التدبير
فترجل ودخل وهو يقود الفرس بزمامه وراءه. وكأن الفرس أحس برطوبة المكان فتوالى عليه العطاس ودوى صوت عطاسه دويًّا يزيده إجفالًا واستغرابًا.
وبعد مسير بضع دقائق انتهى إلى بقعة منيرة فيها ما تقشعرُّ له الأبدان من أشكال الحيوانات المتضادة في طبائعها مما لا يخطر ببال كالثعابين والسحالي وأنواع الضب والطير والحمام بين سارح ومنساب وواثب. وبينها حيةٌ مهولةٌ قد التفت على جزع شجرة منصوب لها هناك ورأسها يتلوى ذات اليمين وذات اليسار. وأُخرى تنساب بين الأحجار الملقاة على الأرض. ولو لم يكن قد تعود المجيء إلى ذلك المكان ومشاهدة تلك المناظر واعتقاده أن تلك الدبابات لا تؤذيه؛ لأنها مسحورة لأجفل وخاف. أما الفرس مع أنه كان يصطحبه كل مرة فلم يألف ذلك المنظر المريع فاضطرب وضرب الأرض بحافره وصهل وتراجع وأبو حامد ممسك بزمامه ينتظر أن يأتي من يتناوله منه. وإذا بعبد عظيم الجثة برز من بعض أطراف تلك البقعة وألقى التحية فرد عليه أبو حامد. فتقدم العبد وقبل يده وتناول زمام الفرس ومشى به إلى مكان يربطُهُ فيه.
ثم مشى أبو حامد في طريق تجنب فيه العثور بشيء من تلك الحيوانات حتى دخل دهليزًا منقورًا بالصخر، ولو زار ذلك المكان أحد علماء الآثار اليوم لَتحقق أن تلك المغارة مِن بقايا الأبنية القديمة في العُصُور الغابرة؛ لأنها منقورةٌ في الصخر وربما كانت في الأصل قبورًا أو هياكلَ وتُنوسي خبرها حتى أصبحت مسكنًا لكاهنة ساحرة لا يصطلَى لها بنار. وكان أبو حامد قد عرفها منذ أعوام واستعان بها في كثير من شئونه. وهي من خلفاء كهان البربر قبل الإسلام، اتصلت إليها هذه الصناعةُ مِن أجدادها وهي تخاف الظهور فاستترت هناك ولا يصلها إلا القاصد.
ولم يمش أبو حامد قليلًا حتى دخل حجرةً منقورةً في الصخر أيضًا وفي صدرها دكة من الحجر قد تربعتْ عليها عجوزٌ شمطاء بلباس غريب الشكل فيه من كل لون قطعة. شعرها ناصعُ البياض وقد انتفش واشتبك فأصبح منظرُها مخيفًا. وهي في الأصل سمراء اللون ولكن الشيخوخة جعلتْ لونها أقرب إلى السواد وتجعد جلدها وغارت عيناها وتدلى حاجباها الغليظان نحو الأمام فأصبحت عيناها كالمصباح يتراءى من وراء نافذة مظلمة. تحتها أنفٌ غليظٌ قصيرٌ فيه حلقة من العاج أُدخلت في أنفها كالخزام منذ صباها على يد ساحرة كان لأهلها ثقةٌ في علمها واعتقدوا أن وجود ذلك الخزام من أكبر أسباب مهارتها. وناهيك بما في أذنيها من الأقراط وفي عنقها من العقود وحول زندها من الأساور وفيها الذهب والفضة والعاج. وقد جلست على جلد دب وألقت على كتفيها جلد نمر وفي حجرها ثعبانٌ غليظ قصير تتلاهى بملاعبته.
فلما أطل أبو حامد عليها رحبت به بصوت جهوري وقالت: «أهلًا بولدي مسعود … قد أطلت الغياب علي … أين كنت؟» وأشارت إليه بعصًا طويلة — كانت بجانبها — أن يقعد على دكة بين يديها فقعد وهو يقول: «كنت في عملي الذي تعلمينه.»
فقالت: «قد آن لك الظفر يا مسعود …» وهو الاسم الذي تعرفه به فأبرقت أسرته؛ لأنه كان يعتقد صدق فراستها واقتدارها على كشف المخبآت حتى جعلها مستودع أسراره من أيام أبي عبد الله الشيعي. وكانا يأتيانها أحيانًا ولها دخل في جمع كلمة قبائل البربر الذين نصروا أبا عبد الله في تأييد العبيديين. فكان أبو حامد لذلك عظيم الثقة بها لا يأتي عملًا هامًّا إلا شاورها فيه. فتنصحه وهو لا يزداد إلا ثقةً بها. وقد جاءها في ذلك اليوم لأمر لا يخفى على القارئ، ولا هو يخفى على تلك الكاهنة الشمطاء؛ لأنها كانت مشرفة على أخباره — ليس مما ينقله هو إليها ولكن لها جواسيس مبثوثين في البلاد لمثل هذه الغاية — فلما قالت له ذلك استبشر واعتقد صدق قولها؛ لأنها كانت متسلطةً على أفكاره مثل تسلُّطه على أفكار الآخرين، فقال لها: «هل علمت ذلك يا خالة أم تسألينني؟»
فنظرتْ إليه شزرًا وقالت: «ومتى كنت أستشيرك يا جاهل.»
