العلاج
لم يحتسِ والداي الشراب، لكنهما لم يكونا متشدِّدَين حيال الأمر، بل أذكر حين وقَّعت على عهد الامتناع عن الشراب وأنا في الصف السابع، مع بقية ذاك الصف الملقَّن على نحو ممتاز وإنْ كان مؤقتًا؛ قالت أمي: «إنه محض هراء وتعصُّب أن يقوم بذلك أطفال في ذلك العمر.» كان من الممكن أن يحتسي أبي الجعة في يوم حارٍّ، لكن أمي لم تكن تنضم إليه في ذلك، إلى جانب أنه دائمًا ما كان يحتسي هذا الشراب «خارج» المنزل، سواء كان ذلك عن غير قصد أو لدلالة رمزية. أغلب الناس الذين عرفناهم كانوا على هذا المنوال، في البلدة الصغيرة حيث عشنا. لن أقول إن هذا الأمر هو ما أوقعني في صعوبات؛ إذ إن الصعوبات التي واجهتها كانت تعبيرًا صادقًا عن طبيعتي المثيرة للإزعاج؛ الطبيعة نفسها التي دفعت أمي للنظر إليَّ، في أية مناسبة تستدعي على نحوٍ تقليدي مَشاعِرَ الفخرِ والشعور بإنجاز الأم (أقصد عند مغادرتي لأداء أول رقصة رسمية لي، أو التحضيرات المتعنتة للالتحاق بالكلية)، بتعبير يعكس يأسًا يطاردها ولا تستطيع الفكاك منه، كما لو أنه لم يكن بإمكانها أن تتوقع — ولم تتمنَّ — أن تصير الأمور معي مثلما صارت مع الفتيات الأخريات؛ فما تحلم به الفتيات من مغانم — أزهار الأوركيد، الشباب الجذابين، الخواتم الماسية — هي أشياء من الممكن أن يحملها بناتُ صديقاتها إلى منازلهن في الوقت المناسب، وليس أنا؛ كل ما بوسعها فعله هو تمني وقوع كارثة أخف وطأة من كارثة كبرى، على سبيل المثال، هروبي مع شابٍّ لن يستطيع أبدًا كسب قوت يومه، بدلًا من اختطافي للاتِّجَار بي في تجارة الرقيق البيض.
قالت أمي: لكن الجهل، أو السذاجة إن شئتَ، ليس شيئًا طيبًا على الدوام كما يعتقد الناس، ولست واثقة من أنه قد يكون مأمونَ العواقب لفتاة مثلك. ثم أكدت وجهة نظرها، كعادتها، باقتباس اتَّسَم بتفاخر ساذج وطابع عتيق. لم أُبْدِ أية ردة فعل، مدركةً تمامًا كيف أن أثر ذلك لا بد وأنه كان بالغًا على السيد بيريمان.
لا بد أن الأمسية التي جالستُ فيها أطفال آل بيريمان كانت في شهر إبريل. كنت أمرُّ بقصة حب طيلة العام، أو على الأقل منذ الأسبوع الأول من شهر سبتمبر، عندما ابتسم لي فتًى يُدعَى مارتن كولينجوود ابتسامةَ إعجاب متفاجئة، تنمُّ عن رضى مبالغ فيه على نحوٍ ينذر بسوء، وذلك أثناء الاجتماع المدرسي. لم أعرف قطُّ ما فاجأه، لم أكن بغير مظهري العادي؛ كنتُ أرتدي قميصًا قديمًا، وتصفيفة شعري المموجة الثابتة كانت سيئة للغاية. بعد بضعة أسابيع من ذلك خرجت معه للمرة الأولى، وقبَّلَني في الجانب المظلم من الشرفة الأمامية، يتعين عليَّ قول إنه قبَّلَني في فمي، أنا واثقة من أن هذه كانت المرة الأولى التي يقبِّلني فيها أحدهم بمثل هذه الطريقة المؤثرة على الإطلاق، وأعلم أيضًا أنني لم أغسل وجهي تلك الليلة أو في صباح اليوم التالي، كي أحافظ على آثار تلك القبلات كما هي. (أظهرتُ أكثر السخافات إيلامًا في سير هذه العلاقة برُمَّتها، كما سترى.) بعد شهرين، وبعد بضع مراحل غرامية قطعناها، هجرني؛ فقد وقع في غرام الفتاة التي لعبت دور البطولة معه في مسرحية عيد الميلاد «كبرياء وتحامُل».
