رحلة إلى الساحل
«بلاك هورس»، بقعة موجودة على الخريطة، لكن لا شيء في هذا المكان سوى متجر وثلاثة بيوت ومقبرة قديمة وسقيفة إسطبل يخص كنيسة احترقت عن آخرها. المكان حار في الصيف، يخلو من أي ظل على الطريق وأي جدول بالقرب منه. البيوت والمتجر مبنية بآجُر أحمر، تشوبه صفرة باهتة، ومزينة عشوائيًّا بطوب رمادي أو أبيض على المداخن وحول النوافذ. خلفها تمتلئ الحقول بنباتات الصقلاب والقضبان الذهبية والقصوان. والأشخاص الذين يمرون على المكان، في طريقهم إلى بحيرات موسكوكا والأجمة الشمالية، يمكنهم أن يلاحظوا هنا المناظر الطبيعية الوارفة تضيق وتتسع، والقباب الصخرية البالية تظهر في الحقول المتآكلة، وأحراج الدردار والقيقب الكثيفة المتناغمة وهي تنفتح على أحراش أكثر كثافة وأقل رحابةً من أشجار البتولا والحور، والراتنج والصنوبر، في حرارة ما بعد الظهيرة تستحيل الأشجار المدببة الموجودة عند نهاية الطريق شفافةً، زرقاء اللون، منسحبة في الأفق مثل صُحبة من الأشباح.
كانت ماي مستلقية في غرفة كبيرة في خلفية المتجر مليئة بالصناديق. كانت تلك الغرفة مكان نومها في الصيف، حينما تشتد الحرارة في الطابق العلوي. وكانت هيزل تنام في الغرفة الأمامية على الأريكة وتشغِّل المذياع طوال نصف الليل؛ أما جدتها فظلت تنام في الدور العلوي، في حجرة صغيرة ضيقة مزدحمة بقطع أثاث كبيرة وصور فوتوغرافية قديمة، وعبقة برائحة قماش مشمع حار ورائحة جوارب النساء العجائز الصوفية. لم تستطع ماي أن تميِّز أي وقت كان ذلك لأنها لم تستيقظ من قبل قط في وقت مبكر كهذا. فقد كانت تستيقظ في معظم الأصباح فتجد رقعة من الشمس الحارة على الأرض عند قدميها، وتسمع رجرجة شاحنات المزارعين التي تنقل الحليب وهي مارة على الطريق السريع، بينما جدتها تسرع الخطى جيئةً وذهابًا من المتجر إلى المطبخ، حيث تكون قد وضعت فوق الموقد برَّاد القهوة ومقلاة فيها لحم الخنزير المقدد الثخين. وحينما كانت الجدة تمر على الأريكة القديمة التي تنام عليها ماي والتي كانت فيما مضى مخصصة للشرفة (ما تزال وسائدها تفوح بنذر يسير من رائحة العفن والصنوبر)، كانت تكبش قبضتها بحركة أوتوماتيكية جاذبةً الملاءة، وهي تقول: «هيا استيقظي الآن، أفيقي، أتظنين أنك ستظلين نائمة حتى ميعاد العشاء؟ ثمة رجل يريد بنزينًا.»
وإذا لم تستيقظ ماي وراحت تتشبث بالملاءة، وتتمتم في غضب، تأتي جدتها مرةً أخرى حاملةً قليلًا من الماء البارد في مغرفة، تصبه فوق قدمي حفيدتها. فتنتفض ماي، وهي تدفع خصلات شعرها الطويل عن وجهها، الذي يكون عابسًا عبوس الوسن لكنه ليس حانقًا؛ كانت ترتضي سيطرة جدتها كما ترتضي الرياح المطيرة أو ألم المعدة، بيقين أساسي وقوي من أن مثل هذه الأشياء ستمر. كانت ترتدي كل ملابسها تحت لباس النوم، وذراعاها متحررتان أسفل هذا كله من كُمَّيهما، وكانت وهي في الحادية عشرة قد دخلت مرحلة احتشام جنوني؛ إذ كانت ترفض أن تأخذ حقن التطعيم في مؤخرتها وتصرخ ثائرةً إذا دخلت هيزل أو جدتها الغرفة التي ترتدي فيها ملابسها؛ لأنها كانت تظن أنهما تفعلان ذلك بغرض التسلية والاستهزاء بخصوصيتها. كانت تخرج وتضع البنزين في السيارة ثم تعود في منتهى اليقظة جائعة؛ وتأكل في إفطارها أربع أو خمس شطائر من خبر «التوست» مع المربى، وزبدة الفول السوداني ولحم الخنزير المقدد.
لكنها حينما استيقظت هذا الصباح كان الصبح لا يزال يبدأ نشر ضوئه في الغرفة الخلفية، لم تكن تستطيع أن تتبين إلا الكتابة المطبوعة على الصناديق الكرتونية. قرأت «حساء طماطم هاينز» و«مشمش جولدن فالي». راحت تمارس طقسًا خاصًّا اعتادته، بأن تقسِّم الحروف إلى ثلاثات؛ فإذا نتجت في نهاية ذلك مجموعات متساوية، كان هذا يعني أنها ستتمتع بحسن الحظ في ذلك اليوم. وبينما كانت تفعل ذلك، خالت أنها سمعت جلبة، وكأن شخصًا ما يتحرك في الفناء، فاعترى جسدها اضطراب مريع حتى أخمص قدميها جعلها تثني أصابع قدميها وتمط ساقيها حتى لامست طرف الأريكة. كان الشعور الذي اجتاح جسدها كله كالشعور الذي يستولي على دماغها حين تكون على وشك العطس. نهضت بأبطأ ما يمكنها وسارت في حذر فوق الألواح الخشبية للغرفة الخلفية، التي شعرت بها تحت قدميها رمليةً رطبةً، إلى المشمع الخشن الذي يغطي أرضية المطبخ. كانت ترتدي لباس نوم قطنيًّا قديمًا يخص هيزل، يموج من خلفها في خفة وانسيابية.
