يوم الفراشة
لا أذكر متى حلت مايرا سايلا بالبلدة، لكنها كانت — ولا شك — في صفنا في المدرسة منذ سنتين أو ثلاث سنوات. بدأتُ أتذكَّرها في العام الماضي، حينما كان أخوها الصغير جيمي سايلا في الصف الأول. لم يكن جيمي سايلا معتادًا على الذهاب إلى الحمام بمفرده، وكان يأتي إلى باب الصف السادس ينشُد مايرا، فكانت تأخذه إلى الطابق السفلي. وفي كثير من الأحيان كان يأتي إلى مايرا — بعد فوات الأوان — وبقعة داكنة كبيرة تغطي سرواله القطني المزرَّر. حينئذٍ كانت مايرا تضطر لأن تسأل المعلمة: «إذا سمحتِ، هل لي أن آخذ أخي إلى المنزل، لقد بلَّل نفسه؟»
كان هذا ما قالته أول مرة وسمعه جميع الجالسين في المقاعد الأمامية — رغم أن صوت مايرا كان رخيمًا ومنخفضًا للغاية — فصدرَتْ منهم ضحكات مكتومة جذبت انتباه بقية تلاميذ الصف. كتبت معلمتنا — فتاة رقيقة رزينة ترتدي نظارات يحدها إطار ذهبي رقيق، وتبدو في بعض اللحظات من فرط الكبرياء التي تنمُّ عنها وضعيات معينة كزرافة — شيئًا ما على ورقة ثم أرتها لمايرا. قرأت مايرا ما في الورقة في ارتباك: «من فضلك يا معلمتي، تعرَّض أخي لطارئ.»
كان الجميع يعرف فضيحة جيمي سايلا، وفي وقت الراحة (إذا لم يحدث ما كان يحدث في أكثر الأحيان ومُنع من الخروج لفعله أمرًا لم يكن ينبغي له أن يفعله في المدرسة) لم يكن جيمي يجرؤ على الخروج إلى فناء المدرسة حيث كان غيره من الأولاد الصغار، وبعض الأولاد الأكبر سنًّا، ينتظرونه كي يطاردوه ويحاصروه قبالة السور الخلفي ليشرعوا في ضربه بفروع الشجر؛ لذا كان عليه أن يظل مع مايرا. لكن في مدرستنا كان للفناء ناحيتان؛ ناحية للأولاد وأخرى للبنات، وكان يُعتقد أنك إذا خطوت فقط إلى الناحية المخالفة لناحيتك فستعرِّض نفسك للعقاب. ومن ثم؛ لم يكن بمقدور جيمي الخروج إلى ناحية البنات، ولم يكن بمقدور مايرا الخروج إلى ناحية الأولاد، ولم يكن يُسمَح لأيٍّ من التلاميذ بالمكوث داخل المدرسة إلا في حالة هطول المطر أو تساقط الجليد؛ لذا كان الأخَوان دائمًا ما يقضيان أوقات الراحة واقفَين داخل رواق خلفي صغير يتوسط الناحيتين. ربما كانا يرقبان مباريات البيسبول، والملاحقة والقفز وبناء منازل من ورق الشجر في الخريف وبناء قلاع من الجليد في فصل الشتاء، وربما لم يرقبا أي شيء على الإطلاق. كلما نظرتَ إليهما ترى رأسيهما مائلين قليلًا، وجسديهما النحيلين منحنيين نحو الأمام، لا يحركان ساكنًا. كان لهما وجهان بيضاويان أملسان يشوبهما نوع من الحزن والتكتم، أما الشعر فكان دهنيًّا لامعًا قاتم السواد. كان شعر الصبي الصغير طويلًا، يُقص في المنزل، وكان شعر مايرا معقوصًا في ضفائر غليظة ملفوفة حول قمة رأسها على نحو كان يجعلها تبدو — من بعيد — كما لو كانت ترتدي عمامة كبيرة للغاية بالنسبة لحجم رأسها. تعلو أعينهما السوداء أجفان لا تنفتح بالكامل قط، لهما نظرة منهكة. كان الأمر أكثر من ذلك. لقد كانا كأطفال لوحات القرون الوسطى، كتمثالين منحوتين من الخشب — لممارسة العبادة أو السحر — لهما وجهان ناعمان ومُسِنَّان، وديعان، يتميزان بصمت يشوبه الغموض.
