الفصل الأول
المشهد الأول
يوست
(يجلس في ركن وقد غلَبه النُّعاس
ويتحدَّث في المنام)
:
صاحب الفندق الصعلوك! أنت تتجرَّأ علينا؟ اهجُم عليه يا
أخي! اضرب يا أخي، اضرب! (يمد
يده للضرب فيستيقظ أثناء هذه الحركة) هه!
مرةً أخرى! إني لا أكاد أُطبِق جفني حتى أتضارب معه في
المنام، ليت هذه اللكمات تصيبه فعلًا. لكن لأنظر هنا، لقد
طلع النهار. لا بد أن أسعى للقاء سيدي المسكين بعد قليل.
لقد قضت إرادتي ألا يطأ هذا البيتَ الملعون بقدمه مرةً
أخرى، يا تُرى أين قضى ليلته؟
المشهد الثاني
(صاحب الفندق – يوست)
صاحب الفندق
:
صباح الخير يا سيد يوست، صباح الخير، آه، ها أنت ذا قد
نهضتَ مبكرًا؟ أم هل ينبغي أن أقول ها أنتَ ذا قد نهضتَ
متأخرًا؟
يوست
:
قل ما شئت.
صاحب الفندق
:
لا أقول غير «صباح الخير»، ولا شك أن هذه التحية تستحق
من السيد يوست أن يردَّ عليها قائلًا «متشكر
جدًّا».
يوست
:
متشكِّر جدًّا.
صاحب الفندق
:
إن الإنسان ليغضبُ إذا لم ينَل قِسطَه من الراحة.
ما معنى هذا؟
إن السيد الرائد لم يرجع إلى الفندق بينما كنتَ أنتَ تنتظره هنا.
ما معنى هذا؟
إن السيد الرائد لم يرجع إلى الفندق بينما كنتَ أنتَ تنتظره هنا.
يوست
:
ليس هناك شيءٌ يتعذَّر على هذا الرجل تخمينُه.
صاحب الفندق
:
أنا أخمِّن، أنا أخمِّن.
يوست
(يلتفت ويهمُّ بالانصراف)
:
عن إذنك.
صاحب الفندق
(يوقفه)
:
ليس بعدُ، يا سيد يوست.
يوست
:
طيب، إذَن دونَ إذنِك.
صاحب الفندق
:
آه يا سيد يوست! أنا لا أريد أن أتوقَّع، يا سيد يوست،
أنك ما زلتَ غاضبًا منذ الأمس. من ذا الذي يستطيع الاحتفاظ
بغضبه طُول الليل؟
يوست
:
أنا، وأستطيع الاحتفاظ به طَوال الليالي التالية.
صاحب الفندق
:
وهل هذا مما يتفق والمسيحية؟
يوست
:
يتفق والمسيحية بقَدْر ما ترضَى المسيحية عن طردِ رجلٍ
شريف من الفندق والقذفِ به إلى الشارع لأنه لا يستطيع
الدفع فورًا.
صاحب الفندق
:
أُف، ومن ذا الذي يصل به الجحود إلى هذا الحد؟
يوست
:
صاحب فندق مسيحي. طرد سيدي أنا! طرد رجلًا كالذي وصفتُه!
طرد ضابطًا!
صاحب الفندق
:
أتريد أن تقول إنني طردتُه من فندقي؟ إنني قذفتُ به إلى
الشارع؟ لا، إنما يمنعني من فعل ذلك احترامٌ كبير، كبيرٌ
جدًّا، أُكِنُّه للضابط، وشفقةٌ كبيرة، كبيرة جدًّا،
أُكِنُّها لشخصٍ مُحال إلى الاستيداع، ولكن الضرورة
اضطَرَّتْني إلى نقله إلى حُجرةٍ أخرى. لا تفكِّر في هذا
بعد الآن، يا سيد يوست (ينادي
مُوجِّهًا نداءه إلى الداخل). يا ولَد، أريد
أن أُصلِح الأمر بطريقةٍ أخرى (غلام يدخل) أَحضِر شيئًا من الشراب، السيد
يوست يُريد شيئًا منه، ومن صِنفٍ جيد.
يوست
:
لا تكلِّف نفسَك هذا الجهد يا سيدي. ولتتحوَّل إلى قسم
كل قطرة منه .. ولكن لا حاجة بي إلى القسم، ثم إني لم
أتناول طعامًا حتى الآن.
صاحب الفندق
(للغلام الذي أحضر زجاجةً من الخمر
وكأسًا)
:
هات، انصرِف أنت. هه يا سيد يوست، صنفٌ ممتاز، قوي،
لطيف، مفيد للصحة (يصُبُّ منه في
الكأس ويقدِّمها إليه)، كأس تُصلِح معدةً
أضناها السهر.
يوست
:
كدت أقول لا يحقُّ لي، ولكن لِمَ أُحمِّل صحتي تبعة
وقاحتك؟
(يتناول الكأس ويشرب.)
صاحب الفندق
:
هنيئًا يا سيد يوست.
يوست
(وهو يعيد الكأس)
:
لا بأس، ولكنك مع ذلك وقِح.
صاحب الفندق
:
لا تقُل هذا، لا تقُل هذا. وسارِع بتناول كأسٍ آخر، لا
يمكن الوقوف على ساقٍ واحدة.١
يوست
(بعد أن يشرب)
:
لا بد أن أقول إنها خمرٌ عظيمة، عظيمةٌ جدًّا. أهي من
صُنعك؟
صاحب الفندق
:
لا قدَّر الله. إنها من خمر دانتسج الأصلية.
