الرجوع
فتصدى والدها عند ذلك وقد سَرَّهُ اقتناعُ ابنته فقال: «بُورك فيك يا ابنة صاحب سجلماسة، انهضي الآن وارجعي إلى قصر المعز إذا شئت ومتى سئلت عن الرضا بالخطبة فاجعلي أنك رضيتِ لأن أباك وأمير المؤمنين رضيا … فهمتِ؟ هل أُرسل معك مَن يوصلك إلى المنصورة (قصر المعز)؟»
فنهضت وهي تقول: «لا أحتاج إلى أحد.»
فاعترض سالم على ذلك وقال: «كيف تذهبين وحدك في هذا الليل أنا أرافقك إلى هناك …»
فتذكرت أنها لا تلبث عند خُرُوجها من معسكر أبيها أن تلتقي بالحسين بن جوهر، فكيف تجمع بين المتناظرين؟ فألحت على سالم أن لا يرافقها هو ولا سواه؛ لأنها أتت وحدها وتعود وحدها وهي متنكرةٌ بلباس خَدَم القصر ولا تخاف أحدًا. فقال لها أبوها: «ومع ذلك لا بأس من إرسال بعض الحرس في أثرك ولو عن بعد؛ لِأننا لا نعلم ما يحدث.»
فاستحلفتْه أن لا يفعل فسكت وقَبَّلَها ووَدَّعَها وودعت سالمًا والعم أبا حامد — ولكُلٍّ منهم وداعٌ خاص على شكل خاص — وأصلحتْ هندامها وخرجتْ وقد اشتد الظلام والأرض خاليةٌ بين المعسكرين لا أنيس فيها. فمشت حتى خرجتْ من معسكر والدها فما لبثتْ أن رأت شبحًا يقترب نحوها عرفت حالًا أنه الحسين كان في انتظارها وجاء لتشييعها إلى المنصورة فأحست عند رؤيته بوخز في ضميرها واحتقرتْ نفسها؛ لأنها كانت منذ ساعة صادقةَ اللهجة شريفة النفس لا يخامر ذهنها غش أو خداع وهي الآن خادعةٌ غاشة، وهذا الشاب ينبغي أن تُظهر له أنها تُريده مكرًا وكذبًا وأصبحتْ تعد نفسها كالمؤامرة على قتله وقتل والده والخليفة المعز الذي هو ساهرٌ على سلامته يفديه بروحه.
مرت هذه التصورات في ذهنها مرور البرق والحسين يمشي نحوها. فلما اقترب منها حياها باحترام ولم يزد على أن مشى بجانبها والإمام كالخادم المولج بإيصال مولاه إلى مقصد. فأكبرتْ منه هذا التلطُّف ولم تتمالكْ عَنْ أَنْ قالت: «لقد اتعبت نفسك يا سيدي في الانتظار طويلا في هذا الليل …»
قال وهو يماشيها على مهل: «لم أتعب نفسي يا سيدتي؛ فإن ذلك فرض علي بل هو من بواعث سروري. كيف وجدت والدك الأمير؟ عساه أن يكون في خير!» قال ذلك وهو يشير إلى ما كان يتوقعه من أن يطلعها على خبر خطبته إياها ولم يكن يشك في أنها ستفرح به وتحسب نفسها سعيدة وأدركت هي غرضه من ذلك السؤال وأثر فيها تلطُّفُه كثيرًا فقالت: «إن والدي في خير، الحمد لله» وكانت تريد أن تزيد على ذلك أنه شاكرٌ راضٍ وأنه مشمول برضا أمير المؤمنين فلم تشأْ أن تكذب فاقتصرتْ على هذا الجواب المختصر. فحمل ذلك منها محمل الحياء فعمد إلى مداعبتها فقال: «يسرني أن يكون والدك مسرورًا ولكن يهمني أن تكوني أنت مسرورة أيضًا.»
ففهمت مراده وشعرت بصدق طويته وخُلُوص نيته في حبها، وكيف هي تضمر غير ما تقول، فعظم ذلك عليها وشعرت بصغر نفسها وتلجلجت. لكنها تجلدت وأجابتْ «وأنا أيضًا مسرورة لما أراه من التفات أمير المؤمنين وأم الأمراء، إنها بالحقيقة قدوة الأميرات — حفظها الله.»
وأراد الحسين أن يغتنم تلك الفرصة لمخاطبتها صريحًا بأمر الخطبة وليس هناك من يسمع، ومهما يكن من تحجب الفتيات عن طلابهن أمام الناس فإذا خلت إحداهُن بخطيبها يرتفع الحجاب ويتشاكيان. ولم يجد الحسينُ فرصةً أثمن من هذه ولا أَوْفَقَ منها وهما في غفلة عن الرقباء. ولم يكن يشك أبدًا أن أباها فاتحها بشأن خطبته، وأنها رضيت ولكن الحياء يمنعها من التصريح فعمد إلى تجريئها فقال: «أتشعرين يا لمياء بالسرور الذي أشعر به أنا؟» فشق عليها أن يفاتحها بالمشاكاة وأحاديث الغرام وهي فيما علمت من التردد والارتباك فقالت «لا أعلم مقدار سرورك ولا نوعه ولكنني أعلم أني مسرورة من حُسن وفادة أمير المؤمنين وأم الأمراء …» وأظهرت البغتة وهي تقول: «أظننا صرنا على مقربة من المنصورة فإني أرى أنوارها … فأشكرك شكرًا جزيلًا على تنازُلك يا سيدي فقد أتعبتك …» وهمت بفراقه فقال: «لا نزال بعيدين عن تلك المدينة وإن كنت ترين أنوارها فلا تتعجلي في الفراق، إلا أن أكون قد ثقلت عليك بالحديث، ولعلي تطوحت إلى وراء ما يجوز لي … سامحيني» قال ذلك بلحن العتاب.
فخجلت لمياء وودت لو أنها لم تقابلْ أباها في تلك الليلة؛ لأنها كانت تعرف ما تُجيب على هذه الأسئلة بصراحة. فربما أجابت: أنها تحبه وتحترمه ولكنها مخطوبةٌ لسواه. أما الآن فمع اعتقادها أنها كذلك فهُم يطلبون منها إظهارَ رضاها به. وقد يهُون عليها إذا سألها عن ذلك الخليفة أو أم الأمراء وأما هو فيصعب عليها الكذب عليه وهي تشعر أنه يحبها من كل قلبه، فكيف تخادعه؟ ولما سمعت عتابه غلب عليها طيب عنصرها فقالت: «العفو يا سيدي إنك تُبالغ في توبيخي فهل أسأت الأدب في خطابك؟ أو كان ينبغي لي أن أعرف حَدِّي فأقف عنده؟» فغلبته في العتاب وأحس أنه أساء إليها وجرح إحساسها بكلامه فقال: «إني لا أستحق هذا التقريع يا لمياء، وإنما أنا أحتال في سماع كلمة تدل على رضاك وكفى.»