الفشل
فمد سالم يده وقد غلب على أمره وأخذ الخجل منه مأخذًا عظيمًا. واستغرب تلك المقابلة وكيف التقى بالرجل الذي كانوا يتحدثون عنه ويدبرون المكيدة له وخامرتْه الغيرة من الجهة الأُخرى ولم يفهم سببًا لوجود الحسين مع لمياء غير تواطؤهما على ذلك. وكيف يتواطآن على الاجتماع سرًّا في ذلك الليل هناك وهي تزعم أنها لا تُريده خطيبًا لها. فدارت الهواجس في رأسه لكنه لم يستطعْ غير إظهار الامتنان من محاسنة الحسين وكبر نفسه؛ وخصوصًا؛ لأنه لم يسألْه عن اسمه ولا طلب منه أن يكشف وجهه فوَدَّعَه ورجع ولم يصدق أنه نجا قبل انكشاف أمره.
وأشار الحسين إلى الفرسان فرجعوا إلى السور وتقدم إلى لمياء وقال لها: «أفلت صاحبُنا بلثامه وهو يعتقد أنني لم أعرفه. وإنما أطلقته إكرامًا لك وحرصًا على كرامتك.»
فأجفلت من قوله وأرادت أن تغالطه فابتدرها قائلًا: «أليس هذا سالمًا طلبة أمير المؤمنين إنهم يبحثون عنه ولو علم والدي بوجوده لبعث الجُيُوش للقبض عليه ولكنني رأيت فيك ميلًا إلى كتمان أمره فأطعتُك وأخليتُ سبيله رغم ما أبداه من الوقاحة، لا يخامرك شك في أني عرفته، وكيف أجهلُهُ وقد رأيته في حربنا مع والدك وتبارزنا في سجلماسة وفر مني؟ وها قد نجا الآن من أجلك، ولكنني أتقدم إليك أن تكتمي أمره وأحب أن لا يطلع أحدٌ على ما جرى.»
فنظرت إليه نظر إعجاب وامتنان وقالت: «لقد غمرتني بفضلك يا سيدي وأشكرك على مروءتك وكرم أخلاقك … إنها أخلاقُ كبار القواد. وقد عرفت ذلك لك.»
فمد يده نحوها وهو يقول: «إنها أخلاق المحبين … أتأذنين لي أن أُصافحك وأودعك.»
فلم تستطع الرفض بعد أن غمرها بفضله مع ما أبداه من الأريحية وسعة الصدر وكبر النفس رغم ما كان من عجرفة سالم وخشونته فاحتمل منه الإهانة وصفح عنه وأنقذه من الموت وهو مع ذلك يطلب من لمياء كتمان ذلك حرصًا على كرامتها وكرامة رفيقها. فمدتْ يدها نحوه وهي لا تبدي غير الاحترام ولكنها شعرت عند المصافحة شعورًا جديدًا تَمَشَّى في مفاصلها. فأسرعتْ في جذب يدها منه وأظهرت أنه قد آن وقتُ انصرافها وأشارتْ برأسها إشارة الوداع وتحولت نحو المنصورية.
فودعها هو بقوله: «بحراسة الله يا لمياء!»
فارقتْه ومشتْ وهي تائهةُ الأفكار مِن هَوْلِ ما شاهدته. وقد قدرت مروءة الحسين حق قدرها وأَحَسَّتْ نحوه بشيء غير الإعجاب والامتنان.
أحست بميل وانعطاف لم تشعر بهما من قبل لكنها غالطت نفسها وكذبت عواطفها؛ لأنها لا تريد أن يكون في قلبها محل لغير سالم حبيبها الأول.
دخلت باب السور فوسع لها الحراس لاعتقادهم أنها غلامٌ صقلبيٌّ من غلمان القصر يحمل رسالة إلى أمير المؤمنين. وما زالت حتى دخلت القصر وسارت توًّا إلى غرفتها وقد انقضى معظم الليل. فدخلت الغرفة وأقفلت الباب وراءها كأنها تفر من شبح يطاردها. فلما خلت بنفسها لم تشأْ أن تُنير المصباح مبالغة في الانزواء والتستر — ولا باعث على التستر وهي في مأمن ولكن هواجسها حدثتها بذلك.
