختلفة، تخالف أفكار الحكومة البريطانية وسياستها، وهو ما آسف له أشد الأسف.
-
(٢)
ولقد يخال المرء مما نشر عن هذه المذكرة من التعليقات العديدة أن كثيرين من المصريين ألقي في روعهم أن بريطانيا العظمى توشك أن ترجع في نواياها القائمة على التسامح والعطف على الأماني المصرية، وأنها تنوي الانتفاع بمركزها الخاص في مصر؛ لاستبقاء نظام أساسي إداري لا يتفق والحريات التي وعدت بها.
-
(٣)
غير أن ليس شيء أبعد عن خاطر الحكومة البريطانية من هذه الفكرة، بل إن الأساس الذي بنيت عليه المذكرة التفسيرية هو أن الغاية من الضمانات التي تطلبها بريطانيا العظمى ليست إبقاء الحماية حقيقة أو حكمًا، وقد نصت المذكرة على أن بريطانيا العظمى صادقة الرغبة في أن ترى مصر متمتعة بما تتمتع به البلاد المستقلة من ميزات أهلية، ومن مركز دولي.
-
(٤)
وإذا كان المصريون قد رأوا في هذه الضمانات أنها تجاوزت الحد الذي يلتئم مع حالة البلاد الحرة، فقد غاب عنهم أن إنجلترا إنما ألجأها إلى ذلك حرصها على سلامة نفسها تلقاء حالة تتطلب منها أشد الحذر، ولا سيما فيما يتعلق بتوزيع القوات العسكرية على أن الأحوال التي يمر بها العالم الآن لن تدوم، ولن يلبث كذلك أن يزول الاضطراب السائد في مصر منذ الهدنة، والأمل وطيد في أن الأحوال العالمية سائرة إلى التحسن، هذا من جانب، ومن جانب آخر فكما قيل في المذكرة سيجيء وقت تكون فيه حالة مصر مدعاة إلى الثقة بما تقدمه هي من الضمانات لصيانة المصالح الأجنبية.
أما أن تكون إنجلترا راغبة في التداخل في إدارة مصر الداخلية؛ فذلك ما قالت فيه الحكومة البريطانية، ولا تزال تقول: إن أصدق رغباتها وأخلصها هو أن تترك للمصريين إدارة شؤونهم، ولم يكن يخرج مشروع الاتفاق الذي عرضته بريطانيا العظمى عن هذا المعنى، وإذا كان قد ورد فيه ذكر موظفين بريطانيين لوزارتي الحقانية والمالية، فإن الحكومة البريطانية لم ترم بذلك إلى استخدامهما للتداخل في شؤون مصر، وكل ما قصدته هو أن تستبقي أداة اتصال تستدعيها حماية المصالح الأجنبية.
-
(٥)
هذا هو كل مرمى الضمانات البريطانية، ولم تصدر هذه الضمانات قط عن رغبة في الحيلولة بين مصر وبين التمتع بحقوقها الكاملة في حكومة أهلية.
-
(٦)
إذا كانت هذه هي نوايا إنكلترا، فلا يمكن لأحد أن ينكر أن إنكلترا يعز عليها أن ترى المصريين يؤخرون بعملهم حلول الأجل الذي يبلغون فيه مطمعًا ترغب فيه إنجلترا كما تتوق إليه مصر، أو أن ينكر أنها تكره أن ترى نفسها مضطرة إلى التداخل لرد الأمن إلى نصابه كلما أدركه اختلال يثير مخاوف الأجانب، ويجعل مصالح الدول في خطر، وإنه ليكون مما يؤسف له أن يرى المصريون في التدابير الاستثنائية التي اتخذت أخيرًا أي مساس بمطمحهم الأسمى، أو أية دلالة على تغيير القاعدة السياسية التي سبق بيانها، فإن الحكومة البريطانية لم يعد غرضها أن تضع حدًّا لتهييج ضار قد يكون لتوجيهه إلى أهواء العامة نتائج تذهب بثمرة الجهود القومية المصرية؛ ولذلك كان الذي روعي بوجه خاص فيما اتخذ من التدابير مصلحة القضية المصرية التي تستفيد من أن البحث فيها يجري في جو قائم على الهدوء، والمناقشة بإخلاص.
-
(٧)
والآن وقد بدأت تعود السكينة إلى ما كانت عليه بفضل الحكمة التي هي قوام الخلق المصري، والتي تتغلب في الساعات الحاسمة، فإنني لسعيد أن أنهي إلى عظمتكم أن حكومة جلالة الملك تنوي أن تشير على البرلمان بإقرار التصريح الملحق بهذا، وإنني لعلى يقين بأن هذا التصريح يوجد حالة تسود فيها الثقة المتبادلة، ويضع الأساس لحل المسألة المصرية حلًّا نهائيًّا مرضيًا.
-
(٨)
وليس ثمت ما يمنع منذ الآن من إعادة منصب وزير الخارجية، والعمل لتحقيق التمثيل السياسي والقنصلي لمصر.