قلت إنني لن أشارك في الإعداد لتلك المسرحية، وأتيتُ بفتاة أخرى لوضع مساحيق التجميل بدلًا مني، ومع ذلك ذهبت لمشاهدة المسرحية بالطبع، وجلست في الصف الأمامي مع صديقتي جويس، التي كانت تشد على يدي عندما ينتابني الألم والبهجة لرؤية السيد دارسي في بنطاله الأبيض الضيق، والصديري الحريري، وسالفتيه الطويلتين. كانت رؤية مارتن يؤدي دور السيد دارسي ما أثَّر فيَّ بالتأكيد؛ فجميع الفتيات تحب السيد دارسي على أية حال، كما أضفى الدور على مارتن غرورًا ورونقًا ذكوريًّا في عينيَّ، الأمر الذي جعل من المستحيل تذكُّر أنه ليس سوى فتى في السنة النهائية من المدرسة الثانوية، وسيم إلى حدٍّ مقبول، متوسط الذكاء (وله سمعة تشوبها بعض الشوائب، بسبب تفضيله لنادي الدراما والفرقة الموسيقية العسكرية للمبتدئين)، تصادف أنه أول فتى، أول فتى حَسَن المظهَر حقيقةً، يُظهِر اهتمامًا بي. في الفصل الأخير يحظى بفرصةٍ لعناق إليزابيث (ماري بيشوب، ذات البشرة الباهتة والقوام الدميم، ولكنَّ لها عينين كبيرتين نابضتين بالحياة)، وخلال ذلك اللقاء الواقعي غرسْتُ أظافري بمرارة في راحة جويس التي كانت ممسِكَة بيدي.
مثَّلَتْ تلك الليلةُ البدايةَ لشهور من البؤس الحقيقي، الذي ألحقْتُه بنفسي بطريقة أو بأخرى. لماذا ننجذب إلى الإشارة إلى هذا الضرب من الأمور باستخفافٍ وتهكُّمٍ بل وبدهشةٍ، لدى اكتشاف أن المرء مُثقَل بتلك المشاعر السخيفة في الماضي غير المسئول عنه؟ هذا ما ننزع إلى فعله عند الحديث عن الحب؛ أما حب المراهَقَة، فبالطبع الأمر حتمي غالبًا؛ ستظن أننا كنا نجلس في فترات ما بعد الظهيرة المثيرة للضجر، نسلي أنفسنا بتلك الذكريات المثيرة من الألم. لكن لا يُشعِرني بالسعادة حقيقةً — بل والأسوأ، لا يدهشني فعلًا — أن أتذكَّرَ تلك الأشياء الحمقاء والحزينة والمخجلة إلى حدٍّ ما التي فعلتُها، والتي يفعلها مَن يقع في الحب دومًا. تسكعتُ حول الأماكن التي ربما يوجد بها، ثم تظاهرتُ بعدم رؤيته، وفي محادثاتي اقتربت عدة مرات بطرق غير مباشِرة على نحوٍ سخيف من ذكر اسمه عرضًا، مستمتعة بما يصاحب ذلك من لذة مريرة. رأيته في أحلام اليقظة مرات لا حصر لها، في واقع الأمر إذا أردتُ التعبير عن المسألة حسابيًّا، فربما أمضيت من الساعات الطوال في التفكير في مارتن كولينجوود عشرة أمثال الوقت الذي أمضيته معه على الإطلاق. أجل، أمضيتها أتحرَّق شوقًا إليه وأذرف الدموع من أجله. هيمنت فكرة وجوده على فكري بضراوة، وبعد برهة، رغمًا عني. فإذا كنتُ بالغت بشدة في مشاعري في البداية، فقد أتى الوقت الذي سأشعر بسعادة الفرار من تلك المشاعر، فقد أضحت أحلام اليقظة المبتذلة محزِنةً ولم تَعُدْ حتى تواسيني بصفة مؤقتة. وفيما أحل المسائل الرياضية كنتُ أعذِّب نفسي — بصورة روتينية تمامًا وأنا مغلوبة على أمري — بذكرى مارتن بتفاصيلها وهو يقبِّل عنقي. كانت لديَّ ذكرى تفصيلية عن «كل شيء». ذات ليلة اجتاحتني رغبة ملِحَّة لابتلاع كافة أقراص الأسبرين الموجودة بخزينة الحمام، لكنني توقَّفْتُ بعد أن ابتلعت ستة أقراص.
•••
لاحظت أمي أن ثمة خطبًا ما وأعطتني بعض أقراص الحديد. قالت: «هل أنت واثقة أن كل شيء على ما يرام بالمدرسة؟» المدرسة! وعندما أطلعتُها بشأن انفصالي أنا ومارتن، كل ما قالته كان: «حسنًا، هذا أفضل كثيرًا. لم أَرَ مطلقًا فتى مفتونًا بنفسه هكذا.» قلتُ متجهمةً: «إن مارتن يملك من الغرور ما يكفي لإغراق سفينة حربية.» ثم صعدتُ إلى أعلى وأخذتُ أبكي.
