صور
حضرت ماري ماكويد الآن، لكني تظاهرتُ بأني لا أتذكرها. بدا أنه من أحكم الأمور فعل ذلك. فقد قالت هي نفسها: «إذا كنتِ لا تذكرينني، فأنتِ لا تذكرين الكثير.» لكن دعنا من هذه المسألة، وأضافت ذات مرة: «لا بد أنكِ لم تحضري إلى بيت جدتك قطُّ الصيف الماضي. لا بد أنك لا تذكرين ذلك أيضًا.»
كان يُسمَّى، حتى ذاك الصيف، منزل جدتي، رغم أن جدي كان لا يزال على قيد الحياة حينها. كان قد اعتزل الحياة في إحدى الحجرات؛ حجرة النوم الأمامية الكبرى. بها مصاريع خشبية في الجهة الداخلية من النوافذ، مثل حجرة المعيشة وحجرة الطعام، أما حجرات النوم الأخرى فلم يكن بها سوى ستائر معتمة. كما أن الشرفة كانت تحجب الضوء بحيث كان جدي يرقد طوال اليوم في شبه ظلام، بشعره الأبيض — المغسول والمصفف والناعم كشَعْر طفل رضيع — ومنامته البيضاء على الوسائد البيضاء، فبدا كجزيرة داخل الحجرة، يقترب منها الناس على استحياء، لكن بإصرار. كانت ماري ماكويد بزيِّها تمثل الجزيرة الأخرى في الحجرة، جلست بلا حراك في أغلب الأحيان، حيث كانت المروحة، كما لو كانت تَعِبَةً، تحرِّك الهواء كالحساء. لا بد أن الجو كان مُظلمًا للغاية بما لا يسمح بالقراءة أو الغزل، على فرض أنها أرادت فعل هذه الأشياء، ومن ثَمَّ انتظرت وأخذت تتنفس فحسب، مُحدِثةً صوتًا كالذي تصدره المروحة، مشبعًا بشكوى قديمة لا تفصح عنها.
كنتُ صغيرة جدًّا حينها، وكان يتم وضعي في مهدٍ للخلود إلى النوم — ليس بمنزلي لكن هذا المهد كان مخصَّصًا لي بمنزل جدتي — في حجرة في الجهة المقابلة من الردهة. لم يكن بها مروحة، وصنَعَ الضوءُ المتلألئ بالخارج — جميع الحقول المنبسطة حول المنزل أضحت تتلألأ تحت ضوء الشمس كالمياه — تشققاتٍ مضيئةً في الستائر المعتمة المنسدلة. مَن عساه يستطيع النوم؟ تناهت أصواتُ أمي وجدتي وخالاتي وهن يتحدثن حديثهن المعتاد المتكرر، في الشرفة أو في المطبخ أو في حجرة الطعام (حيث كانت أمي تنظِّف بفرشاةٍ مقبضها من النحاس المفارشَ البيضاء، والثريَّا غير المضاءة ذات الفروع المصنوعة من الزجاج السميك البُنِّي الفاتح التي تعلو الطاولة المستديرة.) إن كل الوجبات والطهي والزيارات والأحاديث حتى عَزْف إحداهن على البيانو (كانت عمتي الصغرى — إديث — غير المتزوجة، تغني وتعزف بيد واحدة، «نيتا، جوانيتا، يقترب قمر الجنوب في هدوء».) في هذا المنزل، كل هذا مستمر دون توقف. إلا أن أسقف الحجرات كانت عالية للغاية، وأدناها جزء كبير من المساحة المهدرة المعتمة، وعندما أرقد في مهدي شاعرةً بالحر الشديد بدرجة تجعل النوم يجافي عينيَّ، أنظر إلى أعلى وأرى ذلك الفراغ من حولي، الزوايا الملطخة، وأشعر — دون أن أدرك ما هو هذا الشعور — بما لا بُدَّ وأن شعر به جميع مَن في المنزل؛ تحت الحرارة الشديدة لاحت حقيقة الموت، ذلك المكعب الصغير من الثلج السحري. كانت ماري ماكويد تنتظر في ثوبها الأبيض المتيبس، ضخمة الحجم وعابسة، كأنها جبل جليدي عنود، تنتظر وتتنفس. حمَّلتُها مسئولية ذلك الشعور.
