منازل مضيئة
جلست ماري على السلم الخلفي لمنزل السيدة فولرتن، تتحدث — أو تستمع في واقع الأمر — مع السيدة فولرتن، التي تبيع لها البيض. كانت قد مرت بها كي تعطيها ثمن البيض وهي في طريقها إلى حفل عيد ميلاد ديبي ابنة إديث. لم تكن السيدة فولرتن تزورهم أو تدعوهم، لكن ما إن تنشأ حجة عمل، حتى تحب أن تتحدث. وجدت ماري نفسها تستكشف حياة جارتها كما استكشفت من قبلُ حيوات الجدات والخالات، بادِّعائها أنها تعرف أقل مما تعرفه في الواقع، وطلبها منهن حكاية بعض القصص التي سمعتها من قبلُ؛ وبهذه الطريقة، تتذكر أحداثًا تظهر في كل مرة مع اختلافات طفيفة في المحتوى أو المغزى أو الصبغة، لكن بواقع خالصٍ عادةً ما تصاحبه أشياءُ أسطوريةٌ جزئيًّا على الأقل. كانت قد نسيت تقريبًا أن ثمة أناسًا يمكن رؤية حياتهم هكذا؛ فهي لم تَعُدْ تتحدث مع كثير من كبار السن، ومعظم الأشخاص الذين عرفتهم لا تختلف حياتهم عن حياتها؛ حياتها التي لم تُصنَّف فيها الأشياء بعدُ، ولم يَعُدْ من المؤكد أن هذا الشيء أم ذاك يجب أخذه على محمل الجد أم لا. لم يساور السيدة فولرتن أية شكوك أو تساؤلات من هذا النوع. على سبيل المثال، كيف كان من الممكن عدم التعامل جديًّا مع الغياب الطائش تمامًا للسيد فولرتن، الذي اختفى في يوم من أيام الصيف، ولم يَعُدْ مجدَّدًا؟
قالت ماري: «لم أكن أعلم ذلك، كنتُ أعتقد دومًا أن السيد فولرتن وافته المنية.»
قالت السيدة فولرتن: «هو ما زال حيًّا يرزق مثلي.» واستقامت في جلستها. مرت دجاجة كبيرة من فصيلة بليموث روك فوق درجة السلم الأولى، فنهض ابن ماري الصغير، داني، ليلاحقها بحذر. «لقد انطلق في رحلاته فحسب، فهذا ما يفعله. ربما اتجه شمالًا، وربما ذهب إلى الولايات المتحدة، لا أدري، لكنه لم يَمُتْ، كنتُ سأشعر بذلك. وهو ليس عجوزًا أيضًا، ليس عجوزًا مثلي؛ فهو زوجي الثاني، وكان يصغرني سنًّا، لم أُخفِ هذا الأمر. اشتريت هذا المنزل وربَّيْت أطفالي ومات زوجي الأول قبل أن يظهر السيد فولرتن في حياتي بكثير، ففي إحدى المرات ذهبنا إلى مكتب البريد ووقفنا معًا بجانب النافذة، ثم توجَّهْتُ لأضع خطابًا في الصندوق وتركت حقيبتي، وتوجَّه السيد فولرتن ليلحق بي، فنادته فتاة وقالت: «خُذْ، لقد نسيت أمك حقيبتها!»»
ابتسمت ماري استجابةً لضحكة السيدة فولرتن العالية غير الواثقة. كانت السيدة فولرتن متقدمة في العمر، كما قالت، أكثر مما يمكنك اعتقاده، بشعرها الأسود شديد التموج، وملابسها الرمادية بفعل الاتساخ، ودبابيس الزينة الرخيصة المعلَّقة بسترتها ذات النسيج المنسول. لكنَّ عينَيْها كانتا تعكسان ذلك، فكانتا سوداوين كلون البرقوق ولهما بريق جامد خافت، تختفي الأشياء فيهما ولا تتغير أبدًا. لم ترتسم الحياة في وجهها إلا في أنفها وفمها اللذين كانا دائِمَي الحركة والاهتزاز، ممَّا جذب خطوطَ وجهها العابسة أسفل وجنتيها. عندما كانت تأتي كل يوم جمعة لتحضر طلبيات البيض كان شعرها معقوصًا، ومجموعة من الزهور القطنية تجذب طرفي بلوزتها، وشفتاها مطليتين بخط أحمر ثقيل غير منتظم، فما كانت لتظهر أمام جيرانها الجدد بأي مظهر فوضوي لسيدة عجوز حزينة.