كان المطبخ خاليًا، والساعة تتكتك بانتظام فوق الرف الذي يعلو الحوض. إحدى الحنفيات كانت تقطر باستمرار، وأسفلها قماشة مسح الصحون مطوية في شكل لفافة صغيرة. كانت واجهة الساعة تكاد تكون مخفيةً وراء حبة طماطم صفراء، لم تنضج بعد، وعلبة بودرة كانت جدتها تضع منها على طقم أسنانها. كانت الساعة السادسة إلا الثلث. تحركت نحو الباب السلكي، وبينما هي مارة بصندوق الخبز امتدت إحدى يديها بحركة عفوية داخله وخرجت بكعكتين من كعك القرفة راحت تأكلهما دون أن تنظر إليهما، كانتا جافتين بعض الشيء.
في هذا الوقت من اليوم كان الفناء الخلفي غريبًا ومُقبضًا ومُظلمًا، والحقول رماديةً، وكل الأجمات الشعثاء المتشابكة على طول الأسوار كثيفةً بما عليها من الطير، والسماء باهتةً باردةً، تنبسط عليها أذرع الضوء في نعومة وتتوهج حوافها، كأنها باطن محارة. سرَّها أن جدتها وهيزل كانتا بمعزل عن هذا، لأنهما ما زالتا نائمتين. لم يكن أحد قد رأى هذا اليوم بعد، أدهشها نقاؤه. راودها إحساس قوي بالتحرر والخطر، كشعاع فجر يخترق تلك السماء. عند ركن المنزل، حيث يوجد ركام الحطب، سمعت صوت قعقعة خشن واهن.
قالت ماي بصوت مرتفع: «من هناك؟» بعد أن ازدردت ملء فمها من كعك القرفة. قالت: «أعرف أنك هناك.»
جاءت جدتها من المنزل حاملة بعض الأعواد لإشعال النار ملتحفة بميدعتها، وهي تتمتم بتمتمات ساخطة خافتة غير مفهومة. رأتها ماي قادمة، دون أن تشعر بالمفاجأة وإنما بشعور غريب بالخذلان، شعور بدا أنه ينتشر على نحو لم تنجح في إخفائه من اللحظة الراهنة إلى كل أرجاء حياتها، السابقة والقادمة. بدا لها أن أي مكان تذهب إليه ستسبقها جدتها إليه، وأن أي شيء تكتشفه ستكون جدتها قد عرفت بأمره قبلها، أو تبين أنه غير ذي قيمة.
قالت مدافعة: «حسبت أحدًا ما في الفناء.» نظرت إليها جدتها بلا اكتراث واتجهت إلى المطبخ.
قالت ماي: «لم أكن أظن أنك يمكن أن تستيقظي في ساعة مبكرة كهذه. ما الذي يجعلك تستيقظين في ساعة مبكرة كهذه؟»
لم تجب جدتها. كانت تسمع لكل ما تقوله لها لكن لا تجيب إلا إذا شاءت ذلك. بدأت العمل بأن أشعلت نار الموقد. كانت ترتدي أثناء النهار فستانًا مطبوعةً عليه رسومات، وميدعة زرقاء مهترئة ومتسخة من عند بطنها، وسترة حائلة اللون مُنسَّلة غير مزررة كانت لزوجها من قبل، وزوجًا من الأحذية القماشية. كانت الملابس تتهدل عليها، بالرغم من محاولاتها أن تصلح من هندامها وتغلق ملابسها، وذلك لأن جسمها لم يكن صحيح الشكل بحيث تتماسك الملابس فوقه؛ فقد كانت ضعيفة التضاريس ونحيلة الجسم، عدا تقبب صغير في بطنها، كامرأة حامل في شهرها الرابع، يبرز على نحو يتناقض مع صدرها الهزيل. كانت ساقاها نحيلتين، وركبتاها بارزتين، وذراعاها سمراوين مُعرَّقتين ومعقوفتين كأنهما سَوْطان، وكان رأسها كبيرًا بعض الشيء بالنسبة لجسمها، ومع شعرها المسحوب بإحكام أعلى جمجمتها، كانت تبدو كطفل سيئ التغذية لكنه خبيث الذكاء.
قالت لماي: «عودي أنتِ للنوم.» لكن ماي اتجهت ناحية مرآة المطبخ وبدأت تمشط شعرها وتلفه حول إصبعها كي ترى إن كان سيبدو لائقًا في قصة شعر «بايج بوي». تذكرت أن اليوم هو موعد قدوم بنت عم يوني باركر. كانت ستأخذ بكرات الشعر التي تخص هيزل لترفع بها شعرها، في حال رأت أنها يمكنها فعل ذلك من دون أن تدري جدتها.
أغلقت جدتها باب الغرفة الأمامية حيث تنام هيزل. أفرغت براد القهوة وملأته بماء وقهوة جديدين، ثم أحضرت إبريق الحليب من الثلاجة، وشمته كي تتأكد من أنه ما يزال صالحًا، وانتشلت بملعقتها نملتين من سلطانية السكر، ولفَّت لنفسها سيجارة على ماكينة كانت لديها لهذا الغرض، ثم جلست إلى الطاولة وراحت تقرأ جريدة اليوم السابق. لم تتفوه بكلمة أخرى إلى ماي إلا بعد أن نضجت القهوة وهدَّأت هي نار الموقد وصارت الغرفة مضاءة بنور أقرب إلى ضوء النهار.
قالت: «هاتي فنجانك إن كنتِ تريدين بعض القهوة.»
عادةً كانت تقول إن ماي صغيرة للغاية على شرب القهوة. جاءت ماي لنفسها بفنجان جميل عليه طيور خُضر. لم تقل جدتها أي شيء. جلستا إلى الطاولة تحتسيان القهوة، وماي مرتدية لباس النوم السابغ وشاعرة بأنها نالت امتيازًا وأنها مضطربة. كانت جدتها تنظر إلى أرجاء المطبخ بجدرانه وتقاويمه المبقعة كما لو كان عليها أن تحفظ المنظر في ذهنها، كانت نظرتها متأملةً أريبةً نوعًا ما.
قالت ماي محاولةً بدء حديث: «ابنة عم يوني باركر آتية اليوم. اسمها هيذر سو موراي.»
