لمياء على الجواد
فوقفت ورأت خُرُوجها على الجواد خيرًا من بقائها هناك، وخطر لها أنه قد يرميها فتقتل وتنجو من ذلك التردد، فأطاعتْه ولبست ثوبًا يليق بالركوب ولفَّت رأسها بلثام تعودت أن تلتف به إذا ركبت. وأتوها بفرس من أحسن الأفراس فركبت وساقتْه إلى الساحة أمام السرادق والجواد يقطر عرقًا. فتقدم إليه بعضُ الغلمان الواقفين هنا لتلبية الفرسان بما يحتاجون إليه من التقاط حربة سقطت أو إبدال رمح كسر، وفيهم من يمسح عرق الخيل أو يغسل وجوهها تنشيطًا لها. فتقدم أحدهم وبيده وعاء فيه ماء وإسفنجة بَلَّهَا بالماء ومسح وجه الجواد وأخذ بتنشيفه ولمياء على ظهره كالجبل الراسخ.
ولم يكد الغلام يفرغ من عمله والخليفة يتوقع أن تبقى لمياء واقفةً تنتظر أمره. فرآها أشارت إليهم إشارة الوداع كأنها راجعةٌ إلى خدرها.
وإذ بالجواد قد عاد بها عدوًا سريعًا عن غير إرادتها كأنها وخزته بحربة في جنبه. ولم تشأْ أن توقفه؛ لئلا يظهر ذلك مظهر الخوف منها فأطلقت له العنان على أن توقفه هناك وهي بعيدة عن سرادق الخليفة. فظنها أهل السرادق أنها فعلت ذلك عمدًا على أن تعود رأسًا إلى فسطاطها. أما هي فأرادت أن توقف الفرس فلم تره يزداد إلا عدوًا على غير هدًى كأنه أُصيب بجنة.
وعبثًا حاولت كبح جماحه. ثم رأته يتوغل بها في الشعب والجبال وهو يشخر ويصهل ويهز رأسه. وأرادت أن تحوله نحو المعسكر فلم يطعها. وبعد قليل التفتت إلى ورائها فرأت أنها صارت على مسافة بعيدة من المعسكر وقد توارى عنها المعسكر والمنصورية جميعًا والجواد سائرٌ فيها شرقا جنونيًّا.
مرت بها دقائقُ رهيبةٌ خطر لها في أثنائها خواطرُ عديدة. وفى جملتها أَنَّ جُمُوح ذلك الجواد قاتلها لكنه قد ينقذها من ترددها ووخز ضميرها، وكانت الشمسُ قد مالتْ إلى المغيب وأخذت الظلال تستطيل ولمياء توغل في الوعر وتبعد عن العمران.
فثبَّتت نفسها على الجواد كأنها قطعةٌ منه وهي لا تخاف الوقوعَ عنه لكنها تحققت أنه أُصيب بشيء كالجنون أو أنه أهيج بوخز أو عقار مهيج؛ لأنه لم يكن يعدو في طريقٍ معروف بل كان تارةً يهبط واديًا وطورًا يصعد جبلًا والحجارة تتطاير من بين حوافره. ولم يقع بصرها على أحد تستنجده أو تستأنس به. فعزمت على التحوُّل عن الجواد وهو راكض — ولا يعجزها ذلك لتعوُّدها مثله — ولكنها لم تكن تجد أرضًا رملية أو ترابية تثب إليها.
وهي تفكر في ذلك اصطدم الجواد بصخر فانتثرت هي عن ظهره بقوة الاستمرار وقُذفت إلى مسافة بضعة أذرع، فوقعت في حفرة هناك قليلة العمق فغابت عن رشدها.
ولم تنتبه إلا وقد أظلمت الدنيا وظهرت النجوم فأرادت النهوض فأحست بألم في جنبها فلم تجد فيه كسرًا وإنما هي رضوض. ثم أحست بشيء يسيل على عنقها فتلمسته فإذا هو دم بارد. فعرفت أنها أصيبتْ بجروح فتجلدت وتماسكت، ثم توكأت على ما بين يديها ونهضت وهي تستند إلى جدار الحفرة. والتفتت إلى ما حولها فرأت أنها في بلقع، ولم تقو على الوقوف فسقطت، فأخذت تفكر بما حل بها وصبَّرت نفسها ريثما تستريح وجعلت تجس أعضاءها لتتحقق نجاتها من كسر أو صدع، فوجدت أنها سليمة ليس فيها غير الرضوض.
وشغلها اضطرابُها عن خوف الحشرات المؤذية وهي كثيرةٌ هناك.
وأخذت تناجي نفسها قائلة: «ألم يكن من الحكمة أن أُصاب بكسر في عنقي بهذه الصدمة فأموت وأنجو من متاعبي؟ فيكون الله قد استجاب دعائي وأنقذني من عذاب التردد؟ يا ربي ما العمل الآن؟»
ثم تزحزحتْ لتجرب قوتها فسمعت خشخشة ثعبان ينساب بين الأحجار وراءها. فقف شعرها وهمت بالنهوض لتخرج من ذلك المكان — ولم تكن تخاف الثعابين إذا قابلتها في النور لكنها خافت الغدر.