الخطبة
وما كادت تفكر في ذلك حتى رأت جوهرًا في وسط القاعة وقد أمسك أباها حمدون بيده كأنه يقدمه إلى المعز، وهو يقول: «أقدم لمولانا أمير المؤمنين الأمير حمدون صاحب سجلماسة صديقنا الجديد.»
فنظر المعز إليه وابتسم ابتسام الملوك وقال: «أهلًا بصديقنا … أرجو أن لا يكون في خاطره شيء من نحونا.»
فأسرع حمدون وترامى بين يدي المعز كالمستغيث، وقد فعل ذلك مبالغة بالتزلُّف وقال: «لقد أسعدنا الحظ بهذه الصداقة وهي شرف لنا ولو عرفنا مناقب الإمام من قبل لَجئناه بغير حرب.»
فأنهضه المعزُّ بيده.
وأشار إليه أن يجلس بجانبه على وسادة وهو يرحب به ويبتسم، وأشار إلى جوهر أن يقعد فقعد وهو مسرورٌ من نجاح مهمته في مصلحة الدولة بتقريب هذا الأمير للطاعة؛ لأنه صاحب جاه واسع وحزب كبير.
جلس حمدون وهو يظهر التأدُّب بحضرة المعز لكن عينيه كانتا تجولان خلسةً في أطراف القاعة لا تستقران على حال كأنهما عينا لص. على أنه كان في وجهه هيبة الأمراء.
أما لمياء فلما رأت والدها هناك سُرت لتقربه من المعز؛ لأنها كانت تعلم ما في خاطره عليه وأنه لم يكن أثقل على قلبه من ذلك الأسر. فسرها أولا أنه رضي بإرسالها إلى بيت الخليفة وزاد سرورها أنه تقرب منه. وهي تود ذلك من جملة وجوه أهمها اعتقادُها الكرامة بالمعز؛ لأنه مِن نسل فاطمة الزهراء وهي حسنة الاعتقاد بالشيعة. وإنما كان همها بعد ذلك أن يأتي سالم ويتقرب إلى المعز فيتم لها السرور. وان كانت من فطرتها عزيزة الجانب ميالة إلى الاستقلال وقد حاربت في سبيله ولم تسلم إلا قهرًا. لكنها لم تكن راضية عن أعمال والدها فإن بين أخلاقها وأخلاقه بونًا عظيمًا. وقد لقيت من المعز وامرأته كل رعاية وإكرام فوَطَّنَت النفس على التفاني في مصلحتهما وإنما ينقُصُها العثور على سالم وإقناعه بالتسليم معها. ومع علمها بصعوبة تسليمه كانت تعتقد أنها تقدر أن تتغلب عليه بالدالة والبرهان.
أما المعز فالتفت إلى جوهر لفتةَ صديق معجب بصديقه وقال: «يسرني كثيرًا أن تجتمع كلمة شيعتنا على المطالبة بحقوقنا.»
فقال جوهر: «إن ذلك هين بتوفيق مولانا — أعزه الله — وأنا أعدُّ تقريب أمير سجلماسة الباسل فألًا مباركًا؛ لأنه رجل حرب وله أعوان يتفانون في نصرته، فبمثله يعز الملك.»
فقال حمدون: «إني أُفاخر سائر الأمراء بهذه الحظوة بين يدي أمير المؤمنين وقد أصبحت الآن سيفًا من سيوفه أناضل عنه إلى آخر نسمة من حياتي، أقول ذلك عني وعن رجال قبيلتي.»
فابتسم المعز وقال: «إنك إذا فعلت ذلك إنما تنصر الحق كما أنصرُهُ أنا. وإن إمامتي على رجالي لا تميزني عنهم بشيء من مرافق الحياة. بل أنا أكثرُهُم تعبًا وسهرًا كما ترى مما بين يدي من الأعمال، إني أعمل بيدي ما لا يعمله صاحب بغداد ولا صاحب قرطبة. أنظر في كل شيء بنفسي، لا أقول ذلك افتخارًا ولكنني أقول الحق فما أنا إمامكم إلا بما خصني به الله من النسب الطاهر وأما فيما خلا ذلك فأنا واحد منكم.»