لذا تظاهرت بعدم تذكُّرها، لم تكن ترتدي زيَّها الأبيض، وهو ما لم يجعلها حقيقةً أقل خطورة، لكن ربما يعني — على أقل تقدير — أن وقت سيطرتها لم يَحِنْ بعدُ. في ضوء النهار بالخارج، وهي لا ترتدي زيها الأبيض، اتَّضَح أن جسدها كله مُغَطًّى بالنَّمش، بجميع الأجزاء المكشوفة التي يمكنك أن تراها من جسدها، كما لو أن شوفانًا منثور عليها، وكان شعرها مجعَّدًا لامعًا بنيَّ اللون بصورة طبيعية. صوتها مرتفع وأجش، والشكوى على لسانها يوميًّا. صاحت عليَّ في الفناء: «هل سأضطر إلى تعليق الملابس المغسولة كلها وحدي؟» فتتبعتها إلى مكان أحبال الغسيل حيث وضعت سلة الملابس المبتلة على الأرض وهي تتأوَّه. «أعطيني هذه المشابك. واحدًا في كل مرة، أعطيني إياها من ناحية جانبها الأيمن. لا ينبغي لي الخروج وسط هذه الرياح على الإطلاق، فأنا أعاني مرضًا بالشعب الهوائية.» أخذت أناولها المشابك ورأسي معلَّق كحيوان مقيَّد إلى جانبها. خارج المنزل، في هواء شهر مارس البارد، فقدَتْ شيئًا من ضخامتها ورائحتها. استطعْتُ في المنزل دائمًا اشتمام رائحتها، حتى في الحجرات التي نادرًا ما كانت تدخلها. كيف كانت رائحتها؟ كانت تشبه رائحة المعدن ورائحة نوع من البهار الأسود (القرنفل؛ فقد كانت تعاني بالفعل من آلام الأسنان)، ومثل المستحضر الذي يُدلَّك به صدري عندما أصاب بالبرد. ذكرت الأمر ذات مرة لأمي، التي أخبرتني: «كفاك سخفًا، أنا لا أشم أي شيء.» لذا لم أخبرها عن المذاق، فقد كان لها مذاق أيضًا. كان مذاق ماري ماكويد في كافة الأطعمة التي تعدها، وربما كافة الأطعمة التي تؤكل في حضورها: العصيدة في فطوري، والبطاطا المقلية في الظهيرة، وشريحة الخبز والزبد والسكر البني التي كانت تعطيني إياها في الفناء؛ مذاق غريب ورملي وكئيب. كيف لم يدرك أبي وأمي ذلك؟ لكن لأسباب خاصة بهما، ربما يتظاهران بذلك؛ فهذا أمر لم أعرفه منذ عام مضى.
بعد أن علَّقَتِ الملابس كان عليها أن تنقع قدمها. أخرجت ساقيها مباشَرَةً — مستديرتين كأنابيب الصرف — من الحوض الذي ينبعث منه البخار، ووضعت يدًا على كل ركبة، ثم انحنت في البخار وأطلقت صيحات الألم والرضى.
قلتُ في جرأة كبيرة: «هل أنتِ ممرضة؟» رغم أن أمي أخبرتني أنها كذلك.
«نعم، وأتمنى لو لم أكن كذلك.»
«هل أنتِ خالتي أيضًا؟»
«لو كنتُ خالتك، لكنتِ ناديتني بالخالة ماري، أليس كذلك؟ حسنًا أنتِ لا تنادينني كذلك، أليس صحيحًا؟ أنا قريبة لكِ، أنا قريبة أبيك؛ لذا أتَوْا بي بدلًا من الإتيان بممرضة عادية، فأنا ممرضة عملية، ودائمًا ما يمرض أحد أفراد هذه العائلة وأضطر إلى الذهاب إليه؛ لا أنعم براحة أبدًا.»
ارتبت في هذا الأمر. ارتبت في أنه طُلِب منها المجيء. كانت تأتي وتطهو ما يحلو لها وتعيد ترتيب الأشياء بما يناسبها، وتشكو من لعب الداما، وتطلق العِنان لسيطرتها على المنزل. لو لم تأتِ قطُّ، لما اضطرت أمي إلى ملازمة الفراش قطُّ.
وُضِع سرير أمي في حجرة تناوُل الطعام، كي لا تضطر ماري إلى صعود السلم. صُفِّف شعر أمي في ضفيرتين طويلتين سوداوين، وكانت وجنتاها شاحبتين، ورقبتها دافئة وتنبعث منها رائحة الزبيب كما الحال دومًا، لكن باقي جسدها أسفل الأغطية تحوَّلَ إلى شيء متضخم وهشٍّ وغامض، من الصعب أن يتحرك. كانت تتحدث عن نفسها بحزن بضمير الغائب فتقول: «احترسي، لا تؤذي الأم، لا تجلسي فوق ساق الأم.» وفي كل مرة تقول فيها «الأم» تنتابني قشعريرة، ويغمرني شيء من البؤس والخزي، كما أشعر عند سماع اسم يسوع. إن هذه «الأم» التي جعلتها أمي الحقيقية المُطمئِنة، الحادة المزاج، ذات الرقبة الدافئة بيننا كانت طيفًا مجروحًا بصورة أبدية، حزينًا مثل يسوع حيال كافة الشرور التي لم أعرف بعدُ أنني سأرتكبها.