يوست
:
لو أنني كنتُ أستطيع التملُّق، لتملَّقتُك من أجل شيءٍ
كهذا، ولكني لا أستطيع التملُّق، لا أستطيع إلا أن أُخرِج
ما في قلبي. إنك برغم هذا وقحٌ يا سيدي.
صاحب الفندق
:
هذا ما لم يقُله لي إنسانٌ قَط طيلةَ حياتي. كأسٌ ثالثة
يا سيد يوست؛ فالطيِّبات دائمًا ثُلاثيَّات.
يوست
:
لا بأس (يشرب). صنفٌ
عظيم، صنفٌ عظيم حقًّا، ولكن الحقيقة هي الأخرى شيءٌ عظيم.
إنك وقحٌ يا سيدي.
صاحب الفندق
:
هل كنتُ أسمعُك بهذا الهدوء لو كنتُ فعلًا كذلك؟
يوست
:
نعم؛ فنادرًا ما يغضَب الوقحُ ويثور.
صاحب الفندق
:
هل لكَ في كأسٍ أخرى يا سيد يوست؟ فالحبل إذا طُوِيَ
أربع طياتٍ زاد متانة.
يوست
:
لا، الإفراط هو الإفراط. وماذا يفيدك هذا؟ سأظل على رأيي
حتى آخر نقطة في الزجاجة. أُفٍّ لكَ يا صاحب الفندق، عندك
خمرٌ عظيمة بالغة العظمة، وأخلاقٌ رديئة بالغة الرداءة.
تفعل هذه الفعلة برجلٍ كسيدي، أقام عندك أيامًا وسنين،
وربحتَ منه تالرات٢ كثيرة، ولم يستدِن منك في حياتك هيلرًا
واحدًا، تُخرِج أمتعتَه من حجرته في غيبته لأنه لم يعُد في
سَعةٍ كما كان دائمًا، وتأخَّر في دفع أَجرِ أشهُرٍ قليلة
على الفَور.
صاحب الفندق
:
ذلك لأنني احتجتُ إلى الحجرة حاجةً ماسَّة؟ لأنني
توقَّعتُ أن السيد الرائد كان سيُخلي الحجرة عن طيب خاطر.
لو استطعنا انتظار عودته، انتظارًا كان سيطول، أكان يصِحُّ
لي أن أرُدَّ سيدةً كريمة غريبة أتت إلى باب داري؟ أكان
ينبغي لي أن أدفع طائعًا بلقمةٍ سائغة كهذه إلى حلقومِ
صاحب فندقٍ آخر؟ ثم إنني كنتُ أعتقدُ أنها لن تجدَ لها
مكانًا في فندقٍ آخر؛ لأن الفنادق كلها الآن مزدحمةٌ غاية
الازدحام. أكان يصِحُّ أن أتركَ سيدةً شابة جميلة ظريفةً
كهذه على قارعة الطريق؟ إن سيدَكَ رجلٌ رقيق مهذَّب ولا
يسمح بذلك، ثم ماذا فقَد؟ ألم أُعِدَّ له حجرةً
أخرى؟
يوست
:
في مؤخرة الدار بجوار بُرج الحمام، تُطِل على منظرٍ
يتكوَّن من حيطان الجيران …
صاحب الفندق
:
لقد كان المنظر الذي يُطِل عليه جميلًا قبل أن يسُدَّه
الجار المرتاب بجدار، لكن الحجرة نفسها ظريفةٌ وحيطانها
محلَّاة بورقٍ مُزخرَف …
يوست
:
كانت كذلك في الماضي.
صاحب الفندق
:
لا، ما زال أحد حيطانها محلًّى بالورق المزخرف. وغرفتُكَ
المجاورة لها، يا سيد يوست، ما عيبُها؟ بها مِدفأة، نعم
إنها تبعثُ ببعضِ الدخان في
الشتاء، ولكن …
يوست
:
ولكن شكلها في الصيف جميلٌ جدًّا. إنني أعتقد، يا سيدي،
أنك علاوةً على ما حدث، تعمل على إهانتنا؟
صاحب الفندق
:
هه، هه يا سيد يوست، يا سيد يوست …
يوست
:
لا تُثِر الحَميَّة في رأس السيد يوست وإلا …
صاحب الفندق
:
أأنا الذي أُثير فيه الحمية؟ إن الذي يُثير فيه الحمية
هو خمرُ دانتسج.
يوست
:
ضابط كسيدي! أتظن أن ضابطًا مُحالًا إلى الاستيداع لا
يُعتبَر ضابطًا في مقدوره أن يقطع رقبتَك؟ لماذا كنتم يا
أصحاب الفنادق مهذَّبين أثناء الحرب؟ لماذا كان كل ضابطٍ
في ذلك الوقت رجلًا كريمًا في نظركم، وكان كل جندي شابًا
مخلصًا شجاعًا؟ والآن هل أصابتكُم تلك الكِسْرة الصغيرة من
السلام بالغرور إلى هذه الدرجة؟
صاحب الفندق
:
ولِمَ تثُور الآن يا سيد يوست؟
يوست
:
أُريد أن أثُور.
المشهد الثالث
(فون تلهايم – صاحب الفندق – يوست)
فون تلهايم
(وهو داخل)
:
يوست.
يوست
(يعتقد أن المنادي هو صاحب
الفندق)
:
يوست! هل أصبحنا أصدقاءَ إلى هذه الدرجة؟٣
فون تلهايم
:
يوست.
يوست
:
أعتقد أن اسمي بالنسبة إليك هو السيد يوست.