لم تُعِر الجدة حفيدتها أي انتباه، ثم سرعان ما سألتها: «أتعلمين كم عمري؟»
ردت ماي: «لا.»
«حسنًا، خمني.»
فكرت ماي ثم قالت: «سبعون؟»
تأخرت الجدة في الرد كثيرًا إلى حد أن ماي اعتقدت أن هذا الحديث لم يكن سوى واحد آخر من أزقة حديثها المسدودة. قالت، على سبيل الإحاطة: «هيذر هذه كانت تمارس الرقص الاسكتلندي منذ أن كانت في الثالثة. إنها ترقص في المسابقات وما إلى ذلك.»
قالت جدتها: «ثمانية وسبعون. لا أحد يعلم بهذا، فأنا لم أخبر أحدًا قط، وليس لي شهادة ميلاد، ولم أحصل قط على معاش حكومي، أو إعانة.» فكرت قليلًا ثم استطردت: «لم أرقد قط في المستشفى. ادخرت ما يكفي في البنك لتغطية مصاريف الجنازة والدفن. أما شاهد القبر فينبغي أن يأتي حسنةً من مؤسسة خيرية أو عن طريق ما سيشعر به أقاربي من وخز للضمير.»
قالت ماي مكتئبةً وهي تنتف القماش المشمع من بقعة بالية فيه: «وما حاجتك إلى الشاهد؟» كرهت هذا الحديث؛ كان يذكرها بخدعة لئيمة نوعًا ما كانت جدتها قد مثلتها عليها منذ ثلاث سنوات. حينها كانت عائدةً للتو إلى المنزل من المدرسة، فوجدت جدتها مستلقيةً على نفس أريكة الحجرة الخلفية التي صارت ماي تنام عليها فيما بعد. كانت الجدة راقدةً ويداها ساقطتان إلى جانبيها، ووجهها بلون الحليب المتخثر، وعيناها مغلقتان؛ وعلى وجهها فتور البراءة والمسالمة. فحاولت ماي إيقاظها وقالت أولًا: «مرحبًا»، ثم نادتها بنبرة صوتها المعتادة: «جدتي.» لم تكن جدتها تحرِّك أي عضلة في وجهها الذي عادةً ما يكون متوهجًا وعصبيًّا. قالت ماي ثانيةً، بمزيد من التوقير: «جدتي» ومالت عليها فلم تسمع أدنى صوت لأنفاسها. فمدت يدها لتلامس خدَّ جدتها، لكن صدمها أمر غير مطمئن لم تتوقعه في هذا التجويف البارد المتهدل. ثم راحت تبكي، بالطريقة الجزعة المتقطعة لمن يبكي دون أن يسمعه أحد. كانت تخاف أن تذكر اسم جدتها ثانيةً، خائفة أن تلمسها، وفي الوقت نفسه خائفة أن تشيح بعينيها عنها. لكن جدتها فتحت عينيها. من دون أن ترفع ذراعيها أو تحرك رأسها، نظرت إلى ماي ببراءة مفرطة زائفة وبريق ظافر مستفهم، قائلة: «ألا يمكن للمرء أن يستلقي قليلًا هنا؟ من العار أن تكوني طفولية هكذا.»
ردت الجدة على سؤال ماي عن شاهد القبر: «لم أقل قط إنني «أريد» شاهدًا.» ثم قالت في برود، بعد أن رأت ماي مخرجة إحدى كتفيها من الرقبة الواسعة للباس نومها: «الآن اذهبي وارتدي بعض ثيابك، إلا إذا كنت تظنين نفسك إحدى ملكات مصر.»
قالت ماي: «ماذا؟» وهي تنظر إلى كتفها الموسومة ببقعة مزعجة من أثر حرق شمس تقشَّر.
«أوه، أرى أنهم أحضروا إحدى ملكات مصر لمهرجان مدينة كينكايد.»
حينما عادت ماي إلى المطبخ كانت جدتها ما تزال تحتسي القهوة وتنظر إلى قسم «مطلوب» من الإعلانات المبوبة في جريدة المدينة، وكأنها لا تملك متجرًا ينبغي أن يُفتح أو طعام إفطار ينبغي أن يُعد أو أي شيء ينبغي عمله على الإطلاق. كانت هيزل قد استيقظت وبدأت تكوي فستانًا لتذهب به إلى العمل. كانت تعمل في متجر في مدينة كينكايد التي تبعد ثلاثين ميلًا، وكان عليها أن تغادر إلى العمل في ساعة مبكرة. حاولت أن تقنع والدتها بأن تبيع المتجر وتنتقل للعيش في كينكايد التي تحوي دارين لعرض الأفلام السينمائية، والكثير من المحال والمطاعم وفرعًا من فروع «رويال دانس بافيليون»، لكن المرأة العجوز لم تكن لتتزحزح. وأخبرت هيزل أن تذهب لتعيش حيثما طاب لها ذلك، لكن هيزل لم تفعل لسبب ما. كانت فتاةً طويلةً واهنةً في الثالثة والثلاثين من عمرها، ذات شعر أشقر، ووجه متحفظ طويل، يرتسم عليه دائمًا تعبير ساخط يبرزه حَوَل خفيف، شرود متعمد في إحدى العينين. كان لديها صندوق مليء بأغطية وسائد مطرزة وفوط وأوانٍ فضية. واشترت طقمًا من الأطباق وطقمًا من القدور ذات القعور النحاسية وأودعتهما ذلك الصندوق؛ وظلت هي والمرأة العجوز وماي يأكلن في أطباق متكسرة الحواف ويطبخن في قدور من كثرة ما تخبطت كانت تتأرجح فوق الموقد.
كانت المرأة العجوز تقول: «هيزل لديها كل ما يلزمها لتتزوج لكن يعوزها فقط أمر واحد.»