غزلت أمي نسيجًا على شكل مربعات لصنع غطاء صوفي، بجميع درجات اللون البنفسجي. كانت القطع المغزولة تسقط بين أغطية السرير دون أن تهتم بذلك. وما إن تنتهي منها حتى تنسى أمرها. لقد نسيْتُ جميع قصصها التي كانت تدور حول أمراء البرج، والملكة التي قُطِع رأسُها فيما كان كلب صغير يختبئ تحت ثوبها، وملكة أخرى مصَّتِ السم من جرح زوجها، وأيضًا قصص أخرى عن طفولتها، وهو وقت لا أراه أسطوريًّا شأنه شأن غيره من الأوقات. بعد أن تولَّتْ ماري رعايتها، كانت تَئِنُّ على نحوٍ طفوليٍّ: «ماري، أتوق شوقًا لأن تدلكي لي ظهري.» «ماري، هل من الممكن أن تصنعي كوبًا من الشاي لي؟ أشعر أنني إذا احتسيت مزيدًا من الشاي فسأثب من مكاني إلى السقف، كبالون ضخم، لكن تعلمين أن هذا كل ما أريد.» قالت ماري: «أنتِ لن تثبي إلى أي مكان. نحتاج إلى رافعة لتحريكك. هلمي الآن، انهضي، ستسوء حالتك قبل أن تتعافَي!» ثم أبعدتني عن السرير وبدأت في جذب الملاءات بحركات عنيفة. «أنت ترهقين أمك. ماذا تريدين إزعاج أمك به في هذا اليوم الجميل؟» قالت أمي في دفاع واهن وغير صادق: «أظن أنها تشعر بالوحدة.» قالت ماري بأسلوبها المهيب الغامض المتوعد: «ستشعر بالوحدة في الفناء تمامًا كما تشعر هنا. ارتدي ملابسك واذهبي إلى الخارج!»
تغيَّر أبي أيضًا منذ أن جاءت ماري. عندما كان يأتي إلى الحجرة ليتناول وجباته كانت تنتظره دائمًا، فمزحة مع أبي تجعلها تتورم كضفدع كبير، فتبدو بمظهر شرس ويحمرُّ وجهها. كانت تضع حبات الفاصوليا البيضاء غير المطهوة في حسائه، قاسية كالحصى، وتترقب لترى هل ستجعله آداب الطعام يأكلها أم لا. كانت تُلصِق شيئًا بقاع كوبه الزجاجي كي يبدو كالذبابة، وتعطيه شوكة بسن ناقص وتتظاهر أنه من قبيل الصدفة. فيقذفها عليها، دون أن تصيب الهدف، مما أفزعني على نحو هائل. كان أمي وأبي يتحدثان بهدوء وبجدية عندما يتناولان العشاء، لكن في عائلة أبي حتى الراشدون يمارسون الحيل بالديدان والخنافس المطاطية، ودائمًا ما تُدعَى العمَّات السمينات للجلوس على مقاعد متداعية، والأعمام يُخرِجون الريح على الملأ ويقولون: «ووه! إلى أين؟» فخورين بأنفسهم كما لو أنهم عزفوا بالصفير لحنًا مركَّبًا. لا أحد قد يسأل عن عمرك دون إغاظتك بلغو فارغ؛ لذا كان أبي يعود إلى السلوكيات العائلية مع ماري ماكويد، مثلما عاد إلى تناول أكوام من البطاطا المقلية ولحم الخنزير المملح وفطائر الطحين السميكة، واحتساء الشاي السادة والمركَّز كالدواء من إبريق الشاي المعدني، وهو يقول في امتنان: «ماري، تعلمين ما يجب على الرجل تناوله!» مضيفًا: «أَلَا تظنين أنه آنَ الأوان ليكون لك رجلٌ تُطعِمينه؟» وهو ما جلب عليه، ليس شوكة مقذوفة، بل منشفة تنظيف الأطباق.
دومًا ما تتركز إغاظته لماري على الأزواج. كان يقول: «فكرت في زوج لك هذا الصباح! أنا لا أخدعك الآن يا ماري، عليك أن تفكري في الأمر.» يبدأ ضحكها أولًا في صورة نفخات غاضبة بسيطة وزمجرات من بين شفتيها المغلقتين، فيما يزداد احمرار وجهها أكثر مما يمكن توقعه، وينتفض جسدها، وتهمهم في توعُّد وهي جالسة على كرسيها. ليس ثمة شكٌّ أنها استمتعت بكل ذلك، كل هذه الزيجات المتخيلة المستحيلة، رغم أن أمي كانت ستقول بالطبع إنه أمر قاسٍ، قاسٍ وغير لائق مضايقة امرأة عانس بالرجال. في عائلة أبي بالطبع كان هذا محور المضايقات لها على الدوام، ماذا كان هنالك بخلاف ذلك؟ وكلما ازدادت ماري فظاظة وخشونة وصعوبة، ازدادت المضايقات المُوجَّهة إليها أكثر. كان من قبيل السُبة في هذه العائلة أن يوصف المرء بأنه «مرهف الحس»، كما وصفت أمي. وجميع العمات والأقارب والأعمام ترعرعوا على أن يكونوا منيعين بصورة هائلة أمام أي نوع من القسوة الشخصية، وطائشين وحتى فخورين — على ما يبدو — بأي نوع من الفشل أو العاهات قد يكون من شأنه أن يتسبَّب في إضحاك الجميع.