-
(٩)
أما إنشاء برلمان يتمتع بحق الإشراف والرقابة على السياسة والإدارة في حكومة مسؤولة على الطريقة الدستورية، فالأمر فيه يرجع إلى عظمتكم، وإلى الشعب المصري.
وإذا أبطأ لأي سبب من الأسباب إنفاذ قانون التضمينات (إقرار الإجراءات التي اتخذت باسم السلطة العسكرية) الساري على جميع ساكني مصر، والذي أشير إليه في التصريح الملحق بهذا، فإنني أود أن أحيط عظمتكم علمًا بأنني إلى أن يتم إلغاء الإعلان الصادر في ٢ نوفمبر سنة ١٩١٤ سأكون على استعداد لإيقاف تطبيق الأحكام العرفية في جميع الأمور المتعلقة بحقوق المصريين في التمتع بحقوقهم السياسية.
-
(١٠)
فالكلمة الآن لمصر، وإنه ليرجى أنها وقد عرفت مبلغ حسن استعداد الحكومة البريطانية، ونواياها تسترشد في أمرها بالعقل والروية لا بعامل الأهواء.
ولي مزيد الشرف … إلخ
تصريح لمصر
بما أن حكومة جلالة الملك عملًا بنواياها التي جاهرت بها ترغب في الحال في الاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة.
وبما أن للعلاقات بين حكومة جلالة الملك وبين مصر أهمية جوهرية للإمبراطورية البريطانية.
- (١)
انتهت الحماية البريطانية على مصر، وتكون مصر دولة مستقلة ذات سيادة.
- (٢)
حالمًا تصدر حكومة عظمة السلطان قانون التضمينات نافذ الفعل على جميع سكان مصر، تلغى الأحكام العرفية التي أعلنت في ٢ نوفمبر سنة ١٩١٤.
- (٣) إلى أن يحين الوقت الذي يتسنى فيه إبرام اتفاقات بين حكومة جلالة الملك وبين الحكومة المصرية فيما يتعلق بالأمور الآتي بيانها، وذلك بمفاوضات ودية غير مقيدة بين الفريقين، تحتفظ حكومة جلالة الملك بصورة مطلقة قبول هذه الأمور وهي:
- (أ)
تأمين مواصلات الإمبراطورية البريطانية في مصر.
- (ب)
الدفاع عن مصر من كل اعتداء، أو تداخل أجنبي بالذات أو بالواسطة.
- (جـ)
حماية المصالح الأجنبية في مصر، وحماية الأقليات.
- (د)
السودان.
- (أ)
وحتى تبرم هذه الاتفاقات تبقى الحالة فيما يتعلق بهذه الأمور على ما هي عليه الآن.
تأليف الوزارة الثروتية — أمر كريم نمرة ١٣ لسنة ١٩٢٢
عزيزي عبد الخالق ثروت باشا:
إن القرار الذي أبلغنا إياه حضرة صاحب المقام الجليل المندوب السامي لدولة بريطانيا العظمى فيما يختص بانتهاء الحماية البريطانية على مصر، بالاعتراف بها دولة مستقلة ذات سيادة، يحقق أعز أمنية لنا ولشعبنا العزيز، وهو ثمرة الجهاد القومي الذي تعهدناه على الدوام بالتشجيع والتأييد، ولا ريب عندنا في أن استمساك الأمة بروابط الوئام والاتحاد، والتزام جانب الحكمة في هذا الدور الجديد من حياتها السياسية كفيل بتحقيق كامل أمانيها.
ونظرًا لما نعرفه لكم من الجهد المشكور في خدمة القضية المصرية، ولما لنا من الثقة التامة بكم، وما نعهده فيكم من الجدارة الكاملة للقيام بمهام الأمور، قد اقتضت إرادتنا السلطانية توجيه مسند رئاسة مجلس وزرائنا مع رتبة الرئاسة الجليلة لعهدتكم، وقد أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم للأخذ في تأليف وزارة جديدة، يكون من بينها وزير للخارجية، وعرض مشروعه لجانبنا لصدور مرسومنا العالي به.
ولما كان من أجل رغباتنا أن يكون للبلاد نظام دستوري يحقق التعاون بين الأمة والحكومة؛ لذلك يكون من أول ما تعنى به الوزارة إعداد مشروع ذلك النظام.
وإنا نسأل الله العلي القدير أن يجعل التوفيق رائدنا فيما يعود على بلادنا ورعايانا بالخير والسعادة، وهو المستعان.
برنامج الوزارة
يا صاحب العظمة:
أتقدم إلى سدة عظمتكم بفائق الشكر على ما تفضلتم فأوليتموني من الثقة السامية؛ إذ عهدتم إلي بتأليف الوزارة الجديدة، ووجهتم لي رتبة الرئاسة الجليلة.
-
إسماعيل صدقي باشا لوزارة المالية.
-
إبراهيم فتحي باشا لوزارة الحربية والبحرية.
-
جعفر والي باشا لوزارة الأوقاف.