وجدتْ نفسها تحاول عبثًا؛ لأنها تريد الفرار من شُعُور في داخلها لا يحجبه الظلام ولا تمنعه الأقفال، بل رأت الظلام يضاعف هواجسها ويجسم خوفها؛ لأنها لم تكد تقعد على الفراش حتى تَصَوَّرَ لها سالمٌ بأقبح الصور، رأته دنيئًا غادرًا خائنًا وقحًا جبانًا ورأت الحسين شهمًا فاضلًا واسع الصدر كبير النفس، فَاقْشَعَرَّ بدنُها وتوهمتْ أنها ارتكبتْ ذنبًا بذلك التصوُّر؛ لأن سالمًا حبيبها الأول وقد أحبته وتركت كل شيء لأجله وعرضت نفسها لغضب أبيها والخليفة حبًّا به فكيف ترى فيه تلك الخسة حتى يحملها على التواطؤ معه لقتل أَعْظَمِ الناس قدرًا وأفضلهم نسبًا ومروءة؟ وتذكرت كيف رجع سالمٌ في تلك الليلة مرذولًا بعد أن عرف أَنَّ خصمه هو الحسين بن جوهر، وبماذا عساه أن يعلل وجودها مع الحسين في ذلك الليل هناك؟ وراجعت ما دار بينها وبين والدها وأبى حامد من الحديث، فأظلم قلبُها ووَدَّتْ لو أنها لم تذهب في تلك المهمة.
ولكنها صبَّرت نفسها إلى الغد؛ لترى ما يكون، وأخذت في تبديل ثيابها طلبًا للرقاد … وكيف تنام وهي في تلك الحال وقد تراكمتْ عليها الهواجسُ وأحست بصدمة عنيفة زعزعت أوتار قلبها وشوشت أفكارها. وأصبحت لا تجد راحةً إلا في النوم لعلها إذا أفاقت في الصباح وجدت ما مر بها حلمًا مزعجًا، وكثيرًا ما يقضي الإنسان أمثال هذه الاضطرابات في نومه وتظهر له في الصباح أضغاث أحلام. فتوسدت الفراش وتغطت إلى فوق رأسها وقضت تلك الليلة في أشد الاضطراب والقلق.
أما سالم فلما انفرد بعد رجوعه أحس بصغر نفسه وعظُم عليه ما أصابه من الفشل بين يدي خطيبته وخصوصًا مع مُناظره عليها — وكان منذ ساعة يحرضها على احتقاره واحتقار والده وخليفته — وزعم أنه قاتلهم على أهون سبيل ليعيد الملك إلى والدها فتصير هي الملكة … وغير ذلك مما دار بينها وبينهم في تلك الليلة غير ما أظهرته هي من التفاني في حبه والثقة ببسالته.
كل هذه الهواجس خطرت له وهو عائدٌ على جواده يمشي الهويناء ويتوهم — لفرط خجله — أَنَّ الحسين يتبعه، وأخذ يفكر في ما دار بينهما في ذلك الموقف ويزن أقواله ليرى هل فرط بكرامته وهل له عذرٌ مقبولٌ بذلك الرجوع البارد؟ وأخذ يئول ما قاله أو ما سمعه وينتحل الأعذار ويهيئ الأسباب ويقدِّر العواقب لو أنه ظل على جسارته. فاقتنع أنه أحسن بالرجوع محافظةً على كرامة لمياء وأنه لو تمسك بقوله وأراد تخليصها من أيدي أولئك القوم لانفضح أمرها وهي قد تقدمت إليه أن يقتصر ويعود.
فارتاح عند هذا العذر السفسطي — وكذلك الإنسان قد يصدق المحال تبريرًا لعمله وردًّا لكرامته وحفظا لمنزلته عند نفسه.
ولما اطمأن خاطره من هذه الوجهة عاد إلى التفكير في سبب تلك العلاقة بينها وبين الحسين حتى يصطحبها في ذلك الليل على موعد وتواطؤ. فلما تصور ذلك اقشعرَّ بدنُهُ وهَبَّت الغيرة في بدنه. والغيور سيئ الظن ويتعاظم سوءُ ظنه كلما تعاظم حُبُّه — قد يرى بعض الرجال رجلًا يخاطب امرأة في ريبة فيغار منه وتُحدثه نفسه أن يعترضه، وقد يسيء الظن به لكنه لا يلبث أن يلتمس عُذرًا ويحسن الظن. أما إذا كان الخطاب مع فتاة يحبها فإنه يبني العلالي والقصور على ما رآه أو سمعه ويتعاظم سوءُ ظنه كثيرًا ولا يقبل عذرًا.
وكان سالمٌ يحب لمياء ويُعجب ببسالتها وجمالها ويرتاح إلى الاقتران بها، ولكنه لم يكن يعشقها كما كانت تعشقه هي، وإنما صمم على خطبتها لغرض سياسي سيظهر بعد قليل.