في وقت العشاء، كان الجو معتمًا في المنزل، رغم أوقات النهار الطويلة. لم يكن لدينا حينها كهرباء بالمنزل بعدُ. وصلتنا الكهرباء سريعًا بعدها، ربما في الصيف التالي، لكن حينها كان لدينا مصباح على الطاولة. وعلى ضوئه شكَّلَ أبي وماري ماكويد ظلالًا ضخمةً، تأرجح رأساهما على نحو أخرق أثناء حديثهما وضحكهما. أخذتُ أراقب الظلال بدلًا من الأشخاص. قالا: «بماذا تحلمين؟» لكنني لم أكن أحلم، كنتُ أحاول استيعاب الخطر وقراءة إشارات الهجوم.
•••
قال أبي: «هل تودين المجيء معي ورؤية المصائد؟» كان لديه مجموعة من مصائد فئران المسك على امتداد النهر. عندما كان أصغر سنًّا اعتاد قضاء أيام وليالٍ وأسابيع بين الأجمة، مسافرًا على امتداد الجداول شمال وجنوب مقاطعة واواناش، لم يصطد فقط فئران المسك حينئذٍ بل الثعالب الحمراء والمنك البري والسمور، وجميع الحيوانات التي يبلغ فراؤها أَوْجَه فصلَ الخريف. أما فأر المسك فهو الحيوان الوحيد الذي يمكن صيده في الربيع. وبعدما تزوَّج أبي وامتهن مهنة الزراعة، احتفظ بمجموعة مصائد واحدة؛ وهذا لبضع سنوات فقط، ربما كان هذا آخِر عام يمتلكها.
عبرنا الحقل الذي حُرِث الخريف الماضي. كان هناك قليل من الثلج يغطي الأخاديد، لكنه لم يكن ثلجًا حقيقيًّا، كان قشرة رفيعة تشبه الزجاج المثلج أستطيع تحطيمها بعقبي. أخذ الحقل ينحدر ببطء نحو سطح النهر. كان السياج متهدمًا في بعض الأماكن من وطأة الثلوج، استطعنا أن نخطو من فوقه.
سار أبي أمامي منتعلًا حذاءه طويل الرقبة. كان حذاء أبي بالنسبة لي فريدًا ومألوفًا كسمة مميزة له مثل وجهه. وعندما يخلع حذاءه ويضعه في زاوية المطبخ، تنبعث منه رائحةٌ معقَّدَةٌ من السماد، وزيت الماكينات، والكتل الطينية السوداء، والمادة كريهة الرائحة المتناثرة الملتصقة بالنعل. كان حذاؤه جزءًا منه، يقف منبوذًا بصفة مؤقتة في انتظاره. كان مظهره عنيدًا، بل وقاسيًا، فرأيته جزءًا من مظهر أبي، الجزء المتمِّم لوجهه، بجاهزيته لإلقاء النكات وكياسته. كما لم تفاجئني تلك القسوة أيضًا؛ فقد كان أبي يأتينا دائمًا، أنا وأمي، من مواضع لا نستطيع أن نكوِّن آراء إزاءها.
ذات مرة، كان هناك فأر مسك في المصيدة. في بادئ الأمر رأيته يتموَّج عند ضفة المياه، ككائن استوائي، كالسرخس الأسود. جذبه أبي فتوقَّف شعره عن التموج، والتصق ببعضه، اتضح أن ما بدا كالسرخس هو ذيل الفأر الزلق الذي يتقطر منه الماء. كانت أسنانه ظاهرة، وعيناه مبتلتين من أعلى، وكانتا متبلدتين وفاقدتين للحياة، وتلمعان كحصوات مغسولة. هزَّه أبي ولفَّه لينزل منه رذاذ قليلٌ من مياه النهر الجليدية. قال: «إنه فأر عجوز جيد، إنه ملك عجوز كبير، انظري إلى ذيله!» ثم لعله ظن أنني أشعر بالقلق، أو لعله أراد أن يريني سحرَ الآلات الميكانيكية المثالية البسيطة، رفَعَ المصيدة من المياه وشرح لي آلية عملها، جاذبًا رأس الفأر إلى أسفل مرة واحدة وأغرقه بلا رحمة. لم أفهم أو أهتم. لم أرغب إلا في لمس الجسد المتيبس المبتل، حقيقة الموت، لكنني لم أجرؤ.
وضع أبي الطُّعْم في المصيدة مجدَّدًا مستخدمًا قطعًا من التفاح الأصفر الذي تجعَّدَ في فصل الشتاء. ووضع جثمان الفأر في كيس أسود وعلَّقه على كتفه، كأنه بائع متجول في إحدى اللوحات. عندما قطع التفاحة رأيته ممسكًا بسكين السلخ، بنصله الرفيع اللامع.