-
مصطفى ماهر باشا لوزارة المعارف العمومية.
-
محمد شكري باشا لوزارة الزراعة.
-
مصطفى فتحي باشا لوزارة الحقانية.
-
حسين واصف باشا لوزارة الأشغال العمومية
-
واصف سميكه باشا لوزارة المواصلات
وقد احتفظت بوزارتي الداخلية والخارجية.
فإذا وقع هذا الاختيار موقع الاستحسان لدى عظمتكم يصدر المرسوم العالي بالتصديق عليه.
يا صاحب العظمة:
لم يكن لزملائي ولي، ونحن نشاطر الأمة أمانيها في الاستقلال إلا أن نقر الوفد الرسمي الذي تولى المفاوضات لعقد اتفاق مع بريطانيا العظمى على ما فعل، فلم يسعنا أن نتولى أعباء الحكم ما دامت المبادئ التي تسترشد بها الحكومة البريطانية في سياستها نحو مصر هي تلك التي كانت تظهر من مشروع ١٠ نوفمبر الماضي، ومن المذكرة التفسيرية التي تلته، فإن تولي الحكم في ظل مثل هذه المبادئ قد يكون فيه معنى القبول بها.
غير أن الكتاب الذي رفعه فخامة المندوب السامي البريطاني إلى عظمتكم، وتصريح الحكومة البريطانية في البرلمان، قد أحدثا في الحالة تغييرًا كبيرًا؛ فأصبح من الممكن أن تتألف هذه الوزارة؛ إذ إنها ترى أن الشعور القومي أصاب ترضية من هاتين الوثيقتين لا من ناحية الاعتراف بالاستقلال حالًا، وقبيل أي اتفاق فحسب، بل ولأن المفاوضات ستكون حرة غير مقيدة بأي تعهد سابق.
أما وقد جزنا هذا الدور بخير فلم يبق على مصر إلا أن تثبت لبريطانيا العظمى أن ليس بها في سبيل حماية مصالحها من حاجة للتشدد في طلب ضمانات، قد يكون فيها مساس باستقلالنا، وأن خير الضمانات في هذا الصدد وأجلها أثرًا هي حسن نية مصر، ومصلحتها في حفظ العهود.
على أن الوزارة ترى أنه لكي تكون جهود البلاد في سبيل تحقيق كامل أمانيها بحيث تؤتي جميع ثمرها يجب أن يؤلف بين عمل الحكومة، وبين عمل هيئة تنوب عن الأمة، وأن تسعى الهيئتان متساندتين لأغراض متحدة.
ولذلك فإن الوزارة عملًا بأوامر عظمتكم ستأخذ في الحال في إعداد مشروع دستور طبقًا لمبادئ القانون العام الحديث، وسيقرر هذا الدستور مبدأ المسؤولية الوزارية، ويكون بذلك للهيئة النيابية حق الإشراف على العمل السياسي المقبل.
وغني عن البيان أن إنفاذ هذا الدستور يقتضي إلغاء الأحكام العرفية، وأنه على أي حال يجب أن تُجرى الانتخابات في أحوال عادية، وفي ظل نظام تمتنع معه جميع التدابير الاستثنائية، وقد سلمت بهذا الوثيقتان اللتان أبلغتا أخيرًا إلى عظمتكم، وستتخذ الوزارة بلا إمهال ما يدعو إليه الأمر في ذلك من التدابير، كما أنها ستبذل جهدها اعتمادًا على حسن موقف الأمة في الحصول على الرجوع فيما اتخذ من التدابير المقيدة للحرية عملًا بالأحكام العرفية.
هذا وإن إعادة منصب وزير الخارجية ستعين على العمل لتحقيق التمثيل السياسي والقنصلي لمصر في الخارج.
ونظرًا لأن النظام الإداري الحالي لا يتفق مع النظام السياسي الجديد، ومع الأنظمة الديمقراطية التي ستمنحها البلاد، فإن الوزارة قد اعتزمت أن تتولى الأمر بنفسها، وبلا شريك في الحكم الذي ستتحمل كل مسؤوليته أمام الهيئة النيابية المصرية، وسيكون رائدها في إدارة شؤون الأمة توجيهها إلى المصلحة القومية دون غيرها.
والوزارة موقنة بأن أكبر عامل لنجاح مصر في تسوية المسائل التي بقي حلها، وأقوى حجة تستعين بها في تأييد وجهة نظرها هو أن تقبل على هذا الدور الجديد متحدة الكلمة، مؤتلفة القلوب، وأن تأخذ بدواعي النظام، وتلتزم جانب الحكمة.
والوزارة تحيي العصر الجديد الذي كان لعظمتكم أجل أثر في طلوعه على الأمة بفضل ما بذلته عظمتكم من المساعي الوطنية العالية، وهي واثقة أن ستلقى من لدن عظمتكم كل تأييد في عمل الغد، وإنها لترجو أن يجيء مكللًا لمجهود البلاد.
