حديث الزفاف
فنهضتْ ومشتْ معها وتناستْ ندمها — وإنما سيقت إلى هناك بدافع لا سلطان للعقل عليه فيأتيه المحب رغم إرادته وقد يرتكب في سبيل ذلك أمورًا يوبخ نفسه عليها ولا يرى مندوحةً له عنها — قعدتا فرأتا الأسمطة قد رُفعت وانصرف معظم المدعوين وجلس مَن بقي منهم بين يدي المعز وفيهم جوهر وحمدون والحسين وقد جلس حمدون بقرب جوهر وهما يتحادثان كَأَعَزِّ الأصدقاء. ويتخلل حديثهما ضحكٌ وتودد. فأصاخت لمياء بسمعها لتسمع ما يدور. فسمعت الخليفة يقول لأبيها: «قد سرني ما تَجَدَّدَ بيننا من روابط القرابة بخطبة لمياء إلى ابن قائدنا وإنهما لَنِعْمَ العروسان. وسرور أم الأمراء لا يقل عن سروري وهي تَوَدُّ أن تختص عروسنا لمياء بالتفات هي أهلٌ له وستؤدي لها المهر عن قائدنا. وسنسوقه إليكم قريبًا وسنخص العروسين بقصرٍ من قصورنا فيكونان مثل بعض أهلنا.»
فأسرع جوهر إلى مقابلة هذا الإنعام بالنهوض ثم أكب على يدي المعز ليقبلهما علامةً للشكر فمنعه المعز وقال: «إن الحسين ابننا ولمياء بنتنا لا موجب للشكر وإنما يهمنا أن يكون زفافُهُما سعيدًا مباركًا.»
فقال حمدون — وهو يُظهر الامتنان: «إن نعم مولانا فوق ما نستحق ويكفي شرفًا لنا أن يكون ذلك العقد على يده. فهو لا شك يكون مباركًا ويزيد بركة إذا تنازل مولانا بحضور حفلة الزفاف. وإن كان ذلك مما لا يطمع فيه أحدٌ ولكني تجرأْتُ عليه لما ظهر من تلطف المولى في محاسنتنا.»
فلما سمعتْ لمياء هذا القول أكبرتْه وخافتْ أن يكون أبوها قد تطوح في طلبه إلى ما لا يُمكن الإجابة عليه. ورأتْ مثل هذا الاستغراب مِن جوهرٍ أيضًا. أما المعز فابتسم وقال: «إن ذلك هينٌ علي، ولا مانع عندي منه؛ لأن قائدنا جوهرًا أهلٌ لِما هو فوق ذلك. وإنما أخاف أن يكون فيه ثقلة عليكم.»
فترامَى جوهر على رُكْبة المعز وقبلها وهو يقول: «قد غمرني أميرُ المؤمنين بفضله وإحسانه، وكان الأميرُ حمدون قد خاطبني بهذا الأمر فلم أجسر على عرضه والتماسه، فكان هو أحسن مني تقديرًا لِلُطْف أمير المؤمنين.» فأسرع حمدون إلى الكلام قائلًا: «لم أقل ما قلته إلا وأنا أعرف منزلةَ القائد جوهر عند مولانا — أعزه الله — وقد جرأني على ذلك أن أمير المؤمنين جعل نفسه بمنزلة والد الحسين وخطب له جاريته ابنتنا لمياء، فسبق إلى ذهني أنه لا يرفض طلبنا ولا شك فإن ذلك تنازلٌ كبيرٌ منه. أما ما أشار إليه من الثقلة علينا فأي ثقلة فيه ونحن لو مشينا على رءوسنا بين يديه لا نكافئه على إنعامه.»
فكانت لمياء تسمع هذا الحديث وقلبها يطفح سرورًا لما توسمت فيه من تغير رأي والدها في المعز فظنتْه يعدل عن الفتك … ولما تصورت ذلك اعترضها شبح سالم كأنه يوبخها على رضاها بالحسين دونه؛ لأنها إذا تم الزفاف بلا فتك صارت عروسًا للحسين فارتبكت في تفكيرها ولبثت صامتةً وأفكارها تائهةٌ وأم الأمراء تراعي حركاتها فلحظت ارتباكها لكنها لم يخطر لها ما كان يجول في خاطرها.
