عز الملك
أما حمدون فبعد أن خطر مرتين ذهابًا وإيابًا وهو يلاعب شاربيه وسيفه يجر على البساط وقد انحرفت عمامته من مكانها ولم ينتبه لها من الغضب وقف بين يدي لمياء وقال: «لمياء يا لمياء إلى متى تتجاهلين ومثلك لا يحتاج إلى إيضاح هل تصدقين أن أباك أمير سجلماسة سلالة آل مدرار السادة الفاتحين يرضى بمصاهرة عبد صقلي يُباع أمثالُهُ في الأسواق بدنانيرَ قليلة؟ هل صدقت أننا نعير طلب صاحب القيروان التفاتًا. وإنما نحن وافقناه حتى يتيسر لنا ما نريده … لا تكوني ساذجة وأنت ابنة حمدون صاحب سجلماسة قائدة الجُند في ساحة الحرب. ما أسرع ما نسيت مجدنا وملكنا نحن أصحاب سجلماسة ونُصاهر العبيد؟ لا يغرنك ما أُتيح لهم من النصر إنها فلتة لا تستقر لهم طويلًا … لا تستقر إلا ريثما توافقينني على ما أطلبه منك فيذهب ملكهم ونسترجع ملكنا. ونخضعهم لأسيافنا.» قال ذلك وهو يرتعش من الغضب.
فتحمست لمياء وعادت إليها روح السيادة وحب الرئاسة وتأثرت مما ظهر من تحمس والدها لكنها أعملت فكرتها فلم تجد كلامه مبنيًّا على شيء واضح ثابت؛ لعلمها أنهم هناك كالأسرى عند المعز لدين الله وأن جند والدها وإن كثُر لا يُعد شيئًا في جانب جند المعز وأتباعه. ولكنها انصاعت لقوله بنفوذ الوالدية؛ فإن الولد كثيرُ التصديق لما يسمعه من والده ومعلمه ولو كان مستحيلا. ومع ذلك فهي لم تفهمْ حقيقة ما يريدونه من ذلك التناقُض فقالت: «صدقت يا أبتاه وهل ترى وسيلةً لإرجاع ما كان إلى ما كان؟ إني أبذل روحي في هذا السبيل.»
فلما سمع قولها أكب عليها وضمها إلى صدره وقَبَّل رأسها وابتسم ابتسام من فاز بضالة كان يبحث عنها، وقال: «بُورك فيك من ابنة عاقلة … إنك جديرةٌ أن تكوني ملكة سجلماسة والملك سيئول طبعًا إليك؛ إذ ليس لي أبناءٌ سواك.»
فأخذتْها عزة الملك وشغلتْها عن انعطافها إلى المعز وأهله وتذكرتْ ما كانت فيه من الرفعة والكلمة النافذة، وكيف كانت الرءوس تطأطئ لها واللحى ترتجفُ تَهَيُّبًا منها. فنهضتْ عن تَحَمُّس ووقفتْ بين يدي والدها قائلةً: «إنكم تخاطبونني بالألغاز والأحاجي. ما معنى هذا التناقُض قل يا أبتاه ما الذي تريدونه مني؟ وقبل كل شيء أحب أن أتحقق عدولك عن الرضا بطلب المعز لدين الله.»
قال: «أما هذا فلا … لا أعدل عنه؛ إنها فرصة لا ينبغي أن نضيعها … إنها فرصة ثمينة لنيل مرادنا …»
فلم تفهم قصده فقالت: «كيف تريدون أن أكون ملكة في سجلماسة وتطلبون إليَّ أن أتزوج أحد أتباع صاحب القيروان؟»
فقطع كلامها قائلًا: «لا أعني أن تتزوجيه إن باعه أقصر من ذلك كثيرًا … كيف تتزوجينه وسالم حيٌّ؟ لو بلغ ذلك سالمًا ماذا يقول عنا بل ما يقول عنك وأنت راعية الجواد صاحبة السيف حامية حمى آل مدرار؟ أنا لا أعني بقبولك أن تتزوجي ذلك الرجل فعلًا … ولكننا نُريد أن يكون قبولك وسيلةً لاسترجاع ملكنا بكيفية سأشرحها لك، وإنما أُريد أن أعلم قبل كل شيء، هل فهمت مرادي؟»
قالت: «ألم أفهمه بعد؟»
قال: «إن مرادي أن نتخلص من صاحب القيروان وقائده … وإذا تخلصنا منهما لا يبقى في أفريقية كلها من يقف في سبيلنا ولا أن يمنع سيادتنا.»
