أم الأمراء
وهما في ذلك سمعا خفق نعالٍ في الخارج، عرفا أنها نعال أم الأمراء.
وسمعاها تخاطب أحد الغلمان بشأن من شئون القصر، وهي إنما تريد بذلك أن تنبه الحبيبين إلى قدومها قبل دخولها عليهما حتى لا تدخل فجأة — وفي ذلك مِن دقة الإحساس وسلامة الذوق ما فيه.
فاستعدَّا لاستقبالها، ثم دخلت وهي تهش لهما وبادرت إلى الاعتذار بأن أمير المؤمنين شغلها فلم تقدر على البقاء معهما، فقال الحسين: «كم كنت أحب أن تكوني هنا لتسمعي ما قالته لمياء … أنت تعلمين تعلقي بمولاي أمير المؤمنين وأنا صنيعته وعبده وابن عبده لكنني رأيت من تعلق لمياء أضعاف ما أعرف في أحدٍ من الناس.»
فضحكتْ أم الأمراء وقالت: «تعني تعلقها بك؟»
قال: «كلا، إنما أعني تعلقها بأمير المؤمنين والاستهلاك في خدمته حتى اشترطت علي أن أول شيء نتعاهد عليه إنما هو التفاني في نصرته.»
فقالت: «ألم أقل إنك لا تجد مثلها في القيروان ولا في المغرب كله؟»
فأجاب على الفور: «ولا في مصر أو بغداد.»
فظلت لمياء ساكتة من الحياء فنهض الحسين وودع أم الأمراء، ثم تقدم إلى لمياء وقال: «أستودعك الله إلى أن نلتقي.» ومَدَّ يده لمصافحتها.
فمَدَّت يدها ونظرت إليه وصافحتْه وهي تقول: «في مصر إن شاء الله.»
فوقع قولُها وقعًا جميلًا في أذنَي أم الأمراء وفهمت منه ما يكفي.
فأكبتْ عليها وضَمَّتْها وقبلتها وقالت: «بارك الله فيك يا ابنتي يا حبيبتي، لله أنت من فتاة نادرة المثال.»
ثم تحوَّل الحسين وهو يقول: «لا أظنني أستطيع مثل هذا الاجتماع قبل سفري إلى فج الأخيار ومتى عدت أين أراك؟»
قالت: «في الفسطاط في قصر مولاي المعز لدين الله على ضفاف النيل — إن شاء الله.»
فكان لقولها تأثيرٌ في قلب أم الأمراء؛ لِما ينطوي عليه من التفاؤل الحسن مع التفاني الصحيح، والتفتت إليها ثم نظرتْ إلى الحسين وابتسمتْ، وقالت: «المراد أن تجتمعا وتَسْعَدَا معًا، وذلك غاية ما يرجوه أمير المؤمنين.»
ثم أومأت إلى الحسين مودعة فودعها وهَمَّ بالخروج وهو ينظر إلى لمياء نظرة المحب الولهان ولم تكن هي أقل تأثرًا منه، لكنها قد هاجت فيها عواطفُ الغيرة والنقمة، فقالت له: «إلى أين يا حسين؟»
فرجع إليها وقال: «إلى فج الأخيار.»
قالت: «وهل أنت على بينة من مكانه وسائر أحواله؟»
فبغت من هذا السؤال وأطرق خجلًا؛ لأنه كان عازمًا أن يسألها عنه فشغل بذلك الحديث، ثم رفع رأسه وقال: «أعرف قليلًا وسأبحث وأسأل، فهل تخبرينني عنه شيئًا، وهل تعرفينه؟»
قالت: «لا أعرفه؛ لأني لم أصلْ إلى ذلك المكان، لكنني أسمع أنه في بلدٍ بعيدٍ في أواسط الصحراء من بلاد كتامة، ولا يهمني بُعده وإنما يهمني ما هناك من وسائل الدفاع عنه؛ لأني كثيرًا ما سمعتُ بما اتخذه أصحابُهُ من الطرق لإخفاء الأموال وصيانتها.»
فقطع كلامها قائلًا: «لا تبالى يا لمياء بشيء من ذلك؛ فإن ما رأيته من حماستك وغيرتك ومروءتك يصغر كل كبير ويهون كل صعب … كوني مطمئنة.» ومد يده لمصافحتها وهو يقول: «أعود فأودعك ثانية وأطلب إليك أن تفكري في أحيانًا، وهذا يكفيني لنجاح مسعاي.» ثم ودعها وخرج وهي تقول: «سِرْ بحراسة المولى؛ فإنه آخذٌ بيدك في نصرة الحق وكبت الظالمين.»