رأي لمياء
فارتاح بال حمدون إلى هذا الرأي وهو على ثقة من رضى لمياء وقد عزم على إقناعها به … فبات تلك الليلة وهو يحلم بما سيكون له من المنزلة الرفيعة بعد تلك المصاهرة ونسي أنفة آل مدرار وعز سلطانهم! والحقيقة أنه لم يفطن لذلك العز لو لم يحرضه عليه أبو حامد الداهية. وأما حمدون فقد علمت ضعفه وسرعة تقلبه وأنه إنما كان يُساق إلى طلب الانتقام بتحريض صاحبه هذا. فلما رآه قد وافقه على السكوت والرضا بالخضوع؛ فرح وبات تلك الليلة مطمئنًّا، وعزم على أن يبعث في استقدام لمياء إليه ليبشرها بذلك الرأي الجديد.
وأيقظه الغلام للسحور قبل الفجر، ولم يكد يفرغ من سحوره حتى أتاه الحاجب ينبئه بقدوم رسولٍ من صقالبة القصر فأذن بدخوله فإذا هو لمياء متنكرةٌ، فرحب بها وقَبَّلها وقد توسم القلق في عينيها فعلم أنها مبكرة إليه بشأن ما كان فيه أمس، فابتدرها قائلًا: «أراك مبكرةً يا لمياء!»
قالت والدمع يترقرق في عينيها: «إني لم أذق منامًا في هذا الليل.»
قال: «ولماذا؟»
قالت: «أتسمح لي أن أقول ما في خاطري؟»
قال: «قولي … ولكني أحب أن تسمعي ما أقوله أنا قبلًا.»
قالت: «تفضل.»
قال: «قد كنت في مثل قلقك أمس ولكنني اهتديت إلى حل جميل ارتاح له خاطري.»
قالت: «وما هو؟»
قال: «هل علمت أني تناولت طعام الإفطار أمس في قصر أمير المؤمنين؟»
فلما سمعت قوله: «أمير المؤمنين» استبشرت وقالت: «نعم علمت وقد سمعت ما دار بينك وبين الخليفة والقائد.»
قال: «هل علمت بما عزم عليه الخليفة من إكرامك بالمهر؟»
قالت: «سمعت … أمثل هذا الرجل ﻳ…»
فقطع كلامها قائلًا: «دعيني أتم حديثي … إن ما لقيته من ذلك الإكرام وما آنسته من سعة صدره وطيب عنصره وحب أم الأمراء لك قد أثر في كثيرًا.»
فأبرقت أسرتها وضحكت والدموع تتدحرج على خديها من الدهشة وقالت: «هل أثر فيك ذلك؟ هل يليق أن؟»
قال: «اسمعي … إني وجدت الأمر الذي كنا قد عزمنا عليه خيانةً لا تليق بنا.»
فلم تتمالك عن الإسراع إلى يده فتناولتْها وأخذتْ تقبلها ودموع الفرح تتساقط من عينيها وقالت: «الحمد لله … قد فرجت كربتي … صدقت يا أبتاه إن أمير المؤمنين لا يستوجب هذه الخيانة ولو عرفت مقدار حب أم الأمراء لي لازددت حرصًا على حياتهما … بالله قل هل عدلت عن عزمك؟»
قال: «رجعت عن مائدة المعز وأنا أحدث نفسي بذلك، وكنت أحسب أبا حامد لا يوافقني عليه فوجدته أشد رغبةً مني فيه؛ لأنه رأى ما رأيته وأنت تعلمين ذكاء هذا الصديق وتعقله.»
فتضاعف استغرابُها؛ لأنها لم تكن تتوقع هذا الفرج المزدوج وكانت عازمةً على تحريض أبيها أن يوافقها ولو خالف أبا حامد. فلما رأت أبا حامد موافقًا له على العدول انبسطت نفسها وتولتها الدهشةُ لهذه المفاجأة فقالت: «وقد وافقك أبو حامد على العدول أيضًا؟»
قال: «وليس ذلك فقط لكنه خلصنا من أمر آخر يتعلق بسالم.»
