حمدون
وإذا بغلمان حمدون يتراكضون وقد أخذتهم البغتةُ وتقدم أحدهم إلى المعز وقال وهو يغص بريقه: «لم يستيقظ يا سيدي.» وأخذ في البكاء؛ فلما سمعت لمياء بكاءه أسرعت إلى حيث رقد أبوها، فوجدته مستلقيًا على مقعد هناك وقد تغير لونه، فازرقتْ بشرتُهُ وغارت عيناه وبانتْ أدلة الموت في وجهه فصاحت: «وا ولداه! ماذا جرى لك؟» وجعلت تجس يديه ووجهه فإذا هو ميت لا حراك به. فأخذت تناديه وسمع الخليفة بكاءها فأسرع ومعه القائد جوهر فلما رأيا حمدون تحققا موته وعجبا لما أصابه فأمر المعز أن يؤتى بالطبيب حالًا فأتى. وحالما وقع نظره عليه صاح: «مات الأمير مسمومًا. ماذا شرب؟»
فقال المعز أكلنا معًا من طعام واحد إلا شرابًا صبه الغلام لنا جميعًا فشربه هو ولم نشربه نحن ولا تزال أقداحُهُ مملوءة على المائدة … ومشى الخليفة إلى غرفة المائدة ودل الطبيب على الأقداح فتناول الطبيب قدحًا منها وتأمل السائل الذي فيه قليلًا وشمه ثم استخرج من جيبه مسحوقًا وضع شيئًا منه في ذلك الشراب وجعل يتفرس بما يحدث فيه والجميع وقوفٌ ينظرون. فلم تمض برهة حتى تحول ما في القدح إلى راسب أصفر وتغير لونُ الماء فصاح: «إن هذا الشراب سام … مَن صنعه؟»
فأمر المعز بالقبض على الطاهي الذي تولى تلك الوليمة، فلم يقفوا على خبره وأطرق المعز في أثناء ذلك وأعمل فكرته في ما رآه من الغرائب في ذلك المساء؛ فاتضح له سلامة نية حمدون؛ لأنه لو اشترك بالمكيدة وعلم أن الشراب مسموم لَما تناوله.
وأسف المعز لموت حمدون وأمر أن يجهز ويناح عليه ويدفن. والتفت إلى لمياء فإذا هي قد وقفت لا تحير خطابًا كأنها أصيبتْ بجمود، فقال لها: «تعالي يا بنية، رحم الله والدك إنه مات مظلومًا، والله يتولاه برحمته فأنتِ الآن ابنتُنا، لا نقول ذلك تعزيةً لك لكنك أتيت في مصلحتنا ما لا يأتيه الابن الغيور.» ومد يده إلى كتفها وربت عليه بحنو وعطف وقال: «هيا بنا إلى قصرنا في المنصورية واحسبوا أن هذا الفرح لم يكن … وستجدين هناك أم الأمراء وتأنسين بها …»
فلم تجبه لكنها أخذت في البكاء وهي صامتة تناجي نفسها بأمور لا تخطر لأحد من الحاضرين، لكنها أحست بغضب شديد على سالم وجاشت عواطفها ورأت في نفسها ميلًا للانتقام منه. ومن قواعد الحب وطبائعِ المحبين أن المتفاني في حب شخص يحتمل منه ما شاء من التجني والدلال والإعراض ولا يزداد إلا شغفًا وتفانيًا، لكنه لا يحتمل الخيانة … فإذا تأكد أنه خانه في عواطفه أو خادعه أو داجاه لغرض في نفسه انقلب حُبُّه بغضًا وصار تفانيه نقمة، فأحست لمياء بميل شديد إلى الانتقام من سالم وقد تحققتْ خيانته؛ لأنه كان يُظهر حبه حيلة للفتك بأعظم المحسنين إليها وإليه.
وأمر المعز أن تقوَّض الفساطيط والسرادقات ويؤجَّل العرس إلى وقتٍ آخر فالتفتتْ لمياء عند ذلك وقد هاجتْ أشجانُها وقالت: «نؤجلُهُ يا سيدي حتى ننتقم لنفسنا من الكائدين، فإذا وافقني أمير المؤمنين على ذلك ضاعف فضله علي.»
فقال: «سننظر في ذلك.» وأمر رجاله بالرجوع إلى المنصورية فاشتغلوا بتقويض الخيام، وركب المعز وقائدُهُ ولمياء والحسين وسائر الحاشية إلى المنصورية والغلمان يحملون المشاعل بين أيديهم.
وفى صباح اليوم التالي احتفلوا بدفن حمدون وبكتْه لمياء بكاءً مرًّا لسبب لا يعرفه سواها، وهو اعتقادها أنه قتل بسذاجته وسلامة نيته ودهاء ذلك اللعين أبي حامد.
وكانت لمياء حال وصولها إلى القصر في ذلك المساء دعتْها أُمُّ الأمراء إلى غرفتها وأخذت في تعزيتها بعبارات الحنو والحب كما تخاطب الوالدةُ ابنتها، فأحست لمياء براحة وزادت تعلقًا بها. وأيقنت أنها كانت على هدًى بإخلاصها لتلك الملكة وإنما شوشوا عليها أفكارها بمكائدهم.