صاحب الفندق
(وقد لاحظ مَقدَم الرائد)
:
هس! هس! يا سيد، يا سيد، يا سيد يوست، التفِت، إنه سيدك
…
فون تلهايم
:
يوست، أعتقد أنك تتشاجر! بماذا أمرتُك؟
صاحب الفندق
:
آه يا صاحب العزة! تشاجُر، حاشا لله! هل يمكن أن يسمح
عبدُكُم المطيع لنفسه بالتشاجُر مع شخصٍ حظي بنعمة
الانتماء إليكم؟
يوست
:
لو كان لي أن أضربَه على ظهره هذا الذي قوَّسَه التملُّق
حتى أصبح كظهر القطة!
صاحب الفندق
:
إن السيد يوست يُدافِع عن سيده، وفي شيءٍ من الحدة،
ولكنه على حق. إن ذلك ليزيدُ من قدْره في نظري، من أجل ذلك
أراني أُحبُّه.
يوست
:
لو كان لي أن أطأ أسنانَه بقدمي!
صاحب الفندق
:
ولكن من الخَسَارة أنه يثور بلا جدوى؛ لأنني متأكِّد
أنكم يا صاحب العزة، لن تُحِلُّوا بي غضبَكم؛ إذ إنني —
الضرورة — اضطُرِرت.
فون تلهايم
:
كثيرٌ ما قُلتَ يا سيدي. إنني مَدينٌ لك. لقد أخرجتَ
متاعي من الحجرة في غيابي، وإن لك إيجارًا لا بد أن تحصُل
عليه. وعليَّ أن أبحث لي عن مكانٍ آخر. هذا شيءٌ طبيعي
جدًّا.
صاحب الفندق
:
مكان آخر؟ سيادتكم تريدون الخروج من هنا؟ ما أتعَسَني
إذن! ما أشقاني! كلَّا، أبدًا، بل على السيدة أن تُخليَ
الحجرة؛ لأن السيد الرائد لا يستطيع ولا يُريد أن يتركَ
لها حجرتَه؛ فالحجرة حجرتُه هو، وعليها هي أن ترحل؛ فلا
طاقة لي بمساعدتها. سأذهب، يا صاحب العزة …
فون تلهايم
:
لا، أيها الصديق، لا يصِح أن يُبدَل فعلٌ أحمقُ بفعلَين
أحمقَين. لا بد أن تبقى الحجرة للسيدة.
صاحب الفندق
:
وأنتم، يا صاحب العزة، أتعتقدون أنني بسبب عدم الثقة أو
الخوف على مستحقاتي؟ كما لو كنتُ لا أعرف، يا صاحب العزة،
أنكم تستطيعون نقدي حسابي إن أردتُم. إن الكيس المختوم —
الكيس المكتوب عليه خمسمائة تالر صورة الملك، ذلك الكيس
الذي تضعونه في المكتب — موجودٌ في الحفظ والصَّون.
فون تلهايم
:
هذا ما آمُله. كما آمُل أيضًا أن تكون الأشياء الأخرى
كذلك في الحفظ والصَّون. وسوف يتسلَّمها يوست منكَ بعد
تسديد الحساب.
صاحب الفندق
:
حقًّا، لقد تملَّكَني الفزع فعلًا حين وجدتُ الكيس. وقد
كنتُ دائمًا أعتبركم، يا صاحب العزة، رجلًا منظمًا حريصًا،
لا يُقدِم أبدًا على صَرفِ كل ماله، ولكن مع ذلك لو أنني
توقَّعتُ وجود أموالٍ نقديةٍ لك في المكتب …
فون تلهايم
:
لتصرَّفت معي تصرفًا أكثر أدبًا. أنا أفهمك جيدًا. انصرف
الآن، يا سيدي، ودعني؛ فإني أُريد أن أتحدث مع
خادمي.
صاحب الفندق
:
لكن يا سيدي …
فون تلهايم
:
تعال، يا يوست، سيادتُه لا يودُّ أن يسمح لي بأن أقول
لك، نحن في داره، ما عليك أن تفعله.
صاحب الفندق
:
لا، يا سيدي، ها أنا ذا أنصرف. بيتي كلُّه في
خدمتكم.
المشهد الرابع
(فون تلهايم – يوست)
يوست
(يضرِب الأرض بقدمه ويبصُق وراء صاحب
الفندق)
:
أُف!
فون تلهايم
:
ماذا بك؟
يوست
:
إني أختنقُ من الغضَب.
فون تلهايم
:
أيرجعُ هذا إلى ثَوَرانٍ في دمك؟
يوست
:
وأنتَ لم أعد أعرفُك، إنني أصبحتُ أُوقن كل اليقين أنكَ
الملاكُ الحارسُ لهذا الوغد الفَظ. هناك مشانقُ وسيفٌ
للإعدام وعجلةُ تعذيب، ولكني أتمنى أن أخنقَه بيدي هذه،
وأن أمزِّقه إرْبًا إرْبًا بأسناني تلك.
فون تلهايم
:
أيها الحيوان المتوحِّش!
يوست
:
الحيوان المتوحِّش أفضل من إنسانٍ على هذا النحو.
فون تلهايم
:
ولكن ماذا تريد؟
يوست
:
أريد منك أن تقدِّر عظيم الإهانة التي لحقَت بك.
فون تلهايم
:
ثم ماذا؟
يوست
:
ثم تنتقم. لا، هذا لا يليق؛ فإن ذلك الوغد وضيعُ الشأن
بالنسبة لك.