فضحك وجعل يعتذرُ لها عن جسارته، وكانت وقاحتُها هذه من أسباب تمكين هيبتها فيه، فمد يده إلى جيبه واستخرج صرةً فيها نقود دفعها إليها وهو يقول: «بارك الله فيك … صدقت قد دنا الفرج … اقبلي هذه الدراهم طعامًا لأولادك هؤلاء.» وأشار إلى الثعبان الذي في حجرها وهو يُظهر المزاح.
فمدتْ يدها وتناولت الصرة وهي تهز رأسها هز الإعجاب وتقول: «لا تَقُلْ دنا الوقت بل قل أتى … لم يبق إلا خطوة صغيرة.»
قال: «نعم يا سيدتي إنها خطوة ولكنني أراها شاقة …»
قالت: «أين صرت الآن؟»
قال: «سأجمع الرجلين في مكان واحد وإنما أحتاج إلى رأيك في كيفية القتل … بالخنجر أم بالسم.»
فضحكت ضحكةً دوى لها المكان وكشرت في أثناء القهقهة فبانت نواجذها وأصبح فمها كالمغارة المظلمة. ثم أطبقت فاها فجأة وأطرقت وقد تغيرت سحنتُها وأبرقت عيناها ومدت يدها إلى علبة صغيرة بجانبها تناولتْ منها مسحوقًا وضعت بعضه في فيها وجعلت تتلاهى بامتصاصه ومضغه. ثم رفعت بصرها إلى أبي حامد وكانت الصرة لا تزال بيدها فرمتها إليه وقالت: «لا حاجة إلى أولادي بدراهمك.»
فأدرك أنها استقلت المبلغ فاستخرج صرتين أخريين ودفع الكل لها وهَمَّ بتقبيل يدها تزلفًا واسترضاءً، وهي تتجنى وتترفع. لكنها تناولت النقود وقالت: «إن طلبك لا يقدر بالمال وأنا أعينك فيه إكرامًا لذلك المقتول ظلما … انظر … سأعطيك مسحوقًا الذرةُ الصغيرة منه تقتل فيلًا كبيرًا … وإذا لم تصدق جرب …» وضحكت وليس ضحكها إلا عبارة عن تكشير شفتيها بدون أن يرافق ذلك ملامح الضاحكين. ثم أمرت الثعبان الذي في حجرها أن ينصرف فانساب إلى وكره.
فنهضت وهي تتوكأ على عكازها الغليظ وأشارت إلى أبي حامد أن يمكث في مكانه ريثما تعود. فمكث على مثل الجمر وهو يتبع الساحرة ببصره وقلبُهُ يختلج خوفًا من أن يثب عليه الثعبان وهو يعتقد أن الموت في نابيه رغم اعتقاده أنه مسحور. وفاته أن تلك الثعابين قد أقلعت أنيابها السامة ولولا ذلك لقتلت صاحبتها؛ لأنها لا ترعى ذمامًا.
فاستبطأ الساحرة فقال في سره: «ألا يخشى أن تخونني هذه الملعونة إذا أغراها سواي بمال كثير؟ فيجب أن أقتلها قبل خروجي من هنا.» ولكنه يعلم أن لها أعوانًا ربما كانوا مختبئين هناك فعدل عن القتل وعزم على إطماعها بالمال الكثير خوفًا من غدرها.
وبعد قليل عادت وفي يدها حق من الأبنوس فتحته وأرته فيه مسحوقًا أبيض وقالت: «احذر أن تمسه بيدك؛ لأن ما يعلق منه بطرف إصبعك كاف لإزهاق الروح.» ثم أقفلت الحق ودفعته إليه.
فتناوله وقبَّل يدها، وقال: «لا تظني أني أنسى فضلك فإني معد لك هدية ثمينة سأدفعها إليك بعد الفراغ من هذا العمل.»
قالت: «لا حاجة بي إلى هدية … خذ هذا الحق وامضِ إلى سبيلك.»
فتناوله وخبأه في جيبه وودعها وخرج. فرأى العبد في انتظاره فركب الجواد وعاد إلى فسطاطه وهو يمنِّي نفسه بالفوز.