أبو حامد
وكان ذلك المعسكر خيامًا مضروبة أكبرها فسطاط الأمير فلما دنت من الفسطاط صاح بها رجل من الواقفين للحراسة: «من القادم؟»
فظلت على تنكرها وقالت: «رسولٌ من أمير المؤمنين إلى الأمير حمدون.»
فنظر في أثوابها فحسبها غلامًا صقلبيًّا فدخل ليستأذن لها بالدخول.
وكان حمدون قد عاد في ذلك بعد مثوله بين يدي الخليفة وصدرُهُ مملوءٌ بالأماني واختلى بصديقه أبي حامد مدة طويلةً ودعاه للعشاء معًا فقضيا ساعاتٍ وهما يتسارَّان لا يأذنان لأحد في الدخول عليهما. فلما دخل الحرس يستأذن لرسول من عند أمير المؤمنين قال حمدون: «ماذا عسى أن يكون من أمر هذا الرسول؟ فليدخل.»
فدخلت لمياء ولم تقع عين أبيها عليها حتى عرفها فهَمَّ أن يناديها فأشارت إليه بالسبابة على فمها أن يكتم أمرها. فأشار إلى الحاجب أن يخرج ويبعد سائر الحُجَّاب عن الفسطاط.
وكان فسطاط الأمير حمدون خيمة كبيرة من الأدم المدبوغ بلون أحمر وقد فُرشت ببساطٍ كبيرٍ حمله معه من سجلماسة وهو في الأصل مجلوبٌ من إسبانيا مما كان أمراء الأندلس يفرشونه في قصورهم؛ لأنه كان وهو أمير يقلدهم بأسباب المدنية. والخيمة قائمة على ستة أعمدة علقوا عليها الأسلحة والدروع وأُنيرت أطرافُ الفسطاط بالمصابيح.
فدعا لمياء للجلوس على وِسادة بجانبه وأخذ يرحب بها وأبو حامد إلى جانبه الآخر، وهو كهل قصير القامة دقيق العضل كبير الرأس بارز الجبهة خفيف اللحية قد برز فَكَّاهُ ونتأت سناه المتوسطتان مِن فكه الأعلى نتوءًا كثيرًا وافترقتا. وله عينان غائرتان متقاربتان تبرقان دهاءً ومكرًا كأنهما مصباحان متجاوران قد اختلط نورُهُما. وفى إحداهما انحرافٌ نحو الأعلى وبينهم أنف كبيرٌ أعقفُ كأنف النسر وقد أرسل شاربيه على شفتيه ليخفي سنيه البارزتين. وأهمل لحيته الخفيفة بلا تمشيط. وكان قد تخفف بلباس الليل وغطى رأسه بعرقية سوداء زادت تلك السحنة غرابة. إذا لقيه الرجل استخف به واحتقره فلا يلبث أن يخاطبه حتى يهابه لقوة عارضته وفصاحة لسانه.
فلما رأى حمدون يرحب بلمياء شاركه في الترحاب وهش لها وسبق والدها إلى مخاطبتها فقال: «بارك الله فيك لقد جئت في إبان الحاجة إليك … ولكن ما الذي جاء بك في هذا الليل؟»
فضحك أبوها وقال: «يظهر أن روحنا خاطبت روحها عن بعد فلبت الطلب.»
فقالت لمياء والاهتمام باد في عينيها البراقتين: «جئت يا سيدي لأمر همني كثيرًا.»
قال وهو يبتسم: «ولعلهم أنبئوك بما دار بيننا وبين المعز في هذا الصباح!»
قالت: «لم ينبئوني ولكنني سمعت الحديث في أذني.»
فتصدى أبو حامد للكلام قائلًا: «أهنئك يا لمياء بهذا النصيب الحسن.»
فنظرت إليه نظرة عتاب وقالت: «وأنت تقول ذلك أيضًا؟»
قال: «كيف لا أقوله؟» ونظر إلى أبيها كأنه يستشيرُه.
فقال حمدون: «نعم يحق لنا أن نهنئك يا بنية؛ فإن هذا النصيب لا يتأتى لأحد من أهل القيروان.»
فالتفتت إلى أبي حامد وقالت: «وسالم؟» وهي تتوقع أن تفحمه بذلك الاعتراض.
فقال: «سالم؟ حتى سالم يفرح لك بهذا النصيب …»
فدهشت لهذا الجواب وقالت: «سالم؟ لا. لا. لا أظنه يفرح ولا أنا فرحت به.»
فالتفت أبوها إليها لفتة استغراب وقال: «وأنت لم تفرحي به؟ يا لله ما الذي تتوقعينه أحسن من هذا؟»
قالت: «أتوقع أن …» وغلب عليها الحياءُ فسكتت.