فون تلهايم
:
أو أن أُكلِّفكَ أنت بالانتقام لي؟ لقد طرأَت لي هذه
الفكرة من أول الأمر، طَرأ لي أنه لا يصحُّ أن يراني
بعينَيه مرةً أخرى وأن يتلقَّى أجره من يدَيك أنت؛ فأنا
أعرف أنك تستطيع أن تقذف إليه بحفنةٍ من المال ووجهُك
يعبِّر عن الاحتقار له.
يوست
:
هكذا؟ انتقامٌ رائع!
فون تلهايم
:
ولكن ما زال علينا أن نؤجِّل هذا الانتقام بعض الوقت؛
فلم يعد لديَّ هيلر واحد نقدًا، ولا أعرف سبيلًا للحصول
على أي مال.
يوست
:
أليس عندك مالٌ سائل؟ ما هذا الكيس ذو الخمسمائة تالر
الذي وجدَه صاحب الفندق في مكتبك؟
فون تلهايم
:
مبلغٌ أُعطيَ لي لأحفظَه أمانةً عندي.
يوست
:
عسى ألا يكون هذا المبلغ هو المائة بستولة٤ التي أحضَرها إليك حارسُك القديم منذ أربعة
أسابيع أو خمسة؟
فون تلهايم
:
بل هو ذلك المبلغ بعينه، ذلك الذي أحضره باول فرنر.
ولِمَ لا؟
يوست
:
ولكن ألم تستخدمه إلى الآن يا سيدي، لا شكَّ أن لك أن
تفعل بها ما شئت، على مسئوليتي أنا.
فون تلهايم
:
حقًّا؟
يوست
:
نعم، لقد سمع فرنر مني كيف يماطلك المماطلون في خزينة
الدولة فيما تقدَّمتَ به إليها من طلبات، سمع …
فون تلهايم
:
أنني سأصبح بكل تأكيد شحاذًا، إن لم أكن قد أصبحتُ
شحاذًا بالفعل. شكرًا لك، يا يوست؛ فإن هذا الخبر قد جعل
فرنر يقتسم معي نصيبه من الفقر. لكم يسُرُّني أنني اكتشفتُ
ذلك عن طريق التخمين. اسمع يا يوست، قدِّم لي كشفًا بحسابك
حالًا؛ فلا بد أن نفترق.
يوست
:
كيف ذلك؟ ماذا تقول؟
فون تلهايم
:
اسكُت. هناك شخصٌ قادم.
المشهد الخامس
(سيدة في ملابس الحداد – فون تلهايم –
يوست)
السيدة
:
معذرة، يا سيدي.
فون تلهايم
:
عمَّن تبحثين يا سيدتي؟
السيدة
:
أبحثُ عن الرجل الكريم الذي أتشرَّف بالتكلُّم معه، ألم
تعُد تعرفني؟ أنا أرملة نقيب الفرسان السابق الذي كان تحت
إمرتك.
فون تلهايم
:
ربَّاه، سيدتي، لكم تغيَّرت!
السيدة
:
لقد قمتُ لتوي من فراش المرض الذي رماني فيه حُزني على
فقد زوجي. لا بد أنني سأُثقِل عليك في هذا الوقت المبكِّر.
أنا الآن مسافرة إلى الريف لآوي إلى أول من عرض عليَّ
مكانًا ألوذ به، إلى صديقة لي، طيبة القلب وإن كانت مثلي
سيئة الحظ.
فون تلهايم
(إلى يوست)
:
اذهب أنت، دعنا وحدنا.
المشهد السادس
(السيدة – فون تلهايم)
فون تلهايم
:
تحدثي على حريتك يا سيدتي الكريمة، ولا تخجلي أمامي من
محنتك. هل يمكنني أن أقدِّم لك أية خدمة؟
السيدة
:
سيدي الرائد …
فون تلهايم
:
إني أَرثي لك، يا سيدتي الكريمة. هل يمكنني أن أقدِّم لك
خدمة؟ إنك تعلمين أن زوجك كان صديقي. أقول كان صديقي، وقد
كنت دائمًا ضَنينًا في منح هذه الصفة.
السيدة
:
ومن يعلم خيرًا مني أنك كنتَ خليقًا بصداقته، وأنه كان
هو أيضًا خليقًا بصداقتك؟ ولا شك أنك كنتَ ستُصبِح آخر
فكرة طرأَت على خاطره، وكان اسمك سيُصبِح آخر نبرة تنطق
بها شفتاه المُحتضَرتان، لو لم تمنح الطبيعة القوية ذلك
الامتياز الحزين لابنه التعِس وزوجتِه التعِسَة.
فون تلهايم
:
كفى يا سيدتي. كم كنتُ أُحب أن أشارككِ البكاء اليوم!
ولكن لم تعد لديَّ دموع، خفِّفي الوطء عليَّ فإنكِ قد
التقيتِ بي في ساعةٍ يسهُل فيها دفعي إلى الثورة على
العناية. أي مارلوف! أي صديقي المخلص! عجِّلي سيدتي، بم
تأمرين؟ لو كنتُ أستطيع أن أخدُمك، لو كنتُ …
السيدة
:
ليس لي أن أرحل قبل أن أنفِّذ آخر وصية أوصى بها إليَّ.
لقد تذكَّر قبل موته بقليل أن عليه دينًا لك، وأنه يموت
ولا يُسدِّده، وقد توسَّل إليَّ أن أُسدِّد هذا الدين من
أول مبلغٍ أتلقَّاه نقدًا. وقد بعتُ عربتَه وأتيتُ الآن
لكي أُسدِّد الصك الذي عليه.
فون تلهايم
:
ماذا يا سيدتي الكريمة، أمن أجل هذا قَدِمت؟
السيدة
:
نعم من أجل هذا، فاسمح لي أن أُعيد لك المبلغ.
