التعاهد
فتنهدت ورفعت بصرها إليه وهي تهم بالكلام فلم تستطعْه فأطرقت وتشاغلتْ بمنديلها تطويه بين أناملها وقد تصاعد الدم إلى وجنتيها. فلحظ تلبُّكها فأراد مداعبتها فقال: «لم يكن عهدي بلمياء الفارسة الشجاعة أنها ترتبك في حديث مثل هذا، ولكنني أقرأ الجواب في عينيك، لم أكن أجهل نظرك إلي من قبل ونظرك إلي اليوم، كنت أشعر أنك تُساقين إلى حبي كرهًا، لعل قلبك كان مشغولًا بسواي … لا أدري. أما الآن فإني أقرأُ شيئًا آخرَ في عينيك. إنما أطلب إليك أن تقولي كلمة ونحن منفردان هنا بإذن أُم الأمراء وهي لم تُخل لنا المكان إلا باختيارها. قولي هل تحبينني؟ وإنما أسألك ذلك؛ لأننا سنفترق وربما طال فراقُنا، فإذا سمعت منك الكلمة التي أُريدها كانت لي ذخرًا في أثناء الفراق أتعلل بها ريثما نلتقي.»
فتنهدتْ ثانية وتجلدتْ وقالتْ: «إنك تقول عني وتعبر عن أفكاري، أما لمياء الفارسة الشجاعة — كما تقول — إنما تكون كذلك في حومة الوغى وأما في هذا الموقف فإني أسيرةٌ مسكينة. سألتني سؤالا لا أُجيبك عنه إلا بعد أن تجيبني على سؤالي.»
فاستبشر وقال: «سمعًا وطاعة إني رهين إشارتك يا حبيبتي.» قال ذلك وقد أخذ منه الهيام مأخذًا عظيمًا.
قالت: «إني أسألك هل تعاهدني على التفاني في مصلحة المعز لدين الله حتى ننتقم له أو نموت؟»
فأعجب بتفانيها في حب المعز وكيف أنها فضلت التعاهُد على نصرته قبل كل شيء فقال: «نعم أعاهدك أن أكون طوع إرادتك في كل شيء وهذا من الجملة، إني أحبك يا لمياء وأعجب بخلالك ومروءتك … كنت أحسبني مؤديًا ما يجب علي في خدمة أمير المؤمنين، فلما رأيت ما أنت فيه من الغيرة عليه رأيتني مقصرًا عاجزًا … ها قد أجبتُكِ على سؤالك فأجيبيني على سؤالي.»
قالت: «وما هو؟»
قال: «تحبينني؟ هل تعاهديني على الحب حتى نلتقي؟»
قالت: «نعم إني أحبك وهذا يكفي، وأما الثبات في الحب حتى نلتقي فإنه متعلقٌ بما نحن آخِذون به من نُصرة أمير المؤمنين، ونصرتُهُ هي واسطةُ عقدنا، وقد تعاهدنا على ذلك ويسرني أنك أخذت على نفسك الذهاب إلى جبل إيكجان لحمل الأموال المدفونة هناك … ولكن …» وسكتت وقد ظهر التفكيرُ في عينيها.
فقال: «ما بالك … ما الذي خطر لك حتى سكت … أظنك خفت علي ما يعتور هذه المهمة من المشاق …» قال ذلك ونظر في عينيها ففهم منها أنها تُجيب: نعم. فقال: «لا تخافي علي يا لمياء إني لا أهاب الموت ولا سيما بعد أن زودتِني بتلك الكلمة الثمينة … إنها ستكون تعزيتي في أشد ضيقي، وهي تشجعني في المخاوف … لا تخافي علي من شيء …»
فتنهدتْ وقالت: «آهٍ من الحب ما أحلاه وأمره! إن الأحباء يبذلون كل مرتخص أو غالٍ في سبيل الاجتماع أما نحن فنتعاهد على الفراق، ولكن خدمة أمير المؤمنين واجبة … إني أشعر بفضله علي وإني يجب أن أنصره و…»
وسكتتْ وقد خَطَرَ لها أنها تطلب شيئًا آخر غير نصرة أمير المؤمنين؛ تطلب الانتقام من ذلك الحبيب الخائن فلم يدرك الحسين مرادها وانصرف خاطرُهُ إلى مهمتها فقال لها: «قد علمت مهمتي إلى فج الأخيار لحمل ما فيه من المال لكنني لم أفهم مهمتك …»
فتحركت واعتدلت في مجلسها، وقالت: «قد قلت لأمير المؤمنين إني سأسعى في استطلاع دخائل المصريين وأحوالهم وإني سأفعل ذلك بطريقةٍ لا أقولها الآن … لا تغضب يا حبيبي إذا لم أقل لك.»
فلما سمعها تناديه «حبيبي» اختلج قلبُهُ في صدره ونسي ما كان يبحث عنه ولم يشأْ أن يستزيدها بل تهيب من الإلحاح عليها، وكان منذ خاطبها وهو يشعر بسلطانٍ لها عليه، فلم يجسر على تكرار السؤال فقال: «افعلي ما بدا لك وكفاني أنك ناديتني بلفظ الحب وهذا تذكارٌ سأحفظه، ربما لا يُتاح لنا الاجتماع في مثل هذه الفرصة مرة أخرى قبل سفري؛ ولذلك فإني أحب أن لا تَنْقَضي هذه الساعة … ما ألطف أم الأمراء وما أكثر فضلها.»
قالت: «إن هذه الساعة مباركة سنذكرها ما حيينا، وعسى أن يكون اجتماعنا الثاني في مصر تحت ظل أمير المؤمنين.»
فأعجب بتعبيرها وكِبر نفسها وشدة رغبتها في فتح مصر واستهانتها بفتحها، وقال: «أرجو أن نوفق إلى ذلك يا حبيبتي، إنها أُمنية نتمناها جميعًا، وخصوصًا أنا؛ لأن ذلك الاجتماع سيكون أكيدًا لنا لا نخاف بعده فراقًا بإذن الله إذ تكون لمياء حينئذ لي وأنا لها.»
فقالت وهي تبتسم: «ألا تشعر بارتياح عند تفكيرك بذلك النصر ألا يلذ لك أن تتصور راية المعز تخفق على ضفاف النيل وقد امتد سلطانُهُ إلى هناك؟ أَمَّا أنا فأكاد أسكر بمجرد تفكيري بدُخُول جيش أمير المؤمنين إلى الفسطاط وأسمع أهله يؤذنون بحي على خير العمل ويصلون على علي المرتضى وعلى فاطمة البتول وسائر الأئمة الطاهرين. ولا بد أن ينصر الله أبناءَ فاطمة الزهراء؛ فإنها بنت الرسول وهم أصحابُ الحق في الخلافة، ولا بد أن يملكوا الدنيا كلها …» قالت ذلك وقد أشرق جبينُها وأبرقتْ عيناها كأنها منيت بنعمة لم تكن تتوقعها.
فازداد إعجابًا بمروءتها وغيرتها، ووَدَّ لو تكون أُمُّ الأمراء حاضرةً لتسمع ما قالتْه لمياء ولكنه عزم أن ينقله إليها في فرصةٍ أخرى فقال: «إني أحسبني أخاطب ملاكًا هبط من السماء وأعد قولك وحيًا لا بد من إتمامه بإذن الله.»