ثم سرنا على امتداد النهر، نهر واواناش، الذي ارتفع منسوبه وزخر بالماء عن آخره، واكتسى باللون الفضي في منتصفه حيث صفعته أشعة الشمس، وحيث تتسارع حركة المياه في أقصى درجاتها. حسبت أنه التيار المائي، تصورت أن التيار شيء منفصل عن المياه، مثلما أن الرياح منفصلة عن الهواء ولها شكلها الخاص الذي تهب به. كانت ضفتا النهر منحدرتين وزلقتين وتصطف بطولهما شجيرات الصفصاف، التي ما زالت جرداء ومنحنية وتبدو واهنة كالحشائش. لم يكن هدير مياه النهر عاليًا لكنه كان عميقًا، وبدا أنه يأتي من بعيد من منتصفه، من مكان خفي حيث تخرج المياه من تحت الأرض مُحدِثة زئيرًا.
اتخذ النهر مسارًا منحنيًا، وفقدت أنا حس الاتجاه. وجدنا في المصائد مزيدًا من الفئران، فأخرجها أبي وهزها وخبأها في الكيس، واستبدل الطُّعْم. ازداد شعوري بالبرودة في وجهي ويديَّ وقدميَّ، لكنني لم أخبر أبي بذلك، لم أستطع. وهو لم يخبرني قطُّ بأن أتوخى الحذر، وأن أبتعد عن حافة المياه، فقد افترض جدلًا أنني أتمتع بحسٍّ كافٍ يجعلني لا أسقط في المياه. لم أسأله إلى أي مدى سنبتعد، أو ما إذا كان لمجموعة المصائد نهاية ما. بعد برهة كانت هناك شجيرات من خلفنا، واقتربت الظهيرة من نهايتها. لم يطرأ على ذهني، إلا بعد فترة طويلة من ذلك، أنها الشجيرات نفسها التي يمكن رؤيتها من فناء منزلنا، برزت من بينها تلة على شكل مروحة بأشجار جرداء وقت الشتاء، بدت كأغصان صغيرة هزيلة تتجه نحو السماء.
في ذلك المكان الآن نما على ضفة النهر، بدلًا من الصفصاف، شجيرات كثيفة بارتفاع يفوق رأسي. مكثت أنا على الطريق، في منتصف المسافة تقريبًا أعلى ضفة النهر، فيما نزل أبي إلى النهر. عندما انحنى فوق المصيدة، لم يَعُدْ باستطاعتي رؤيته. نظرت حولي ببطء ورأيت شيئًا آخَر. بعيدًا على امتداد ضفة النهر، ظهر رجل يشق طريقه باتجاهنا. كان يتحرك بخفة ولم يصدر أي صوت أثناء مروره من بين الشجيرات، كما لو أنه يتتبع مسارًا لم أتمكن من رؤيته. في بادئ الأمر لم أَرَ سوى رأسه والجزء العلوي من جسده. كان أسمر البشرة، بجبهة صلعاء طويلة، وشعر طويل خلف أذنيه، وتجاعيد عمودية غائرة بوجنتيه، وحيثما قلَّتْ كثافة الشجيرات استطعتُ تبيُّن باقي هيئته: ساقيه الطويلتين الرشيقتين، نحافته، ملابسه المموهة باهتة اللون، وما كان يحمله في يده، كان ما يحمله يلمع تحت أشعة الشمس — فأس صغيرة أو بلطة.
لم أتحرك قيد أنملة لأحذِّر أبي أو أنادي عليه. اجتاز الرجل الطريق الذي كنتُ أقف عليه ومضى قُدمًا، وهبط باتجاه النهر. يقول الناس إنهم أُصيبوا بالشلل من شدة الخوف، لكنني تسمَّرْتُ في مكاني، وكأن البرق صعقني، وما انتابني لم يكن شعورًا بالخوف بقدر ما كان إدراكًا. لم أتفاجَأ؛ فهذا المنظر الذي لا يفاجئك، الشيء الذي طالما عرفت أنه موجود ويأتي بصورة طبيعية للغاية، يتحرك برفق ورضى وعلى مهل، وكأنه جاء في المقام الأول لأمنية تمنيتها، أو أمل في شيء ختامي ومرعب. طيلة حياتي عرفت أن هناك رجلًا مثل هذا الرجل يقبع خلف الأبواب وفي الزوايا في النهاية المظلمة بالردهة؛ لذا أراه الآن وأترقب فحسب، كطفلٍ في صورة سلبية قديمة، مصعوقٍ تحت سماء الظهيرة القاتمة، بشعر متوهج وعينين مرهقتين كعينَيْ آني اليتيمة. تسلَّل الرجل بين الشجيرات باتجاه أبي، ولم أتوقع قطُّ — أو أمَّلت حتى — في حدوث أي شيء سوى الأسوأ.