فون تلهايم
:
لا تفعلي، يا سيدتي. مالروف مدين؟ هذا غيرُ ممكِن، دعيني
أراجع دفتري (يُخرِج دفترًا من
جيبه ويبحث) لا أجد شيئًا.
السيدة
:
لا بد أنكَ وضعتَ الصكَّ في مكانٍ ما ثم نسيته، ولكن
الصك في حد ذاته لا يقدِّم ولا يؤخِّر. اسمح لي …
فون تلهايم
:
لا يا سيدتي، ليس من عادتي أن أنسى مكانَ مثل هذه
الأشياء، فإن كنتُ لا أجد الصك، فمعنى هذا أنه لم يكن
لديَّ صكٌّ أبدًا أو أن الصكَّ قد سُدِّد؛ ولذا أعدتُه إلى
صاحبه.
السيدة
:
سيدي الرائد …
فون تلهايم
:
بكل تأكيد، يا سيدتي الكريمة، ليس في ذمة مارلوف أي دين
لي. ولا يمكنني أن أتذكَّر مطلقًا أنه قد استدان مني شيئًا
ما. على العكس يا سيدتي، لقد تركني مدينًا له؛ فإنني لم
أستطع أن أفعل شيئًا أؤدي به حق رجلٍ شاركني الشقاء
والسعادة، شاركني الشرفَ والخطَر ست سنوات. لكني لن أنسى
أنه ترك وراءه ابنًا، سيكون ابنُه ابنًا لي عندما
يُمكِنُني أن أصير له بمثابة الأب. إنما الاضطراب الذي
انتهيتُ إليه الآن هو …
السيدة
:
أيها الرجل الكريم النفس، لا تحطَّ من شأني. خذ المبلغ
يا سيدي الرائد، حتى يستريح بالي على الأقل.
فون تلهايم
:
وماذا تطلبين لراحة بالك أكثر من تأكيدي أن هذا المبلغ
ليس من حقي؟ أم لعلكِ تريدين مني أن أسرق مال ابن صديقي
اليتيم وهو لم يبلُغ أشُدَّه بعدُ. إنها سرقةٌ يا سيدتي،
سيكون أخذ هذا المال سرقةً بالمعنى الحقيقي للكلمة. المال
ماله، فاستثمريه من أجله.
السيدة
:
إنني أفهمك، وأرجو أن تَعذرني فإنني لا أعرف كيف أتقبَّل
المكارم. لكن من أين لك أن تعرف أنت أيضًا أن الأم تصنع من
أجل ابنها أكثر مما تصنع من أجل نفسها؟ سأذهب الآن
…
فون تلهايم
:
اذهبي يا سيدتي، اذهبي. رافقَتكِ السلامة والسعادة. ولست
أرجوك أن تبعثي إليَّ بأخبارك؛ فإن أخبارك قد تصلني في وقت
لا يمكنني فيه الاستفادة منها، ولكن هناك أمرٌ آخر، لقد
أوشكتُ أن أنسى أهم شيءٍ يتعلق بك، إن لمارلوف الحق في
مطالبة خزينة كتيبتنا السابقة بمستحقَّاته، ومستحقَّاتُه
قانونية مثل مستحقَّاتي تمامًا، فإن صَرفَتْ لي مستحقاتي،
تعين عليها صرفُ مستحقاته أيضًا، وأنا ضامنٌ لذلك.
السيدة
:
آه! سيدي، لا، الأفضل أن أسكُت، إن عقد النية على فعل
حسناتٍ مستقبلة يساوي في نظر السماء القيامَ بها بالفعل،
فتقبَّل أجركَ من السماء ومن دموعي (تخرج).
المشهد السابع
(فون تلهايم)
فون تلهايم
:
أيتها المرأة الشجاعة المسكينة! لا ينبغي لي أن أنسى
تمزيق الورقة (يُخرج من دفتره
الصغير أوراقًا يمزِّقها)فمن يضمن لي أن ضعفي
لن يسوِّل لي يومًا استخدامها؟
المشهد الثامن
(يوست – فون تلهايم)
فون تلهايم
:
أأنتَ هنا؟
يوست
(وهو يجفِّف عينَيه)
:
نعم.
فون تلهايم
:
هل بكَيتَ؟
يوست
:
كنتُ أُسجِّل حسابي في المطبخ، وكان المطبخ مليئًا
بالدخان. ها هو ذا حسابي يا سيدي.
فون تلهايم
:
هاتِه.
يوست
:
ترفَّق بي يا سيدي، وإن كنتُ أعلم أن الناس لا يترفَّقون
بك، لكن …
فون تلهايم
:
ماذا تريد؟
يوست
:
إن توقُّعي أن أموتَ أهونُ عليَّ من توقُّعي
فِراقَك.
فون تلهايم
:
لم يعد في استطاعتي أن أستخدمك؛ فقد أصبح عليَّ أن
أتعلَّم قضاء أموري بنفسي دون خدم (ينشر قائمة الحساب ويقرأ)
«ما على السيد الرائد لي؛ مرتب ثلاثة شهور ونصف شهر، ومرتب
الشهر الواحد ستة تالرات، فيكون المجموع واحدًا وعشرين
تالرًا، مصروفات نثرية من أول هذا الشهر تالر واحد وسبعة
جروشنات وتسعة فنكات»، حسن، أوافق على دفع راتب الشهر
الجاري كاملًا.
