إفطار رمضان
على أن التعب غلب عليها فنامتْ واستغرقتْ في النوم. وما أفاقتْ إلا على أصوات المؤذنين في العصر فنهضت وأصلحت من شأنها ونظرت إلى وجهها في المرآة فإذا هي قد امتقع لونها قليلًا وذبلت عيناها. فأحبت أن تتشاغل عن تلك الهواجس فخرجت لملاقاة أم الأمراء فرأتها في انتظارها فهشت وسألتها عن صحتها. فقالت إنها في خير فأشارتْ إليها أن تتبعها لتطلعها على ما يعدونه من أسمطة الإفطار. فمشت معها حتى دخلتا روشنًا يُشرف على ساحة بعيدة الأطراف في جانب الحديقة قد نُصب فيها سُرادقٌ كبير وأخذ الخدم في مد الأسمطة والموائد. فأشارت إليها أم الأمراء فقعدتْ على مقعد أمامه ستر فيه منافذُ صغيرةٌ تأذن للجالسين هناك في رؤية كل حركة في تلك الساحة بدون أن يراهم أحد من أهلها. وقعدتْ أم الأمراء إلى جانبها وجعلت تقص عليها ما تعوَّدوه في الإفطار. وهي ترى الخدم يهيئون الأسمطة على شكل خاص.
أعلاها في الصدر سماطٌ يسع بضعة عشر رجلًا يجلسون على الوسائد حوله، وقد وضعت عليه أنواع الأطعمة والأثمار. ونحو ذلك في أسمطة أخرى بين يدي ذاك هنا وهناك. وعليها الأطعمة من اللحوم والأفاويه وقد تصاعدتْ عنها روائحُ البهارات وغيرها. وما زالتْ رائحةُ الند المحروق في أطراف الحديقة غالبةً على سواها حتى تكامل وضعُ أطباق الطعام فتغلبتْ رائح الأطعمة وبهاراتها. واشتغل جماعةٌ من الخدم السود في إنارة المصابيح المعلقة بأعمدة السرادق. وأما الصقالبة البيض فأكثر اشتغالهم في حمل أطباق الأطعمة. ووقف جماعة منهم يحملون الأباريق الفضية والأقداح الزجاج حول الأسمطة يسكبون الماء لمن يريد حسب الطلب.
أعد كل شيء قبل الغروب ولمياء تتشاغل برؤية الخدم يذهبون ويجيئون في ترتيب تلك الموائد وهي صامتة. وشاركتْها أم الأمراء بالصمت ثم قالت: «إذا شئت أن نذهب إلى مائدتنا هلمي إليها؛ فإنهم يعدونها كما يعدون هذه.»
فأظهرت أنها تفضل البقاء هناك حتى يجلس الخليفة والأمراء على الطعام ثم تنصرف فأطاعتها. وبعد قليل أصبح أهلُ الحديقة في هرج واهتمام يتسابقون إلى التأدُّب في مواقفهم استعدادًا لاستقبال أمير المؤمنين. ثم أَطَلَّ الخليفةُ ماشيًا الهويناء وبجانبه القائد جوهر. ووراءهما ابنُهُ الحسينُ ثم أولادُ الخليفة وأهله. ثم جماعة الأمراء والقواد فتفرقوا إلى مقاعدهم على الوسائد حول الأسمطة. فجلس المعز في صدر السماط الأول وأومأ إلى جوهر أن يجلس إلى يمينه ونادى الحسين فأجلسه بجانب أبيه. ثم جلس أبناء الخليفة وأهله حول ذلك السماط. وجلس سائرُ الأمراء والقواد حول الأسمطة الأُخرى. وبعد قليل عَلَتْ أصواتُ المؤذنين فأخذ القُرَّاء يتلون الفاتحة وضَجَّ المكان بتلاوتها. وجعلتْ لمياء تتفرس في الوجوه فرأتْ والدها في جملة المدعوين وقد دعاه المعز إلى أقرب الأسمطة إليه وهو يبش له ويرحب به. وظنت أم الأمراء أن لمياء لم تنتبه إلى ذلك فقالت لها: «هذا والدك قد جاء … ويسرني ما أراه من إكرام أمير المؤمنين له.»
وكانت لمياء مشتغلةَ الخاطر بالتفرُّس في الوجوه ولا سيما في وجه الحسين. وكانت حالَما وقع نظرُها عليه خفق قلبُها وتصاعد الدمُ إلى وجهها رغم إرادتها. ومع رغبتها في رؤيته وأنها أتت إلى هناك لتراه فلما أحست بخفقان قلبها ندمت وحولت نظرها عنه وأخذت تُغالب عواطفَها ونهضت وأظهرت أنها مستعدة لمرافقة أم الأمراء إلى مائدتها متى شاءت. فأظهرت أنها تود البقاء هناك وقالت: «هذا الحسين أراه جالسًا بجانب والده إن هذا المنظر يغنيني عن الإفطار. كيف أنت؟» قالت ذلك على سبيل المداعبة. فسكتت لمياء وصبغ الحياء وجهها ولم يصبغه الحياء بل الارتباك أيضًا. ولم تجد سبيلًا إلى إخفاء عواطفها إلا بالتحول من ذلك المكان فأطاعتْها أم الأمراء فتحولتا إلى قاعة مد فيها سماطها الخاص فجلست إليه وأجلست لمياء إلى جانبها وتناولتا الإفطار على نحو ما وصفناه من إفطار الخليفة وأمرائه.
ولحظت أم الأمراء أن لمياء تسرع في تناول الطعام وهي ساكتة والاهتمام بادٍ في عينيها فأدركت أنها تود الرجوع إلى الروشن فاختصرت في الأكل حتى إذا فرغت منه قالت لها: «هلم بنا إلى الروشن لنسمع ما يدور من الحديث هناك.»