قالت: «وكيف نتخلص منهما؟»
قال ويده على قبضة حسامه كأنه يستله: «نقتلهما.»
فأجفلتْ وتراجعتْ واستغربتْ هذا التصريح وهي تعرف تهوُّر والدها واندفاعه ولم يكن يخطر لها أنه يتصور قدرته على هذا العمل ولكنها اعتقدتْ أنه لا يقول ذلك إلا وهو على ثقة من قدرته عليه. فالتفتتْ إلى أبي حامد — وكان لا يزال قاعدًا الأربعاء ويداه متصالبتان وقد أطرق في الأرض كأنه يفكر باهتمام — ثم حولت نظرها إلى الرجل الملثم بجانب العمود وقالت في نفسها: مَنْ عساه أن يكون هذا الملثم الذي شهد هذا التصريح الخطر لا بد أن يكون من الأقرباء وخطر لها أن يكون سالمًا نفسه وحالما خطر ذلك خفق قلبُها ولم تعد تستطيع صبرًا عن استطلاع الحقيقة فنظرتْ إلى والدها — وكان قد عاد إلى التمشي — فمشت نحوه حتى قبضت على يده وقالت بصوت ضعيف: «أراك تقول ما تقوله على مسمع من هذا الملثم فمن هو؟»
قال: «ستعلمين حالًا … ولكن بعد أن توافقينني على ما قلته لك؛ إني لم أعد أستطيع صبرًا على الذل … يكلفوننا إذا دخلنا على صاحب القيروان أن نحييه تحية الإمارة وأن نؤمن على كل ما يقوله وأن ندعوَ له بطول البقاء وأن نقول له بأننا عبيدُهُ الطائعون. وإننا لَنضرب بسيفه ونجاهد في سبيله وإنه صاحب الحق في الخلافة. وإنه من نسل فاطمة الزهراء و… و… و… إن ذلك فوق طاقة البشر. نحن أصحاب سجلماسة من أجيال متوالية وقد تأصلت السيادة في عروقنا فلا نستطيع احتمال هذا الذل فإما التغلب وإما الموت.»
فازدادت لمياء تحمسًا بهذا القول وتناستْ كل شيء في سبيل العود إلى مجدها وعِزِّها. وسرها فوق ذلك أنهم لا ينوون إكراهَها على القبول بابن جوهر بدلًا من سالم حبيبها. فاقتنعتْ بهذه النتيجةِ وفرحتْ لكنها لم تفهم سر ذلك التضاد إذ يريدونها أن تقبل الزواج بالحسين وهم لا يسمحون بشعرة منها له … كيف يتفق ذلك فقالت لوالدها «إن ما تطلبه يا سيدي هو غاية مرادي ولا بد من مراقبة الفرص للحصول عليه، أما الآن فأرجو أن تطاوعني على التخلص من طلبة المعز ليطمئن بالي.»
فقطع كلامها قائلًا: «لن تسنح لنا فرصة أوفق من هذه.»
قالت: «وأي فرصة تعني؟»
قال: «قبولك بما طلبه صاحب القيروان … وقبل إتمام الزواج تذهب روحُهُ وروحُ قائده وابن قائده والسلام …» قال ذلك بعجلة ومشى مسرعًا إلى مجلسه وقعد وهو يفتل شاربيه وتركها واقفةً متحيرة، فأدركت بعض مراده ولحظتْ أنه يُريد أن يتخذ العقد عليها ذريعة للفتك بالمعز وقائده وابن قائده ولا يكون ذلك إلا غيلة. فأجفلت ولكنها تجاهلتْ ولم تَشَأْ أن تُباحثه في التفاصيل وإنما اقتنعت أنه وافقها على التخلُّص من الزواج بغير سالم — وعادت إلى التفكير بذلك الملثم وهو واقف كالصنم لا يتحرك فاقتربتْ منه وتفرستْ في عينيه ولم يكن ظاهرًا مِن وجهه سواهما وقد وقع نور المصباح عليهما فَأَبْرَقَتَا. ولم تتفرس فيهما قليلًا حتى اختلج قلبها في صدرها وصاحت: «سالم!»
فمد يده إلى اللثام وأزاحه فإذا هو سالم بعينه. فلما بان وجهُهُ خجلت وأطرقت وتسارعت دقات قلبها وخارت قواها على عادتها معه وغلب الحياءُ عليها وأخذتْها البغتة؛ لأنها لم تكن تحسب سالمًا في تلك الديار فتراجعتْ وأطرقت.