في يوم الأربعاء الخامس عشر من شهر مارس من هذا العام تلقى فخامة اللورد اللنبي نبأ برقيًّا من حكومته، يحمل إليه تصديق مجلس النواب البريطاني بإلغاء الحماية، وإعلان مصر مملكة مستقلة ذات سيادة، فتوجه اللورد إلى قصر عابدين، وأبلغ عظمة السلطان هذا القرار، ورفع إليه ذلك التصديق.
إلى شعبنا الكريم
لقد من الله علينا بأن جعل استقلال البلاد على يدنا، وإنا لنبتهل إلى المولى — عز وجل — بأخلص الشكر، وأجمل الحمد على ذلك، ونعلن على ملأ العالم بأن مصر منذ اليوم دولة متمتعة بالسيادة والاستقلال، ونتخذ لنفسنا لقب صاحب الجلالة ملك مصر؛ ليكون لبلادنا ما يتفق مع استقلالها من مظاهر الشخصية الدولية، وأسباب العزة القومية.
وها نحن نشهد الله وأمتنا في هذه الساعة العظمى أننا لن نألو جهدًا في السعي بكل ما أوتينا من قوة، وصدق عزم لخير بلادنا المحبوبة، والعمل على إسعاد شعبنا الكريم.
وإنا ندعو المولى القدير أن يجعل هذا اليوم فاتحة عصر سعيد، يعيد ذكر ماضيها الجديد.
أمر كريم رقم ١٩ لسنة ١٩٢٢
عزيزي عبد الخالق ثروت باشا:
في هذا اليوم السعيد الذي تم فيه الاعتراف باستقلال البلاد نشعر بأعظم الاغتباط، وأكبر الارتياح لتوجيه الخطاب إلى أمتنا العزيزة.
وقد أصدرنا أمرنا هذا لدولتكم لتحيطوا هيئة الحكومة علمًا بهذا الخطاب المرسلة صورته مع أمرنا، ولتعمموا نشره في أنحاء القطر، وتبلغوه بصفة رسمية لمن يلزم تبليغه إليه.
فتُلي هذا النطق الكريم في ذلك اليوم في المحافظات، وعواصم المديريات على ملأ العلماء والتجار، وأعيان البلاد، ووجوهها، وسرانها.
وأقيم بعد ذلك استعراض عام للجيش المصري، وأقيمت التشريفات الملكية، ورفع العلم المصري على دور الحكومة، وجعل ذلك اليوم عيدًا وطنيًّا عامًّا.
وكذلك سقطت عن هذه البلاد تلك الحماية التي ضربها الإنكليز عليها في إبان الحرب، والتي جاهدت تلك الوفود، وسعت تلك الشخصيات الكبيرة في محوها، وإزالة معرتها اللاصقة بنا، وكانت تلك المنة الكبرى من صنع رجل واحد اندفع في السبيل وحده غير هياب، ولا مرتعد من رؤية أهل وطنه، وقوفًا عن كثب منه ينظرون ولا يمدون إليه يدًا، ويشهدون الرجل مستبسلًا بكل قوته، متحاملًا على نفسه، ويودون لو أنه خيب دونها، ووقع صريعًا يائسًا راجعًا أدراجه قبل بلوغها؛ لأنهم يرون الأشخاص قبل المبادئ، ولا يكبرون المبادئ وإن صلحت وسمت، ومشت مع الحق، واطردت مع الصواب؛ حتى تكون عليها «الماركة» المسجلة التي يحبونها، ولا يريدون شيئًا غيرها.
ونحن لم نر شعبًا من شعوب الدنيا هو أغرب أمم الله نفسية من شعبنا هذا، فلو أنك صنعت في هذا البلد الصنيع الجميل، وقذفت على أعين الجماهير أكبر المحمدة، وقدمت إليهم أجمل أثر من آثار ذهن خصيب، أو موهبة سامية، أو مقترح طيب، أو مبتدع حسن، ثم لم تنشر على الناس اسمك، ولم يكن لهم بك علم، ولم يتردد على أفواه القوم لك ذكر، فأنت لديهم «نكرة»، وإن كانت فعالك الكبيرة «معرفة»، وإن عملك العظيم، أو مقترحك الجميل سيذهب غير مأبوه به، ويمضي خجلًا منزويًا لا أحد يمد إليه يده، ولا قوم تطاوعهم أنفسهم أن يتناولوه بالبحث، ويعالجوا فحصه، واستقراء مناحيه، والغاية منه، والنتيجة التي يؤدي إليها، والأثر الذي سيجديه على حياة الشعب ونهضته.
وبجانب ذلك ترى أحقر الآراء قيمة، وأسخف الفعال أثرًا، وأوخم المقترحات عاقبة، لا تلبث أن تنتشر وتذيع، إذا جاءت من ناس كبار الأسماء في البلد، مشهوري الألقاب، وإن كانوا أبلد الناس أذهانًا، وأغثهم فكرًا، وأطيشهم لبًّا، وهي حرية بأن تجد في الجماهير مزمرين لها، وعازفين، وقمينة بأن تصيب عند الناس من ينهض لها بالتحبيذ والتأييد؛ وهي متساقطة، لا تستطيع الوقوف على رجليها، متماوتة تنبعث منها ريح العفونة، والبلى، والفساد.
