نص الرسالة
إلى أمير المؤمنين المعز لدين الله من عبده يعقوب بن كلس
أما بعدُ فإنني ما برحت أذكر نعم المولى وفضله علي وعلى آبائي وأنا أَتَرَقَّبُ الفُرَص للقيام بما فُرض عليَّ في سبيل نصرته؛ لأني وإن كنت ذميًّا لم أتشرف بالإسلام فإني قادر على أن أرى وجه الحق بالنظر إلى تنازُع المسلمين على الخلافة — وهي حق صريح لآل علي أبناء عم النبي وأبناء بنته.
وإنما اختلسها سواهم طمعًا بالدنيا، لكن الحق عاد إلى نصابه بفضل أجدادك الكرام وسيتأيد على يد الإمام المعز لدين الله؛ ولذلك رأيتني لا أدخر وسعًا في نصرة الحق وأراقب الفرص في تأدية خدمةٍ تعود على الإمام بالنصر وقد علمت بدسيسة أَعَدَّهَا المبغضون لإيقاع الأذى بالإمام وقائده — أعزهما الله — علمت ذلك بطريقة غريبة في ليلة من ليالي القدر، فلم أنم قبل أن كتبت هذا وبعثت به على جناح السرعة مع رسول غيور، أوصيته بجد السير حتى يصل قبل فوات الفرصة. فأرجو أن يكون قد فاز بذلك وسلم كتابي هذا إلى المولى — أعزه الله ونصره على أعدائه.
وجلية الخبر يا سيدي أني علمت من قرائنَ مختلفة أن بين أمرائك العائشين تحت جناحك أُناسًا يسعون في الكيد لك ولقائدك ويخابرون صاحب مصر لفتح القيروان وإلحاقها بخلافة العباسيين، وكنت إذا سمعت ذلك استبعدتُهُ؛ إذ لا يعقل أن يسعى أحد في إبدال دولة بالية خربة من دولة جديدة زاهية، وحدثتني نفسي أن أكتب إليكم بذلك وترددت حينًا حتى وقفت بالصدفة على أمر أطار صوابي وأقلقني، وهو ما بعثني على كتابة هذا بوجه السرعة وقلبي يخفق خوفًا من تأخُّره عن الوقت اللازم.
علمت يا سيدي من مصدر وثيق — وقد سمعت بأذني — أن صاحب سجلماسة المقيم في جوارك ورجلًا من خاصته اسمه أبو حامد اتفقا على الكيد بك وبقائدك الباسل على أن ينفذ الحيلة في عيد الفطر المبارك وبعثا إلى مصر شابًّا من رجالهما اسمه سالم يزعم أنه ابن أبي حامد أو ابن أخيه، فهذا الشاب سمعتُهُ بأذني يقص خبر المكيدة وهو في حال سكر على امرأة تَعَشَّقَها. ولكي تتأكد صدق قولي فأنا أذكر من أسماء الأشخاص الذين استعان بهم في هذه المكيدة فتاة أظنها ابنة صاحب سجلماسة اسمها لمياء أظهر لها سالمٌ أنه يحبها ليستخدمها في إتمام هذه المكيدة؛ لأنها من المقربين في قصر مولاي أمير المؤمنين. ولا يطيعني قلمي على التصريح بما دبر أولئك الملاعين — وقى الله مولانا الخليفة من كيد الكائدين — وإذا بلغ كتابي هذا إلى سيدي الخليفة قبل عيد الفطر فهو ناجٍ بإذن الله.
والرسول رجلٌ من المولعين بالحق أنصار العلويين — أيد الله ملكهم — وأنا يا سيدي خادم مطيع لكم أبذل نفسي في سبيل الحق ولا غرض لي غير ذلك، والسلام ا.ﻫ.
ولم يبلغ جوهر إلى آخر الكتاب حتى استولت الدهشةُ على لمياء وأصابها شبه الدوار من الحيرة؛ لاستغرابها ما تسمعه عن سالم. وانكشفت لها مكيدتُهُ وتحققت أنه كان يُخادعها؛ فأحست من تلك اللحظة بكرهه وتحول حبها الشديد إلى كره شديد وأصبحت لا تصبر عن الانتقام لنفسها منه … وأطرقت كأنها أصيبتْ بجمود وشعرت كأن الدم جمد في عروقها واصطكت ركبتاها وتولتها الرعدة. وقد خجلت مما تُلي عليها من دخولها في تلك المكيدة. وكيف أن يهوديًّا يبعث بخبرها من مصر غيرةً على الخليفة، وهي في قصر المعز وقد اطلعت على المكيدة منذ شهر ولم تخبرْه بها، لكنها التمست لنفسها عذرًا أنها دافعت حتى انتهت المسألة على هذه الصورة.
مرت هذه الخواطر على ذهنها في لحظة سمعت في أثنائها الخليفة يقول: «أين صديقنا صاحب سجلماسة.»
فلما سمعت لمياء نداءه تحققت أنه أراد أن يسأله عن المكيدة وخافت وقوعه في الأذى لكنها سكتت لترى ما يكون. فأجاب أحد الغلمان: «إن الأمير حمدون نائم منذ نهض عن المائدة.»
فقال وقد بان الغضب في وجهه: «أيقظوه.» ثم التفت إلى القائد جوهر وقال: «وأبو حامد؟ أليس هو ذلك الرجل الذي قدمه لنا حمدون؟ أحب أن أرى الأمير حمدون لأسأله عن تلك المكيدة وإن كنت لا أُصدق دخوله فيها ولكنه سيُفصح عن التفاصيل ونرى ما يكون … أين هو؟ أيقظوه.»