فقال أبو حامد: «إن كنتِ ترفضين هذه النعمة مراعاة لخاطر سالم فأنا أضمن ارتياحه إليها.»
قالت: «سالمٌ لا يرضى أن أكون لسواه؟ كلا.»
فضحك أبو حامد مِلْء فيه وهز رأسه باستخفاف وقال: «يظهر أنك تنظرين إلى هذا الزواج من وجه واحد فقط.»
فاستغربت هذا التعبير وقالت: «وهل ينظر في هذا الأمر من عدة وجوه؟»
فأخذ حمدون وأبو حامد ينظر كُلٌّ منهما إلى صاحبه ويضحك. وأغرق أبو حامد في الضحك حتى كاد يستلقي على قفاه وقد برز سناه من بين شعر شاربَيه. فشق ذلك على لمياء فابتدرها أبوها قائلًا: «ألا يكفي لقبولك بهذا النصيب أن يكون قد تم الاتفاقُ عليه بين أبيك وأمير المؤمنين؟ وإذا كنت لا تبالين بخاطر والدك ألا تهابين أمر الخليفة؟» قال ذلك بلحن العتاب والتوبيخ.
فخجلت من هذا التعريض لكنها لم تقتنعْ فسكتت وأطرقت وفي سكوتها إنكارٌ لما يطلبونه منها. فتَصَدَّى أبو حامد وهو يُظهر التلطفَ والاهتمام ويتشاغل بإصلاح طاقيته وقال لها: «أنا لا أشك في تعقُّلك وحكمتك؛ ولذلك فأنا أخاطبك بصراحة … أؤكد لك لو كان سالم هنا الآن لَأَمرك أن تطيعي والدك وتقبلي بما عرض عليك؛ ليس؛ لأنه لا يحبك ولكنه يرجو من ذلك خيرًا لنا جميعًا.»
فلما سمعت قوله استغربت ما فيه من التلميح ولم تفهمْ مراده وهي تعلم أَنَّ سالمًا إذا كان يحبها كما تحبه لا يرضى أن تكون لسواه ولو أُعطي مال العالم كله … ولم تفهم ما هو النفعُ الذي يرجوه مِن قبولها. فوقعتْ في حيرةٍ وظلت ساكتة وقد بان الارتباكُ في عينيها فتنحنح أبو حامد فنهض والدها وخرج من الخيمة وهو يظهر أنه يريد حاجة عرضت له. فبقيت لمياء مع أبي حامد فتوجه نحوها باهتمام وقال: «أرجو أن تكوني قد فهمت مرادي.»
فرفعتْ بصرها إليه، وقالت: «كلا يا سيدي … أعترف لك أني لم أفهم مرادك. وأنا أعلم أن سالمًا إذا كان يحبني — كما تقولون — لا يمكن أن يرضى بهذا الأمر … أقيس ذلك على نفسي.» وأطرقت وقد توردتْ وجنتاها من الخجل وأخذتْ بإصلاح المنطقة حول خصرها كأن ثوب الصقالبة قد ضايقها؛ لأنها لم تتعودْه.
فقال أبو حامد وهو يخفض صوتَه كأنه يسر إليها أمرًا هامًا: «إني أجل ذكاءك عن أن يخفى عليك مرادنا … أم أنت الآن راضيةٌ بالقعود أسيرة كالجارية في بيت ذلك الأمير المغرور.»
قال ذلك وفي صوته لحنُ الاحتقار. فتذكرت لمياء ما كانت تعلمه من نقمته على المعز قبل أن تغلب عليه. ولكنها كانت تحسبه غَيَّرَ عزمه واقتنع بما صار لعجزه عن مناهضته. وأحست لما سمعت أسلوب تعبيره بغيرة هبت في صدرها للدفاع عن نفسها وعن المعز فقالت: «لم أكن أتوقع منك يا عماه ما سمعته فما أنا جارية ولا المعز مغرور.»
فقال: «لله أنت ما أطيب سريرك، إنهم خدعوك حتى حولوا قلبك عن والدك وأهلك وصرت تجدين الأسر عزًّا والذل سعادة … أين أنفة لمياء راعية الجواد الأدهم سليلة آل مدرار أصحاب سجلماسة؟ أم غَرَّكِ ما ناله أولئك من الظفر صدفة؟ إنهم غير أهل للملك والتحكم في الرقاب … ألم تري منازلهم لا تتميز عن منازل العامة يجلس أميرُهُم على اللبود ويلبس كسائر الناس؟ أين أبهة الدولة التي كانت لوالدك وأجدادك؟ إن آل مدرار وحدهم أهلٌ للسيادة وبهم وحدهم يليق الملك … أقول ذلك وما أنا لسوء حظي منهم ولكنني أعرف منزلتَهم ولا غرض لي غير الانتصار للحق، ولو كان والدك هنا لاتخذ هذه الحرية بمخاطبتك.»