كانت الليلة التي ذهبتُ فيها إلى آل بيريمان ليلة سبت. عملت كجليسة أطفال لديهم مرات كثيرة ليالي السبت لأنهما أحبَّا التنزُّه بالسيارة إلى بايلي فيل — وهي بلدة أكبر كثيرًا ونابضة بالحياة أكثر، تبعد ما يقرب من عشرين ميلًا — وربما تناولا العشاء وشاهدا عرضًا فنيًّا. عاش آل بيريمان في بلدتنا منذ عامين أو ثلاثة أعوام فقط؛ أُحضر السيد بيريمان للعمل كمدير وحدة بمصنع الأبواب الجديد، ومكث هو وأسرته، باختيارهم على حدِّ اعتقادي، وعاشوا غرباء على المجتمع؛ أغلب أصدقائهما كانوا أزواجًا صغار السن مثلهما، وُلِدوا في أماكن أخرى، وعاشوا في منازل على طراز منازل المزارع فوق تلة خارج البلدة حيث اعتدنا الذهاب للتزلُّج. في ليلة السبت تلك كانا قد دَعَوا زوجين آخرين لاحتساء الشراب قبل أن يتوجَّهوا معًا إلى بايلي فيل لحضور افتتاح نادي عشاء جديد، كانوا جميعًا مبتهجين إلى حدٍّ ما. جلستُ أنا في المطبخ وتظاهرت بأنني أستذكر دروس اللاتينية. في الليلة الماضية كان «حفل الربيع الراقص» بالمدرسة الثانوية. لم أذهب إلى الحفل، بما أن الفتى الوحيد الذي طلب مرافقتي كان ميلارد كرومبتون، والذي طلب كذلك من الكثير من الفتيات مرافقته، حتى إننا شككنا في أنه يتقرَّب إلى فتيات الصف بأكمله بترتيب الحروف الأبجدية. أقيم الحفل الراقص في أرموريز، والذي كان لا يبعد سوى نصف شارع عن منزلنا، استطعتُ رؤيةَ الأولاد وهم يرتدون البذلات الداكنة، والفتيات يرتدين ثياب المناسبات الطويلة الفاتحة اللون تحت المعاطف، وهم يمرون برزانة أسفل مصابيح الشارع، ويتجنبون آخِر نُدَف الثلج. بل إنني تمكَّنْتُ من سماع الموسيقى ولم أنسَ حتى هذا اليوم أنهم عزفوا أغنية «راقصة الباليه»، وكذلك — أغنية قلبي المتألم — «قارب بطيء إلى الصين». هاتفَتْني جويس هذا الصباح وأخبرتني بطريقتها السرية (كما لو كنَّا نتحدث عن داء مستعصٍ أعاني منه) أن إم كيه كان بالفعل برفقة إم بي بالحفل، وكانت ترتدي ثوبَ مناسبات لا بد وأنه مصنوع من مفرش مائدة أحدهم بلونه الأصفر الباهت، وكان متهدلًا عليها ليس إلا.
عندما خرج آل بيريمان وأصدقاؤهم، دخلتُ أنا إلى حجرة المعيشة وقرأت مجلةً. كنتُ يائسةً على نحو قاتل. كانت الحجرة الفسيحة خافتةَ الإضاءة، بألوانها الخضراء والبنية كأوراق الشجر، خلفية بسيطة لتطور المشاعر، وكأنك ستصعد إلى خشبة المسرح مثلًا. في المنزل كانت المشاعر على ما يرام، لكن بدا دائمًا أنها تُدفَن تحت أكوام الملابس التي بحاجة إلى رتق، إضافةً إلى الكي، وترتيب أحجيات الصور وجمع الصخور مع الأطفال. كان المنزل من النوع الذي يحتكُّ فيه الأفراد دائمًا أحدهم بالآخَر عند الدرج، ويستمعون إلى مباريات الهوكي وحلقات سوبرمان في المذياع.
نهضتُ من مكاني ووجدتُ نسخة من «رقصة الموت» خاصة بآل بيريمان، فوضعتها على مشغل الموسيقى وأطفأت ضوء حجرة المعيشة. كانت الستائر مُسدَلة جزئيًّا. لمع ضوء من الشارع على نحو مائل على زجاج النافذة، مشكِّلًا مستطيلًا ذهبيًّا رفيعًا خافت اللون، تتحرك داخله ظلال الأغصان العارية التي أدركتها رياح الربيع العليلة القوية. كانت ليلة متوسطة العتمة حين تذوب آخِر الثلوج. منذ عام مضى كانت كل هذه الأشياء — الموسيقى، والرياح والظلمة، وظلال الأغصان — تمدني بسعادة هائلة، لكنها لا تفعل ذلك الآن، بل تستدعي داخلي أفكارًا مألوفةً مَلِلْتُ منها، وشخصيةً على نحو مهين، فيتملكني اليأس، وأدخل إلى المطبخ وأقرِّر أن أثمل.
كلا، لم يكن الأمر كذلك. دخلت إلى المطبخ لأبحث عن مشروب الكولا أو شيء من هذا القبيل في الثلاجة، لأجد هناك فوق مقدمة الطاولة ثلاث زجاجات طويلة جميلة، جميعها ممتلئة إلى نصفها تقريبًا بمشروب أصفر، لكن حتى بعد أن نظرتُ إليها ورفعتها لاستشعار وزنها لم أكن قد قررتُ أن أثمل بعدُ؛ وهنا قررت أن أحتسي شرابًا.