قالت: «ظنَّتْ أنني أمه، لم آبَه بذلك، بل ضحكت بشدة. لكن ما أخبرك به أنه في يوم من أيام الصيف، كان زوجي في إجازة من العمل، فارتقى السلم ليجمع بعض ثمار الكرز من شجرة الكرز الأسود. خرجتُ لأعلق بعض الملابس لتجفيفها لأجد رجلًا لم أره من قبلُ في حياتي، يأخذ دلو الكرز الذي ناوله زوجي إياه، متصرفًا دون قيد أو خجل، جلس لتناوُل الكرز من الدلو خاصتنا. سألت زوجي عمَّن يكون ذلك الشخص، فأجابني أنه عابر سبيل. أخبرته أنه إذا كان صديقًا له، فبإمكانه المكوث ليتناول العشاء معنا، فقال: عمَّ تتحدثين؟ لم أَرَه من قبلُ. لذا لم أنبس بكلمة أخرى. اتجه السيد فولرتن وتحدَّث معه وهو يأكل الكرز الذي كنتُ أنوي استخدامه في صنع كعكة، لكن ذلك الرجل كان يتحدث مع الجميع، متسولًا كان أو أحد مبشري شهود يهوه، أي شخص — لم يكن من الضروري أن يعني ذلك شيئًا.»
واصلت حديثها: «بعد نصف ساعة، رحل ذلك الرجل. خرج السيد فولرتن بسترته البُنِّيَّة مُعتمِرًا قبعته، وأخبرني أنه سيقابل شخصًا ما في وسط المدينة، فسألته: هل ستطيل البقاء؟ فقال: لن أتأخر. لذا خرج على الطريق، ومضى جنوبًا إلى حيث اتجه المتسول العجوز — كنَّا جميعًا في الجنبة حينها — شيء ما جعلني أتتبعه بناظري. قُلْتُ في نفسي لا بد أنه يشعر بالحر وهو يرتدي ذلك المعطف، وحينها عرفت أنه لن يعود. بَيْدَ أنني لم أكن أتوقع ذلك؛ فقد كان يحب المكان هنا، وكان يتحدث عن تربية الشنشيلة في الفناء الخلفي. لن تعرفي أبدًا ما يجول بخاطر الرجل حتى وإن كنتِ تعيشين معه.»
قالت ماري: «هل حدث ذلك منذ زمن بعيد؟»
«اثني عشر عامًا. أراد أولادي أن أبيع بيتي وأنتقل للعيش في الأحياء السكنية، لكنني رفضت، فأنا أربِّي الدجاج هنا، وكان لديَّ عنزة حينذاك، كانت حيواني المدلَّل. كان لديَّ أيضًا راكون مدلَّل لفترة من الزمان، اعتدت إطعامه العلك. قلت حسنًا، يأتي الأزواج ويرحلون، لكن المكان الذي عشْتُ فيه خمسين عامًا شيء آخَر. جعلت من الأمر مزحة مع عائلتي. إلى جانب هذا، فكَّرْتُ أنه إذا عاد السيد فولرتن، فسيأتي إلى هنا، فلا يدري مكانًا آخَر يذهب إليه. بالطبع لن يعرف أين يعثر عليَّ، فالطريق تغيَّر الآن. لكن دائمًا ما كانت تراودني فكرة أنه ربما أُصِيب بفقدان الذاكرة، وربما تعود إليه، فهذا يحدث.