يوست
:
الصفحة الثانية يا سيدي الرائد …
فون تلهايم
:
أهناك شيء آخر؟ (يقرأ) «ما أدين به للسيد الرائد: دفَع
للطبيب الجرَّاح من أجلي خمسة وعشرين تالرًا، ودفع تسعة
وثلاثين تالرًا لعلاجي ورعايتي أثناء استشفائي، ودفع بناءً
على رجائي مبلغ خمسين تالرًا إلى أبي الذي حُرقَت ممتلكاته
ونُهبَت، علاوةً على حصانَين أهداهما إليه من الغنيمة،
فيكون المجموع الكلي مائة وأربعة عشر تالرًا، يُخصم منها
اثنان وعشرون تالرًا وسبعة جروشنات وتسعة فنكات، فيبقى
عليَّ للسيد الرائد واحد وتسعون تالرًا وستة عشر جروشنًا
وثلاثة فنكات». إنك مجنون!
يوست
:
بل إنني أعتقد أنني مدينٌ لك بأكثر من ذلك، ولكن ذكري
لديوني كلها لا معنى له إلا تضييع المِداد هباءً؛ إذ لا
قدرة لي على سدادها، فإذا أردتَ الآن أن تخلع عني حُلَّة
الخدمة، تلك التي لم أحصل عليها هي الأخرى بكسبي، فخيرٌ لي
أن أتمنى لو تركتَني أموت في المستشفى.
فون تلهايم
:
ماذا تظن فيَّ؟ إنك لا تدين لي بشيء، وسوف أُوصي بك أحد
معارفي، وستصير حالُكَ عنده خيرًا مما عندي.
يوست
:
أترى أني لا أدينُ لك بشيء ومع ذلك تريد أن
تنبذَني؟
فون تلهايم
:
لأنني لا أريد أن أصير مدينًا لك بأي شيء.
يوست
:
لهذا؟ لهذا فقط؟ من المؤكَّد أنني لستُ مدينًا لك بشيء،
ومن المؤكَّد أيضًا أنه لا يمكن أن تصير مدينًا لي بشيء،
وكذلك لا بد أن يكون من المؤكد أنك لن تنبذني. افعل ما
شئتَ يا سيدي الرائد، سأبقى عندك، لا بد أن أبقى
عندك.
فون تلهايم
:
وصلابةُ رأيك وعنادُك وطبيعتُك الثائرة العنيفة تجاه كل
إنسان، أتعتقد أن كل ذلك لا يعني شيئًا بالنسبة إليك.
وفرحُك اللئيم لما يُصيب الآخرين من أذًى، وحُبك
للانتقام؟
يوست
:
قَبِّحْ فيَّ ما شئت، فلن أتصوَّر نفسي مع هذا أسوأ من
كلبي؛ فقد كنتُ يومًا في الشتاء الماضي أسير ساعة الغروب
على القناة وسمعت أنينًا، فنزلتُ واتجهتُ إلى مصدر الصوت،
واعتقدت أنني أُوشِك أن أنقذ طفلًا، فإذا بي أُخرِج من
الماء جَروًا، فقلتُ في نفسي: لا بأس. لكن الكلب ظل يتبع
خطاي ولستُ من مُحبِّي الكلاب، فطَردتُه، لكن طردي لم
يُجدِ نفعًا، فانهلتُ على الكلب ضربًا حتى أُبعدَه عني،
فلم يُجدِ ضربي شيئًا، فلما جن الليل لم أدَعْه يدخُل
حجرتي، فظل على الباب قابعًا عند العتبة. وكان كلما اقترب
مني ركلتُه بعيدًا، فيصيح وينظر إليَّ ملوِّحًا بذنَبه.
وبالرغم من أنه لم يكن قد تلقَّى من يدي كِسرة خبز، فإنه
كان لا يُطيع غيري ولا يسمح إلا لي بلمسه. وكان يتنطَّط
أمامي ويعرض عليَّ دون طلبٍ مني أفانينَه. صحيح أنه كلبٌ
قبيح، ولكنه كلبٌ طيب جدًّا. ولو ظل على هذه الحال فسوف
أكُفُّ عن بُغضي للكلاب.
فون تلهايم
(على جانب)
:
كما سأكُف أنا عن كرهه! لا، لا وجود لبشرٍ مجرَّدين
تمامًا من الإنسانية! يوست، سنظل معًا.
يوست
:
بكل تأكيد! وكنتَ تريد أن تقضيَ أمورك دون خدَم؟ إنك
تنسى جراحَك، وتنسى أنكَ لا تستطيع الاعتماد إلا على ذراعٍ
واحدة. إنك لا تستطيع ارتداء ملابسك بمفردك؛ فأنا لا غنى
عني لك، إنني — دون تمجيدٍ لذاتي، يا سيدي الرائد — خادمٌ
إذا تأزَّمَت الأزمة فوق تأزُّمها، خادمٌ يستطيع أن
يتسوَّل وأن يسرق من أجل سيده.
فون تلهايم
:
يوست، سنبقى معًا.
يوست
:
حسن!
المشهد التاسع
(خادم – فون تلهايم – يوست)
الخادم
:
هس! أيها الزميل!
يوست
:
ماذا هنالك؟
الخادم
:
هل يمكنكَ أن تدُلَّني على الضابط الذي كان حتى أمسِ
يقيم في هذه الحجرة؟
(يشير إلى الناحية التي أتى منها.)
يوست
:
هذا أمرٌ يسير بلا شك، بماذا أتيتَ له؟
الخادم
:
بما نأتي به عادةً عندما لا نأتي بشيء، بتحية؛ فقد سمعَت
سيدتي أنه أُكره بسببها على ترك الحجرة، وسيدتي تعرفُ ما
يصِح وما لا يصِح من أمور الحياة، لهذا أرسلَتني لأُقدِّم
له المعذرة.