في تلك اللحظة ظهر جهلي، سذاجتي الكارثية. صحيح أنني رأيت آل بيريمان وأصدقاءهم يحتسون الخمر كما أحتسي أنا المشروبات الغازية، لكنني لم أطبِّق هذا السلوك على نفسي، بل نظرت إلى المشروبات الكحولية باعتبارها شيئًا يُشرَب في أوقات المحن، ويُوكَل إليه الوصول إلى نتائج متهورة، بطريقة أو بأخرى. وما كان موقفي ليكون أقل عفويةً حتى لو كنتُ الحورية الصغيرة التي تحتسي الإكسير الشفاف الذي أعطته إياها الساحرة. وبعد نظرة إلى وجهي العازم بالنافذة السوداء أعلى الحوض، صببت القليل من الويسكي من كل زجاجة (أعتقد الآن أن الزجاجات كانت تحوي نوعين من ويسكي الجاودار ونوعًا من الويسكي الاسكتلندي باهظ الثمن) حتى امتلأت كأسي، ولمَّا لم أَرَ في حياتي أحدًا يصب الخمر، لم تكن لديَّ فكرة أن الناس في العادة يخفِّفون الشراب بالماء أو الصودا وغير ذلك، وقد رأيت الكئوس التي يحملها ضيوف آل بيريمان ممتلئةً تقريبًا عندما كنت أمر بحجرة المعيشة.
احتسيت الكأسَ كلها بأسرع ما يمكن، ثم وضعت الكأس ووقفت أنظر إلى وجهي في النافذة، في شبه توقُّع أن أراه مختلفًا. شعرت بحرقة في حلقي، لكنني لم أشعر بأي شيء آخَر. كانت خيبة أملي كبيرة، بعد أن هيَّأْتُ نفسي للأمر، لكنني لم أكن لأدَع الأمرَ يقف عند هذا الحد. صببت كأسًا ممتلئةً أخرى، ثم ملأتُ كل زجاجة بالماء حتى المستوى الذي رأيتُها عنده تقريبًا عندما أتيتُ. احتسيت الكأس الثانية على نحوٍ أبطأ قليلًا من المرة السابقة. أنزلت الكأس الفارغة فوق الطاولة بعناية، ربما شعرت في رأسي بمجموعة متداخلة من الأشياء تحدث، فذهبت وجلست فوق كرسي بحجرة المعيشة. مددت ذراعي وأشعلت ضوء أباجورة أرضية بجانب الكرسي، وشعرت بأن الحجرة تنقلب فوقي.
•••
عندما قلت إنني توقَّعْتُ نتائج متهورة لم أقصد أنني توقعت هذا. فكرت في حدوث تغيُّر عاطفي عارم، زيادة مفاجئة في الشعور بالسعادة وانعدام المسئولية، شعور بالجموح والانصراف عن الواقع، يصاحبه دوار خفيف وربما رغبة في الضحك بصوت عالٍ. لم يطرأ بذهني أن السقف سيدور كأنه صحن ضخم قذفه أحدهم تجاهي، ولا أن تنتفخ البقع ذات اللون الأخضر الفاتح بالكرسي وتلتقي لتتفتت، فتلعب معي لعبة حافلة بقدر هائل من العداء الجامد العديم المعنى. تراجَعَ رأسي إلى الخلف وأغلقتُ عينيَّ. فتحتهما على الفور، فتحتهما مُحملِقة بهما، ودفعت نفسي من فوق الكرسي وعبرْتُ الردهةَ ووصلت — حمدًا لله! حمدًا لله! — إلى حمام آل بيريمان، حيث شعرت بالإعياء في كل أجزاء جسدي، في كل أجزاء جسدي، وسقطت على الأرض كالحجر.
ومنذ تلك اللحظة فصاعدًا، لم يكن لديَّ تصوُّر ثابت عمَّا حدث؛ فذكرياتي عن الساعة أو الساعتين التاليتين انقسمت إلى أجزاء حيَّة وأخرى غير محتملة الحدوث، ولا شيء سوى ضبابية وريبة بينهما. أتذكر بالفعل استلقائي فوق أرضية الحمام أنظر بزاوية جانبية إلى البلاط الأبيض السداسي الجوانب، والذي امتد في نمط منطقي وجذَّاب للغاية، أنظر إليه بامتنان متقطع مقتضب وبسلامة شخص مزَّقَه القيء إلى أشلاء توًّا. ثم أذكر جلوسي أمام هاتف الردهة، أطلب بوَهَنٍ رقم هاتف جويس. لم تكن جويس بالمنزل. أخبرتني أمها (امرأة حمقاء إلى حدٍّ ما، لم يبدُ أنها لاحظت أي شيء؛ الأمر الذي جعلني أشعر بامتنان تلقائي وواهن) أنها تمكث بمنزل كاي سترينجر. لم أعرف رقم كاي لذا طلبته من عامل الهاتف؛ شعرت أنني لا أستطيع المجازفة بالنظر في دليل الهاتف.
لم تكن كاي سترينجر صديقةً لي، لكنها كانت صديقة جديدة لجويس. كانت لها سمعة غامضة عن سلوكها الجامح، وكانت تضع ضفيرة طويلة ملوَّنة، على نحو غريب للغاية، وإنْ كان طبيعيًّا، بصفرة الصابون وبنية الكراميل. كانت تعرف الكثير من الشباب ممَّن هم أكثر إثارة من مارتن كولينجوود، شباب انقطعوا عن الدراسة أو استُقْدِموا إلى البلدة لِلَّعِب ضمن فريق الهوكي. ركبتَ هي وجويس في سيارات هؤلاء الشبان، وأحيانًا ما ذهبتا برفقتهم — بعد أن كذبت كلتاهما على أمهما بالطبع — إلى قاعة رقص «جاي لا» التي تقع على الطريق السريعة شمال البلدة.
