لمياء وأم الأمراء
ولم تطل الملكة الحديث تلك الليلة والميت لم يدفن بعد. ففي الصباح التالي لما علمت بدفنه بعثت إلى لمياء وأمرتْها أن لا تفارقها وبالغتْ في إكرامها وتعزيتها وذكرت الحسين في أثناء حديثها، فتذكرت لمياء أنها لم تشاهدْه في ذلك اليوم ولا رأتْه بعد عودته معهم في المساء. فاشتغل خاطرُها بشأنه وشعرتْ بميل إلى رؤيته ووَدَّتْ أن تلتقي به في خلوة لتبث له أُمُورًا تُحب أن تساره بها بعدما أصابها من قتل والدها وتغيُّر قلبها على سالم، فلما سمعت أُمُّ الأمراء تذكره أحبت أن تغتنم الفرصة وتسأل عنه فغلب الحياء عليها فسكتت. ولحظت أم الأمراء خجلَها فقالت: «إن الحسين سيئ الحظ يا لمياء؛ انظري كيف اتفق له في يوم عرسه؟» فقالت — وهي تغص بريقها: «بل أنا التعسة يا سيدتي لأني فقدت سندي الوحيد وهو والدي فأصبحت يتيمة الأبوين.» ومنعها البكاء من إتمام الكلام.
فهَمَّتْ بها أم الأمراء وضَمَّتْها إلى صدرها وقالت: «لست يتيمة يا لمياء و…»
فقطعت لمياءُ كلامها قائلةً: «صدقت يا سيدتي إن مَن كان تحت ظلك وظل سيدي أمير المؤمنين لا يكون يتيمًا … وكفاني حظًّا وشرفًا أن يدعوني الخليفة — حفظه الله — ابنته … إنها نعمةٌ لم أكن لأحلم بها … ولكن …»
فقالت أم الأمراء: «لا لوم عليك إذا بكيت أباك إنه كان بارًّا وكان يحبك …»
فتذكرت لمياء ما كان يضمره أبوها من السوء للخليفة وقائده فأحست بوخز الضمير فأرادت أن تصرف ذهنها عن ذلك الحديث؛ لأنه يؤلمها فقالت: «رحمه الله … وأنا الآن لا أعرف أبًا غير أمير المؤمنين ولا أُمًّا سواك.»
وسكتت وهي تتشاغل بإصلاح شعرها وفى خاطرها شيء يمنعها الحياء من ذكره. وكأن أم الأمراء أدركت مرادها فقالت: «إني لم أر الحسين جاء معكم في مساء أمس ولا رأيته اليوم أين هو يا ترى؟»
قالت: «لا أعلم رأيته ركب معنا من المعسكر ثم لم أره.»
فقالت أم الأمراء: «أتظنين الخليفةَ أرسله في مهمة مستعجلة؟»
قالت: «أنت أعلم مني بذلك.»
قالت: «لا ريب عندي أن أمير المؤمنين يحب أن يراك فهل نذهب إليه وهو يُخبرنا عن الحسين؟»
فسَرَّهَا هذا الاقتراحُ لكنها لم تُظهر الرغبة في الإجابة؛ حياء، ولم تنتظر أم الأمراء جوابها فنهضت وأمسكتها بيدها ومشت بها وهي تقول: «إن أمير المؤمنين وحده في قاعته وقد أخبرني في هذا الصباح أنه لا يُريد أن يرى أحدًا من الأمراء.»
فقالت لمياء: «لعله طلب ذلك لرغبةٍ في الخلوة، فهل يجوز أن نُزعجه بحضورنا؟» فابتسمت وقالت: «لا يزعجه حضوري أو حضورك ولا هو أراد الخلوة للعمل على ما أظن ولكنه أراد الراحة من عناء ما لاقاه أمس، وهو — بلا شك — كثير التفكير فيك هلمي بنا إليه … وانزعي حجاب الكُلفة معه بعد أن دعاك ابنته ونعم الابنة.»