فقال حمدون — وهو يظهر الإخلاص: «إني أحمد الله بما من علي به من نعم أمير المؤمنين وسيرى مني ما تقر به عينه وتنبسط نفسه.»
فأبرقت أسرة جوهر فرحًا بنجاح مسعاه، ونظر إلى المعز نظرةً فهم المعز مراده منها، فالتفت إلى حمدون لفتة تودد وقال: «وما أنا راضٍ لأمير سجلماسة بما أردته لغيره من الأمراء المقربين. بل أنا أحب أختصه بإكرام لم ينله سواه. أنت تعلم منزلة قائدنا جوهر حامي حمى هذه الدولة. إنه صاحب المنزلة الأُولى عندنا فنحب أن نزيد أسباب القُربى بينك وبينه. وهي قُربى لنا أيضًا.»
فأدرك حمدون غرضه ولكنه تجاهل، وقال: «إن أمر مولانا مقبولٌ على الرأس والعين … فليأمرْ بما يراه.»
قال: «نحب أن نخطب ابنتك لمياء إلى الحسين بن قائدنا جوهر وهو من خيرة الشبان، فهل توافقني على ذلك؟»
فبادر حمدون إلى الجواب بلهفة وقال: «إن هذا شرف عظيم لنا يا سيدي … إن لمياء لا تستحق هذه النعمة؛ لأن جوهرًا حفظه الله قدوة القواد، وإن لمياء جاريةُ أمير المؤمنين يضعها حيثما شاء … لأمير المؤمنين الأمر ولنا الطاعة.»
وكانت لمياء وهي تسمع كلامهم من وراء الستر تخاف أن يفضي الحديث إلى هذه الغاية فلما سمعت اتفاقهما على الخطبة أجفلت وارتبكت والتفتت إلى أم الأمراء لفتة مستغيث. فضمتها إلى صدرها ولم تزد. فرفعت لمياء رأسها لتنظر في عينَي أم الأمراء لعلها تفهم مرادها من ذلك التحبب فرأتها تضحك ضحك من ظفر بغنيمة. فاشتبه عليها أمرها وهي لا تدري ماذا تعمل وأخذتها الرعدة وترقرق الدمع في عينيها.
فهمست أم الأمراء في أذنها قائلة: «لم تقبلي ذلك الطلب مني فها قد اتفق عليه والدك وأمير المؤمنين فهل من سبيل إلى الرفض؟»
فأجابتها لمياء بهز رأسها هز الإنكار ولسان حالها يقول: «إني لا أزال على عزمي.»
فأشارت أم الأمراء بسبابتها على فمها: «إن اصبري الآن وسنرى.»
فسكتت وإذا هي تسمع المعز يقول: «بارك الله فيك، إني أهنئ ابن قائدنا بهذه الفتاة كما أهنئها به؛ لأنه من خيرة الشبان فعسى أن تكون راضية بذلك.»
فقال حمدون: «إنها لا شك راضية … كيف لا ترضى بما رضي به لها أمير المؤمنين ووافق عليه والدها؟»
فلم تعد لمياء تصبر على سماع ذلك فنهضت تريد الانزواء؛ نفورًا من ذلك الحديث فأمسكتها أم الأمراء وأجلستها. فأطاعت وسكتت وهي تكاد تتميز غيظًا ولا تعلم ما تعمل.
أما المعز فتزحزح من مجلسه إشارة للصرف. فوقف جوهر وحمدون واستأذنا بالانصراف فأذن لهما وهو يقول: «نترك تعيين وقت العقد لقائدنا ونحب أن يكون ذلك في حضرتنا إكرامًا للعروسين.»
انصرفا وتركا لمياء على مثل الجمر وقد جمد الدمُ في عروقها وتولتها الدهشةُ وحق لها ذلك؛ فإنها مع شدة تعلقها بسالم لا ترى مندوحةً عن طاعة والدها وأمير المؤمنين.