أنا لا أتذمر. أحيانًا ما يبدو لي أن الرجل الحكيم سيجد ما يجعله يرحل مثلما سيجد ما يجعله يمكث. لا أنزعج من وقوع التغيرات أيضًا، فهذا ساعدني في تجارتي في البيض. لكن مسألة مجالسة الأطفال هذه … طوال الوقت يطلب مني أحدهم مجالسة الأطفال. أخبرهم أنني أملك منزلي الخاص لأجلس به وأخذت نصيبي من تربية الأطفال.»
نهضت ماري عندما تذكَّرَتْ حفل عيد الميلاد ونادت على ابنها الصغير. قالت السيدة فولرتن: «فكرت في عرض الكرز الأسود لديَّ للبيع في الصيف القادم. تعالي وانتقي لكِ منه، سيكون الصندوق بخمسين سنتًا. لم يَعُدْ بوسعي تعريض عظامي العجوزة للخطر بارتقاء السلم.»
قالت ماري مبتسمةً: «هذا سعر غالٍ جدًّا، إنه يباع بسعر أرخص من ذلك في المتجر الكبير.» كانت السيدة فولرتن قد كرهت بالفعل المتجر الكبير لأنه خفَّض سعر البيض. أخرجت ماري آخِر سيجارة من العلبة وتركتها معها، وقالت إن لديها علبةً أخرى في حقيبتها. كانت السيدة فولرتن تعشق السجائر، لكن ما كانت ستقبل بواحدة إلا إذا قُدِّمت إليها على حين غرة. كانت ماري ترى أن مجالسة الأطفال ستغطي ثمنها. في الوقت نفسه أُعجِبت ماري إلى حدٍّ ما بأن السيدة فولرتن لم تكن لينة العريكة للغاية. عندما خرجت ماري من ذلك المكان، دائمًا ما كانت تشعر كما لو أنها تمر عبر حواجز. كان المنزل والمنطقة المحيطة يوفران الاكتفاء الذاتي بدرجة كبيرة، فكانا يتألَّفان من ترتيب معقَّد يبدو أنه غير قابل للتغيير من أحواض الخضراوات والفاكهة، وأشجار الكرز والتفاح، وحظيرة الدجاج المُسَيَّجة، وحديقة التوت والممرات الخشبية، وكومة الحطب، وسقائفه الصغيرة المعتمة المبنية على نحو عشوائي للدجاج أو الأرانب أو العنزة. لا يوجد هنا خطة صريحة أو مباشِرة، لا وجود لنظام يتسنَّى لغريبٍ فهمُه، مع ذلك ما كان عشوائيًّا جعله الزمن نهائيًّا؛ بات المكان ثابتًا، ومنيعًا، وجميع ما يتكدس به ضروري، حتى بدا أن أوعية الغسيل والماسحات وزنبركات الأرائك وأكوام مجلات الشرطة العتيقة حتى في الرواق الخلفي، قُدِّر لها أن تبقى هناك.