ولما فرغ حمدون من قوله أجابه المعز وهو يبتسم قائلًا: «إن ظنك في محله أيها الأمير، ولكن قائدنا لم يعرف حقيقة منزلته عندنا، إننا سنحضر حفلة الزفاف معه ولا بد أن يكون ذلك في معسكركم حيث تُقيم العروس قبل زفافها إلى عريسها» وسكت …
فأجاب حمدون: «أينما كنا فنحن في ظل أمير المؤمنين، وليس لأحد منا معسكر ولا قصر إلا من نعمه. وإذا تنازل المولى بأن يكون ذلك في ظاهر المنصورية أريناه عادة السجلماسيين في الاحتفال بأعراسهم. وسيجري الفرسان هناك في حلبة السباق ويلعبون على ظهور الخيل، ولعله يسر أن يرى رجاله وعبيده يتسابقون على الأفراس بين يديه. ولو كان في المنصورية متسع لهذه الألعاب أو لو أمر سيدي بذلك؛ فإننا مطيعون.»
قال المعز: «بل نذهب إلى معسكركم ونُشاهد احتفالَكم. إني كثير الشغف برؤية الفرسان يتسابقون ولا سيما فرسان سجلماسة المشهورين بالفروسية والمهارة في ركوب الخيل. فمتى ترى أن يكون ذلك؟»
فقال حمدون: «ليس لأحدٍ منا رأي؛ فإن الأمر في ذلك لمولانا.»
فنظر المعز إلى جوهر كأنه يستشيرُهُ فبادر إلى الجواب قائلًا: «الأمر لمولاي.»
فقال المعز: «أما وقد دخلنا في شهر رمضان المبارك فلا أرى أن يتم الزفاف قبل انقضائه. فنجعله في عيد الفطر؛ تبركًا به، ويكون احتفالنا بالزفاف في جملة احتفالنا بالعيد.»
فبان البِشر في وجهَي حمدون وجوهر عند هذا الاقتراح وأخذا في تنميق عبارات الثناء أما لمياء فلم يكن ذلك جديدًا عليها، وكانت قد سمعته من أم الأمراء ولحظت من خلال تلك الأحاديث أن المعز عمل بما أوحتْه إليه امرأتُهُ فتأكدتْ حينئذٍ اهتمامها بأمرها وشدة حبها لها. والتفتت إليها لفتةً ملؤها الامتنان والشكر. ففهمت أم الأمراء من تلك اللفتة ما لا تقوى الألسنة على بسطه. وكان جوابها أنها ضمتها إلى صدرها وقبلتها فأكبت على يدها لتقبلها فمنعتها وقالت: «تأكدي يا بنية أن فرحي بتمام هذا الأمر يكفيني … ولكنهم أطالوا أجل الاقتران أليس كذلك؟» قالت ذلك على سبيل المداعبة.
فأطرقتْ لمياء حياءً فابتدرتْها أُمُّ الأمراء قائلة: «أعني أنهم أطالوه علي أو على الحسين … ألا ترينه ساكتًا مطرقًا لا يكلم أحدًا … تأكدي أني أعد هذا الشاب من أولادنا وأنت ابنتنا … ولذلك لا أرى أن يأخذوك إلى بيت أبيك إلا قبل الاقتران ببضعة أيام … أريد أن أشبع منك …»
وكانت لمياء في أثناء ذلك قد عادت هواجسها إليها وأصبحت شديدة الرغبة في مُلاقاة والدها؛ لترى هل تغير رأيُهُ وعول عن الفتك بعدما لاقاه من إكرام المعز أو هو يقول ما قاله مداجاةً. لكن سبق إلى ذهنها أنه يظهر ما يعتقده؛ لأن الصادق الحر لا يقدر أن يتصور نفاق الكاذبين. ثم هي من الجهة الأخرى يشق عليها أن تقبل بالحسين وتعد ذلك خيانةً فضلًا عن داعي قلبها. وهي في ذلك رأت الخليفة يتحفز للنهوض وقد نهض الجلوسُ واستأذنوا في الانصراف. ونهضت أم الأمراء ومشت لمياء معها وهي تود أن لا تعود إلى محادثتها بشأن ذهابها إلى أبيها؛ لأنها تحب أن تترك الأمر للتقادير لترى ما يكون في أثناء رمضان. وتحب أن تخلو بنفسها بعدما تقرر لتفكر في أمرها وتحل هذه المشكلة حلًّا معقولًا.