فج الأخيار
فتقدمت ووقفت وقفة رجل جسور وقالت: «إن المال يا سيدي مخبأٌ في مكان بعيد، وكان قد خزنه عدوك هناك ليحاربك به، ولكن الله قَدَّرَ أن يكون لك وتحارب به أعداءك وأنت ظافر — بإذن الله.»
فاستغرب الجميع قولها وتطاولوا بأعناقهم لسماع حديثها فقالت: «سأقول لكم ما أعرفه، ولكن قبل كل شيء أرجو من أمير المؤمنين أن يوافقني على طلبي الأول وإن كان لا يحسن بي التصريح به.»
فعلم أنها تشير إلى تأجيل الاقتران فقال: «أنا أوافقك ولكن الشأن في هذا الأمر هو للحسين.» والتفت إليه فوقف الحسين متأدبًا. فقال له المعز: «إن لمياء الشجاعة الباسلة تطلب تأجيل العقد إلى ما بعد فتح مصر والتنكيل بالخائنين، فماذا تقول؟»
قال: «هذا ما كنت أتمناه ولم أجسر على طلبه، أما وقد طلبتْه هي فأنا أُوافق عليه وأشترط أن أكون في مقدمة المحاربين في هذا السبيل.»
فقالت لمياء: «طبعًا، كلانا يجب أن يكون في مقدمة المحاربين، ولا أعني المحاربة استلال الحسام أو الهجوم على صفوف الأعداء فقط؛ فإن هناك أعمالًا تقدم على امتشاق الحسام سنأتي على ذكرها.»
ثم وَجَّهَت خطابها إلى الخليفة وقد أبرقت عيناها وبانت الحماسةُ في طلعتها، وقالت: «هل أقول يا سيدي؟»
قال: «قولي — بارك الله فيك — والله إن كلامك لَيبث الحماسة في قلوب الرجال … وقد هونت على اقتحام الأهوال في سبيل الفتح … قولي.»
قالت: «سمعت مولاي يقول إننا لا بد لنا قبل الإقدام على فتح مصر من شيئين هامين الأول المال والثاني استطلاع أحوال القوم وقواتهم وداخليتهم، أما المال فَأَقُصُّ عليكم ما عرفتُهُ عنه، ولذلك حديثٌ سمعته عرضًا من ذلك الخائن القاتل ولم أكن أفهم مغزاه، فلما ظهرت خيانتُهُ أدركتُ مكايده. علمت منه أن في جبل إيكجان من بلاد كتامة مكانٌ يُقال له فج الأخيار كان فيها بلد يسمى دار الحجرة بناه أبو عبد الله الشيعي وخزن الأموال فيه.»
ولما قام أبو عبد الله بدعوة جدك المهدي — رحمه الله — وجمع كلمة القبائل في نصرته وتمكن من التغلب على أعدائكم أتى فنزلها وقسم البلد على كتامة ونادى بالإمام المهدي خليفة وحمل إليه الأموال التي كانت مخزونة في جبل إيكجان، ولكن يظهر أنه كان ينوي الخروج من الطاعة فضرب نقودًا جديدة لم يذكر فيها اسم الإمام المهدي وإنما اكتفى بأنْ ضرب على أحد وجهَي الدينار (بلغت حجة الله) وعلى الآخر (تفرق أعداء الله) وضرب على السلاح (عدة في سبيل الله) ووسم الخيل سمة (الملك لله) ثم ذهب إلى سجلماسة في طلب المهدي، وما زال حتى أَتَمَّ الفتح وسلم الأمر إليه.
ويظهر أنه ندم على عمله فبعث الأموالَ إلى إيكجان سرًّا، واختزنها هناك حتى يعودَ فيقلب ظهر المجن ويطلب الأمر لنفسه، فعلم الإمامُ بذلك وما زال عليه حتى قتله — كما تعلمون — لكنه لم يعرف خبر تلك الأموال فبقيتْ مطمورةً هناك. ولعله أَسَرَّ أمرها إلى أبي حامد اللعين، فقام يسعى سرًّا في إخراج الملك من أيديكم على أن يُفسد قلوب القبائل عليكم ويستعين بذلك المال عند الحاجة. وآخر مكائده قد فشلت أمس وإنما أصابت المأسوف عليه والدي، فهرب ذلك اللعين والأموال لا تزال في فج الأخيار. فإذا بعث المولى مَن يأتي بها أَعَانَتْهُ في نصرة الحق. هذا ما أعرف من أمر الأموال.
ولم تتم كلامها حتى كَلَّلَ العرقُ جبينها، وبان الاهتمام في محياها والخليفة ينظر إليها ويتفهم كلامها وقد أعجب بما كشفتْه مِنْ أمر هذا السر العظيم، فقال: «بُورك فيك يا لمياء إننا سنبعث في طلب ذلك المال، ولكنني أفكر في مكيدة هذا الرجل كيف انطلتْ علينا وعلى والدك كل هذه الأعوام، إن فضلك في كَشْف هذا السر يربي علي فضلك في إنقاذنا من القتل؛ لأنك أطلعتنا على مساعٍ متواصلة لو نَجَوْنَا من تلك المكيدة ولم نطلع عليها لظلت الدولة في خطر من مكيدة أخرى، أما الآن فسنتعقب الخائنين حتى نفنيهم بعد أن نأخذ أموالهم.»
فأطرقت لمياء حياءً عند سماع ذلك الثناء.
فتَصَدَّى الحسينُ للكلام، فقال: «هل يأذن لي مولاي أن أذهب في طلب هذا المال؟»
قال: «لك ذلك، ولكن هل علمت بما يعتور هذا العمل من المشاق؟ إن جبل إيكجان في أواسط بلاد كتامة في البادية والذهاب إليه بعيد شاقٌّ.»
قال: «فليكن حيثما كان … كل ذلك هينٌ في خدمة أمير المؤمنين.»
فضحك الخليفةُ ضحك الاستحسان.
فقالت لمياء: «هذا من حيث المال أَمَّا مِنْ حيث استطلاعِ دخائلِ القوم بمصر فأنا أقوم به.»
فبغت الخليفةُ لهذا الاقتراح، وقال: «كيف تفعلين، أليس ذلك شاقًّا عليك؟»
قالت: «إنه هين، وأستأذن مولاي أَنْ لا يسألني كيف أصنع وإنما أتعهد له أن آتيه بالخبر اليقين وأرغب إليه أن يستزيدني بيانًا.»
فاستغرب القوم رغبتها في كتمان سعيها، ولكنها لم تدع لهم بابًا للاستفهام، فسكتوا، فقال الخليفةُ: «لم يمر بي يوم اطلعت فيه على أُمُور هامة مثل هذا اليوم، والفضل لك يا لمياء — بارك الله فيك وقوَّاك في نصرة الحق …»