مضى كلٌّ من ماري وداني بالطريق الذي كان يُدعَى في السابق ويكس رود، إبَّان شباب السيدة فولرتن، لكنه أصبح الآن على خرائط التقسيم السكني يحمل اسم هيذر درايف. كان اسم التقسيم السكني جاردن بليس، وسُمِّيَتْ شوارعه على أسماء الزهور. على كل جانب من جانبي الطريق كانت الأرض غير معبَّدَة، ومصارف المياه ممتلئة على آخرها. وُضِعت ألواح خشبية فوق المصارف المفتوحة، ووُضِعت ألواح خشبية بالقرب من أبواب المنازل الجديدة. تنتصب المنازل الجديدة البيضاء والمضيئة بعضها إلى جانب بعض في صفوف طويلة على امتداد الطريق. لطالما رأتها ماري على أنها منازل بيضاء، رغم أنها لم تكن بالطبع بيضاء تمامًا؛ فقد كانت من الجص ومكسوَّةً بالألواح الخشبية، وكان الجص فقط أبيض اللون، أما الكسوة الخارجية فكانت مطلية بدرجات الأزرق والوردي والأخضر والأصفر، جميعها ألوان حديثة وزاهية. في العام الماضي، في هذا الوقت تحديدًا، في مارس، جاءت الجرارات لإزالة الجنبات والأشجار التي نمت مرة أخرى بعد قطعها والأشجار الضخمة من غابة الجبل، بعد برهة وجيزة برزت المنازل بين جلاميد الصخور وجذوع الأشجار الضخمة المقطوعة، وتضاريس الأرض البديعة. كانت المنازل واهية في البداية، هياكل خشبية جديدة تقف في الظلام في أيام الربيع الباردة. لكن بُنِيت بعد ذلك الأسقف، سوداء وخضراء، زرقاء وحمراء، ثم الجص والكسوة، ورُكِّبَت النوافذ، وأُلصِقت عليها علامات مكتوب عليها: موري للزجاج، وفرنش للأرضيات الخشبية الصلبة. وتسنَّت رؤيتها كمنازل حقيقية. توافَدَ الأشخاص الذين سيقطنون بالمنازل يسيرون بتثاقل في الوحل أيام الآحاد. كانت المنازل لأناس مثل ماري وزوجها وطفلهما، لا يملكون الكثير من المال لكن لديهم تطلعات كبيرة، استقرت جاردن بليس، في أذهان الأشخاص الذين يفسرون العناوين، على أنها أقل ترفًا من باين هيلز، لكن أكثر جاذبية من ويلنجتون بارك. كانت الحمامات جميلة، بها مرايا من ثلاثة أجزاء، وبلاط خزفي، ولوازم ملونة، وكانت خزانات المطابخ من الماهوجني أو خشب البتولا الفاتح، وكان هناك تركيبات إضاءة نحاسية في المطبخ وفي زوايا تناول الطعام، كما تفصل أحواض نباتات من القرميد — تتوافق مع المدفآت — بين حجرات المعيشة والردهات. والغرف جميعها رحبة وفاتحة اللون، وكانت الأقبية جافة، ظهرت كل هذه المتانة والامتياز في وضوح وفخر في واجهة كل منزل، تلك المنازل المتشابهة على نحوٍ خلا من الإبداع، ينظر بعضها إلى بعض في هدوء، على امتداد الشارع.
ولما كان اليوم هو يوم السبت، كان جميع الرجال بالخارج يعملون حول منازلهم؛ يحفرون قنوات لتصريف المياه، ويصنعون حدائق صخرية، ويزيلون الأغصان والشجيرات المقطوعة ويحرقونها. عملوا بجد وجهد تنافسيَّين لم يألفوهما، حيث إنهم لم يكونوا رجالًا يكسبون قوت يومهم بالجهد البدني. عملوا طوال اليوم في أيام السبت والآحاد على هذا المنوال، بحيث يكون لديهم في غضون عام أو عامين حدائق خضراء، وجدران صخرية، وأحواض زهور وشجيرات زينة بهية المنظر. لا بد أن الأرض صعبة الحفر الآن، فقد كانت تمطر اللية الماضية وهذا الصباح، لكن اليوم يزداد إشراقًا، وانقشعت السحب كاشفةً عن مثلث رفيع طويل من السماء، زرقتها لا تزال باردة ورقيقة؛ إنه لون الشتاء. وقفَتْ خلف المنازل على أحد جانبي الطريق أشجارُ الصنوبر، بتماثُلها الرتيب الذي لم تهزَّه الرياح كثيرًا. ستتم إزالتها في أي يوم الآن لإخلاء مساحة لإقامة مركز تسوُّق كان هناك وعدٌ بإنشائه عندما بِيعت المنازل.