•••
كان معظم المعلمين في مدرستنا يدرسون منذ وقت طويل، وفي وقت الراحة كانوا يختفون في غرفة المعلمين ولا يضايقوننا. لكن معلمتنا نحن — الشابة ذات النظارات المؤطرة بإطار ذهبي رقيق — كانت تقف لترقبنا من النافذة، وكانت أحيانًا تخرج وعليها علامات الغضب والانزعاج كي تنهي عراكًا بين الفتيات الصغيرات، أو تستهل لعبة «حقيقة أم أسرار» بين الفتيات الكبار، اللائي يتجمعن معًا للعب. ذات يوم خرجت صائحة: «يا فتيات الصف السادس، أود التحدث إليكن!» وابتسمت ابتسامة مُشجِّعة، جديَّة، يشوبها قلق يثير التوجس، كاشفة عن حوافَّ ذهبية رفيعة تحيط بأسنانها. قالت: «ثمة فتاة في الصف السادس تُدعَى مايرا سايلا، إنها في صفكم أنتم، أليست كذلك؟»
صَدَرت منَّا غمغمة. لكن جلاديس هيلي قالت بصوت ناعم: «بلى يا آنسة دارلينج!»
«حسنًا، لماذا لا أراها تلعب أبدًا معكن؟ أراها يوميًّا تقف في الرواق الخلفي، لا تلعب أبدًا. هل تعتقدن أنها تبدو سعيدة للغاية بوقوفها هناك؟ هل تعتقدن أنكن ستسعدن للغاية إذا ما تُركتُنَّ وحيدات هناك؟»
قوبل سؤالها بالصمت. كنا نقف قبالة الآنسة دارلينج، في منتهى الاحترام والهدوء، شاعرات بالضجر من غرابة سؤالها. عندئذٍ قالت جلاديس: «إن مايرا لا تستطيع الخروج معنا يا آنسة دارلينج؛ لأن عليها أن تعتني بأخيها الصغير!»
ردت الآنسة دارلينج متسائلة: «أوه، حسنًا، ينبغي أن تحاولن أن تكنَّ أكثر لطفًا معها على أية حال، ألا تعتقدن ذلك؟ ستحاولن أن تكُنَّ أكثر لطفًا معها، أليس كذلك؟ أعلم أنكن ستفعلن.» يا للآنسة دارلينج المسكينة! سرعان ما اضطربت مناشداتها، وتحولت محاولاتها لإقناعنا إلى ثغاء سخيف واستعطاف مرتبك.
حينما ذهبت همست جلاديس هيلي بصوت خافت: «ستحاولن أن تكن أكثر لطفًا، أليس كذلك؟ أعلم أنكن ستفعلن!» ثم مطَّت شفتها كاشفة عن أسنانها الكبيرة وصاحت في انفعال: «لا آبه إذا كان المطر يهطل أو الجليد يتساقط.» ومضت تكمل بقية المقطع إلى آخره، واختتمته بدورة استعراضية بتنورتها الاسكتلندية الصوفية ذات المربعات. كان والدها السيد هيلي يدير متجرًا للأقمشة وملابس السيدات، وكان السبب فيما نالته ابنته من زعامة في صفنا يُعزَى جزئيًّا إلى ما ترتديه من تنورات زاهية ذات نقوش مربعة، وقمصان من «الأورجانزا»، وسترات مخملية ذات أزرار نحاسية، ويُعزى — إلى جانب ذلك — إلى النضج المبكر لنهديها، وإلى قوة شخصيتها التي تتميز بالصرامة والرقي في الوقت نفسه. بعد ذلك ما لبثنا أن بدأنا جميعًا نقلد الآنسة دارلينج.