تحدَّثْتُ مع جويس على الهاتف، كانت متوترة للغاية، كما هي دومًا عندما يكون هناك شباب من حولها، وبدت أنها تسمع بالكاد ما أقول.
قالت: «لا أستطيع الليلة. بعض الشباب هنا. سنلعب الورق. تعرفين بيل كلاين؟ إنه هنا. روس أرمور …»
قلت وأنا أحاول أن أنطق الكلمات بوضوح: «أنا «مريضة».» لكنها خرجت كحشرجة غير آدمية، «أنا ثملة يا جويس!» ثم تهاويتُ من فوق المقعد الصغير وسقطَتْ سماعة الهاتف من يدي، وأخذَتْ ترتطم على نحو بائس بالجدار لبرهة.
لم أخبر جويس بمكاني؛ لذا بعد أن فكَّرَتْ جويس في الأمر للحظة هاتفَتْ أمي، وبعد استخدامها لحيلة متقنة غير ضرورية تستمتع بها الفتيات الصغار، عرفت بمكاني. خرجت هي وكاي والفتية — كان هناك ثلاثة فتيان — وأخبروا والدة كاي بقصةٍ ما حول المكان الذي سيذهبون إليه وصعدوا إلى السيارة وانطلقوا. عثروا عليَّ ممدَّدَة فوق السجاد الواسع النسيج بالردهة. شعرت بالغثيان مجدَّدًا، وفي تلك المرة لم أنجح في الوصول إلى الحمام.
اتضح أن كاي سترينجر، التي لم تصل إلى المكان إلا من قبيل المصادفة، هي الشخص الذي احتجت إليه بالضبط. كانت تحب الأزمات، لا سيما الأزمات من هذا القبيل، التي تحمل سمة الشبهة والفضيحة والتي يجب إخفاؤها عن الكبار. أضحَتْ متحمسةً وجريئةً وفعَّالة، تلك الطاقة التي اصطُلِح على تسميتها بالجموح كانت ببساطة فيضًا لغريزة أنثوية هائلة لإدارة الأمور والمواساة والتحكم. استطعتُ سماعَ صوتها موجَّهًا نحوي من الاتجاهات كافة، تخبرني بألَّا أقلق، وتخبر جويس بأن تعثر على أكبر إبريق قهوة بالمنزل وتملأه بالقهوة (قهوة مركَّزَة كما أخبرَتْها)، وأخبرَتِ الفتية بأن يمسكوا بي ويحملوني إلى الأريكة. فيما بعدُ، في ضبابية الأحداث التي تتجاوز إدراكي، كانت تصيح في طلب فرشاة تنظيف.
بعد ذلك كنتُ مستلقية فوق الأريكة، ومغطَّاة بشيء يشبه الوشاح مصنوع من النسيج المحبوك وجدوه بحجرة النوم. لم أرغب في رفع رأسي. امتلأ المنزل برائحة القهوة. دخلت جويس شاحبة الوجه؛ قالت إن الأطفال استيقظوا لكنها أعطتهم الكعك المُحلَّى وأمرتهم بالعودة إلى فراشهم، وسار الأمر على ما يرام، كما لم تدَعْهم يخرجون من حجرتهم، ولا تعتقد أنهم سيتذكرون. قالت إنها وكاي نظَّفَتَا الحمام والردهة إلا أنها تخشى من وجود بقعة على السجاد.
أصبحت القهوة جاهزة. لم أعِ شيئًا بصورة جيدة. شغَّل الفتية المذياع وكانوا يقلِّبون في مجموعة أسطوانات آل بيريمان، بعد أن وضعوها فوق الأرضية. شعرتُ بأن هناك شيئًا غريبًا حيال هذا الأمر، لكنني لم أستطع التفكير في ماهيته.
أحضرَتْ كاي كوبًا كبيرًا ممتلئًا بالقهوة.
قلت: «لا أدري إن كان باستطاعتي احتساء القهوة. شكرًا لكِ.»
قالت في حماسة وكأن التعامل مع أشخاص ثملين أمرًا روتينيًّا «اجلسي.» ولم أكن بحاجة إلى الشعور بالأهمية. (سمعتُ نبرة الصوت تلك وميَّزتُها بعد سنوات في جناح الولادة.) وقالت: «اشربي الآن.» شربت القهوة، وأدركتُ في الوقت نفسه أنني كنتُ أرتدي لباسي الداخلي فقط؛ فقد نزعت جويس وكاي قميصي وتنورتي، ونظَّفَتَا التنورة وغسلتا القميص، لما كان قميصي من النايلون، علَّقتاه في الحمام. جذبتُ الوشاح لأعلى تحت ذراعي فضحكت كاي. قدَّمَتِ القهوة للجميع. أحضرت جويس إبريق القهوة، وبأمر من كاي أخذت تملأ كوبي كلما شربتُ منه. أخبرني أحدهم باهتمام: «لا بد أنك أردتِ أن تثملي.»