وبعد هنيهة وصلتا إلى غرفة الخليفة، فبادر الحاجبُ إلى إلقاء التحية باحترام، فقالت أم الأمراء: «ألعل أمير المؤمنين وحده؟»
قال: «كلا يا سيدتي إنه في خلوة مع القائد جوهر.»
فأرادت أن ترجع وإذا بالمعز يناديها من الداخل: «إذا كانت لمياء معك ادخلي.»
فأجفلت لمياء عند سماع اسمها على هذا الأسلوب، وتصاعد الدم إلى وجنتيها فقالت لها أم الأمراء «ألم أقل لك أنه يسر برؤيتك، حتى أكثر من رؤيتي! وقد قال بصراحة أن لا أدخل إلا إذا كنت معي …» وضحكت وهي تظهر المداعبة، ووسع لهما الحاجب فدخلتا.
وكان المعز جالسًا على مقعد والقائد جوهر على وسادة بين يديه وعلى وجهيهما أمارات الاهتمام، فلما دخلت أم الأمراء أظهرت الاحتشام لوجود القائد فابتدرها المعز قائلًا: «إن قائدنا كواحد منا فلا ينبغي الاحتشام من وجوده وأنت يا لمياء ابنتنا وهذا القائدُ أبوك أيضًا.» وأشار إليهما بالجلوس وكان القائد قد وقف عند دخول أم الأمراء فأشار إليه الخليفة أن يجلس وقال له: «نحن في أمر هام نحب أن نشرك القادمتين به … أنت تعلم تعقل أم الأمراء … وهذه فتاتُنا لمياء قد عرفتَ ذكاءها وغيرتها على مصلحتنا فلا بأس من دخولهما في الحديث …»
فجلستْ لمياء وهي مطرقةٌ حياءً لهذا الإطراء، فقال لها الخليفة: «لا ينبغي التهيب يا بنية بين يدينا وقد أصبحت ذات شأن في أُمُورنا؛ لِما تأكدناه من تعقُّلك وصدق محبتك لنا وقد شق علينا ما أصاب والدك ولكن ذلك أمرٌ من الله لا سبيل إلى دفعه … طيبي نفسًا سنأخذ بثأره.»
فلما سمعت ذكر الثأر تغير وجهها وبان الاهتمامُ في عينيها ونظرت إلى الخليفة وابتسمت ابتسام الامتنان وقالت: «أشكر لك يا مولاي انعطافك نحوي، ولكني أرى الواجب الأول أن ننتقم لأمير المؤمنين؛ لأن ذلك الخائن أراد إيصال الأذى إليه. وقد حماه الله؟»
فابتسم وقطع حديثها قائلًا: «وكان الفضل لك بذلك يا لمياء … فهل يكثر علينا أن نثأر لوالدك — رحمه الله؟»
فأطرقت وسكتت ثم رفعت بصرها إليه وقالت: «لكنني أرغب إلى أمير المؤمنين أن يدخلني في هذا الانتقام فإني موتورة.» قالت ذلك وقد قطبت حاجبيها وبان الغضبُ في عينيها.
فقال: «لم نكن لنكلفك شيئًا من هذا يا لمياء، كفاك ما أصابك.»
والتفت إلى القائد جوهر وقال: «إني لم أشاهد الحسين في هذا الصباح أين هو؟»
قال: «قد ذهب في مهمة مستعجلة هي من قبيل ما نحن فيه.»
قال: «إلى أين؟»
قال: «أنفذته إلى الجهة التي قالت لمياء إنها شاهدت ذلك الخائن فيها.
وذكرت هناك قافلة أو معسكرًا فأمرت الحسين أن يذهب بكوكبة من الفرسان لعله يدرك القوم قبل رحيلهم فيأتينا بذلك الغادر ويكفينا مئونة البحث عنه.»
فقال المعز «بارك الله في همتك وتيقظك.» والتفت إلى أم الأمراء وابتسم وهو يقول: «كيف نُلام على تقديم هذا القائد وهو لا يغفل عن مصلحتنا.»