قبل ذلك لم نكن نُعِير كثيرًا من الانتباه لمايرا. لكن الآن، ظهرت لعبة جديدة، كانت تبدأ بقول: «فلنكن لطيفات مع مايرا!» ثم نبدأ في السير نحوها في مجموعات منظمة من ثلاث أو أربع فتيات ونردد معًا على إثر إيماءة ما من إحدانا: «مرحبًا مايرا، مرحبًا مايرا!» ثم نتبع ذلك بشيء مثل: «بم تغسلين شعرك يا مايرا، إنه جميل ولامع يا ماي-را.» «أوه، إنها تغسله بزيت كبد الحوت، أليس كذلك مايرا؟ إنها تغسله بزيت كبد الحوت، ألا تشمون رائحته؟»
وبصراحة كانت تنبعث من مايرا رائحة ما، لكنها كانت رائحة عفنة تميل إلى الحلاوة كرائحة الفاكهة العطِبة. كان هذا هو مصدر رزق عائلتها؛ متجر متواضع للفاكهة. كان والدها يجلس طوال النهار فوق كرسي بلا ظهر بجانب النافذة، مرتديًا قميصًا مفتوحًا يبرز كرشه الضخم وخصلات الشعر الفاحم التي تؤطِّر سُرته، ويلوك فصوصًا من الثوم. لكن إذا دخلتَ المتجر فستجد السيدة سايلا هي التي تقوم على خدمتك، وكانت تبرز في هدوء من بين الستائر المطبوعة المتهدِّلة التي تغطي خلفية المتجر. كان شعرها جعدًا مموجًا أسود اللون، وكانت تبتسم وشفتاها مطبقتان تمامًا وممطوطتان إلى أقصى مدًى لهما، وكانت تخبرك بالسعر بصوت مقتضب، وكأنها تتحداك أن تتجرأ وتتحداها، وعندما لا تفعل، تسلمك كيس الفاكهة وعيناها تشيان باستهزاء صريح.
•••
ذات صبيحة شتوية، وبينما كنت أرتقي الربوة التي تقبع فوقها المدرسة في وقت مبكر للغاية، عرض عليَّ أحد الجيران أن يُقلَّني إلى داخل البلدة، التي كنت أسكن في مزرعة تبعد عنها نصف ميل تقريبًا. لم يكن يفترض أن أذهب إلى مدرسة البلدة على الإطلاق، وإنما إلى مدرسة ريفية مجاورة يرتادها عدد من التلاميذ لا يتجاوز أصابع اليدين ومعلمة مصابة بشيء من الخبل إثر بلوغها سن اليأس. لكن أمي — التي كانت امرأة طموحة — أقنعت أولي الأمر في البلدة بقبولي شرط أن يدفع والدي مصروفات دراسية إضافية، فالتحقت بمدرسة البلدة. كنت التلميذة الوحيدة التي تحمل معها علبة غداء وتأكل شطائر زبدة الفول السوداني في حجرة إيداع الملابس الخالية ذات الجدران العالية واللون الخردلي، والوحيدة التي كانت تضطر لارتداء حذاء مطاطي ذي رقبة في فصل الربيع، حينما تكون الطرق موحلة. كنت أشعر أنني أواجه خطرًا ما جراء ذلك، لكنني لم أستطع أن أدرك تحديدًا ما هو.