لم يعرف أبي بوجوده. عندما اعتدل واقفًا، كان الرجل على بُعْد ثلاثة أقدام منه وحجبه عني. سمعت صوت أبي بعد لحظة، بهدوء وود:
«مرحبًا جو. حسنًا جو. لم أَرَك منذ مدة طويلة.»
لم ينبس الرجل ببنت شفة، لكنه تحرَّك ببطء حول أبي ليدقِّق النظر فيه. قال أبي: «جو! أنت تعرف مَن أكون، بن جوردن، كنت بالخارج أتفقَّد المصائد. هناك الكثير من الفئران السمينة في النهر هذا العام يا جو.»
رمق الرجل المصيدة التي وضع أبي بها الطُّعْم بنظرة سريعة مرتابة.
«عليك أن تنصب مصائد لنفسك أيضًا.»
لم تأتِ أية إجابة. أمسك الرجل ببلطته وحرَّكها بخفة في الهواء.
«لكن الوقت تأخَّر هذا العام، فقد بدأت مياه النهر في التراجع بالفعل.»
قال الرجل في دهشة كبيرة، وبجهد جهيد، كشخص يتجاوز تلعثمه: «بن جوردن!»
«ظننتُ أنك ستعرفني يا جو.»
«لم أعرف قطُّ أنه أنت يا بن، ظننت أنك أحد السيلاسيس.»
«أخبرتك مرارًا أنه أنا.»
«إنهم يأتون إلى هنا طوال الوقت يقطعون أشجاري ويخلعون سياجي. تعلم أنهم أشعلوا بي النيران يا بن؟ كانوا هم مَن فعلوا ذلك.»
قال أبي: «سمعت بذلك.»
«لم أعلم أنه أنت يا بن، لم أعلم أنه أنت. جئتُ بهذه الفأس، أحملها معي لأرعبهم قليلًا. ما كنتُ سأحملها معي لو علمتُ أنه أنت. لتأتِ معي وتَرَ أين أعيش الآن.»
ناداني أبي. «لقد أحضرت طفلتي الصغيرة معي اليوم.»
«حسنًا، لتأتِ أنت وهي وتستدفِئا قليلًا.»
تبعنا ذاك الرجل، الذي كان لا يزال يحمل فأسه ويؤرجحها في طيش، وصعدنا المنحدر ومنه إلى الشجيرات. زادت الأشجار من برودة الجو، وأدناها كان يوجد ثلج حقيقي خلَّفه فصلُ الشتاء، يصل عمقه لقدم أو اثنين، وجذوع الأشجار تطوقها في حلقات، صانعةً مساحة مظلمة غريبة كالدفء الذي تصنعه بأنفاسك.
وصلنا إلى حقل من الأعشاب الهالكة، واتخذنا طريقًا عبره ووصلنا إلى حقل آخَر أفسح حيث يوجد شيء يبرز من الأرض. كان سقفًا يميل في اتجاه واحد وليس له قمة، وخرج من السقف أنبوب يعلوه غطاء، والدخان يتصاعد منه. نزلنا درجات سلم قادتنا إلى قبو؛ وكان هذا كل شيء؛ قبو له سقف. قال أبي: «يبدو أنك هيَّئْتَ الأمور تمامًا لنفسك يا جو.»
«الجو دافئ، هذا هو حال العيش تحت الأرض، يكون الجو دافئًا بطبيعة الحال. فكرت في الجدوى من بناء منزل مجدَّدًا، فقد حرقوا لي منزلًا مرةً، وسيحرقونه مجدَّدًا. ولماذا أحتاج إلى منزل على أية حال؟ لديَّ المساحة التي أحتاج إليها هنا، لقد صمَّمْتُه بحيث يبعث على الراحة.» ثم فتح الباب عند قاع السلم قائلًا: «خُذْ في اعتبارك يا بن أنني لا أقول إن على الجميع العيش في حفرة تحت الأرض، رغم أن الحيوانات تفعل ذلك، وما يفعله الحيوان، على وجه الإجمال، يحمل معنًى ومغزًى. لكن إذا كنتَ متزوجًا، فهذا أمر مختلف.» ثم ضحك الرجل واستطرد: «أما أنا فلا أخطط للزواج.»
لم يكن المكان مظلمًا تمامًا. كانت هناك نوافذ القبو العتيق، تسمح بدخول قليل من الضوء المشبع بالسخام. إلا أن الرجل أشعل مصباحًا يعمل بالكيروسين ووضعه فوق الطاولة.
«هكذا تستطيع رؤية مكانك.»