قلتُ بطريقة عابسة إلى حدٍّ ما وأنا أحتسي القهوة في إذعان: «كلا، لقد احتسيتُ كأسين فقط.»
ضحكت كاي: «حسنًا لا بد أنهما أثَّرَا فيكِ. أؤكد ذلك. متى تتوقعين عودتهما؟»
«في وقت متأخر، بعد الساعة الواحدة حسبما أظن.»
«ستكونين على ما يرام حينها. احتسي المزيد من القهوة.»
بدأت كاي ترقص مع أحد الفتية على أنغام المذياع. رقصت كاي بطريقة مثيرة للغاية، لكن اعتلت وجهها تلك النظرة المتساهلة والمتفوقة على نحوٍ رقيقٍ، والتي كانت باردة حين كانت ترفعني لاحتساء القهوة. كان الفتى يهمس إليها فتبتسم وتهز رأسها. قالت جويس إنها تشعر بالجوع، واتجهت نحو المطبخ لترى ماذا يوجد به؛ رقائق بطاطس أو مقرمشات، أو شيء من هذا القبيل، مما يمكن تناوله دون ترك أثر ملحوظ. اتجه بيل كلاين نحوي وجلس فوق الأريكة إلى جانبي، وربَّتَ على ساقَيَّ من فوق الوشاح المحبوك. لم ينطق بكلمة، فقط ربَّتَ فوق ساقَيَّ ونظر إليَّ بما بدا لي تعبيرًا أحمق للغاية، ومقزِّزًا إلى حدٍّ ما، وسخيفًا ومفزعًا. شعرت بالانزعاج للغاية؛ وتساءلت كيف يُقال إن بيل كلاين جذَّاب للغاية، بذلك التعبير على وجهه. حركت ساقَيَّ في توتُرٍ فرمقني بنظرة ازدراء، دون أن يتوقف عن التربيت. جاهدت لأقوم من فوق الأريكة بعد ذلك، وجذبت الوشاح حولي، عازمة على الذهاب إلى الحمام لأرى ما إذا كانت جفَّتْ سترتي. ترنحت قليلًا عندما بدأت السير، ولسبب ما — ربما لأظهر لبيل كلاين أنه لم يُثِرْ ذعري — بالغتُ في الأمر على الفور، وصحت: «انظروا إليَّ وأنا أسير في خط مستقيم!» ترنحتُ وتعثرتُ تجاه الردهة، تصاحبني ضحكات الجميع. كنت أقف بالمدخل بين الردهة وحجرة المعيشة عندما استدار مقبض الباب بنقرة مقتضبة مألوفة، وساد الصمت كل شيء من خلفي باستثناء المذياع بالطبع، وانزلق الوشاح المحبوك بإيعاز من خبث، من تلقاء نفسه، حتى قدمي، وهناك — أوه، لحظة جذل في مسرحية هزلية محبوكة جيدًا! — وقف آل بيريمان، السيد والسيدة بيريمان، يعلو وجهيهما تعبيرٌ ملائمٌ للموقف، كما سيتمنى أي مخرج عتيق الطراز للمسرحيات الهزلية أن يراه على وجوه ممثِّليه. لا بد أنهما كانا متأهِّبين بتلك التعبيرات، فمن المؤكد أنهما لن يُظهِرا تلك التعبيرات في لحظة الصدمة الأولى، فمع الضجيج الذي كنَّا نصدره، لا شك أنهما سمعونا حالما ترجَّلَا من السيارة، وهو السبب نفسه الذي حال دون سماعنا لهما. لا أظن أنني علمت قطُّ سببَ حضورهما إلى المنزل في وقت مبكر للغاية — شعورهما بالصداع، نشوب شجار! — ولم أكن حقيقة في موقف يؤهِّلني لسؤالهما.
•••
أقَلَّني السيد بيريمان بسيارته إلى منزلي. لا أذكر كيف دخلت إلى السيارة، أو كيف عثرتُ على ملابسي وارتديتها، أو كيف قلتُ طابت ليلتك، إن كنت قلتُها في الأساس، للسيدة بيريمان. لا أذكر ما حدث لأصدقائي، رغم ذلك أتصوَّر أنهم جمعوا معاطفهم ولاذوا بالفرار، ويخفون مهانةَ رحيلهم بأن عمدوا إلى الزوم في تحدٍّ. أذكر جويس وهي تحمل علبة المقرمشات في يدها، تقول إنني أُصِبْتُ بإعياء شديد من الطعام — أذكر أنها قالت الملفوف اللاذع — على العشاء، وإنني اتصلتُ بها لنجدتي. (عندما سألتُها فيما بعدُ ماذا فهموا من ذلك قالت: «كان بلا جدوى، كان ينبعث منك «رائحة كريهة».») أذكر أيضًا أنها قالت: «أوه، لا، سيد بيريمان، أتوسَّل إليك، إن أمي شخص حادُّ المزاج بدرجة هائلة، لا أدري ماذا يمكن أن تسبِّب لها الصدمة. سأركع لك إذا شئتَ لكن «لا تتصل بأمي».» لا أذكر أنها ركعت على ركبتيها — وكانت لتفعل ذلك على الفور — لذا يبدو أن هذا التهديد لم يُنفذ.
