موكب الخليفة والسباق
دبر أبو حامد ذلك كله خلسةً ولم يشعرْ به أحدٌ وظل مشتغلًا مِن جهةٍ أُخرى بإعداد مهمات الاحتفال. وقبل يوم الفطر ببضعة أيام نُقلتْ لمياء إلى فسطاط أبيها على أن تُزَفَّ من هناك إلى الحُسين في المنصورية على العادة الجارية عندهم. وفى صباح يوم الفطر كان معسكر حمدون غاصًّا بالسرادقات والأعلام. وبعد الظهر خرج الخليفةُ بموكبه من قصره في المنصورية وعليه لباسُ العيد تحفُّ به حاشيته من الأمراء والصقالبة. وقد امتطى فرسًا من جياد الخيل ومشى بين يديه الأمراءُ والقوادُ إلا قائده جوهر فإنه أمره أن يسير راكبًا بجانبه.
فلما أَطَلَّ موكبُ الخليفة على ذلك المعسكر خرج حمدون لاستقباله بالاحترام ومشى بين يدي الجواد حتى وقف أمام السرادق المعد لجلوسه.
فترجل الخليفة وقائدُهُ وأومأ إلى الحسين بن جوهر أن يصعد معهما إلى دكة في صدر السرادق مفروشة بالبسط والوسائد. وقد أوقدت مباخرُ الند والعود في جوانب السرادق وغرست الأعلام ببابه.
فجلس المعزُّ في الصدر وأمر قائده أن يجلس إلى جانبه والحسين بين يديه. وكان الحسين أكثرهم فرحًا وقلبه يطفحُ سرورًا لِما اتفق له من الحفاوة في عرسه مما لم يتيسرْ لسواه. كيف لا وقد خرج الخليفةُ المعزُّ لدين الله من قصوره إلى تلك الساحة إكرامًا له ولم يبق في الأمراء والقواد إلا مَن حسده على هذه النعمة. وتقدم حمدون للترحاب بالخليفة عند جلوسه وأكب على يده كأنه يهم بتقبيلها اعترافًا بما خوله من الالتفات بتلك الزيارة وقد أخلص النيةَ في طاعته. ثم سأل الخليفة عمن يريد أن يجالسه في سرادقه من الشعراء فاكتفى بابن هاني (متنبي الغرب) وكان حمدون قد أعد له ولأمثاله مقاعد في جوانب السرادق.
جلس المعز ووراء مقعده صقلبيان يحملان المذاب من ريش النعام كالمظلة فوق رأسه. وهو ينظر إلى ما يشرف عليه من السرادقات الأخرى. التي أُعدت لجلوس خواصه ورجال حاشيته. واختص بعض أمرائه بالجُلُوس معه في سرادقه وأمام ذلك السرادق ساحةٌ فسيحةٌ قد سُويت أرضها وفرشت بالرمال للعب الخيل.
ووقف حمدونُ بين يدي المعز وجعل يقدم له أمراء سجلماسة واحدًا واحدًا ويسميهم بأسمائهم وفي جملتهم أبو حامد واختصه عند التعريف بعباراتِ الإعجاب به وأعرب عن إخلاصه للخليفة. فأمر المعز أن يكون من جملة الجُلُوس في ذلك السرادق. ولم يقصر أبو حامد في تأكيدِ ولائه وولاء سائر أُمراء البربر لأبناء فاطمة الزهراء. وبالغ في الإطراء وهو — كما علمت — فصيح اللهجة قوي الحجة رغم ما في سحنته من الغرابة. فأعجب المعز به وتوجه نحوه وأبدى ارتياحَه إلى مجالسته.
فلما استقر الجلوس بالقوم تصدى أبو حامد للترحيب بالخليفة بالنيابة عن صديقه حمدون، فقال: «إن صديقي أمير سجلماسة يحق له أن يُفاخر سائر الأمراء بما أوتيه من تنازلكم لوطء بساطه. بل يحق له أن يفاخر الناس كافة وقد وطئ بساطه ابن بنت الرسول ﷺ ولعل صديقي حمدون؛ لفرط امتنانه لا يقوى على تأدية حق الشكر.»