يوست
:
إذن فقدِّم له المعذرة. ها هو ذا.
الخادم
:
من هو؟ وبأي لقبٍ يُنادَى؟
فون تلهايم
:
يا صديقي، لقد سمعتُ ما أتيتَ من أجله. إن ذلك من سيدتك
أدبٌ زائد عن الحد، أَقدُره قَدْره، بلِّغها تحياتي. ما
اسمها؟
الخادم
:
اسمها؟ ينادونها الآنسة الكريمة.
فون تلهايم
:
واسم عائلتها؟
الخادم
:
لم أسمعه حتى الآن، ولم أسأل عنه؛ فهذا ليس من شأني.
وأنا قد رتَّبتُ أمري على الانتقال من سيد إلى سيد كل ستة
أسابيع على الأكثر، فلا حاجة بي إلى معرفة أسمائهم.
يوست
:
أحسَنت، يا زميلي!
الخادم
:
وقد دخلتُ خدمة هذه السيدة منذ بضعة أيام في دريسدن. وهي
هنا، على ما أعتقد، للبحث عن خطيبها.
فون تلهايم
:
كفى يا صديقي، أردتُ أن أعرف اسمَ سيدتك، ولم أطلُب
معرفة أسرارها. انصرف!
الخادم
:
أيها الزميل، إن سيدكَ هذا لا يصلُح سيدًا لي!
المشهد العاشر
(فون تلهايم – يوست)
فون تلهايم
:
اعمل يا يوست ما في وسعك لكي نخرج من هذا البيت. إن أدب
هذه السيدة يؤرِّقني أكثر مما تُثيرني وقاحةُ صاحب الفندق.
خذ هذا الخاتم، آخر قطعةٍ نفيسة بَقيَت لي، وما كانت
أتوقَّع أبدًا أني سأستخدمها على هذا النحو! ارهنه، خذ فيه
ثمانين جنيهًا ذهبًا صورة الملك فريدريش، ولن يزيد حسابُ
صاحب الفندق عن ثلاثين. ادفع له حسابه وانقل متاعي. نعم،
إلى أين؟ إلى حيث تريد، وخير الفنادق أرخصُها، ثم قابلني
في المقهى المجاور. سأذهب أنا الآن، أما أنت فعليك أن
تُحسِن قضاء هذه المهمة.
يوست
:
لا تقلَق يا سيدي الرائد!
فون تلهايم
(يعود)
:
وبوجهٍ خاص لا تنسَ مسدَّساتي المعلَّقة خلف
السرير.
يوست
:
لن أنسى شيئًا.
فون تلهايم
(يعود ثانيًا)
:
شيءٌ آخر، خذ لي معكَ كلبكَ أيضًا، أسمِعْت، يا
يوست!
المشهد الحادي عشر
يوست
:
الكلب نفسه لن يرغب في البقاء هنا، وسيتبعنا من تلقاء
ذاته. هيه! هذا الخاتم الثمين أيضًا كان لا يزال في حوزة
سيده؟ كان يضعه في جيبه بدلًا من إصبعه؟ يا صاحب الفندق
الطيب، إننا لسنا من الفقر على نحوِ ما نبدو. وأنتَ أيها
الخاتم العزيز الجميل سأرهنُكَ لديه، لديه هو! وأنا أعرف
أنه سيغتاظ لأنك لن تُستهلَك عن آخركَ في داره! آه!
المشهد الثاني عشر
(باول فرنر – يوست)
يوست
:
هذا أنت يا فرنر! مرحبًا بك يا فرنر! أهلًا بك في هذه
المدينة!
فرنر
:
القرية الملعونة! لا يمكنني أن آلَفَها ثانية، شيءٌ
مفرح، يا أولاد، شيءٌ مفرح، معي أموالٌ طازجة! أين
الرائد؟
يوست
:
لا بد أن يكون قد قابلك؛ فإنه نزل السُّلَّم
لتَوِّه.
فرنر
:
لقد أتيتُ من السلم الخلفي. هه، كيف حالُه؟ أردتُ أن
أحضُر إلى هنا في الأسبوع الماضي، ولكن …
يوست
:
هه؟ فماذا أقعدَكَ إذن؟
فرنر
:
يوست، هل سمعت بالأمير هيراقليوس؟
يوست
:
هيراقليوس؟ لا علم لي به.
فرنر
:
ألا تعرفُ بطَل الشرق العظيم؟
يوست
:
أعرفُ حكماء الشرق الذين يدورون مع النجم في رأس
السنة.
فرنر
:
يا ابنَ آدم، يُخيَّل لي أنكَ لا تقرأ الأخبار ولا
الكتاب المقدَّس؟ ألا تعرف الأمير هيراقليوس؟ الرجل الشجاع
الذي اجتاح فارس ويستعد الآن لنسف الباب العالي العثماني
خلال الأيام القادمة؟ نحمد الله على أن الحرب ما زالت
موجودةً في مكانٍ ما من
الأرض. وقد طال الأمدُ على أملي في أن تعود الحرب إلى
الاشتعال هنا، ولكن ها هم أولاء يجلسون ويعالجون جراح
جلودهم. لا، لقد كنتُ جنديًّا، ولا بد أن أُصبِح جنديًّا
من جديد! باختصار (وهو يتلفَّت
خجلًا بحثًا عما إذا كان هناك من يَسترِق
السمع) بيني وبينك، يا يوست، سأرحل إلى فارس
لأشترك في بضعِ معاركَ ضد الترك، تحت لواء صاحب السمو
الأمير هيراقليوس.