رأيت مايرا وجيمي وقد سبقاني على الربوة، كانا دائمًا يذهبان إلى المدرسة في وقت مبكر للغاية، إلى حد أنهما كانا في بعض الأحيان يضطران للوقوف خارج المدرسة في انتظار أن يفتح لهما البواب. كانا يمشيان على مهل، وكانت مايرا تلتفت نصف التفاتة من آن إلى آخر. كنت في كثير من الأحيان أتباطأ بتلك الطريقة آملة أن تلحق بي أي فتاة مهمة فأمشي بصحبتها، لكن لم أجرؤ يومًا على التوقف والانتظار. في هذه اللحظة خطر لي أن مايرا ربما تفعل الشيء نفسه معي. لم أدرِ ما ينبغي لي فعله. لم أكن لأتحمل أن تراني الفتيات وأنا أمشي بصحبتها، ولم أكن راغبة في ذلك أيضًا، لكن من ناحية أخرى، لم تكن نفسي منيعة أمام هذا الالتماس الذي تشي به التفاتاتها الآملة الذليلة. وكأن دورًا ما كان يصاغ لي لم يكن بوسعي أن أحجم عن أدائه. فقد غمرتني دفعة ممتعة من الرغبة في عمل الخير نابعة من إحساسي بذاتي، وقبل أن أفكر فيما أنا مقدمة على فعله صحت: «مايرا! مرحى، مايرا، تمهلي، معي بعض الفشار المغطى بالكراميل!» وأسرعت الخطو بينما توقفت هي عن السير.
انتظرت مايرا لكنها لم تنظر إليَّ، كانت في انتظاري ولكن بنفس الطريقة المنطوية المتحفظة التي كانت تقابلنا بها دائمًا. ربما كانت تظن أنني سأحتال عليها، ربما كانت تتوقع أن أركض بجانبها وألقي بعلبة الفشار خاوية في وجهها! فتحت العلبة ومددت بها يدي إليها. أخذت القليل. توارى جيمي وراءها ولم يأخذ أي شيء من العلبة حين قدمتها له.
قلت في نبرة متفهمة مُطمئنة: «إنه خجول. هذا حال كثير من الأولاد الصغار، لكنه سيكبر ويتخلص من خجله هذا ولا شك.»
ردت مايرا: «أجل.»
قلت: «لي أخ في الرابعة. إنه خجول للغاية.» لم يكن كذلك في حقيقة الأمر. ثم قلت: «خذي بعض الفشار. كنت لا أكفُّ عن تناول الفشار المغطى بالكراميل طوال الوقت، ولكني لم أعد أفعل. أظن أنه يضر البشرة.»
خيَّم الصمت … ثم سألتني مايرا بصوت ضعيف: «هل تحبين الرسم؟»
«لا، أنا أحب الدراسات الاجتماعية والتهجئة ومادة التوعية الصحية.» قالت مايرا: «أنا أحب الرسم والحساب.»
كانت مايرا أسرع من تستطيع إجراء عمليات الجمع والضرب في عقلها في الفصل.
قلت: «كم أتمنى أن أكون بمهارتك في الحساب!» وغمرني شعور بالنُّبل.
قالت مايرا: «لكنني لست ماهرة في التهجئة، فأنا أخطئ كثيرًا جدًّا، ربما أرسب.» لم تبدُ حزينة حيال ذلك، وإنما سعيدة لأن لديها ما تقوله. ظلت معرضة برأسها عني تحدق في تلال الجليد المتسخة على جانبي شارع فيكتوريا، وكانت تصدر صوتًا وهي تتكلم يوحي بأنها تبلل شفتيها بلسانها.
قلت: «لن ترسبي، فأنت ماهرة للغاية في الحساب. ماذا ستصبحين حين تكبرين؟»
بدت حائرة، ثم قالت: «سأساعد أمي وأعمل في المتجر.»
قلت: «حسنًا، أنا سأصبح مضيفة طيران، لكن لا تذكري هذا لأحد. أنا لم أخبر بهذا أشخاصًا كثيرين.» قالت مايرا: «لا، لن أفعل. هل تقرئين لستيف كانيون في الجريدة؟»
«نعم.» من الغريب التفكير في أن مايرا، أيضًا، تقرأ القصص الهزلية المصورة، أو تفعل أي شيء أصلًا، عدا دورها الذي تضطلع به في المدرسة. «هل تقرئين قصص ريب كيربي؟»
«هل تقرئين لأورفان آني؟»
«هل تقرئين «بيتسي والأولاد»؟»
قلت: «لم تأخذي شيئًا يُذكَر من الفشار المُحلَّى. تناولي المزيد. خذي ملء قبضتك.»
