أبو عبد الله الشيعي
فسكت المعز برهة وعاد إلى الاهتمام وأخذ يلاعب قضيب الملك بين أصابعه وهو يتأمله، ثم قال: «ولكنني أخاف عليهم الجُنُوح إلى الترف فيأخذهم ما أخذ أعداءنا في بغداد من أسباب المدنية حتى صاروا إلى ما صاروا إليه من الذل فغلبهم مواليهم الأتراك والديلم ولم يتركوا لهم من الخلافة إلا اسمها — ولا أُخفي عنك أني لم أطمعْ بهم إلا لما بلغني مِن ترفهم وانهماكهم واسترسالهم في الملذات، فإذا أصاب رجالنا ما أصابهم صرنا إلى مصيرهم.»
فأعجب المعز بِمَا سمعه منه فقال: «إن هذا لا يكفي يا أبا الحسين إني أخاف على رجالي الاستكثار من النساء. إني لا أرى للواحد منهم أن يقتني غير المرأة الواحدة؛ لئلا يتنغص عيشهم وتعود المضرة عليهم وتنهك أبدانهم وتذهب قوتهم. وكثيرًا ما أوصيتهم بذلك ليقرب الله منا أمر المشرق كما قرب أمر المغرب.»
قال: «إن سهر مولاي على دولته بمثل ما تقدم كفيل بالنجاة من الوقوع في ما تَخَوَّفَه ولكنني أخاف …» وسكت وهو يتشاغل بإصلاح عمامته وخماره.
فلحظ المعز في وجهه شيئًا يكتمه فقال: «وما الذي تخافُهُ يا جوهر؟ قل!»
قال: «أخاف الدسائس السرية.»
قال: «وما تعني؟ أي الدسائس؟»
قال: «أخاف قومًا لا نعرفهم ولا نعرف نياتهم.»
قال: «مَن تعني … كيف نخافهم ونحن لا نعرفهم؟»
قال: «لو عرفتهم لبددت شملهم ولكنني أتوسم خطرًا من جماعة يزعمون أنهم موتورون … لا أعرف مَن هم ولكنني أَتَنَسَّمُ رائحةَ ذلك من بعض الأحاديث …»
قال: «صرحْ يا جوهر … إنك في مأمن.»
قال: «ألا تعلم يا سيدي ما أصاب أبا عبد الله الشيعي الذي قام بالدعوة في أول أمرها ومهد الدولة لجدك المهدي — رحمه الله؟»
فلما سمع اسم أبي عبد الله تغير لونه ولكنه أظهر الاستخفاف وقال: «أظنك تعني أن ذلك الرجل قتل مظلومًا.»
قال: «لا أعني ذلك ولكن بين أصحابه الذين أعانوه في نصرة دعوة مولانا الملك مَن يتوهم أنه ظلم؛ لأنه جمع القبائل لنصرة مولانا ولما استتب له الأمر قتله وقتل أخاه أبا العباس. أما أنا فأعتقد أنه قتل حقًّا بعد أن غير نيته وطمع بالأمر لنفسه فلا بد أن يكون لأصحابه مطمعٌ في إفساد أمرنا وإن كنت لا أخاف فوزهم. ولو سألتني عن واحد منهم لاعترفت أني لا أعرف أحدًا وإنما هو سوء الظن لا بد منه في مثل هذه الحال.»
فاعتدل المعز في مجلسه وقال: «صدقت ولكن لا خوف من ذلك غير أني أسمع إن ذلك المقتول كان عنده مالٌ خبأه في مكان لا أعرفه وقد تعجل جدي في قتله قبل معرفة مستودَع المال. سمعت أنه مال كثير. ولا يخفى عليك شدة الحاجة إلى المال في هذه الأحوال.»
قال: «نعم يا سيدي سمعت بخبر المال المخبأ لكنني لا أعرف مكانه ولو عرفته لَاستخرجته ولا يبعد أنه قد تبعثر وسأُوالي البحث عنه.»
قال: «ومع ذلك لا يهمنا المال وعندنا صناديقُ منه قد شَذَّ عني ترتيبُها لكثرتها قد ادخرتُها للقيام بذلك العمل؛ لعلمي أن أعداءنا قد أصابهم الفقر حتى تغيرت قلوب الناس عليهم.»
قال جوهر: «صدق مولاي ولكني أرى مع ذلك أن نحتاط ونسيء الظن حتى برجالنا وأمراء القبائل البربرية، ولا سيما الذين كانوا حكامًا وعرفوا الدسائس. أخص منهم حمدون صاحب سجلماسة؛ فإن هذا الرجل حاربناه وهو صاحبُ دولة فأخضعناه وسلم لكني أحسبُهُ مكرهًا، فإذا رأى مولاي أن نقيده بِرَهْنٍ كان ذلك أقربَ إلى الصواب!»
قال: «وما هو الرهن؟»
قال: «لهذا الأمير ابنةٌ اسمها لمياء هو عالقٌ بها، وشاهدت منها في أثناء حربنا معه بسالة وأنفة لم أعهدها بفتاة قبلها؛ فقد كانت تحارب كأكبر القواد على جواد من خير الجياد. ولم نستطع القبضَ عليها إلا بعد الجهد الكثير، وقد أراد الفارس الذي قبض عليها أن يتخذها سبية فمنعتُهُ وأنقذتُها من السبي وأكرمتها. ولا ريب أن والدها يحبها ويضن بها فإذا اتخذناها رهنًا على تصرفه في طاعتنا لا يقدم على الخيانة.»
قال: «قد رأيت حسنًا، وأين هي الآن؟»
قال: «هي في فُسطاطِ أَبيها المضروب في هذا السهل خارج القيروان.»
قال: «ولكني أخاف أن ننبهه إلى الحقد إذا طلبناها منه الآن.»
قال: «لا خوف من ذلك؛ فإني أطلبها منه لتكون مكرمة معززة في قصر أمير المؤمنين في خدمة أُم الأمراء (زوجة المعز) وهذا الشرف لا يتأتى لأحدٍ سواه وأنا على يقين أن مولاتنا أُم الأمراء سترتاح إلى رؤيتها. فإن في وجهها مهابةً وجمالًا مع تعقُّل وبسالة، وقد تحققت مع ذلك أنها من أشد الناس غيرة على دعوة الحق فإنها تجل مقام الإمام علي وتنصر شيعته مما لم أره في سواها من جماعة البربر كافة، ومن الجهة الأخرى أرى أن نصاهره فنكتسب حزبه.»
قال: «وكيف ذلك؟»
قال: «سأجعل القصد مِنْ نقل ابنته إلى قصر أم الأمراء أني أريد أن أتخذها زوجة لابني الحسين. وهو بلا شك سيكون سعيدًا بهذا الاقتران فنكسب الفتاة ونكسب قلب أبيها.»
قال: «حسنًا. افعل بارك الله فيك ولا حرمنا سعيك الحميد.» وتزحزح الخليفة فنهض جوهر واستأذن في الانصراف.