وكل شيء في هذا البلد كثير الصياح هو كبير القيمة عند الناس، وكل عمل محوط بالصنائع يحبذونه من ناحية، ويوسعون في فضله الضئيل من الأخرى، هو المخلد عندهم، الظافر بإعجابهم، فالكاتب الذي وثب عند الناس بأدبه التجاري يزجيه في ورق مصقول، ورسوم لطيفة، وطبع أنيق، وأسلوب مخادع، وألفاظ منمقة، لا يستقر تحتها غير معان بخسة لا تساوي التعب الذي يبذله القارئ في اكتشافها؛ لأنها لا تحب ظهورًا للعيان؛ خشية أن تتبخر على حرارة الشمس، وتتلاشى أجزاؤها الأثيرية الطائرة، الصغيرة المحتضرة، ذلكم الكاتب الذي يخرج الكتاب تلو الكتاب في فترة لا يستطيع أخصب الكتاب أذهانًا، وأنضجهم قرائح، وأغزرهم مادة من المعاني الطريفة وليدة الخاطر السري المتين، الجبار الممتلئ قوة وشبابًا وصحة، أن يخرج في مدة وجيزة كتلك، ولا قطعة من كتاب واحد من تلك الأسفار «الأصفار»، وما كان ذلك من أولئك المؤلفين فضل أدب، وسجاحة خاطر؛ وإنما هي عاصفة من الألفاظ اجتمعت كلها تحت نوء واحد؛ فاجتمع منها كتاب طويل عريض، كله رعود وسحائب من السخف والطيش، وبلادة المعاني.
وذلك الكاتب — وهذا شأنه — هو الذي قد احتكر السوق، وبرز في الميدان، وشغل المطابع، وتسابق إليه الناشرون، وأغلب الناشرين في بلدنا هذه أميون، فلا يدركون مما في أيديهم شيئًا إلا ملازم «وبنوطًا»، وثمن الطبع والورق والإعلان، وما بعد ذلك من ربح، ومتجر نافق، وبضاعة تبهظ السوق، وتأتي بأجزل المكاسب.
وهكذا ترى كل صاحب عمل في هذه الأمة يشتهر ويعمل للشهرة وحدها يصل إلى النجح في عمله بتلك الأساليب التي شرحها «ماكس نوردو» في مقاله عن «النجاح وأساليبه»، ويحتال بتلك الطرق الغاشة الخداعة، التجارية المداهنة التي ذاعت في هذا العصر المادي اللئيم الطبع، النائم الضمير، هو الذي تجده الموفق، وتراه ملء أسماع القوم، وموضوع احترام الجماهير، وإعجابهم به، على حين تشهد في كل صناعة من الصناعات، ومهنة من المهن؛ وفي الأدب والتأليف، والعلم والفنون قومًا متخلفين لا عن عجز، مغمورين لا عن بلادة وضعف ويأس، ولكنهم لم يصيبوا في الناس توفيقًا؛ إذ أعوزتهم تلك الوسائل التي اشتهر بها غيرهم، وعز عليهم أن يجدوا ما وجده سواهم من طرق الإعلان عن أنفسهم، والاتجار بمظاهر بضاعتهم، لا بالبضاعة نفسها؛ لأنهم أشد من الأمريكان احتيالًا على «الركلامات»، والإعلانات؛ فثلاثة أرباع عملهم إعلان، وللبضاعة ربع ليس غير.
وقد ظهرت عوارض هذه النفسية العجيبة في السياسة، وبدت آثارها في هذه النهضة، فكنا فيها عبدة أشخاص، ووثنيين في احترام الأسامي والألقاب، ولقد ماتت في هذه البلد مبادئ شريفة صالحة؛ لأن أصحابها لم يجدوا لهم «مطيبين»، ولم يستطيعوا أن يجلبوا «الحاوي» لإظهار مفاتن مبادئهم، وسحر آرائهم، ويخلقوا من غير شيء شيئًا خياليًّا ذا رواء وطلاء، ومظهر جميل تحته سخف وطيش.
وقد اشتهرت بجانب تلك مبادئ أخرى وخمة ركيكة، غثة غير صالحة، وأقبل عليها الناس يمتدحونها، ويؤيدونها بكل ذات نفوسهم، وكان الحق بأن تحتضر في المهد، وتلفظ أنفاسها وهي في «الْقُمُط»؛ لأن حياتها مفسدة وإثم كبير، ولكنها ليست «بنت موت»؛ ولذلك عاشت وطالت، وأينعت وثبتت، وفي الدنيا الشيء الكثير يعيش وينمو، وهو أولى بأن يروح قصير الأجل، مصابًا برئتيه، محكومًا عليه بالإعدام.