كانت هيزل تطوف البلدة لحضور حفلات راقصة مع فتيات أخريات يعملن في كينكايد أو يدرسن في المدرسة. وفي صباح يوم الأحد كانت تصحو تَعِبةً من آثار الإفراط في الشراب، فتتناول قهوةً وأسبرينًا، وترتدي فستانها الحريري المطبوعة عليه رسومات وتركب سيارتها وتولي مغادرةً كي تغني ضمن جوقة المنشدين بالكنيسة. أما أمها، التي كانت تقول إنها لا تدين بدين، فتفتح المتجر وتبيع البنزين والآيس كريم للسائحين.
علَّقت هيزل طاولة الكي وهي تتثاءب وتفرك برفق وجهها بينما المرأة العجوز تقرأ بصوت مرتفع: «رجل مجتهد طويل القامة، في الخامسة والثلاثين، يرغب في التعرف إلى امرأة حسنة الخُلُق، لا تدخِّن ولا تشرب الخمر، تحب حياة المنزل، العابثات يمتنعن رجاءً.»
قالت هيزل: «أوه، لا يا أمي.»
سألت ماي: «ماذا يعني بالعابثات؟»
راحت المرأة العجوز تقرأ في عناد: «رجل في أَوْج رجولته، يرغب في صداقة امرأة صحيحة البنية، لا أعباء لديها، برجاء إرسال صورة فوتوغرافية في أول رسالة.»
قالت هيزل: «أوه، أمي كُفِّي عن هذا.»
سألت ماي: «ما هي الأعباء؟»
«ماذا سيحدث لكِ إذا تزوجت أنا؟» قالتها هيزل على نحو كئيب وعلى وجهها ارتضاء ممتعض.
«متى شئت أن تتزوجي، يمكنك أن تفعلي.»
«لديَّ أنتِ وماي.»
«أوه، دعكِ من هذا. هذا ليس صحيحًا.»
«حسنًا هذه هي الحقيقة.»
«أوه، أنتِ تمزحين» قالتها المرأة العجوز بقرف، واستطردت: «أنا أتولى شئوني بنفسي. ودائمًا ما كنت كذلك.» كانت ستردف بالمزيد، لأن هذا الحديث كان في حقيقة الأمر علامة توجيهية فارقة في مسار حياتها، لكن في اللحظة التي أعقبت استحضارها ذلك المشهد الذي كان زاهي الألوان وبريئًا كرسم طفل بألوان الشمع، ثم أحدثت مثل هذه التحريفات الماهرة، أغمضت عينيها كما لو كان الشعور بالزيف كبتها، ثمة شك معقول بأن أيًّا من هذا لم يكن له وجود قط. دقت بملعقتها على الطاولة وقالت لهيزل: «حسنًا، لا أعتقد أن حلمًا كالذي راودني ليلة الأمس راودكِ قط.»
قالت هيزل: «أنا لا أحلم بالمرة على أية حال.»
جلست المرأة العجوز تدق بملعقتها وتنظر في تركيز إلى لا شيء سوى واجهة الموقد.
ثم قالت: «حلمت أنني أسير في الطرق. كنت أسير في الطريق المار على بوابة آل سيمونز وشعرت كأن سحابة تغشِّي الشمس، وأحسست بالبرد. فنظرت إلى الأعلى ورأيت طائرًا ضخمًا، أوه، أضخم طائر يمكن أن ترينه، أسود اللون سواد غطاء الموقد هذا، كان فوقي تمامًا حاجبًا الشمس عني. هل سبق لك أن حلمتِ بشيء كهذا؟»
«لا أحلم بأي شيء على الإطلاق.» قالتها هيزل بشيء من الغطرسة.
قالت ماي: «هل تذكران الكابوس الذي راودني حينما كنت نائمة في الغرفة الأمامية عقب إصابتي بالحصبة؟ هل تذكرانه؟»
قالت المرأة العجوز: «لا أتحدث عن أية كوابيس.»
«كنت أرى أشخاصًا يرتدون قبعات ملونة يغدون ويروحون في أرجاء الغرفة، ثم صاروا يتحركون أسرع فأسرع حتى صرت أرى قبعاتهم تتداخل معًا. كانت بقية أجسامهم جميعًا غير مرئية، ولم أكن أرى منهم إلا هذه القبعات الملونة.»
أخرجت الجدة طرف لسانها لتلعق بضع شذرات جافة من التبغ كانت عالقة بشفتيها، ثم قامت ورفعت غطاء الموقد وبصقت في النار. قالت: «ربما أتحدث إلى الجدار.» ثم أردفت: «ماي، ضعي بعض أعواد الحطب في هذه النار، سأقلي لنا بعض لحم الخنزير المقدد. لا أرغب أن أُبقِي الموقد مشتعلًا اليوم أكثر من ذلك فيصعب عليَّ إطفاؤه.»
قالت هيزل في هدوء: «الجو سيكون أكثر حرارة من جو الأمس. اتفقنا أنا ولويز على ألًّا نرتدي أية جوارب. وإذا وجَّه لنا السيد بيبلز كلمة فسنقول له: لمَ في اعتقادك عينوك هنا؟ كي تجول الأرجاء وتتفحص سيقان الجميع؟ فيصاب بالخجل.» اختفى رأسها الأشقر في تنورة فستانها وهي تطلق قهقهة تشبه صوت جرس قُرع مرةً واحدةً بالصدفة، ثم سكت.
قالت المرأة العجوز في استهجان: «هه.»
•••
جلست ماي ويوني باركر وهيذر سو موراي عصرًا على الدرجات الأمامية للمتجر. كانت الشمس قد اكفهرت خلف الغيوم خلال وقت الظهيرة لكن اليوم بدا أنه يزداد حرارة مع ذلك. لم يكن بالإمكان سماع صرصور أو طير، لكن كانت ثمة ريح خفيفة، ريح ساخنة زاحفة تهب من أعشاب البلدة. ولأن اليوم كان السبت، لم يتوقف أي شخص تقريبًا عند المتجر، بل كانت سيارات المنطقة تولي عابرة في طريقها إلى المدينة.
قالت هيذر سو: «ألا تحظين يا بنات بأية توصيلات مجانية من هذه السيارات المارة؟»
قالت ماي: «لا.»
قالت يوني باركر صديقة ماي المقربة منذ سنتين: «أوه، لم تكن ماي ليُسمح لها بذلك. أنتِ لا تعرفين جدتها. ماي لا تستطيع فعل أي شيء.»