لم يحوِ المكان سوى حجرة واحدة، حجرة أرضية بها ألواح خشبية غير مثبتة بمسامير، لكنها ممتدة على الأرض لتصنع ممرات للسير، وُضِع موقد على شيء أشبه بمنصة، وتوجد طاولة، وأريكة، وكراسي، بل وخزانة مطبخ، وعدة أغطية سميكة متسخة للغاية من النوع المستخدم في زلاجات الجليد لتغطية الخيول. ربما لولا تلك الرائحة المريعة التي تفوح من المكان — رائحة الكيروسين، والبول، والهواء الثقيل الراكد — لكنتُ عرفتُ أنه المكان الذي أود العيش فيه، مثل البيوت التي أصنعها بركام الثلوج في الشتاء، مستخدمةً عِصِيًّا من الحطب كأثاث، مثل المنزل الذي صنعته منذ مدة طويلة أسفل الشرفة، صنعت أرضيته من التراب العجيب الذي لا تطوله شمس أو مطر.
لكنني توخيت الحذر، جلست فوق الأريكة المتسخة، وتظاهرت بعدم النظر إلى أي شيء. قال أبي: «تنعم بالدفء والسكينة هنا يا جو، أليس كذلك؟» وجلس بجانب الطاولة حيث وضع الفأس.
«كان حريًّا بك أن تراني قبل بدء ذوبان الثلوج. لم يظهر شيء من المنزل سوى المدخنة.»
«ولا تشعر بالوحدة أيضًا؟»
«ليس أنا. لم أُحبِّذ الوحدة قطُّ. لديَّ هنا هر يا بن. أين ذاك الهر؟ ها هو ذا خلف الموقد. إنه لا يستمتع بالصحبة، ربما.» ثم جذب الهر، كان هرًّا ضخمًا رماديَّ اللون بعينين عابستين. «سأريك ما بإمكانه فعله»، ثم أخذ صحن فنجان من فوق الطاولة، وأخرج برطمانًا من الخزانة وصبَّ شيئًا منه في الصحن، ثم وضعه أمام القط.
«جو، هذا القط لا يحتسي الويسكي، أليس كذلك؟»
«انتظر وسترى.»
نهض القط وتمدَّد بصعوبة، ثم ألقى نظرةً شريرةً حوله ونكس رأسه ليشرب من الصحن.
قال أبي: «ويسكي غير مخفَّف!»
«من المؤكد أنك لم ترَ مثل هذا المشهد من قبلُ. وليس من المحتمل أن تراه مرةً أخرى. فهذا الهر يحتسي الويسكي قبل اللبن كل يوم. في واقع الأمر لم يَعُدْ يحصل على اللبن، لقد نسي شكله. أتريد شرابًا يا بن؟»
«لا أعلم من أين حصلت على هذا، ليس لديَّ مَعِدة كمعدة هرِّك.»
بعد أن انتهى الهر سار على غير هدًى بعيدًا عن الصحن، وانتظر للحظة، ثم وثب بمخالبه وهبط بغير ثبات، لكنه لم يسقط. تأرجح الهر، وضرب الهواء بمخالبه عدة مرات، وماءَ في يأس، ثم اندفع نحو الأمام وانزلق تحت طرف الأريكة.
«جو، إنْ تماديت في هذا الأمر، فلن يعودَ لديك هرٌّ.»
«أنا لا أؤذيه، فهو يستمتع بالأمر. لِنَرَ ماذا لدينا للفتاة الصغيرة لتناوله» لا شيء، هكذا تمنيت، لكنه أحضر علبةً من حلوى الكريسماس، والتي بدا أنها ذابت ثم تجمدت ثم ذابت مرة أخرى؛ لذا اختفت الخطوط الملونة من عليها، وكان لها مذاق المسامير.
«إن السيلاسيس يضايقونني يا بن. يأتون ليلًا ونهارًا. الناس لا تكفُّ عن مضايقتي أبدًا. أستطيع سماعهم عند السطح ليلًا. إذا رأيتهم يا بن، فلْتُخبرهم بما أعددتُ لهم.» ثم التقط الفأس وضرب بها على الطاولة، فتمزَّق المفرش المتعفن. «لديَّ بندقية صيد أيضًا.»
«ربما لن يعودوا لمضايقتك مجدَّدًا يا جو.»
تأوَّه الرجل وهزَّ رأسه نافيًا: «لن يتوقفوا أبدًا. كلا، لن يتوقفوا أبدًا.»
«حاوِلْ ألَّا تعيرهم أي اهتمام، سيسأمون ويرحلون.»
«سيحرقونني في سريري، لقد حاولوا من قبلُ.»
لم يقل أبي شيئًا، لكنه فحص نصل الفأس بإصبعه. أما أسفل الأريكة، فأخذ الهر يضرب بمخالبه ويموء في تشنجات متوهمة واهية أكثر. بعد أن استبد بي التعب، وشعرت بالدفء بعد البرودة، وقد تجاوز شعوري بالحيرة حدَّ الاحتمال، بدأ النعاس يغلبني وعيناي مفتوحتان.
•••
أجلسني أبي: «استيقظي الآن. قفي. أترين؟ لا أستطيع حملك وحمل كيس ممتلئ بالفئران معًا.»