وليس في هذا البلد رجل أعمى القلب، حسير البصر، فائل الرأي، منخوب الفؤاد، يستطيع أن ينكر أننا قد تخلصنا من ذلة الحماية، ورجعت إلينا نعمة السيادة بذلك الاعتراف الصريح الذي نزل عنه الإنكليز، ونشروه في العالم كله، وخابروا دول الغرب به، ولكنا لا نزال نرى قومًا يودون لو استطاعوا نكران هذه المنة الكبرى التي ستروح في عنق هذا الجيل كله، وستنحدر منه كذلك إلى رقاب الأجيال القادمة، ولا يزالون متسخطين لا يرضيهم ذلك الاعتراف، ولا يروق في عينهم ما وقع لنا بعده من نعمة البروز في الشمس، واستنشاق أول نسائم الحرية، وما ذلك منهم إلا حسرة على أنهم لم يصيبوا من كل ذلك فخارًا لأنفسهم؛ ولم يظفروا منه بمحمدة السعي في سبيله، ولم يأت إلينا عن طريقهم، ولم نصل نحن إليه على أيديهم، ونحن نقول لهؤلاء الأنانيين حتى في الوطنية: إننا نؤمن بوطنيتهم، ولا ننكر أنهم كانوا في المسعى مع المجتهدين، وإننا مدينون لهم بجهادهم، معترفون لوطنيتهم بفضل سعيها وحميتها، وشدة بأسها، وثبات قدمها، ومغالاتها في رد الحق إلى وطنها، فإن هذا الوزير لم يكن منحرفًا عن سبيلهم يوم زالت الحماية، وأكره الإنكليز على الاعتراف بسقوطها، ولم يكن مزهوًّا عليهم بشيء مما عمل، ولا معجبًا بنفسه لما أحدث وقدم، ولم يكن هو من الخارجين على قومه يوم كانوا هم في الداخلين فيهم، ولم يكن خائنًا يوم كانوا مخلصين، وليس في هذا البلد رجل واحد لم يكن يود أن يرى تلك الحماية مرفوعة، مهدومة، زائلة، فلما زالت، وانمحت، واندرست انبرى فريق يود لو أنها لم تزل ولم ترفع، حتى يكون هو مزيلها ورافعها، ولو أنها زالت على يده، وعفت آثارها بفضل نضاله وسعيه، لما أطاق أن يرى له معارضًا، ولعمله منكرًا، ولو وثب إليه قوم فجحدوا صنيعه، وأنكروا يده، راح أولئك القوم خونة في نظره، جاحدين مارقين، عمي البصائر لا يدركون.
ونحن نعلم أن في كل أمة من أمم الحضارة أحزابًا سياسية، ونرى أن تلك الأحزاب هي في تلك الأمم المحرك الذي يدور عليه رحى النظام، وتتطاحن تحته الوطنيات بضروبها، فمن غلبت وطنيته اكتسب الحومة، وتناول دفة الحياة، ولقد تضاربت آراء الكتاب والمفكرين، والذين تصدوا للبحث في أنظمة الاجتماع، واختلفت مذاهبهم، وتباينت أحكامهم في فضل الأحزاب في الأمة، أو ضررها الذي ينجم عنها؛ فأما الذين أغلظوا القول عنها، وحكموا عليها أشد الحكم، فقد كرهوا منها ما رأوا تحتها من ذلك الاتفاق المتكلف المصطنع الكاذب، الذي يربط أفراد الحزب الواحد ببعضهم البعض، وما يقابل ذلك من الخصومة المتكلفة، والمخالفة الكاذبة المغشوشة التي يظهرون بها أمام معارضيهم وخصومهم؛ إذ يبقى كل حزب على عناده، مصرًّا على أن لا يقتنع أو يرضى بحجة الجانب الآخر، على حين يظل الفرد متجمدًا مثلج الرأي، مندمجًا في حزبه، لا يستطيع انفلاتًا ولا تفكيرًا لنفسه، ولا استقلالًا برأيه عن غيره، وإنما يعيش بعقلية الجميع، وقد يخلو إلى نفسه فيرى باطل ما رآه في الندوة، وفي وسط حزبه، ولكنه لا يلبث أن يعود إلى الجماعة؛ فينسى نفسه وتفكيره في لجة التيار، وحرارة المجلس، وهذا الإجماع الذي يبدو به أفراد حزب من الأحزاب لا يزال في نظر أولئك الاجتماعيين المدققين كاذبًا، لا حقيقة له، مضرًّا بالمجتمع، مؤذيًا، خطرًا على صالح الشعب، ذهابًا بالفائدة المرجوة من التعاون على العمل، والتواصل، والترابط في النظر إلى شؤون الأمة، ولأنه يقتل روح حرية الفكر في الفرد، ويميت روح الاستقلال في العمل، وهما دعامة الديمقراطية في حكم الأمم.