جرَّت ماي قدميها في التراب وسحقت بعقبها بيتًا للنمل، ثم قالت: «ولا أنتِ أيضًا تستطيعين فعل شيء.»
قالت يوني: «بل أستطيع. أستطيع أن أفعل ما يحلو لي.» نظرت إليهما هيذر سو بطريقة تشي بشعورها كضيف لا يعلم شيئًا عن المكان وقالت: «ما الذي يمكن فعله هنا في هذا المكان؟ أعني ما الأنشطة التي تمارسنها أنتن يا بنات»؟
كان شعرها مقصوصًا قصيرًا يحيط بوجهها، وكان خشنًا، أسود، مموجًا. وكانت تضع أحمر شفاه بلون أحمر قانٍ كلون حلوى التفاح، وبدت كأنها حفت شعر ساقيها.
قالت ماي في جمود: «نذهب إلى المقابر.» وقد كانت ماي ويوني تذهبان إلى المقابر بالفعل، فقد كانتا تذهبان للجلوس في المقابر بعد ظهيرة كل يوم تقريبًا؛ لأن هناك كان يوجد ركن ظليل تنأيان فيه عن إزعاج الأطفال الأصغر سنًّا، ويتسنى لهما الحديث عما يدور بخلديهما بمأمن من أن يستمع أحد إلى ما تقولانه.
قالت هيذر: «تذهبان إلى «أين»؟» قطبت يوني حاجبيها وهي تنظر إلى التراب تحت قدميهما وقالت: «أوه، لا نذهب إلى هناك، أكره تلك المقابر السخيفة.» لكن في بعض الأحيان كانت هي وماي تقضيان طوال فترة ما بعد الظهيرة تنظران إلى شواهد القبور وتنتقيان الأسماء التي تعجبهما وتؤلفان قصصًا عن الأشخاص المدفونين تحت تلك الشواهد.
قالت هيذر سو: «يا إلهي! لا تخيفيني هكذا. الجو حار بدرجة رهيبة، أليس كذلك؟ أحسب أنني لو كنت في منزلي في هذا الوقت، لذهبت أنا وصديقتي إلى بركة السباحة.»
قالت يوني: «يمكننا أن نذهب للسباحة عند «ثيرد بريدج».»
«وأين يقع هذا؟»
«على مقربة من هنا. نصف ميل.»
قالت هيذر سو: «في هذا الحر؟»
قالت يوني: «سآخذك معي على دراجتي.» ثم قالت لماي بمرح وود زائدين: «أنتِ أيضًا أحضري دراجتك، هيا.»
فكرت ماي للحظة ثم قامت ودخلت المتجر، الذي كان معتمًا في كل أوقات النهار، وحارًّا أيضًا، ويحوي ساعةً خشبيةً كبيرة على الجدار، وسلالًا مليئة بفتات بسكويت محلًّى وبرتقال رخو وبصل. ذهبت نحو الخلفية حيث تجلس جدتها فوق كرسي بلا ظهر إلى جانب مجمد الآيس، أسفل لافتة كبيرة عليها إعلان عن مسحوق خبيز خلفيتها من ورق القصدير الرقراق، كبطاقات عيد الميلاد.
قالت ماي: «هل يمكنني أن أذهب للسباحة مع يوني وهيذر سو؟»
سألت الجدة بنبرة تكاد تكون محايدة: «أين ستذهبن للسباحة؟» كانت تعلم أن لا مكان يصلح للسباحة إلا مكان واحد.
«ثيرد بريدج.»
كانت يوني وهيذر سو قد دخلتا المتجر ووقفتا عند الباب. ابتسمت هيذر سو برقة وأدب إلى المرأة العجوز.
«لا، لا يمكنك.»
قالت ماي: «المياه ليست عميقةً هناك.»
بدرت عن الجدة غمغمة غير مفهومة، ثم جلست منحنية، مرفقها فوق ركبتها وذقنها مستند على إبهامها. لم تكلف نفسها رفع ناظريها.
قالت ماي بعناد: «لمَ لا يمكنني الذهاب؟»
لم تجب الجدة. بينما يوني وهيذر سو تراقبان المشهد من عند الباب.
قالت ثانيةً: «لمَ لا يمكنني؟ جدتي، لم لا؟»
«تعلمين السبب.»
«لماذا؟»
«لأن هذا هو المكان الذي يرتاده كل الفتيان. أخبرتك هذا من قبل. لقد صرت الآن كبيرة بما يحول دون هذا.» أطبقت فمها بشدة، وارتسمت على وجهها تجعدات تحفُّظ راضٍ وكريه، ثم سددت نظرة طويلة إلى ماي حتى علا وجهها توهج خزي وغضب، ثم اعترى وجهها هي حيوية ما وأضافت: «دعي الأخريات يلاحقن الفتيان، وانظري ما سيجلبه عليهم ذلك.» لم تكن قد وجهت أية نظرة إلى يوني وهيذر سو لكن حينما قالت ذلك استدارتا وهرعتا إلى خارج المتجر. كان بالإمكان سماعهما تجريان بجانب مضخة البنزين وتنفجران في نوبة مجلجلة، ويائسة نوعًا ما، من الضحك. لم يبد على المرأة العجوز أنها سمعت ذلك.
لم تقل ماي أي شيء. كانت تستكشف في العتمة بُعدًا آخر للشعور بالمرارة. كانت تشعر بأن جدتها لم تعد «مقتنعة» بالأسباب التي تسوقها هي نفسها، وأنها لا تكترث لذلك، لكنها تخرج نفس تلك الأسباب من جعبتها، وتلوح بها بخبث، لا لشيء سوى أن ترى كمَّ الأذى الذي يمكن أن تحدثه. قالت الجدة: «البنت هيذر … ماذا كان اسمها؟ رأيتها تترجل من الحافلة صباح اليوم.»