نظرت مايرا داخل العلبة وقالت: «ثمة هدية في الداخل.» ثم جذبتها إلى الخارج. كانت الهدية عبارة عن «بروش» على شكل فراشة معدنية صغيرة، مذهبة ومرصعة بقطع من الزجاج الملون المثبت عليها كي تبدو كالمجوهرات. أمسكته بيدها السمراء، وابتسمت ابتسامة صغيرة.
قلت: «هل يعجبك؟»
قالت مايرا: «أحبه مرصعًا بالأحجار الزرقاء؛ الياقوت الأزرق.»
«أعرفه. إنه حجر يوم ميلادي. ما حجر يوم ميلادك؟»
«لا أدري.»
«متى يحين عيد ميلادك؟»
«إنه في شهر يوليو.»
«إذن، فحجرك هو الياقوت الأحمر.»
قالت مايرا: «أفضِّل الياقوت الأزرق. يعجبني حجرك أنت.» وناولتني البروش.
قلت: «يمكنك الاحتفاظ به. الشيء لمن يعثر عليه أولًا.»
ظلت مايرا مادةً يدها به وكأنها لم تفهم ما عنيت. فقلت: «الشيء لمن يعثر عليه أولًا.»
قالت في رهبة ووجل: «لكن العلبة كانت علبتك. أنت اشتريتها.»
«حسنًا، وأنت عثرت على الهدية.»
قالت مايرا: «لا.»
قلت: «هيا، خذيه! هاكِ، سأعطيه لك.» وتناولت البروش من يدها ثم دفعته إليها مجددًا.
كان كلانا يشعر بالدهشة. نظرنا إحدانا إلى الأخرى، وتورد وجهي لكن وجه مايرا لم يتورد. شعرت بالالتزام مع تلامس أصابعنا؛ كنت مذعورة، لكن لا بأس. وفكرت في أنني يمكن أن آتي مبكرًا وأمشي بصحبتها ثانية في صبيحة أيام أخرى. ويمكن أيضًا أن أذهب وأتحدث إليها في وقت الراحة. لم لا؟ ماذا يمنع؟
دست مايرا البروش داخل جيبها ثم قالت «أستطيع أن أضعه فوق فستاني الأثير. إنه أزرق اللون.»
كنت أعلم أنه كذلك. فقد كانت مايرا ترتدي فساتينها الأثيرة في المدرسة. حتى في منتصف الشتاء وسط التنانير الصوفية ذات المربعات والسترات الصوفية، كانت تظهر بشكل حزين بقماش تافتا سماوي اللون، أو كريب فيروزي مغبر، في ثوب نسائيٍ جرى تعديله ليلائم مقاسها، محاط عند فتحة العنق برباط كبير منعقد في ارتخاء فوق صدر مايرا الهزيل.
سعدت لأنها لم تضع البروش؛ إذ ماذا كنت سأقول لو سألها سائل من أين أتت به فأخبرته أنني من أعطيتها إياه؟
ثم حدث بعد يوم، أو بعد أسبوع، أن تغيبت مايرا عن المدرسة. كانت كثيرًا ما تُستبقى في المنزل كي تساعد أبويها. لكنها لم تعد مجددًا هذه المرة. ظلت متغيبة لأسبوع، ثم لأسبوعين، وظل مقعدها خاويًا. ثم حل يوم انتقلنا فيه إلى غرفة صف آخر في المدرسة، فأُخِذَت كتب مايرا من درج مقعدها ووُضِعت فوق أحد أرفف خزانة الصف. قالت الآنسة دارلينج: «سنجد لها مقعدًا حينما تعود.» وتوقفت عن مناداة اسم مايرا عند تسجيل الحضور.
لم يكن جيمي سايلا يأتي إلى المدرسة هو الآخر، لا سيما وأنه لن يجد من يأخذه إلى الحمام.
•••
في الأسبوع الرابع أو الخامس من غياب مايرا، جاءت جلاديس هيلي إلى المدرسة وقالت: «هل تدرون … مايرا سايلا ترقد مريضة في المستشفى.»