أخبرني السيد بيريمان: «حسنًا، أعتقد أنك تدركين أن سلوكك الليلة هو أمر غاية في الخطورة.» جعل الأمر يبدو وكأنني سأُتَّهم بالإهمال الجنائي أو شيئًا أسوأ من ذلك. وقال: «سأكون مخطئًا للغاية إن غضضتُ الطرف عمَّا حدث.» أعتقد أنه إلى جانب شعوره بالغضب والاشمئزاز مني، كان قلقًا حيال أخذي إلى المنزل في هذه الحالة إلى والديَّ المتزمتين، اللذين سيقولان إنني كنت أحتسي الخمر دومًا بمنزله. الكثير من أرباب الاعتدال في شرب الخمر سيظنون هذا ويلقون باللوم على السيد بيريمان، وكانت البلدة تعج بأرباب الاعتدال في شرب الخمر. كانت العلاقات الطيبة مع أهل البلدة أمرًا مهمًّا للغاية له من الناحية العملية.
قال: «أفكر في أنها ليست المرة الأولى، فإذا كانت المرة الأولى، فهل ستتمتع أي فتاة بالذكاء الكافي لملء الزجاجات الثلاث بالماء؟ كلا. حسنًا، في هذه الحالة، كانت ذكية بما يكفي، لكن ليس بالقدر الكافي لمعرفة أنني سأكتشف الأمر. ما رأيك في هذا؟» فتحتُ فمي للإجابة، ورغم شعوري بأنني في كامل وعيي، فإنه لم يخرج من فمي سوى صوت قهقهة عالية بطنين بائس. توقَّفَ أمام منزلنا. قال: «الأضواء مشتعلة بالمنزل. الآن ادخلي وأخبري والديك بالحقيقة الكاملة. وإذا لم تفعلي، فتذكَّرِي أنني سأفعل ذلك.» لم يذكر شيئًا يتعلق بدفع النقود مقابل خدمات مجالسة الأطفال عن هذه الأمسية، ولم يطرأ الأمر بذهني أيضًا.
دخلتُ المنزل وحاولت أن أصعد مباشَرَةً إلى الطابق العلوي، لكن أمي نادتني. دلفت إلى الردهة الأمامية، حيث لم أشعل الضوء. لا بد وأنها اشتمت رائحتي على الفور لأنها هرعت إلى الأمام مُطلِقة صرخة اندهاش تامٍّ، كما لو أنها رأت شخصًا يسقط، وأمسكتني من كتفي حيث كنتُ سأسقط بالفعل من فوق درابزين الدرج، وأنا يغمرني الشعور بتعاسة حظي العجيبة، وأخبرتُها بكل شيء من البداية، دون أن أغفل ذِكْرَ اسم مارتن كولينجوود ومحاولة انتحاري غير الجدية بالأسبيرين، والتي كانت خطأً.
في صباح يوم الإثنين استقلت أمي الحافلة المتجهة إلى بايلي فيل، وسألت عن متجر خمور وابتاعت لي زجاجةً من الويسكي الاسكتلندي، ثم اضطرت إلى انتظار حافلة تعيدها إلى المنزل، والتقت ببعض الناس الذين تعرفهم ولم تكن قادرةً تمامًا على إخفاء الزجاجة في حقيبتها؛ شعرَتْ بالحنق من نفسها لأنها لم تحضر حقيبة تسوُّقٍ ملائمة. وبمجرد أن عادت، ذهبَتْ إلى منزل آل بيريمان؛ لم تتناول وجبة الغداء حتى. لم يكن السيد بيريمان قد عاد إلى المصنع. دخلت أمي وتحدَّثَتْ مع كليهما وتركت انطباعًا ممتازًا لديهما، ثم أقلها السيد بيريمان إلى المنزل بسيارته. تحدَّثَتْ معهما بأسلوبها الهادئ والصريح، والذي دائمًا ما كان يثير الدهشة على نحوٍ مستحَبٍّ لدى أشخاص مهيَّئِين للتعامل مع أم، كما أخبرَتْهما أنه رغم أنني فيما يبدو أبلي بلاءً حسنًا في المدرسة، فقد كنتُ متأخرةً للغاية — أو ربما غريبة الأطوار — في تطوُّري العاطفي. تصورت أن هذا التحليل لسلوكي كان فعَّالًا على نحو استثنائي للسيدة بيريمان، التي كانَتْ قارئةً نهمة لكتب توجيه الأطفال. توطَّدَتِ العلاقة بين أمي وآل بيريمان إلى الحد الذي جعلها تثير مثالًا محدَّدًا للصعوبات التي أمُرُّ بها، فرَوَتْ على نحوٍ استرضائيٍّ قصةَ مارتن كولينجوود كاملة.