سارت ماي خارجة من المتجر إلى الغرفة الخلفية مارةً بالمطبخ إلى الفناء الخلفي. ذهبت وجلست إلى جانب المضخة. ثمة قناة خشبية عتيقة، تعلوها خضرة العفن، ممتدة من صنبور المضخة إلى جزيرة من الطين المبتل وسط مجموعات من الأعشاب الجافة. كانت تجلس هناك، وبعد وهلة رأت علجومًا ضخمًا، حسبته هي مسنًّا ومنهكًا، يتقافز متعثرًا وسط العشب، فأوقعت به بين يديها.
سمعت الباب السلكي يُغلق، فلم تنظر، ثم رأت حذاء جدتها، وكاحليها النحيلين يتحركان نحوها فوق العشب. أمسكت بالعلجوم بإحدى يديها والتقطت باليد الأخرى عصًا صغيرة، وبدأت تنخسه بوتيرة منتظمة في بطنه.
قالت الجدة: «توقفي عن هذا.» فرمت ماي العصا. قالت لها الجدة: «أفلتي هذا المخلوق البائس.» ففتحت ماي أصابعها ببطء شديد. وفي الوقت الذي يعقب الظهيرة مباشرةً كانت ماي تستطيع أن تشم الرائحة المميزة المنبعثة من جسم جدتها التي كانت واقفة تراقبها؛ كانت رائحة مائلة إلى الحلاوة والعطب كرائحة قشر التفاح القديم الذي بات رخوًا، وكانت تنفذ فتغطي على الروائح المعتادة أكثر للأشياء التي كانت تحملها معها دائمًا كالصابون الصلب والقماش القطني المكوي والتبغ.
«أراهن بأنك لا تعرفين.» قالتها الجدة بصوت مرتفع. «أراهن بأنكِ لن تتوقعي ما كان يجول بخاطري في المتجر.» لم ترد ماي لكنها انحنت وبدأت تقشِّر في اهتمام قشرة جرح في ساقها.
«كنت أفكر في بيع المتجر.» قالتها جدتها بنفس الصوت المرتفع الرتيب وكأنها تتحدث إلى شخص أصم أو إلى سلطة ما عليا. كانت واقفة تنظر إلى الأفق الأزرق الصنوبري غير المنتظم، تشد ميدعتها إلى الأسفل بيديها المنبسطتين في حركة من حركات النساء العجائز، وقالت: «أنا وأنتِ يمكننا أن نستقل القطار ونذهب لرؤية لويس.» كان لويس هو ابنها الذي يعيش في كاليفورنيا، والذي لم تره منذ نحو عشرين عامًا.
عندئذٍ كان لا بد أن ترفع ماي عينيها لترى ما إذا كانت جدتها تمارس خدعةً ما. فالمرأة العجوز كانت دائمًا تقول إن السائحين حمقى لاعتقادهم أن أي مكان أفضل من سواه وأنهم كانوا أفضل حالًا في موطنهم.
استطردت الجدة: «يمكنا أنا وأنتِ أن نذهب في رحلة إلى الساحل، لن تكلفنا الكثير جدًّا، نستطيع أن نسهر لياليَ ونصُرَّ بعض الطعام لنأخذه معنا. من الأفضل أن تصري طعامك بنفسك، فأنتِ أدرى بما سيكفيكِ.»
قالت ماي بفظاظة: «لكنكِ مسنَّة للغاية. أنتِ في الثامنة والسبعين.»
«مَن في سنِّي يسافرون إلى بلداتهم الأصلية في الأرياف وإلى كل مكان، اقرئي الجريدة لتعلمي.»
قالت ماي: «قد تصابين بأزمة قلبية.»
قالت المرأة العجوز: «حينئذ يمكنهم أن يضعوني في تلك السيارة التي ينقلون فيها الخضار، مع الخس والطماطم، ويشحنوني إلى بلدتي الأم مبرَّدة.» في تلك الأثناء، كانت ماي تتخيل الساحل أمام عينيها؛ فرأت الرمال الممتدة مثل الشاطئ الطويل عند البحيرة ولكنه أكثر اتساعًا وإشراقًا؛ إن كلمة «الساحل» نفسها خلقت شعورًا بالانتعاش والسرور في نفسها، ولكنها لم تصدقه، فلم تفهم ما يجري؛ فمتى حدث أن وعدتها جدتها بشيء جميل من قبل؟
•••
ثمة رجل كان واقفًا عند واجهة المتجر يتناول مشروبًا غازيًّا بطعم الليمون. كان رجلًا صغير البنية في أواسط العمر ذا وجه ممتلئ تعلوه لمعة الحر؛ كان يرتدي قميصًا أبيض، غير نظيف، وربطة عنق حريرية باهتة. وكانت المرأة العجوز قد حركت كرسيَّها إلى النَّضُد الأمامي وجلست هناك تتحدث إليه. وكانت ماي واقفة وظهرها لكليهما تنظر من الباب الأمامي. كانت الغيوم رمادية، والدنيا يملؤها ضوء كريه مغبر عتيق بدا أنه لا يأتي من السماء فحسب، وإنما يأتي أيضًا من جدران الآجر الجامدة، والطرق البيضاء، ومن حفيف أوراق الأجمة الرمادية، ومن صفع رفرفة اللافتات المعدنية في مهب الريح الرتيبة الحارة. كانت ماي قد شعرت، منذ أن تبعتها جدتها إلى الفناء الخلفي، بأن شيئًا ما تغيَّر، شيئًا ما انبلج؛ نعم، إنه النور الجديد الذي رأته في الدنيا. وشعرت بشيء ما حيال نفسها، كأنه قوة، قوتها العدائية التي لم تتصور أنها تملكها لكنها لم تستكشفها بعد، فأرادت أن تحتفظ بها لفترة لحين استخدامها.
سألت الجدة: «لحساب أي شركة تسافر؟» فأجاب الرجل: «شركة روج.»
«ألا يسمحون للمرء أن يعود لأسرته في عطلة نهاية الأسبوع؟»
قال الرجل: «لست مسافرًا في مهمة عمل حاليًّا، على الأقل لست مسافرًا في عمل لشركة «روج». يمكنك أن تقولي إنني مسافر في مهمة عمل خاصة.»