كان ذلك صحيحًا. كانت لجلاديس عمة تعمل ممرضة في المستشفى. رفعت جلاديس يدها في منتصف حصة التهجئة وقالت للآنسة دارلينج: «اعتقدت أنك ربما ترغبين في معرفة الخبر.» قالت الآنسة دارلينج: «آه، نعم، أنا أعرف بالفعل.»
سألنا جلاديس «ما خطبها؟»
وردت جلاديس: «أكيميا أو شيء من هذا القبيل. إنها تخضع لعمليات نقل دم.» ثم قالت للآنسة دارلينج: «إن عمتي ممرضة.»
أمرت الآنسة كل تلاميذ الصف أن يكتبوا رسالة لمايرا، يقولون فيها:
«العزيزة مايرا، إننا جميعًا نكتب إليك هذه الرسالة. نتمنى أن تتحسَّن صحتك سريعًا وتعودي إلى المدرسة، المخلص/المخلصة …» وقالت الآنسة دارلينج: «فكرت في أمر ما. من منكم يود الذهاب إلى المستشفى وزيارة مايرا يوم العشرين من مارس، كي نحتفل بعيد ميلادها؟»
قلت: «إن عيد ميلادها في يوليو.»
قالت الآنسة دارلينج: «أعرف ذلك، إنه في العشرين من يوليو. لكن يمكنها أن تحتفل به هذا العام في العشرين من مارس؛ لأنها مريضة.»
«لكن عيد ميلادها يحين في شهر يوليو.»
قالت الآنسة دارلينج في نبرة حادة منذرة: «لأنها مريضة؛ سيصنع طاهي المستشفى كعكة ويمكنكم جميعًا أن تقدموا لها هدية صغيرة، بتكلفة خمسة وعشرين سنتًا أو نحو ذلك. ينبغي أن تكون الزيارة بين الثانية والرابعة؛ لأن هذه هي ساعات الزيارة. لكن لا يمكننا أن نذهب جميعًا، سيكون عددنا كبيرًا للغاية. إذن من يود الذهاب ومن يود المكوث هنا وقراءة مواد إضافية؟»
رفعنا جميعًا أيدينا. فأخرجت الآنسة دارلينج سجل درجات التهجئة واختارت أول خمسة عشر تلميذًا في القائمة، اثنتي عشرة فتاة وثلاثة فتيان. عندئذ لم يرغب الفتيان الثلاثة في الذهاب، فوقع الاختيار على الفتيات الثلاث التاليات في السجل. لا أدري متى حدث ذلك، لكني أعتقد أنه في هذه اللحظة على الأرجح صار حفل عيد ميلاد مايرا سايلا موضة رائجة.
ربما كان ذلك لأن جلاديس هيلي كانت لها عمة ممرضة، وربما لما ينطوي عليه المرض والمستشفيات من إثارة، أو ربما لمجرد أن مايرا قد تحررت تمامًا وعلى نحو مثير من كل القواعد والأوامر التي تحكم حياتنا. بدأنا نتحدث عنها كما لو كانت ملكًا لنا، وصار حفلها يشكل قضية، ناقشناها بجدية نسويَّة في وقت الراحة، وقررنا أن مبلغ خمسة وعشرين سنتًا متواضع للغاية.
•••
توجهنا جميعًا إلى المستشفى بعد ظهر يوم مشمس حين كان الجليد يذوب، حاملات هدايانا، وقادتنا إحدى الممرضات إلى الدور العلوي، مصطفَّات في طابور مفرد، حيث مررنا عبر رواق على جانبيه أبواب مواربة تسمع منها أحاديث خافتة. ظلت الممرضة والآنسة دارلينج تقولان لنا: «ششش صه.» لكننا كنا نتحرك على أطراف أصابعنا على أية حال، وكان سلوكنا في المستشفى مثاليًّا.
