الثعلب
وهي في ذلك سمعت وَقْع خطوات مسرعة خارج الخيمة، فالتفتت فإذا بأبي حامد قد دخل وهو متزمل بعباءته، وعلى رأسه عمامةٌ صغيرةٌ قد لاكها حول رأسه على غير نظام كأنه ناهضٌ من الفراش.
فحالما دخل لم تستطع لمياء عند رؤيته غير النهوض احترامًا، فأسرع إليها وأقعدها وهو يقول «لا تذكري سالمًا بفيك. إنه ابن أخي بل هو بمنزلة ابني ولكنني أنكرته منذ أمس وهو غير أهل لك وأنت أعلم الناس بالسبب … ومع ذلك فهو ليس هنا. ومن كان مثل لمياء التي جمعت شجاعة الرجال إلى لطف النساء وقد عرفناها صادقة اللهجة مخلصة الطوية يجب أن تتغلب على قلبها وتعمل بعقلها وكفى …» قال ذلك وقعد بجانب حمدون. فقالت — وهي تغص بريقها: «مهما يكن من الأمر إني لا أطيق أن أسمع مثل هذا القول في سالم … دعونا منه.»
فقال أبوها: «وهذا ما أدعوك إليه الآن …» وأظهر الاهتمام وتطاول نحوها كأنه يُريد أن يهمس في أذنها، وقال: «هذا أخي أبي حامد قد رأى مثل رأيي في هذا الأمر وقد وجد القرار الذي سبقنا إليه لا يليق تنفيذه فعزمت على أن أستقدمك؛ لأقص عليك ما جرى وكنت أعتقدُ أنك تتلقينه مسرورةً، فإذا أنت تجادليننا في سالم فإذا لم يعجبك رأينا الجديد عدنا إلى القديم.»
فخافت أن يغضب أبوها فيرجع إلى سوء رأيه فقالت: «قد رضيت لكنني أتقدم إليكم أن لا تذكروا سالمًا بسوء … لنرى ما يأتي به القدر.»
فقال أبو حامد: «نسكت عن سالم ولكننا فرحون بما اجتمع عليه رأيُنا، وسنحتفل بقرانك في هذه الساحة احتفالًا لم يُسمع بمثله ونزفك إلى الحسين بن جوهر بحضور الخليفة وإذا كان سالم أهلًا لك فليأت ويأخذك بنفسه … وقد عهدنا المحبين يتفانون في هذا السبيل ولا يفعلون ما فعله سالم من الفرار الذي تعلمينه … دعينا منه. لا أُحب أن أعود إلى ذِكْره إكرامًا لك.»
فسكتت وهي ترى الصواب في العدول عن سالم بعد ما رأتْه من تصرفه فضلًا عن البواعث القاهرة التي ألجأتْها إلى القبول بغيره لكن قلبها لم يطاوعها على الارتياح لذلك الاقتراح فجعلت قبولها مشفوعًا بانتظار ما يأتي به الغد أو ما تدبره الأقدار.
انفضَّت تلك الجلسةُ على هذه الصورة فرجعت لمياء إلى المنصورية تنتظر أمر والدها في القدوم عليه قبيل الزفاف، ومكث حمدون وقد اطمأن خاطرُهُ ووطن نفسه على الاكتفاء بالقُربى من المعز لدين الله ولو مؤقتًا وقد شفع قبوله أيضًا بانتظار ما يأتي به الغد.