وصلنا إلى قمة تلة مرتفعة وهناك استيقظت. كان الليل يرخي سدوله. كان حوض البلدة بأكمله الذي نضب بفعل نهر واواناش ماثلًا أمامنا؛ آثار شجيرات بنية مائلة إلى الخضرة أوراقها لم تنمُ بعدُ، والنباتات دائمة الخضرة الداكنة التي أنهكها فصل الشتاء تظهر في حقول بنية؛ وأخرى لا تزال قاتمة اللون بعد حرثها العام الماضي، بها طبقات رقيقة من الثلج تكوَّنَتْ عليها هنا وهناك (مثل الحقل الذي مررنا عبره قبل ساعات عديدة بالنهار)، وسياج ضئيلة ومستعمرات من الحظائر الرمادية، ومنازل متفرقة تبدو منخفضة وصغيرة.
سأل أبي وهو يشير بإصبعه: «منزل مَن هذا؟»
كان منزلنا، أدركت ذلك بعد دقيقة. لقد اتخذنا في سيرنا نصف دائرة، وكان هناك جانب المنزل الذي لا يراه أحدٌ في فصل الشتاء، والباب الأمامي الذي لم يُفتَح من شهر نوفمبر إلى إبريل، ولا يزال محشوًّا بقطع القماش البالية حول حوافه لتقينا الريح الشرقية.
«إنه لا يبعد أكثر من نصف ميل نحو سفح التلة. يمكنك السير بيُسْر إلى المنزل. سرعان ما سنرى الضوء في حجرة تناول الطعام حيث تمكث أمك.»
قلت في طريقنا إلى المنزل: «لماذا يحمل معه فأسًا؟»
قال أبي: «أنصتي إليَّ، أتسمعينني؟ هو لا يقصد إيذاءَ أحدٍ بتلك الفأس. إنها عادته فحسب، أن يحملها معه في تجواله. لكن لا تذكري شيئًا عن الأمر في المنزل. لا تذكريه لأمك أو ماري، لأيٍّ منهما؛ لأنه من الممكن أن تشعرا بالفزع حيال ذلك الأمر. أنا وأنت لا نشعر بذلك، لكن ربما تشعران هما بالخوف. ولن نجني شيئًا من ذلك.»
بعد برهة قال: «ما الشيء الذي لن تذكريه هناك؟» قلتُ: «الفأس.»
«لم ينتَبْكِ الخوف، أليس كذلك؟»
قلتُ وأنا مفعمة بالأمل: «بلى، ولكن مَن سيحرقه ويحرق سريره؟»
«لا أحد، إلا إذا فعلها بنفسه مثلما فعلها في المرة الماضية.»
«مَن هو سيلاسيس؟»
قال أبي: «لا أحد، لا أحد فحسب.»
•••
«لقد وجدتُ الرجلَ المناسب لكِ اليوم يا ماري. ليتني أحضرته معي إلى المنزل.»
قالت ماري ماكويد بحنق: «ظننا أنك سقطت في نهر واواناش.» وقامت بخلع حذائي وجواربي المبتلة على الفور.
«إنه جو فيبن العجوز الذي يعيش في العراء خلف الشجيرات.»
انفجرت ماري صائحةً: «هو، إنه الرجل الذي أحرق منزله، أعرفه!»
«صحيح، والآن هو يتدبر أموره جيدًا بدون منزله، يعيش في حفرة في الأرض. ستشعرين بالدفء يا ماري مثل خنزير الأرض.»
«من المؤكد أنه يعيش في الطين، حسنًا.» قدَّمت العشاء لأبي وأخبرها قصة جو فيبن، والقبو المسقف، والألواح الخشبية فوق الأرضية الطينية، وذَكَرَ الويسكي والهر لكنه أغفل ذِكْر الفأس. كان ذلك كافيًا لماري.
«إن المرء الذي يُقدِم على شيء كهذا يجب حبسه.»
قال أبي: «ربما. أتمنى ألَّا يقبضوا عليه إلا بعد فترة. جو العجوز.»
قالت ماري وهي تنحني فوقي: «تناولي عشاءك.» لم أدرك لبعض الوقت أنني لم أَعُدْ أخشاها. قالت: «انظر إليها، تكاد عيناها تخرجان من محجريهما، جرَّاء كل ما مرَّتْ به وشاهدته. هل قدَّمَ إليها الويسكي أيضًا؟»
قال أبي: «ولا قطرة منه.» وظل متطلعًا إليَّ عبر الطاولة. ومثل الأطفال في القصص الخيالية، الذين رأوا آباءهم يعقدون معاهدات مع غرباء مروِّعين، والذين اكتشفوا أن مخاوفهم لا ترتكز على شيء سوى الحقيقة، لكن عادوا مجدَّدًا من هروب مثير للعجب، وأمسكوا بالسكين والشوكة بتواضع وتهذيب، مستعدين للعيش بسعادة من ذلك الحين فصاعدًا؛ شأني شأنهم، أشعر بالانبهار والقوة بما أحمل من الأسرار — لم أنبس ببنت شفة.