وأسفل هيكل هذا التقسيم السكني الجديد، كان هناك شيء آخَر يمكن تبيُّنه؛ المدينة القديمة؛ المدينة القديمة في البرية، والتي كانت تقع على جانب الجبل. كان من الضروري أن يطلق عليها مدينة إذ تمر بها خطوط الترام إلى الغابات، وكانت المنازل تحمل أرقامًا، وبها كافة المباني العامة التي تتواجد في المدن، تقف إلى جانب المسطح المائي، لكن المنازل التي تشبه منزل السيدة فولرتن انفصل أحدها عن الآخَر بغابة غير مقطوعة الأشجار وأيكة من ثمار العليق البري وشجيرات العليق الشوكي. كانت هذه هي المنازل المتبقية، التي ينبعث دخان كثيف من مداخنها، وجدرانها غير مطلية ومرقَّعة وتعكس درجات مختلفة من القِدَم والظلمة، وسقائفها بدائية والحطب وكومات السماد متكدسة حولها، وسياجها الخشبي رمادي اللون. وكثيرًا ما كانت هذه المنازل تظهر بين المنازل الجديدة الكبيرة في ميموزا وماريجولد وهيذر درايف. كانت مظلمةً ومطوقةً وتوحي بشيء من الهمجية في فوضويتها، وزوايا أسطحها المنحدرة غير المتجانسة المستحيل تواجدها في شوارع كهذه. كانت موجودة هناك وحسب.
•••
قالت إديث وهي تصب المزيد من القهوة: «ماذا يقولون؟» كانت محاطةً في مطبخها ببقايا حفل عيد الميلاد؛ قالب الحلوى والهلام المقولب والكعك الذي يحمل وجوه الحيوانات، ويتدحرج بالون على الأرض. كان الأطفال قد تناولوا طعامهم، ووقفوا لالتقاط الصور الفوتوغرافية لهم، ولعبوا ألعاب عيد الميلاد، والآن يلعبون في غرف النوم الخلفية والقبو، فيما يحتسي الآباء القهوة. قالت إديث: «تُرَى ماذا يقولون هناك؟»
ردَّتْ ماري، وهي تحمل وعاء القشدة الفارغ: «لم أسترق السمع.» ثم توجَّهت نحو النافذة أعلى حوض المطبخ، انقشعت السحب وتباعَدَتْ أكثر وكانت الشمس بارقة، وبدا المنزل حارًّا للغاية.
قالت إديث وهي تسرع عائدةً إلى حجرة المعيشة: «منزل السيدة فولرتن.» كانت ماري تعلم عما يتحدثون؛ فجيرانها — الذين لا يتحدثون في العموم في موضوعات مزعجة — قد يخوضون في أية لحظة في هذا الموضوع ويدور الحوار بشكل خطير في دوائر مألوفة من الشكوى، مما يقودها إلى النظر في يأس خارج النافذة، أو في حجرها، في محاولة للعثور على كلمة تعليلية رائعة تنهي الحديث، لكنها لم تنجح في ذلك. كان عليها العودة، فهم في انتظار القشدة.
جلس لفيف من سيدات الحي في حجرة المعيشة، يحملن دون اكتراث البالونات التي أعطاهن إياها أطفالهن. ولما كان الأطفال الذين يلعبون في الشارع حديثي السن، ولما كان أي تجمُّع للأشخاص الذين يعيشون هناك يُعَدُّ أمرًا إيجابيًّا في حد ذاته، كان معظم حضور حفلات أعياد الميلاد هم الأمهات والأطفال أيضًا. ارتدت الآن الأمهات اللاتي يقابل بعضهن بعضًا بصفة يومية الأقراط وجوارب النايلون والجونلات، وصفَّفْنَ شعرهن وتبرَّجْنَ. حضر بعض الرجال أيضًا؛ على غرار ستيف زوج إديث، وآخَرين ممن دعاهم لاحتساء الجعة، وكانوا جميعهم بملابس العمل. كان موضوع الحديث الذي طُرِح توًّا واحدًا من الموضوعات القليلة التي تحوز اهتمام الرجال والنساء على حد سواء.
قال ستيف: «سأخبركم ماذا سأفعل إن كنتُ أعيش بجوار ذلك المنزل.» وتعلو وجهَه ابتسامةٌ عريضةٌ دمثةٌ متوقِّعًا إضحاكهم، «سأرسل أطفالي إلى هناك ليلعبوا بالثقاب.»