«أوه، حسنًا.» قالتها المرأة العجوز بنبرة مَن لا يريد أن يحشر أنفه فيما يخص أي شخص آخر من عمل خاص، وأردفت: «هل تعتقد أنها ستمطر؟»
قال الرجل: «ممكن.» وتناول شربة كبيرة من مشروب الليمون ووضع الزجاجة جانبًا ثم مسح فمه بمنديله في أناقة. كان من النوع الذي يمكن أن يتحدث عن عمله الخاص على أية حال، بل إنه لم يكن ليتحدث عن أي شيء سوى هذا. قال: «أنا في طريقي لرؤية شخص من معارفي، يقيم في كوخه الصيفي. إنه يعاني من أرق حاد إلى حد أنه لم ينل نومًا هانئًا لليلة واحدة منذ سبع سنوات.» قالت المرأة: «أوه، حسنًا.»
«وأنا ذاهب لأرى إن كان بإمكاني أن أعالجه. سبق أن حققت نجاحًا عظيمًا مع بعض حالات الأرق، ليس بنسبة مائة بالمائة، لكنه نجاح جيد جدًّا.»
«هل تمارس الطب أيضًا؟»
قال الرجل القصير: «لا، لا أفعل. أنا منوِّم مغناطيسي. هاوٍ، ولا أعتبر نفسي إلا هاويًا.»
نظرت إليه المرأة العجوز لعدة لحظات دون أن تقول شيئًا. لكن هذا لم يُثِر استياءه، بل تحرك نحو واجهة المتجر وراح يلتقط أشياء وينظر إليها بطريقة مزهوة ومفعمة بالنشاط. «أراهن بأنكِ لم تري أي شخص في حياتك يقول إنه منوِّم مغناطيسي.» قالها ممازحًا المرأة العجوز. «أنا أبدو كأي شخص آخر، أليس كذلك. أبدو أليفًا تمامًا.»
قالت: «أنا لا أومن بأيٍّ من هذه الأمور.»
أجابها بضحكة. ثم سألها: «ماذا تعنين بأنك غير «مؤمنة» به؟»
«لا أومن بأي نوع من الأمور الخرافية.»
«سيدتي، هذا ليس خرافيًّا، إنه حقيقة واقعة.»
«أدري ما هو في الحقيقة.»
قال: «حسنًا الآن ثمة عدد كبير من الأشخاص يوافقونك الرأي، كبير بدرجة مذهلة. لعلك لم تقرئي مقالًا نُشر منذ نحو سنتين في مجلة «دايجست» بشأن هذا الموضوع؟ كنت أتمنى لو كان معي. كل ما أعرفه هو أنني عالجت رجلًا من إدمان الشراب. عالجت أشخاصًا من كل أنواع الحكة والطفح الجلدي والعادات السيئة، ومن العصبية. لا أدعي أن في استطاعتي علاج كل الناس من عاداتهم العصبية، لكن أستطيع أن أقول إن عددًا من الأشخاص كانوا ممتنين للغاية لي. في غاية الامتنان.»
رفعت المرأة العجوز يديها إلى رأسها ولم تجب.
«ما الأمر سيدتي، هل أنتِ بخير. هل تعانين الصداع؟»
«أنا على ما يرام.»
سألته ماي في جرأة: «كيف عالجت هؤلاء الأشخاص؟» مع أن جدتها طالما حذرتها قائلة: إياك أن أجدك تتحدثين إلى أشخاص غرباء في المتجر.
التفت الرجل القصير في اهتمام، ثم سألها: «لماذا أنومهم مغناطيسيًّا، آنستي الصغيرة؟ أنا أنومهم مغناطيسيًّا. هل تطلبين مني أن أشرح لكِ ما هو التنويم المغناطيسي؟»
احمرَّ وجه ماي التي لم تكن تعلم عمَّ تسأل، ولم تدرِ ما ينبغي أن تقول. رأت جدتها تنظر إليها مباشرةً. كانت المرأة العجوز قد وجهت ناظريها من رأسها إلى ماي بنظرة حادة وكأن نيرانًا اشتعلت ولم يكن بوسعها أن تفعل شيئًا حيال ذلك، لم تكن تستطع حتى أن تخبرهما ما الأمر.
قالت الجدة: «إنها لا تدري عم تتحدث.»
«حسنًا، الأمر بسيط.» هكذا قال الرجل لماي مباشرةً، بصوت بالغ الحنو، لا بد أنه اعتقد أنه يناسب التحدث إلى الأطفال. «الأمر يشبه أن تنومي شخصًا. إلا أنهم لا ينامون نومًا حقيقيًّا، هل أنت منتبهة إلى ما أقول عزيزتي؟ يمكنك أن تتحدثي إليهم. واسمعي، اسمعي هذا، يمكنك أن تتوغلي داخل عقولهم وتكتشفي أشياء ما كانوا ليتذكروها وهم مستيقظون. وتكتشفي ما خفي من مخاوفهم ومصادر قلقهم التي تسبب لهم المتاعب. والآن، أليس هذا شيئًا رائعًا؟»
قالت المرأة العجوز: «لن تستطيع أن تفعل ذلك معي. سأعلم ما يجرى. لن تستطيع فعل ذلك معي.»
فقالت ماي: «أراهن أنه يستطيع.» قالتها وهي مندهشة من نفسها إلى حد أنها ظلت فاغرة فاها. لم تكن تدري لماذا قالت ذلك. كانت مرارًا وتكرارًا قد شهدت جدتها تواجه العالم الخارجي، لا تواجهه بكبرياء بقدر ما تواجهه بقناعة أساسية صلبة بأن المرأة العجوز ستنتصر. الآن، ولأول مرة بدا لها ثمة احتمال بأن تنهزم جدتها، رأت ذلك على وجه جدتها لا على وجه الرجل القصير الذي اعتقدت أنه لا بد أن يكون مجنونًا، والذي جعلها ترغب في الضحك. ملأتها الفكرة بخوف وبإثارة موجعة لا تُقاوم.
