أبو حامد
أما أبو حامد فخرج من تلك الجلسة وقد ضاقت نفسُهُ مِن حبس إرادته وأتعبتْه المراوغة وتكلُّف الظهور بعكس ما يضمره. فما صدق أنه عاد إلى فسطاطه وخلا بنفسه حتى تنفس الصعداء وقد هاجت ضغائنه وغلت مراجلُ صدره وأصبح يزمجر كالشبل الجريح. وأمر حارسه أن لا يدخل عليه أحدًا وجعل يخطو في الفسطاط ذهابًا وإيابًا وهو مطرقٌ يعمل فكرته ويستحث قريحته في تدبير حيلةٍ ينال بها غايته. وقد عظُم عليه عُدُول حمدون عن قتل المعز ولم يكن أسهل عليه من أن يقنعه بما له من السلطة على أفكاره لكنه خاف رُجُوعه مرة أُخرى على غرة وربما باح بسره فيعود ذلك وبالًا عليه. فأظهر ارتياحَه إلى رُجُوعه، وأضمر أن ينفذ غرضه بنفسه فيقتل المعز وقائده وقد يقتل حمدون وابنته وزوجها؛ فإنه لا يبالي من يقتل أو لماذا يقتل في سبيل غرضه.
قضى مدة في هذا التفكير وهو يخطو ذهابًا وإيابًا، ثم جعل يناجي نفسه قائلًا: «أنا أبو حامد حامل سيف النقمة … اطمئن بال هذا الأمير المغرور وسكن خاطره واعتقد أني أطعتُهُ في العدول عن قتل ذلك الطاغية كما اعتقد أولًا أني أسعى في هذا القتل إكرامًا لخاطره لأعيده إلى سرير ملكه في سجلماسة وصدق أنه من آل مدرار أصحاب تلك المملكة العظيمة. وهو يعلم أنه دعي في نسبهم؛ لأنهم انقرضوا منذ أعوام. ولكنه حسبني أقول ما أعتقد فوافقه قولي ورضي بذلك النسب وبنى عليه حقه في إمارة سجلماسة ووافقني أيضًا على الفتك بالمعز وقائده وأنا أعلم ضعفه وتردده وطالما خفت رجوعه. فأحمد الله لرجوعه الآن قبل أن أدبر طريقة الفتك وأطلعه عليها فإذا انقلب بعد ذلك أخاف أن يبوح بها لصديقه ومولاه المعز فيذهب سعيي عبثًا … أما الآن فإني أكتم تدبيري عن كل إنسان وسأجعلُهُ قاضيًا عليهم أجمعين … أبا عبد الله! إني ثائر لك. نم هادئًا إن دماء أعدائك سأجريها في قناة حتى تدرك قبرك فترتوي أنت منها كما أرتوي أنا هنا. في فج الأخيار مستودع القوة فإذا فرغت مِن قتل هؤلاء الأعداء عدت إلى إتمام مهمتي. أنا أبو حامد ويل لهم من نقمتي.»
وكان يناجي نفسه وهو يمشي، ثم يقف، ثم يمشي كالحيران ويعبث تارة بشاربيه وطورًا بلحيته أو يقضم أظافره بين أسنانه حتى كاد يدمي أنامله من عظم ما هاج في خاطره. ولو نظر إلى وجهه في المرآة لرأى سحنته مرعبة؛ إذ احمرت عيناه وانتفش شعره لكثرة عبثه به وقد أفسد نظام عمامته ولحيته وشاربيه كأنه خارجٌ من عراك طويل.
ثم تمالك وأخذ يُصلح مِن شأنه ويتظاهر بالسكون وهدوء البال. وأمر غلامه أن يسرج له الجواد.
ركب أبو حامد والغلام ماشٍ في ركابه والشمس في الضحى. وقد تعود الركوب للرياضة فلم يستغشه أحد. ولما صار خارج المعسكر أمر الغلام بالرجوع وقد عوده الكتمان فلا حاجة به إلى التنبيه عليه أن يكتم أمر سيده وجهة مسيره.
أما هو فإنه ساق جوادَه وأوغل في الصحراء وقد حميت الشمس وانعكست أشعتُها على الرمال فظهرت لامعةً تتوهج. وأرسل نظره إلى الأُفُق ليتطلع إلى الجبل الذي يقصده فوجد السراب قد حجبه. ورغم ما تعوده من مشاهدة السراب في البادية في مثل تلك الساعة فقد خدع به. فكان يتوقع أن يرى في أقصى ما يقع عليه بصره من الأفق جبلًا مخروطي الشكل مميزًا عما يحف به من الجبال. فأوهمه السراب أن هناك بحيرة تتراءى في مائها صور أشجار تظهر مقلوبة وخيل له أنه يرى قوارب سابحة على سطح البحيرة.
شغله ذلك المنظر برهة وإن لم يصدقه وكلما اقترب من المكان انجلى له حتى وصل إلى الجبل وأكثره أجرد وفيه كثيرٌ من الكهوف والشقوق على شكل يندر بين الجبال.
فساق جواده في منعطف صاعد يصعب سلوكُهُ لِضيقه حتى دار من وراء الجبل وهو لا يسمع غير وقع حوافر جواده أو صهيله. وإذا أطل أشرف على سهل رملي ليس فيه شيء من العمارة.
وكان وهو سائق يتلفت إلى الوراء حذرًا من أن يكون أحد في أثره حتى اقترب من مغارة عظيمة لها باب كبير منقور في ذلك الجبل فتنحنح نحنحة خاصة فسمع مثلها في قاع المغارة فساق فرسه حتى وقف في الداخل. فسمع مناديًا يقول والصدى يردد قوله: «ادخل يا مسعود.»