قالت إديث: «هذا مضحك، لقد تجاوز الأمر حد المزاح، أنت تمزح وأنا أحاول فعل شيء، حتى إنني هاتفت المجلس المحلي.»
قالت ماري لو روس: «وماذا أخبروكِ؟»
«حسنًا قلتُ لهم أليس بوسعكم حملها على طلاء منزلها، على الأقل، أو إزالة بعض من أكواخها؟ لكنهم قالوا إنهم ليس بوسعهم ذلك. قلت لهم أعتقد أنه يوجد شيء من قبيل قانون محلي يُطبَّق على أناس مثلها، وقالوا إنهم يتفهمون «شعوري» وإنهم في غاية «الأسف» …»
«لكن لم يفعلوا شيئًا؟»
«لم يفعلوا شيئًا.»
«لكن ماذا عن الدجاج، فكرت …»
«آه، لن يسمحوا لكِ أو لي بتربية الدجاج، أما هي فتحظى بإعفاء خاصٍّ حيال ذلك أيضًا، نسيت كيف تسير الأمور.»
قالت جاني إنجر: «سأتوقف عن شراء البيض منها، فالمتجر الكبير يبيعه بثمن أرخص، ومَن يعبأ كثيرًا بكونه طازجًا؟ رباه! والرائحة أيضًا. أخبرت كارل أنني مدركة أننا سننتقل إلى منطقة نائية، لكنني لم أتصور أن نعيش بطريقة أو بأخرى بجوار حظيرة.»
«العيش على الجهة المقابلة من الشارع أسوأ كثيرًا من العيش بجانبها، أتساءل لمَ تكبَّدْنا صنع نافذة كبيرة تطل على المنظر بالخارج، في حين أنه إذا حضر أيُّ شخص لزيارتنا فإنني أرغب في إسدال الستار كي لا يرى ما يوجد في الجهة المقابلة؟!»
قال ستيف: «حسنًا، حسنًا.» مقاطِعًا بصعوبة تلك الأصوات النسائية. «ما شرعنا أنا وكارل في إخباركن إياه هو أنه إذا نجحنا في مسألة الممر تلك، فستضطر إلى الرحيل؛ فالأمر بسيط وقانوني، وهنا روعة الأمر.»
«أي ممر؟»
«سنشرح الأمر. لقد كنتُ أنا وكارل نخطِّط لهذا الأمر منذ عدة أسابيع، لكننا لم نود أن نذكر شيئًا عن الأمر في حال لم يفلح ذلك. تولَّ أنت الحديث يا كارل.»
كان كارل وكيل عقارات ناجحًا، قصيرًا وقويَّ البِنية، فقال: «حسنًا، لقد تعَدَّتْ على المساحة المسموح بها للممرات، هذا كل ما في الأمر. طرأَتْ لي فكرة أن يكون هذا هو الحل؛ لذا توجَّهْتُ إلى المجلس المحلي وبحثت في الأمر.»
قالت جاني بطريقة عفوية محبة: «ماذا يعني ذلك يا عزيزي؟»
قال كارل: «هذا كل ما في الأمر، هناك أماكن مخصَّصة للممرات، لطالما كان الأمر كذلك، تتلخص الفكرة في أنه إذا شُيدت منطقة ما يخططون لممر بها، لكنهم لم يعتقدوا أبدًا أن هذا ما سيحدث، فالناس تبني منازلها حيث يحلو لها، وهي بَنَتْ جزءًا من منزلها وستة أكواخ فوق المكان الذي ينبغي أن يجتازه الممر؛ لذا سنجعل المجلس المحلي يضع ممرًّا، فنحن بحاجة إلى ممر على أية حال؛ ومن ثَمَّ ستضطر إلى الرحيل، فهذا هو القانون.»
قال ستيف ووجهه يشع بالإعجاب: «إنه القانون، يا لك من رجل ذكي! إن وكلاء العقارات هؤلاء رجال أذكياء.»