فلما سمعت اسم سالم انقبضتْ نفسها؛ لتذكُّرها المشكل الذي لم تجد له حلًّا أمس فقالت: «وكيف خلصنا من أمر سالم؟ أين هو الآن؟»
قالت ذلك وقد صبغ الحياء وجهها وعلاه قلقٌ واضطراب.
فقال: «نعم إنه أنقذنا من مشكل عظيم، وقد سألت عن سالم أين هو … إنه ليس هنا … وقبل أن أقول شيئًا بشأنه أسألك سؤالًا أرجو أن تصدقيني فيه.»
قالت: «وما هو؟»
قال: «لما لحق بك سالم في تلك الليلة ما الذي جرى له؟»
فتذكرت وصية الحسين بالكتمان وهي تضن بسالم أن يُهان فقالت: «ماذا جرى له؟ لم يجر له شيء.»
قال: «أصدقيني … إني قد اطلعت على فشله وجبنه فلا تنكري شيئًا.»
فاستغربت تصريحه وقالت: «من قال ذلك؟ لم يكن معنا أحدٌ سوى الحسين، وهذا لم يقص عليك الخبر.»
فقال: «ما أدراك أنه لم يقصه علينا؟»
قالت: «لأنه أمرني بالكتمان.»
قال: «لماذا أراد كتمان الواقع إن لم يكن في ظهوره عيبٌ على سالم؟ قولي الصدق.»
فلم تُطعها نفسها على الإنكار، فقالت: «إنه أساء التصرف مع الحسين؛ لأنه لم يكن يعرفه … ولكن مَن قص عليك الخبر؟ سالم؟»
قال: «لا. إن سالمًا خجل من قول الصدق، ولكن أبا حامد قَصَّه علي أمس، وقد استطلعه بفراسته ووبخ سالمًا عليه حتى أغضبه وخرج من المعسكر لا ندرى إلى أين.»
فصاحت رغم إرادتها «ويلاه إلى أين ذهب؟»
فقال حمدون: «يظهر أنك لا تزالين على حُسن ظنك به وعمه نفسه قد رذله واحتقره وكدره، وقد قال لي إنه ليس أهلًا للمياء الشريفة الصادقة … إن خطيبًا يرجع من بين يدي خطيبته بمثل هذا الفشل لا يليق بها.»
فقالت وصوتها مختنق: «أبو حامد قال لك ذلك.»
قال: «نعم. إذا كنت لا تصدقين فإني أدعوه ليقول ذلك أمامك.»
فغصت بريقها وأطرقت وقد تولتها الحيرة وتحرك قلبها فتذكرت منزلة سالم عندها وهي تجله وتنزهه عن كل عيب فكيف تسمع هذا القول وتسكت فصاحت «كلا … إن سالمًا شهم لا يستحق هذه الإهانة … إن عمه قد ظلمه.» وشرقت بدموعها.
فقال: «لله أنت يا لمياء … بل لله من الحب ما أقوى سلطانه … إن أبا حامد هو الذي رغبنا في سالم ثم هو اليوم يقول إنه جبان لا يليق بك … ومع ذلك فإن وصولك إليه لا يكون إلا بقتل المعز وقائده فهل نعود إلى عزمنا الأول؟»
فأجفلت وقالت: «لا … لا … إن أمير المؤمنين لا يستحق ذلك.»
قال: «وهل جوهر يستحقه؟»
قالت: «لا.»
قال: «وهل الحسين يستحقه؟»
فلما سمعت اسم الحسين شعرت بإحساس يشبه ما شعرت به ساعة وداعه تلك الليلة — إذ ودعته وقد سحرها بمروءته وسعة صدره — فسكتت وتوردت وجنتاها وتسارعت دقات قلبها وغلبت على أمرها. فأطرقت والدموع تتساقط من عينيها وأبوها يراعي حركاتها ثم قال: «لا بد من قتل الخليفة وقائدة أو التخلي عن سالم الجبان …»
فصاحت وقد تحيرت في أمرها: «لا هذا ولا ذاك … لا تقل الجبان إن سالمًا … آه ويلاه كيف أسمع هذا القول فيه؟» وعادت إلى البكاء.