«حسنًا، لا يمكنك الحكم ما لم تجربي.» قالها الرجل كما لو كانت نكتة، ونظر إلى ماي. اتخذت المرأة العجوز قرارها وقالت في ازدراء: «الأمر ليس مهمًّا بالنسبة لي.» ووضعت كوعيها فوق النَّضُد وأمسكت برأسها بين يديها كما لو كانت تضغط شيئًا ما بداخلها. قالت: «أشفق أن أضيِّع وقتك.»
«عليكِ أن تستلقي كي تسترخي أكثر.»
«الجلوس …» قالتها ثم بدت للحظة أنها تلهث، ثم أردفت: «الجلوس جيد جدًّا بالنسبة لي.»
عندئذٍ أخذ الرجل فتاحة قنانيَّ من على بطاقة حُليٍّ صغيرة رخيصة كانوا يبيعونها في المتجر، ومشى خطوات كي يقف أمام النَّضُد. لم يكن في عجلة من أمره. وعندما بدأ يتكلم، كان بصوت طبيعي لكنه مختلف بعض الشيء، فقد بات صوته أهدأ ولا يحمل أي انفعالات. قال بهدوء: «الآن، أعرف أنكِ تقاومين هذه الفكرة. أعلم أنكِ تقاومينها وأعلم السبب. السبب هو أنكِ خائفة.» ندا عن المرأة العجوز صوت ينم عن احتجاج أو انزعاج، فرفع هو يديه، لكن برفق. ثم واصل: «أنتِ خائفة. كل ما أرغب أن أريك إياه، كل ما أقصد أن أريكِ إياه، أن لا شيء ينبغي أن تخشيه. ليس هناك ما ينبغي أن تخشيه. لا شيء. لا شي ينبغي أن تخشيه. أريدكِ فقط أن تثبتي نظرك على هذا الشيء المعدني اللامع الذي أمسكه بيدي. هذا جيد، فقط أبقي عينيك مثبَّتتين عليه. لا تفكري. لا تقلقي. فقط قولي لنفسك: ليس هناك ما ينبغي أن أخشاه، ليس هناك ما أخشاه، ليس هناك ما أخشاه …» ثم أصبح صوته عميقًا، ولم يعد باستطاعة ماي أن تتبين ما يقول. مكثت مستندة إلى ثلاجة المشروبات الغازية. أرادت أن تضحك، لم يكن يسعها أن تمنع نفسها من ذلك، وهي ترى مؤخر رأس هذا الرجل المتواضع المظهر بعض الشيء وكتفيه المستديرتين المنتفضتين البيضاوين. لكنها لم تضحك لأنها كانت يجب أن تنتظر رؤية ما ستفعله جدتها. إذا حدث واستسلمت جدتها للأمر فسيكون هذا حدثًا مزلزلًا شأنه شأن الزلازل أو الفيضانات، سيُحدِث تصدعًا في أساسات حياتها ويمنحها حرية مهولة. حملقت المرأة العجوز في فتاحة القناني في يد الرجل في طاعة هائلة دون أن يرمش لها جفن.
قال: «الآن أريدكِ فقط أن تخبريني، إذا كنتِ ما تزالين تستطيعين رؤية … إذا كنت تستطيعين رؤية …» وانحنى للأمام لينظر في وجهها. «أريدكِ أن تخبريني إذا كنتِ ما تزالين تستطيعين رؤية …» كان وجه المرأة العجوز بعينيه الباردتين الكبيرتين وهيئته الضارية المتيبسة في بُعد خاص وحده. توقف الرجل وتراجع بظهره.
قال: «مهلًا، ما الأمر؟» لم يقلها بصوته المنوِّم بل بصوته العادي، بل بصوت أكثر حدة من العادي، ما جعل ماي تقفز معتدلة. راح يقول: «ما الخطب سيدتي؟ هيا، استيقظي.» ولمس كتفها ليهزها هزةً خفيفة. فسقطت المرأة إلى الأمام، ونظرة ازدراء مفرط ما تزال على وجهها، مرتطمةً بالطاولة بصوت عالٍ، ومبعثرةً على الأرض عددًا من علب المناديل الورقية والعلكة الفقاعية وزينة الكعك. أسقط الرجل فتاحة القناني ونظر إلى ماي مصدومًا وهو يصيح: «لست المسئول … هذا لم يحدث من قبل.» وركض خارجًا من المتجر إلى سيارته. حين سمعت ماي صوت تشغيل محرك السيارة هرعت خلفه، كما لو كانت تريد أن تطلب شيئًا ما، كما لو كانت تريد أن تقول: «ساعدني» أو «لا تذهب.» لكنها لم تطلب أي شيء، بل وقفت فاغرةً فاها وسط سحابة الغبار أمام مضخة البنزين، ولم يكن هو ليسمعها على أية حال؛ فقط انعطف بحركة عنيفة نحو الطريق ملوحًا بيده في استنكار من نافذة السيارة، وزمجر محرك السيارة وهو يبتعد نحو الشمال.
وقفت ماي خارج المتجر ولم تمر أية سيارات أخرى على الطريق السريع، ولا واحدة. كانت كل الأفنية خاوية في «بلاك هورس». كانت حبات المطر قد بدأت تتساقط قبل ذلك بوهلة قصيرة، وتتقاطر حولها منفصلةً، ومحدثةً صوت طقطقة جراء ارتطامها بالتراب. أخيرًا، عادت وجلست على عتبة المتجر التي يتساقط المطر عليها أيضًا. كان الجو دافئًا للغاية ولم تكن تشعر بانزعاج من المطر. جلست وساقاها مطويتان تحتها تتطلع إلى الطريق، إلى حيث يمكنها أن تذهب الآن في أي اتجاه تشاء، وإلى العالم الذي بدا مبسوطًا ومتاحًا وغارقًا في الصمت أمامها. كانت تجلس في انتظار أن تأتي تلك اللحظة، اللحظة التي لن يسعها فيها أن تنتظر أكثر، والتي ستضطر فيها للنهوض والدخول إلى المتجر حيث المكان أكثر عتمةً من أي وقت مضى، بسبب المطر، وحيث ترقد جدتها ملقاةً فوق الطاولة ليست ميتةً فحسب، بل ومنتصرة أيضًا.