في هذا المستشفى الريفي الصغير لم يكن يوجد جناح للأطفال، ولم تكن مايرا طفلة في حقيقة الأمر، فوضعوها بصحبة امرأتين مسنتين ذواتي شعر رمادي. كانت الممرضة تشد حولهما الستائر أثناء دخولنا.
كانت مايرا تجلس منتصبة في السرير، في لباس مستشفيات ضخم مضجر. كان شعرها منسدلًا، تتدلى الضفيرتان الطويلتان على كتفيها وتمتدان حتى أسفل غطائها. لكن وجهها كان على حاله، دائمًا على حاله.
كانت الآنسة دارلينج قد أخبرتها بشيء ما عن الحفل، حتى لا تزعجها المفاجأة، لكن كان يبدو أنها لم تصدق، أو لم تستوعب ما سيحدث. كانت ترقبنا كما اعتادت أن تفعل في فناء المدرسة حينما نلعب.
قالت الآنسة دارلينج: «حسنًا، نحن هنا! ها قد أتينا!»
وقلنا في صوت واحد: «عيد ميلاد سعيد يا مايرا! مرحى يا مايرا! عيد ميلاد سعيد!» فقالت مايرا: «عيد ميلادي في شهر يوليو!» كان صوتها واهنًا أكثر من أي وقت مضى، هائمًا، يخلو من كل تعبير.
قالت الآنسة دارلينج: «لا يهم ميعاده الحقيقي، تظاهري أنه الآن! كم عمرك يا مايرا؟»
قالت مايرا: «أحد عشر عامًا … في شهر يوليو.»
ثم خلعنا جميعًا معاطفنا وبدونا في ثياب الاحتفال، ثم وضعنا هدايانا، ذات الأغلفة المزهرة الباهتة على سرير مايرا. كانت بعض أمهاتنا قد تفنَّنَّ في صنع ربطات بارعة من أشرطة الساتان الفخم، وبعضهن ثبتن باقات صغيرة من الزهور والزنابق الصناعية. قلنا: «تفضلي يا مايرا» «تفضلي يا مايرا، عيد ميلاد سعيد.» لم تكن مايرا تنظر إلينا، وإنما إلى الأشرطة، وردية وزرقاء ومرقطة باللون الفضيِّ، وباقات الزهور المصغرة، وقد سرتها، كما سرتها الفراشة من قبل. علت وجهها نظرة بريئة، وابتسامة بسيطة متوارية.
قالت الآنسة دارلينج: «افتحيها يا مايرا؛ إنها لك!»
جمعت مايرا الهدايا حولها، وجعلت تتحسَّسُها، وعلى وجهها هذه الابتسامة، وإدراكٌ حَذِرٌ، وكبرياء غير متوقعة. قالت: «سأذهب يوم السبت إلى مستشفى «سان جوزيف» في لندن.»
هتفت إحداهن: «كانت أمي في هذا المستشفى. ذهبنا ورأيناها هناك. كل العاملات هناك راهبات.» قالت مايرا في هدوء: «أخت أبي راهبة.»
شرعت تفض أغلفة الهدايا، في خيلاء لم تكن جلاديس نفسها لتفوقها فيها، وتطوي الورق الرقيق والأشرطة، فتخرج كتبًا وأحاجي من الصور المجزأة وأشكالًا مقطوعة، وكأن هذه الأشياء جوائز ربحتها. أخبرتها الآنسة دارلينج أنه ربما ينبغي أن تشكر كل شخص باسمه مع كل هدية تفتحها، كي تتحقق من شخصية مقدم الهدية، فقالت مايرا: «شكرًا لك ماري لويز، شكرًا لك كارول …» وحينما أتت على هديتي قالت: «شكرًا هيلين.» راحت كلٌّ منا تعرض لها هديتها؛ فسرى حديث وحلت إثارة وغمر الجوَّ شيءٌ من البهجة التي تصدرتها مايرا، مع أنها لم تكن مبتهجة. ثم جيء بكعكة نُقِش عليها: «عيد ميلاد سعيد يا مايرا» باللونين الوردي والأبيض، وثُبِّتت فيها إحدى عشرة شمعة. أشعلت الآنسة دارلينج الشمع وأنشدنا جميعًا: «عيلاد ميلاد سعيد.» ثم هتفنا: «هيا يا مايرا، تمنَّي أمنية، تمنَّي أمنية.» ونفخت مايرا في الشمع فأطفأته. ثم تناولنا جميعًا من الكعكة، كما أكلنا آيس كريم الفراولة.