وقد قال في ذلك الأستاذ بولدوين سميث: إنه كلما اشتجرت طائفتان، وتطاحن حزبان في أمة من الأمم كان ذلك منهما أشبه شيء بشطر الشخصية الإنسانية شطرين، وتجزئة الطبيعة جزأين، وليس في الدنيا من الوجهة الطبيعية أمر كهذا، ولا وقع في العالم شيء منه.
على أن في الكتاب فريقًا يدافع عن وجود الأحزاب السياسية في الأمة، وله في ذلك آراء جد مختلفة، وتلك النظريات التي أقامها المعارضون الذين لا يرون فائدة منها، بل الضرر الأكبر، والشر الأعظم، فهم يقولون بأن شطر الإنسانية أجزاء أمر واقع يمشي مع الطبيعة، ويتفق مع النواميس، ويعللون مبدأهم هذا بأن الإنسان أربعة رجال؛ فرجل يريد العودة إلى سنن القديم، وأساليب الماضي، والاستمساك بأنظمة العصر المنصرم، وعنده أن ما كان هو الحق، وأن ما سيكون الباطل الذي لا نفع منه، وذلك هو الذي تسميه أنظمة اليوم «بالرجل الرجعي»، ورجل يود أن يستمسك بأنظمة الحاضر، وما يعيش في عصره من السنن، والشرائع والقوانين، وذلك هو «الرجل المحافظ»، ثم رجل آخر يبتغي إصلاح الأنظمة الحاضرة، وذلكم هو «الرجل الحري»، وآخر يريد أن يلغيها ويمحوها، ويأتيها من القواعد هدمًا ونقضًا، وهو «الراديكالي»، أي الهدام من الأساس في عرف لغة الاجتماع الحديث، فإذا اتفق في أمر حديث من أمور الشعب الطائفتان الأوليان، واتحد الحزبان الأخيران كان من اتحادهما حزبان سياسيان خطيران، يرتكز كل منهما على مبادئ أساسية يقرها العقل، ويرتضيها علم النفس، وهم كذلك يؤيدون وجود الأحزاب في الأمم بقولهم أنها ليست مخالفة لروح الديمقراطية، بل هي محورها، والعامل الأكبر في نمائها؛ لأنه لا يتيسر للشعب بجملته أن يتولى الزعامة في شؤونه في وقت واحد، بل معنى الشعب وحكومته ورأيه «الأغلبية»، ولا يتيسر لجماعة من الناس أن يصلوا إلى ذلك إلا إذا «اتفق أفرادها على أن ينفقوا»، وتلكم الرابطة على رغم ما يتخللها من روح المصانعة والكذب والتكلف، هي اللازمة الأولى للنظام في الشعب، ولولاها لراحت الأمة فوضى من الآراء الفردية المتباينة، المشتجرة المتعارضة.
على أنه ليست حالنا الحاضرة شبيهة بحال تلك الشعوب حتى تكون لدينا أحزاب متنافرة، فأولئك إنما يتخاصمون على مصلحة وطنهم؛ لأن كلًّا منهم يمسك بطرف منها، ويريد أن يمشي بها إلى غاية يراها السبيل القويمة الرشيدة، وليسوا أمام عدو قوي ليس من صفوفهم، يريدون أن يستردوا منه حقًّا مضيعًا، وحرية سليبة، ونحن في حرب أدبية، ونزاع ساكن على الحياة أو الموت، أمام غاصب مستأسد، مستحصد العزم، داهية كثير الحيلة، ولذلك كنا خلقاء بأن نقف صفًّا صفًّا حياله، ننازعه ونجالده، ونناضل في سبيل ما أردنا أو نهلك دونه، ونحشد كل قوتنا لنرد قضيتنا ناجحة فائزة موفقة، أما أن ينطلق فريق منا في ناحية، ويسير فريق في وجهة؛ فتتشعب المسالك، وتختلف الطرق، وتتناوح السبل؛ فتلك ضلة وجهالة وطيش، وما رأينا أمة طلبت من مغتصب حقها الذي اغتصب، ثم وقفت في وجهه، وعلى عينه تشتجر أمامه، وتتصايح وتتعارض، وتتفرق منها الصفوف، وليست طلبة هذا البلد غامضة؛ فتختلف في تأويلها الأذهان، وليست هدية نريد أن نستهدي الإنكليز إياها؛ فينفس فريق على فريق ما نال الشعب منها على يد الآخر، بل الحق فيها واضح، والغاية بلجاء صريحة ظاهرة، وليس أحد بطامع في مجد؛ لأن المجد للشعب ذاته، والفخار للأمة وحدها، والخلود للضحايا والشهداء الذين سالت دماؤهم في فزعة الثورة، ووطيس النهضة.