يوست
:
أنت؟
فرنر
:
أنا، أنا كما تراني أمامك! لقد حارب أجدادُنا الأتراكَ
بهمة، وعلينا، إن كنا حقًّا مسيحيين مخلصين، أن نفعل مثلما
فعلوا. طبعًا أنا أعرف أن معركةً ضد الترك لا يمكن أن يكون
لها من المتعة نصفُ ما لمعركةٍ ضد الفرنسيين، ولكنها أعظمُ
أَجرًا في الدنيا والآخرة، لقد رصَّع لك التركُ سيوفهم
بالجواهر.
يوست
:
لا، لا يمكن أن أسير مَيلًا واحدًا لكي تُقطع رأسي بسيفٍ
من هذا القبيل. وأنتَ لستَ من الجنون بحيث تتركُ مكانكَ في
محكمة العمدية الجميلة.
فرنر
:
سآخذها معي. هل لاحظتَ شيئًا؟ لقد بيعَت المزرعة
الصغيرة.
يوست
:
بيعَت؟
فرنر
:
هس! هذه مائة دوكات تلقَّيتُها بالأمس من الصفقة، وها
أنا ذا أُحضرها إلى الرائد.
يوست
:
وما عساه يفعل بها؟
فرنر
:
ما عساه يفعل بها؟ يأكلها، يلعب بها، يشرب بها، يصرفها
كما يشاء. لا بد أن يحصل الرجل على مال، وكفاه أنهم يؤذونه
في ماله، ولكني لو كنتُ مكانه لعرفتُ ما أفعل، لقلتُ في
نفسي: ليأخذ الجلاد جميعَ مَن هنا، ولأذهب مع باول فرنر
إلى فارس! بسرعة البرق! ولا بد أن الأمير هيراقليوس قد سمع
بالرائد تلهايم، وإن كان لم يسمع بحارسه القديم باول
فرنر.
أما موضوع بيوت القطط …
أما موضوع بيوت القطط …
يوست
:
هل أحكيه لك؟
فرنر
:
أنت الذي تحكيه لي؟ إني ألاحظ أن تغيرًا لطيفًا قد مس
عقلك، فلست أريد أن أُلقي بلآلئي إلى الخنازير. خذ هذه
المائة دوكات، وأعطها للرائد. قل له أنْ يحفظها لي عنده.
وسأذهبُ الآن إلى السوق؛ فقد أرسلتُ إليها بالتين من
الشوفان، وسأُعطي الرائد ما سأحصُل عليه ثمنًا
لهما.
يوست
:
فرنر، إن ما نويتَ فعلَه هو الخير تقوم به عن طيبِ خاطر،
لكنا لا نُريد مالَك، فاحتفظ بدوكاتك، أما بستولاتك المائة
فيمكنك أن تستعيدها كاملةً متى شئت.
فرنر
:
هكذا؟ أما زال عند الرائد مال؟
يوست
:
لا.
فرنر
:
هل اقترض من البعض مالًا؟
يوست
:
لا.
فرنر
:
ومِمَّ يعيشُ إذن؟
يوست
:
نطلب ممن نتعامل معهم أن يُعطونا على الحساب، وعندما
يرفضون ويقذفون بنا خارج الدار، نرهنُ ما بقي عندنا،
ونستأنف عيشنا. اسمع يا باول، لا بد أن نُوقِع صاحب الفندق
في شَرَك.
فرنر
:
هل وضع في طريق الرائد شيئًا؟ أنا معك هنا.
يوست
:
ما رأيُكَ لو ترصَّدْنا له ليلًا عند عودته من الحانة
فأمسكنا به وضربناه ضربًا مبرِّحًا؟
فرنر
:
ليلًا؟ ترصدنا له؟ اثنان أمام واحد؟ ليس هذا بالأمر
المقبول.
يوست
:
أو لو حرقنا داره على رأسه؟
فرنر
:
تخريب وحرق؟ يا رجل، من يسمعك يظن أنكَ كنتَ حمَّالًا لا
جنديًّا، أُف!
يوست
:
أو لو جعلنا ابنتَه عاهرة؟ وإن كانت دميمةً شديدة
الدمامة.
فرنر
:
أوه، لا بد أنها كذلك منذ وقتٍ طويل، ومهما يكن فلستَ
بحاجة لإتمام هذا الأمر إلى مُساعِد، ولكن ماذا بك؟ ماذا
حدث؟
يوست
:
تعال، ستسمع عجبًا؟
فرنر
:
لا شَك أن الشيطان قد عَمِل عَملَه معك.
يوست
:
تمامًا، تعال.
فرنر
:
الأحسن! أن تذهب إلى فارس، إلى فارس!
١
يعني كما أنه لا يصح أن يقف الإنسان على رجلٍ
واحدة، كذلك لا يصح أن يكتفي الشارب بكأسٍ واحدة،
ثم يذكُر صاحب الفندق أمثلةُ أخرى حتى يشرب يوست
ثُلاثَ ورُباعَ (المترجم).
٢
التالر عملةٌ فضية (كالدينار) والهيلر عُملة
نُحاسية (كالمليم) والبستولة — وسيرِد ذكرها فيما
بعد — عُملةٌ ذهبية من مكرَّرات التالر. كذلك
سيرِد ذكر أنواعٍ من الجنيهات الذهبية. باسمه مجرد
دون «يا سيد …» (المترجم).
٣
يعني أصدقاءَ رُفِعَتِ الكُلفة بينهم، فينادي
الواحد الآخر باسمه مجردًا دون «يا سيد …»
(المترجم).
٤
سبق أن أشرنا إلى أن البستولة عُملةٌ ذهبية من
ذلك العصر. (المترجم)