•••
في الرابعة دوَّى صوت أزيز فجاءت الممرضة وحملت ما تبقى من الكعكة، فضلًا عن الأطباق المتسخة، وارتدينا معاطفنا كي نعود إلى منازلنا. قال الجميع مودعًا: «إلى اللقاء يا مايرا.» وجلست مايرا في الفراش ترقبنا بينما كُنَّا نغادر، وظهرها منتصب من دون أن تسنده أي وسادة، ويداها رابضتان فوق هداياها. لكن عند الباب سمعتها تنادي: «هيلين!» لم يسمع نداءها إلا اثنتان من الفتيات الأخريات، ولم تسمعه الآنسة دارلينج؛ لأنها كانت قد تقدمت الفتيات إلى الخارج، فعدتُ إلى فراشها.
قالت مايرا: «لقد حصلتُ على أشياء كثيرة للغاية. خذي بعضًا منها.» قلت: «ماذا؟ إنها هدايا عيد ميلادك. والمرء دائمًا ينال أشياء كثيرة في عيد ميلاده.»
قالت مايرا: «حسنًا، خذي شيئًا.» والتقطت حقيبة جلدية بها مرآة ومشط ومبرد أظافر وأحمر شفاه طبيعي اللون ومنديل صغير مُؤطَّر بخيط ذهبي. كنت قد لاحظته قبل ذلك. قالت: «خذي هذا.»
«ألا تريدينه؟»
«بل خذيه أنتِ.» ثم وضعته في يدي. وتلامست أصابعنا ثانيةً.
قالت مايرا: «حينما أعود من لندن، يمكنك أن تأتي وتلعبي في منزلي بعد المدرسة.»
قلت: «حسنًا.» ومن خارج نافذة المستشفى تناهى صوت واضح لشخص ما يلعب في الشارع، ربما يلاحق آخر ما تبقى من كرات الثلج في هذا العام. هذا الصوت غمر مايرا — بهجتها وكرمها، والأهم من كل ذلك، مستقبلها الذي أوجدت لي فيه مكانًا — بالكآبة والقتامة. كل الهدايا الموضوعة فوق فراشها، والأوراق والشرائط المطوية، تلك العطايا المشوبة بالإحساس بالذنب، غمرتها هذه الكآبة، وما عادت أشياء بريئة يمكن لمسها وتبادلها وقبولها دون خطر. لم أعد أرغب في أخذ الحقيبة، لكنني لم أستطع أن أفكر كيف يسعني أن أتملص، وأي كذبة يمكن أن أختلق. فكرت أن أهبها لأي شخص، لن ألهو بها أبدًا. سأدع أخي الصغير يمزقها.
عادت الممرضة، حاملة كوبًا من الحليب بالشوكولاتة.
قالت: «ما الأمر، ألم تسمعي أزيز الجرس؟»
هكذا أُطلق سراحي، حررتني الحوائل التي باتت مغلقة حول مايرا، حررني عالم المستشفى الجليل المجهول الذي يفوح برائحة الأثير المخدر، وحررني غدر قلبي. قلت: «حسنًا، شكرًا لك، شكرًا لك على هذا. وداعًا.»
هل حدث أن قالت مايرا وداعًا؟ على الأرجح لا. جلست في فراشها المرتفع، وعنقها الأسمر النحيل يطل من لباس المستشفى الواسع جدًّا عليها، بينما وجهها الأسمر المنحوت غافل عن غدري، وقد صارت هداياها — بعد أن دُبر لها أن تُستخدَم استخدامات نبيلة — منسيةً مثلما كانت هي تقبع منسية في الرواق الخلفي في المدرسة.