قالت ماري لو: «هل ستحصل هي على أي شيء؟ لقد سئمتُ المنظر لكنني لا أودُّ أن أرى أي شخص يعيش في ملجأ للفقراء.»
«أوه، ستحصل على مبلغ مالي، أكبر مما يستحقه المكان. انظري، إن الأمر لصالحها. ستحصل على مبلغ مالي، فليس بوسعها بيعه، وليس بوسعها وَهْبُه.»
وضعت ماري قدح القهوة قبل أن تتحدث وتمنَّتْ أن يبدو صوتها منطقيًّا، ليس عاطفيًّا أو مرتعدًا. فقالت: «لكن تذكروا أنها تعيش هنا منذ زمن بعيد، عاشت هنا قبل أن يُولَد معظمنا.» حاولت باستماتة التفكير في كلمات أخرى، كلمات تبدو سليمة ومنطقية أكثر من هذه، فليس بمقدورها طرح أية فكرة، ربما ينظرون إليها على أنها واهية ورومانسية أمام هذا المد الإيجابي، وإلا فستهدم حُجتها. لكن لم يكن لديها حُجة، لن تتمكن حتى وإن فكرت طوال الليل من إيجاد كلمات تواجه كلماتهم، والتي انهالت عليها الآن من جميع الاتجاهات بصورة لا يمكن دحضها: «كوخ، منظر قبيح، مشهد قذر، ملكية، قيمة.»
قالت جاني وهي تشعر أن خطة زوجها تتعرض للهجوم: «هل تظنين بصدق أن أولئك الأشخاص الذين يَدَعُون ممتلكاتهم تتعرض للإهمال على هذا النحو جديرون بأن ننظر إليهم بعين الاعتبار؟»
قال كارل: «لقد عاشت هنا لأربعين عامًا، والآن نحن هنا. هكذا تسير الأمور، وسواء أدركَتِ الأمر أم لا، فإن وجود ذاك المنزل هنا فحسب يُخفِّض قيمة إعادة البيع لكل منزل بالشارع. أنا أعمل في هذا المجال وأؤكد لك ذلك.»
انضمت إليهما أصواتٌ أخرى، لم يهم كثيرًا ماذا قالوا ما دام أنه كان مشبعًا بالآراء الشخصية وبالغضب. كان ذلك موطنَ قوتهم، برهانًا على رشدهم، على أنفسهم وعلى جديتهم. ارتفعت روحُ الغضبِ بينهم، تشجِّع أصواتهم الشابة، وتجتاحهم جميعًا كطوفان سُكْر، وأُعجب بعضهم ببعض في هذا السلوك الجديد بوصفهم أصحاب ملكية مثلما يعجب بعض الناس ببعضهم لكونهم سُكارى.
•••
قال ستيف: «ربما يتعيَّن علينا أيضًا أن ندعو الجميع الآن، سنوفِّر على أنفسنا عناء الذهاب إلى الكثير من المنازل.»
حان وقت العَشاء، والظلام يسدل أستاره على المكان. تهيَّأ الجميع للعودة إلى المنزل، تغلق الأمهات معاطف الأطفال بالأزرار، بينما يمسك الأطفال، دون سعادة كبيرة، ببالوناتهم وصفَّاراتهم والدلاء الورقية تمتلئ بالحلوى الهلامية. توقفوا عن العراك، توقفوا تقريبًا عن ملاحظة بعضهم، وتفرَّق الحفل، كما ازداد الكبار صمتًا وشعروا بالتعب.
«إديث، إديث، هل لديك قلم؟»
أحضرَتْ إديث قلمًا وبسطوا عريضة المطالبة بممرٍّ — التي كتبها كارل — على طاولة تناول الطعام، بعد إزالة الأطباق الورقية التي تحمل آثار آيس كريم جاف. بدأ الناس في التوقيع دون تفكير أثناء توديع بعضهم بعضًا. كان ستيف لا يزال متجهمًا قليلًا، ووقف كارل واضعًا إحدى يديه على الورقة، متخذًا هيئة رجل الأعمال، ولكن بفخر. جثت ماري على ركبتيها وحاولت بصعوبة غلق سحَّاب بنطال داني، ثم نهضت وارتدت معطفها، وهذبت من شعرها، وارتدت قفازها ثم خلعته مرة أخرى. وعندما لم يَعُدْ بمقدورها التفكير في شيء آخَر لفعله، مرت بجانب طاولة تناول الطعام في طريقها إلى الباب، فلوَّح كارل بالقلم نحوها.