وفي الحق، لقد سقطت الحماية، وتداعى بنيانها إلى الأرض بضربة من عزمات رجل من أهل هذا البلدة، وقد أصبحت بعد ذلك أمة متحررة من الوصاية، متخلصة من معرة الأبد، نقية الكرامة من ذلة المحمي، فإذا كان ما سيتلو سقوط الحماية، وما سيعقب تلك الخطوة الكبرى منقوصًا في نظر جماعات من الناس، ضئيلًا مغالطًا فيه، ممنوحًا في سبيل ظفر الإنكليز بأكثر منه، ومخادعتنا في بقية الحقوق، وإكراهنا على النزول عن عدة من مطالب الحرية، ومستلزمات الاستقلال، فليس على الشعب بجملته إلا أن يقف وراء هذا الوزير متساندين جميعًا متصافين، وإلا أن تأتلف القلوب كلها، وتتوحد الكلمة، وتتضامن الأيدي، وتتحاب الأرواح، وتتهادن النفوس حتى يكون الجهاد في سبيل نوال الحق كاملًا غير منتقص، ولا مبتور من جوانبه، مستكملًا تامًّا، وحتى نكون جميعًا إلبًا واحدًا على عدونا، لا يرى في صفوفنا ثغرة؛ فيأخذ في توسيعها، ولا يشهد منا فرجة فيزيد هذا النفار احتدامًا، وينفخ في نار هذا هذا الشجار؛ لكي يكتسب منا الميدان على طول الفترة، وسكون نأمة الحمية، وانصرافنا إلى ما يهدم بناءنا، ويذهب بريح قوميتنا.
ولم يكن صاحب هذه الترجمة رجلًا محتكرًا في السياسة، يريد أن يستفرد بالجهاد، وتكون الوطنية شعاره وحده، ولم يكن بالمتجافي الغليظ الكبد، حتى ندعه وحيدًا يناضل عنا، ونحن من خلفه متحزبون متفرقون، متصايحون مختلفون، فإذا جاء ببعض الحق قلنا له: لقد بعت بهذا البعض بقيته، وإذا رد إلينا قطعة من أملنا المعسول عيبناه بأنه لم يأت بها جملة، وإذا وقف مستبسلًا أمام مغتصبي الحق، ينازعهم عليه، ويناهضهم دونه جعلنا نظنه ممالئًا لهم على وطنه، وقرفناه بمصانعتهم على مغالطتنا، كأنما كان الرجل يمت إلى أولئك بقرابة، أو يتصل من الاستعماريين بسبب، وكأنه وليد مستعمرة من مستعمراتهم، ومحسوب من محاسيب عظمائهم، وكأنه هو ممن أنجبتهم مالطة، أو نيوزيلنده؛ فانحدر إلى مصر ليبيعها الإنكليز؛ ليتسع سلطانهم، فيتسع مدى زهوه بهم، وعجبه بإمبراطوريتهم، وكأنما كل ذلك الجهاد الشريف الذي حمل أعباءه، واضطلع بخطوبه؛ لكي يظل في رئاسة الوزارة، ويتمتع بسلطان منصبه، وعظمة نفوذه الدهر كله، والأبد بطوله؛ لأنه اتخذ على الله عهدًا أن يعمر رئيس وزارة، وينسأ في أجله، وأجل وزارته؛ فتتصل إلى ختام هذا الجيل، وتبلغ الجيل الذي بعده منحدرة إلى القرن الذي يتلوه.
إن أولئك الذين يدسون على هذا الرجل، ويتحيفون جوانب ما فعل في سبيل أمته، لا يريدون بذلك أن يقهروه لكي يستفردوا هم بالعمل، ويخلصوا هم بالميدان، وتنفسح لهم الحومة وحدهم، فلو أن تلك كانت بغيتهم، وذلك كان ما قصدوا إليه لقلنا لهذا الرجل الخطير: اترك لهم ما صنعت لنرى ماذا يصنعون، ودع لهم عملك ليتموه، ويجعلوا ما فعلت بحسن جهادهم، وشرف ديباجتهم، وعظمة وطنيتهم، ونزل عن مكانه لهم، ونهض عن مجلسه لجلوسهم، لما خسر شيئًا، ولما شعر بنقص في مكانته من التاريخ، ونصيبه من الخلود، ولكان أحب إليه أن يكون صاحب الصنيع على هذا البلد، وملاقي النكران منه، والجحود من أهله، ولكنا لا نزال نهيب به أن لا تفتر أمام هذا اللجاج عزيمته، ولا تهن حيال تلك الضجة الجوفاء إرادته، وأن يسترسل في وجهه، ويتابع ما هو متابعه، والتاريخ باق يشهد، والحياة ناظرة إليه، والحسنات تكتب له؛ والسيئات تحصى في كتاب لا يضل محصيها ولا ينسى؛ والرجل ليس بالباقي الذي لا يموت، والمعمر الذي لا يفنى.
وقد أدرك هو ذلك، وما كان مثله لينسى هذه الطبيعة الآدمية الواهية التي وقعت في قالب من الفخار الصلصال، ولا تستطيع أن تجلد على عواصف الدهر، ومطالع الشيب، وهجمات الحدثان، وهو القائل في خطبة له: «لقد نسوا أو تناسوا أننا أشخاص زائلون، وأننا لن نبقى متربعين في دست الأحكام إلا برهة من الزمان، ثم نخلي السبيل لغيرنا …».