في غضون بضعة أيام انتشر خبر أنني حاولت الانتحار حزنًا على مارتن كولينجوود في أرجاء البلدة والمدرسة، وانتشرت بالفعل كذلك قصة حضور السيد بيريمان وزوجته إلى المنزل ليلة سبت، وأنهما وجداني ثملة ومترنحة، ولا أرتدي شيئًا سوى لباسي الداخلي، في حجرة بها ثلاثة فتية، كان بيل كلاين من ضمنهم. أخبرتني أمي أنني سأسدد ثمن زجاجة الخمر التي أخذَتْها إلى آل بيريمان من دخلي من مجالسة الأطفال، لكن عملائي تلاشوا كما تلاشت آخِر ثلوج إبريل، وما كنتُ سأسدد ثمنها إلى الآن لولا أن الوافدين الجدد إلى البلدة انتقلوا للسكنى قبالتنا في الشارع في شهر يوليو، واحتاجوا جليسة أطفال قبل أن يتحدَّثوا إلى أي أحدٍ من جيرانهم.
قالت أمي أيضًا إنها ارتكبَتْ خطأً فادحًا بالسماح لي بالخروج برفقة الفتية، وإنني لن أخرج مجدَّدًا حتى أتجاوز عامي السادس عشر بفترة طويلة. تبيَّنَ أن ذلك لم يكن بمأزق حقيقي مطلقًا؛ نظرًا لأنه لم يطلب أحدٌ الخروج معي طيلة تلك الفترة على الأقل. إذا خلْتَ أن أخبار مغامرة آل بيريمان جعلَتْ مني شخصًا مطلوبًا في حفلات اللهو والحفلات الماجنة التي كانت تُقام في البلدة ومن حولها، فأنتَ مخطئ للغاية، فالشهرة الاستثنائية التي صاحبت حفلتي الماجنة الأولى ربما جعلتني أبدو موسومة بنوع خاص من سوء الحظ، مثل الفتاة التي تبيَّنَ أنها حبلى على نحو غير شرعي في ثلاثة توائم؛ فلا يود أحدٌ أن تجمعه علاقةٌ بها. على أية حال لم يتصل أحد بي على الإطلاق، واكتسبت السمعةَ الأكثر إثمًا بالطبع في المدرسة الثانوية بأكملها. اضطررت إلى تحمُّل الأمرِ حتى فصل الخريف التالي، عندما فرَّتْ فتاة شقراء سمينة في الصف العاشر مع رجل متزوِّج، وشُوهِدت بعد شهرين وهي تعيش في الخطيئة — لكن ليس مع الرجل نفسه — في مدينة سو سانت ماري. بعد ذلك نسي الجميع قصتي.
بَيْدَ أنه كان لذلك الشأن نتيجة إيجابية، وغير متوقعة على نحو رائع؛ تغلَّبْتُ تمامًا على مارتن كولينجوود. لم يكن الأمر فحسب أنه قال ذات مرة، على الملأ، إنه كان يعتقد دومًا أنني مختلة العقل؛ فمتى أتى ذكره لم أكن أشعر بالفخر، وكان بإمكان خيالي الرقيق إيجاد سبيل للتغاضي عن ذلك قبلها بشهر أو بأسبوع. ماذا كان ذلك الذي أعادني إلى العالم مجدَّدًا؟ كان الواقع المريع والمذهل للكارثة التي حلَّتْ بي؛ كان «الطريقة التي تجري بها الأمور». لا أعني أنني استمتعت بما حدث، فقد كنتُ فتاة خجولة وعانيتُ كثيرًا من تلك الفضيحة، لكن تطوُّرَ الأحداث في ليلة السبت تلك هو ما أثار اهتمامي؛ شعرت أنني أدركت لمحةً من العبثية السافرة والساحرة والمتشظية التي تُرتجَل بها الحبكات الدرامية للحياة، ولم تكن في الأدب القصصي. لم أستطع التوقف عن تأمُّل هذا الأمر.
وبالطبع تقدَّمَ مارتن كولينجوود في شهر يونيو من ذلك العام للقبول في الجامعة، ورحل إلى المدينة ليحضر دروةً تدريبية عن دفن الموتى — كما أظن أنه اسمها — وعندما عاد عمل مع عمه في دفن الموتى. عشنا في البلدة نفسها واستطعنا معرفة معظم الأمور التي وقعت لكلٍّ منا، لكنني لا أعتقد أننا التقينا وجهًا لوجه أو رأى أحدنا الآخر، إلا من مسافة بعيدة، لسنوات. ذهبتُ إلى حفل هدايا عرس الفتاة التي تزوَّجَ منها، ولكن بعدها ذهب كلٌّ منَّا إلى حفلات هدايا العرس لأناس لم تجمعنا المعرفة بهم. كلا، لا أعتقد أنني رأيته فعلًا مرة أخرى، حتى عُدْتُ إلى بلدتي بعد أن تزوَّجْتُ بعدة سنوات لحضور جنازة أحد أقاربي. ثم رأيته، لم يكن يُشبِه السيد دارسي تمامًا، لكن كان وسيمًا للغاية مع ذلك في تلك الملابس السوداء. ورأيته ينظر تجاهي بتعبير يشبه ابتسامة حافلة بالذكريات في حدود ما تسمح به المناسبة؛ علمتُ أنه اندهش بذكرى، إما ذكرى وفائي أو كارثتي الصغيرة المدفونة. رمقته بنظرة رقيقة حائرة في المقابل. أنا امرأة يافعة الآن؛ دَعْه يكشف هو عن كوارثه الخاصة.