قالت ماري: «لا أستطيع التوقيع على هذا.» احمرَّ وجهها في الحال، وكان صوتها مرتعدًا، فوضع ستيف يده على كتفها.
«ما الأمر يا عزيزتي؟»
«لا أظن أننا نملك هذا الحق. نحن لا نملك هذا الحق.»
«ماري، أَلَا تكترثين بالشكل الذي تبدو عليه الأشياء؟ أنت تعيشين هنا أيضًا.»
«كلا، أنا … أنا لا أكترث.» أليس هذا غريبًا؟ كيف أنه في مخيلتك؟ عندما تدافع عن شيء ما، يكون صوتك مجلجلًا، ويشعر الناس بالصدمة والخجل، لكن في الواقع يبتسم الجميع بطريقة خاصة إلى حد ما، وتدرك أن ما فعلته حقًّا هو أنك قد جعلت من نفسك موضوعَ حديثٍ ممتعٍ في حفل القهوة القادم.
قالت جاني: «لا تقلقي يا ماري، فهي لديها مال في البنك، لا بد أنها كذلك، لقد طلَبْتُ منها أن تجالِس أطفالي لكنها نهرتني فعليًّا؛ فهي ليست سيدة محبوبة، أنت تعلمين هذا.»
قالت ماري: «أعلم أنها سيدة عجوز غير محبوبة.»
قال ستيف وهو لا يزال واضعًا يده فوق كتف ماري: «كيف تريننا يا ماري، مجموعة من الوحوش؟»
قال كارل: «لا يود أحد رحيلها على سبيل اللهو، فالأمر قاسٍ، ندرك جميعًا ذلك، لكن علينا أن نفكر في مجتمعنا.»
قالت ماري: «أجل.» لكنها وضعت يدها في جيب معطفها والتفتت لتوجِّه الشكر لإديث على حفل عيد الميلاد. جال في خاطرها أنهم على حق، لأنفسهم، لأيِّ شيء كانوا عليه. والسيدة فولرتن امرأة عجوز، عيناها فاترتان، لن يؤثِّر فيها شيء. خرجت ماري وسارت مع داني على امتداد الطريق. رأت الستائر وهي تُسدل فوق نوافذ حجرة المعيشة، ومتتاليات من الزهور والأغصان، مصمَّمة بطريقة هندسية، تعزل تلك الحجرات ليلًا. كان الجو معتمًا تمامًا بالخارج، وازدادت المنازل المضيئة قتامة، وأخذت السحب تنقشع أكثر فأكثر، والدخان يتصاعد من مدخنة السيدة فولرتن. بدا الشكل الذي يتخذه جاردن بليس، والذي كان واضحًا ومحدَّدَ المعالم وقت النهار، أنه يتقلص ليلًا إلى سفح الجبل القفر المعتم.
•••
أخذت ماري تفكِّر في أن الأصوات بحجرة المعيشة تبدَّدَتْ. ليتها تتبدد ويطوي خطتهم النسيان، ليت شيئًا واحدًا يمكن تركه على حاله. لكن أولئك أشخاص يفوزون، وهم أناس طيبون، يرغبون في منازل لأطفالهم، يساعد أحدهم الآخَر وقت الضيق، يقيمون مجتمعًا، قائلين هذه الكلمة كما لو أنهم يجدون سحرًا حديثًا مناسبًا تمامًا، لا يوجد احتمال فيه على الإطلاق لوقوع خطأ.
لا شيء يمكن فعله حاليًّا سوى أن تضع يديها في جيبيها وتشعر بالسخط.