فأعجب المعز بحديث أبي حامد وقطع كلامه على سبيل التواضُع وقال: «إننا نقدر الرجال أقدارهم ونحن نعلم فضل صاحب سجلماسة، ومَن أخلص الصحبة لنا جعلناه واحدًا منا وإن مصاهرته لقائدنا الباسل جعلت له منزلة خاصة من نفسنا.»
فتقدم حمدون عند ذلك وقال نحو ما قاله أبو حامد من عبارات الشكر وأكد للخليفة أنه مخلصٌ في خدمته واستأنف الحديث قائلًا: «ألا يأمر أمير المؤمنين بشيء يسر بمشاهدته من الألعاب.»
فأحب المعز أن يزيده استئناسًا به، فأجابه باللغة البربرية؛ لأنه كان يُحسنها وقال: «كثيرًا ما سمعتُ بمهارة فرسان سجلماسة بركوب الخيل فهل يتيسر لنا أن نراهم يتسابقون؟» وتبسم.
ففرح حمدون بذلك الانعطاف وأسرع وهو يُشير بيديه فوق رأسه إشارةَ الطاعة. والتفت نحو الوقوف بباب السرادق من الرجال وأومأ بإصبعه إلى واحد منهم فهرع، ولم يمض قليل حتى غصت تلك الساحة بالخيول عليها الفرسان بالألبسة الفاخرة على زي أهل سجلماسة وأكثرهم باللثام على رءوسهم يغطي معظم الوجه. وعلى أكتافهم البرانس الواسعة نحو ما يلبسه أهل تلك البلاد إلى اليوم. وعلى خُيُولهم السروج المختلفة وفيها القرابيزُ الفضة المذهبة أو المنزلة بالعاج وبينها خيولٌ عاريةٌ لا سرج عليها وإنما يزينها جمالُها الطبيعيُّ. على أَنَّ العارفين بطبائع الخيل لا يلتفتون إلى ما على الأفراس من الكساء وإنما ينظرون إلى صدورها وأعناقها وأكتافها، ويتفرسون في عيونها. وكان المعز من أكثر الناس معرفةً بالخيل فأخذ يتأمل تلك الأفراس ويجيل نظرَه فيها كما يفعل العارفُ الخبير.
وقف الفرسان صفًّا واحدًا عند السرادق وخيولُهُم لا تستقر في مواقفها ريثما أَدَّوْا واجبَ الاحترام. ثم أشار حمدونُ إليهم فأخذوا في اللعب على ظُهُورها ألعابًا مدهشة تشغل الخاطر لغرابتها، وفيها ما يبعث على الإعجاب الكثير؛ لأن بعض الفرسان كان يسوق فرسه حتى لا تكاد حوافره تطأ الأرض ويعمد وهو في تلك السرعة فيدور حوله حتى يلتصق ببطنه ثم يعودُ إلى ظهره ورأى غيره يركب فرسًا ويسوق آخر إلى جانبه وينتقل من ظهر الواحد إلى ظهر الآخر والفرسان في أشد السرعة وغير ذلك. فلم يتمالك المعز عن إطراء تلك المهارة ووجه خطابه إلى أبي حامد وقال: «بالحقيقة إن أهل سجلماسة من أمهر قبائل البربر في الفروسية حتى نساءهم فقد بلغني أن فيهن ماهرات يسابقن الرجال.»
فتصدى القائد جوهر للجواب وقال: «نعم يا مولاي إني رأيت ذلك منهن رأي العين في بلادهن.» والتفت إلى ابنه الحسين وابتسم ابتسامة فهم الجميع مراده منها — وهو يعني لمياء على الخصوص — فقال أبو حامد: «أظنك تعني لمياء وهز رأسه هز الإعجاب» فالتفت المعز وقال: «عرفنا لمياء عاقلةً حكيمةً وسمعنا ببسالتها في ساحة الوغى … فهل تُحسن ركوب الخيل أيضًا؟»