صُدفة غريبة
فلم تجد لمياء خيرًا من السكوت المطلَق؛ لأن الكلام يجرُّ الكلام وهي لا تعرف ما تقول. وسكت هو تهيبًا من سكوتها. وهُما في تلك الحالة سمعا وقع حوافر فرس مسرع وراءهما فالتفتت فرأت فارسًا قادمًا من معسكر أبيها ولم يقترب منها حتى علمت أنه سالم فأجفلت من ذلك الاتفاق الغريب وخافتْ على سالم أن ينكشف أمرُهُ؛ لأن أهل قصر المعز يعلمون أنه غائب، والمعز يحب القبض عليه، وهو لم يلحق بها إلا مبالغةً في إكرامها لتثبت في وعدها وهم يبنون على ذلك الوعد العلالي والقصور، ولكنه أَظْهَرَ أنه جاء ليخفرها. فلما رأى الحسين بلبس الخفر وهو يمشى في خدمتها ظَنَّهُ من الحُرَّاس ولم يخطر له مطلقًا أنه الحسين بن جوهر نفسه. فوقعت لمياء في حيرة لكنها تجاهلت.
أما الحسين فالتفت إلى الفارس وصاح فيه: «من أنت؟»
فقال سالم «وما يعنيك من أمري؟ سِرْ في طريقك.»
فقال: «بل يعنيني … قف حالًا.»
وكان سالم قد وصل إلى لمياء فلم يجبه لكنه خاطب لمياء قائلًا: «لمياء من هو هذا الرجل الذي تُسايرينه.»
فارتبكت في أمرها وهي لا تعلم هل يريدُ الحسين أن يذكر اسمه أم يحب أن يبقى مكتومًا. فتلجلجتْ في الجواب لحظة وهي تنظر إلى الحسين كأنها تنتظر أن يكون الجوابُ منه.
أما هو فاستغرب خطاب الرجل بهذه الدالة على لمياء مما لا يكون إلا بين الأقرباء فتبادر إلى ذهنه أنه مِن أقاربها الأقربين فخَفَّ غضبه إكرامًا لها وسألها قائلًا: «من هو هذا ألعله من بعض أهلك؟»
قالت: «نعم يا سيدي إنه من أبناء عمي ويظهر أنهم رأوني ماشية مع رجل لا يعرفونه فظنوا علي بأسًا فجاء أحدهم لنجدتي …»
فوجه الحسين خطابه إلى سالم وقال: «لا تخف يا صاحبي إني صديق محب وأنا في خدمة ابنة عمك حتى أوصلها إلى مأمنها.»
فلم يرض سالم بهذا الجواب؛ لأن لمياء متنكرة بلباس الصقالبة فكيف تَأَتَّى لهذا الرجل أن يعرفها ويماشيها على انفراد؟ فسبق إلى ذهنه سوء الظن فقال: «من أنت يا صاحب ألعلك متنكر مثلها ومن أخبرك أنها فتاةٌ وأنها لمياء؟»
فاستنكف الحسينُ من لهجته في خطابه وهَمَّ أن يخبره عن حقيقة حاله لكنه فضل الكتمان؛ حفظًا لكرامة لمياء فقال: «أنا أيضًا في خدمة قصر أمير المؤمنين وعرفت بخروجها بمهمة إلى والدها الأمير فجئتُ لمرافقتها في ذهابها وانتظرتُ عودتها وها أنا معها إلى مأمنها — كما قلت لك.»
فاستحسنتْ لمياء منه هذا الأسلوب وتوقعت أن ينتهي الجدال هنا؛ لكنها ما لبثتْ أن رأتْ سالمًا تَرَجَّلَ عن جواده وهو لا يزال ملثمًا ووقف بين لمياء والحسين وولى وجهه نحوها وقال لها: «لا حاجة إلى مُماشاة الخدم إني أسير في خدمتك … ألم أقل لك أني مزمع على إيصالك فأبيتِ؟»
فتجلدت وهي تخاف أن يغضب الحسين لهذه الجسارة وقالت: «لم أرض أن يأتي منكم أحد معي؛ لأني على يقين من وُجُود هذا الرفيق.» قالت ذلك ومشت فمشى سالم بجانبها بينها وبين الحسين وهو يقول «لماذا لم تقولي لي عنه من هناك.»
فاستثقلت ذلك الاعتراض وتحيرت في أمرها وقالت: «لم أجد حاجة إلى ذلك.»
قال: «كيف؟ إنك بنت الأمير حمدون صاحب سجلماسة لا ينبغي أن يُستهان بك وأن يكون رفيقك في هذا الطريق المظلم أحد الغلمان … قولي له أن ينصرف وأنا أسير معك.»
فارتبكت في أمرها وخافت أن يغضب الحسين ويجر الجدال إلى القتال أو إلى كشف أمر سالم. وصارت ترتعد من التأثر وهي لا تدري ماذا تعمل، فأجابه الحسين برزانة ولطف قائلًا: «إن مسيرك معها لا يخلو من الخطر عليك يا سيدي؛ لأن حراس المدينة يستغشونك وربما آذَوك أو قبضوا عليك.»
فضحك ضحك الاستهزاء وقال بتهكُّم: «لا. لا يقبضون علي. فأنت لا تعرف من أنا سِرْ بطريقك ودعني …» قال ذلك ومشى وهو يقود الجواد وراءه وأومأ إلى لمياء أن تتبعه فأغضبها عناد سالم ولم تعرف كيف تتخلص من هذه الورطة وهي تتوقع أن يغضب الحسين ويفتضح أمرها.
فرأته ظل ساكنًا فعلمت أنه سكت إكرامًا لها وصيانة لشرفها؛ لئلا يقال إنهم رأوه معها في ذلك الظلام. فتراجعتْ وقالت لسالم: «لا حاجة بي إلى من يحرسني وخصوصًا أني صرت على مقربة من السور بالله إلا رجعت وخليتني أسير وحدي.»
فلم يجبها بل ظل ماشيًا، وظل الحسين واقفًا مكانه لا يُبدي حراكًا.
ولم يمشيا يسيرًا حتى سمعا دبدبة وقرقعة وإذا بكوكبة من الفُرسان خارجين من السور مسرعين نحوهما فقالت: «لماذا فعلت بنا هذا يا سالم؟ إنني أخاف عليك … لأن الأوامر شديدةٌ في القبض على من كان يرونه خارج السور وأنت تعلم أن القوم يطلبونك فلا أُحب أن نفتح بابًا للقِيل والقال. عزمتُ عليك ألا رجعت من هنا … اركب جوادك إلى معسكر والدي …»
فعظم عليه قولها واستخف بإنذارها وقال: «إنهم لن يدركوا مني وطرًا.»
قالت: «ولكنهم ربما آذوني بسببك … بالله ارجع … ارجع … رباه ما هذا العناد!»