الحسين ولمياء
وتزحزح الخليفةُ فنهض القائدُ وانصرف ومعه الحسين وانصرفت أم الأمراء ولمياء مِنْ جهةٍ أُخرى. وعلمتْ أُم الأمراء أَنَّ لمياء تُحب الاجتماع بالحسين بعد ما وقع من الغرائب، وأن الحياء يمنعُها مِن طلب ذلك، فلما وصلتْ غرفتها معها بعثت أحد الصقالبة يدعو الحسين إليها وأمرت لمياء بالجلوس، وأخذت تحادثها في ما دار من الحديث في تلك الجلسة وهي تُريد استبقاءها ريثما يأتي الحسين.
وبعد قليل جاء الصقلبي وقال: «إن القائد حسينًا أتى.»
فلما سمعت لمياء ذِكره فأول ما تبادر إلى ذهنها أن تنهض وتنصرف.
فأقعدتْها أم الأمراء وقالت: «إلى أين؟»
فقعدت وهي ترتعد من تلك المفاجأة، وأَحَسَّتْ أم الأمراء بذلك لما أمسكت يدها لتقعدها؛ فإنها كانت باردة كالثلج، فقالت: «ما بالك ترتعشين مِن سماع اسم الحُسين؟ ألا تزالين تفكرين في سواه؟ ماذا جرى بمناظره القديم أين هو؟»
ولم تسمع لمياء ذلك حتى اقشعر بدنها وامتقع لونها وأخذها الغضب؛ لتذكُّرها خيانة سالم. فاكتفتْ بالتنهُّد ولم تُجبْ. فقالت أم الأمراء «لم تقولي لي عن اسمه بعد، ألعله كان في جملة أولئك الخائنين؟ أرجو أن يكون كذلك فنكون قد خلصنا منه.»
فلم تزد لمياء على الإطراق وقد ترقرقت الدموع في عينيها وتذكرت أن الحسين يعرف سالمًا من تلك الليلة، أما أم الأمراء فقالت: «لقد أبطأنا في الإذن للحسين في الدخول.» والتفتت إلى الصقلبي وقالت: «يدخل.»
وبعد لحظة دخل الحسين وهو لا يزال بثياب الركوب كما كان ساعة وصوله، دخل وهو لم يكن يتوقع أن يرى لمياء هناك وإنما ظن أم الأمراء تحتاج إليه في خدمة وكثيرًا ما كانت تدعوه وتكلفه ببعض المهام، فلما دخل ووقع بصرُهُ على لمياء أجفل كما أجفلت هي ووقف فألقى التحية على أم الأمراء، ثم حيا لمياء عن بُعد بإحناء الرأس. فقالت أم الأمراء: «لا يلذ لي أن أراكما بعيدَين وأنا قد بذلت الجهد في جمعكما؛ فإنك ابنُ قائدنا، وهذه لمياء ابنتي. ومع ذلك فقد جعلت نفسي والدتك وقمت بتأدية المهر عنك.»
قالت ذلك بلُطف ومداعبة. فتَلَعْثَمَ لسان الحسين عن الجواب ولكن الامتنان بَانَ في ملامحه.
وتقدم نحو لمياء وهو يقول: «إن لمياء ذات فضل كبير علي؛ لأنها أنقذت والدي من القتل فلا أدرى بم أكافئها.»
فقالت لمياء: «إني لم أفعل شيئًا يستحق الذكر، وإذا كنت قد فعلت شيئًا فهو في سبيل خدمة مولاي أمير المؤمنين الذي نفديه بأرواحنا، ولا أراك أقل تفانيًا في سبيل مصلحته مني …»
فأشارت أم الأمراء إلى الحسين أن يقعد على وسادة أمام الوسادة التي كانت لمياء جالسة عليها، وأظهرت أنها ذاهبةٌ في أمر ذي شأن خَطَرَ لها فجأة، وهي إنما فعلت ذلك رغبة في انفراد الحبيبين؛ لأنها وجدت نفسها ثقيلة بينهما. وكانت من أرق الناس إحساسًا وأكثرهم تعقلًا لا تفوتها ملاحظة. فهل شعر الحبيبان أنها خرجتْ عَنْوَة مراعاة لإحساسهما؟ هَبْ أنهما أدركا ذلك لكن الحب يشغل المرء عن سواه أو أن صاحبه يرى ما يمر به من الأحوال مغشاه كأنه ينظر إليها من وراء حجاب، هو الحب، وقد يأتي في سبيل حبه أعمالًا يحسبها خافيةً على الناس وهم يرونها بأَجْلَى مما يراها هو، ولكنهم لا يقولون فيحسبهم غافلين.
جلس الحسين وهو ينظر إلى لمياء، وهي مطرقةٌ حياءً وقد مَرَّ في خاطرها تاريخُ حياتها منذ عرفت سالمًا وكيف علقت به وتَعَشَّقَتْه حتى أبت أن تجيب دعوة سواه وتذكرت الليلة التي لقيت فيها حسينًا لأول مرة وما أبداه من الشهامة في معاملتها وكيف انتهت ليلتُهُم بفشل سالم، وخطر لها حالًا ما قاله الحسين عند وداعها من كتمان أمر سالم وأنه عرفه وعفا عنه.
وكيف أنها رضيتْ بالحسين أولًا طوعًا لأمر سالم ثم أصبح هذا أعدى أعدائها، فأحستْ بانعطافٍ إلى الحسين وأساسُ انعطافها الإعجاب بشهامته ومروءته.
مَرَّ ذلك كُلُّهُ في خاطرها سريعًا والحسينُ جالسٌ بين يديها ويهم أن يخاطبها ولا يعرف بماذا يبدأ، ثم خطر له أن يعزيها على والدها ويشجعها.
فقال: «لقد ساءني يا لمياء ما أصاب أباك الأمير — رحمه الله — ولكننا سنثأرُ له من ذلك الخائن، واعلمي أني غير راجع حتى أذيقه حتفه.»
فرفعت بصرها إليه وقد ذبلت عيناها وقالت: «عرفت شهامة الحسين من قبل على غير تعمد، عرفته عفوًا، ولا أنسى تلك الأريحة التي قيدني بها، لا أنسى قولك تلك الليلة وقد أدركنا ذلك الرجل الملثم وأوشك أن يقع فريسة — فأنقذته وطلبت كتمان أمره …»
فقطع كلامها قائلًا: «لا أزال أُريد كتمانَ أمره دعينا منه، إنما أُحب أن أعلم: هل للحسين مكان عندك؟» قال ذلك وعيناه تبرُقان فرآها ساكنةً ولحظ دمعتَين انحدرتا على خديها خلسةً فأحس بنار اتقدت في بدنه وهَبَّ جسمه كأنك صببت عليه ماءً غاليًا. فندم على سؤاله مخافةَ أن يكون في غير أوانه وهي في حال الحزن على أبيها فابتدرها قائلًا: «أظنُني تعجلْت في الحديث وأنت في شاغلٍ من أمر والدك — رحمه الله — فاصفحي عن جسارتي …»
فمسحت عينيها بمنديل أخرجتْه من جيبها، وقالت: «إن حزني على والدي شديد لكن خطابك تعزية كبيرة لقلبي الكسير.» وتَنَهَّدَتْ والتفتتْ نحو الباب كأنها تحاذر أن يدخل أحدٌ عليهما.
فقال الحسينُ: «هل في الدنيا أرق عاطفة وأطيب قلبًا من هذه الملكة إني لا أظنها تركتنا وحدنا إلا عَنوة فلا ينبغي أن نضيع هذه الفرصة هل أعددت للحسين مكانًا في قلبك؟»