حمدون
خرج جوهر من حضرة المعز، وقضى بقية ليلته مفكرًا بما سمعه، وكان شديد الاهتمام بأُمُور الدولة كثير الغيرة على الدعوة العبيدية. وإن لمح به للمعز عن الدساسين شيعة أبي عبد الله لم يكن وهمًا بل هو حقيقة. ولكن تلك الأحزاب لم تكن تستطيع الظهور لتغلب القوة فهي تتربص فرصة للوثوب بالدولة. وكان يخاف صاحب سجلماسة على الخصوص؛ لأنه صاحب سطوة وله حزبٌ كبيرٌ وهو مجازف لا يُقَدِّر العواقب. فرأى مِن حُسن السياسة أن يقيده بالرهن على تلك الصورة ثم يقربه بالزواج فيخطب ابنته لابنه فيكتسب ثقته ومساعدته أو يتخلص من شره — على الأقل.
ولم يكن صاحب سجلماسة يشعر بشيء مما في خاطر جوهر عليه، بل كان يحسبه في غفلة عن حركاته وخطواته ففي صباح ذلك اليوم جاءه غلام جوهر يدعوه إليه في قصره بالمنصورية، فبادر إلى ذلك. وكان حمدون هذا كهلًا طويل القامة دقيقها أسود العينين غائرهما لا تستقر حدقاتهما على حال. ولم يكن عنده من الولد غير لمياء. وماتت والدتها فتزوج غيرَها وترك تربية الابنة إلى رجل من خاصته كان شديد التشيُّع لِأهل البيت. فشبت على ذلك. وأما حمدون فلم يكن تَشَيُّعُه إلا ظاهريًّا جريًا مع تيار القوة. ولو ترك لنفسه لاختار أن يكون مهديًّا يدعو الناس إلى نفسه فكانت مطامعه أعلى ما يخطر للبشر. وكان قد هَمَّ أن يدعي المهدوية وهو في سجلماسة ولكنه غلب على أمره وقيد أسيرًا إلى القيروان، فأظهر الطاعة على غل وشعر جوهر بشيء من ذلك — كما رأيت.
وكان حمدون مع سعة مطامعه ليس من أهل الدهاء لكنه كان إذا خطر له أمرٌ بادر إلى تنفيذه لا يبالي بما قد يكون في سبيله من الخطر. وكان عرش سجلماسة قد اتصل إليه بالإرث من أجداده واتصل بخدمته شيخٌ اسمُهُ أبو حامد زعم أنه من أهل الكرامة نزل عليه منذ أعوام ومعه شاب جميل الصورة اسمه سالم قال انه ابن أخيه وهو فارسٌ شجاع. نزل كلاهما في دار صاحب سجلماسة وهو في إبان إمارته. وكان سالم يرى لمياء وهي تذهب وتجيء أو تركب الجواد — والبربر أقل حجبًا لنسائهم من سائر المسلمين — فوقعت من خاطره موقعًا جميلًا وتعارفا وتحابَّا، فتقدم أبو حامد إلى حمدون في خطبة لمياء إلى ابن أخيه سالم فأجابه. وقبل أن يحين الاقتران أتى جوهر القائد بجيشه وفتح سجلماسة وأسر أميرها وأهله وفي جملتهم لمياء وأبو حامد ولم يقفوا لسالم على خبر فظنوه قتل في المعركة فبكته لمياء وهي في ريب من أمره.
أما حمدون فكان يعتقد أن سالمًا قتل لا محالة وكأنه شاهد شبحًا مثله ملقًى على الصعيد في أثناء القتال. ولم يمضِ على قيامهم من القيروان أيامٌ قليلةٌ حتى خطر لجوهر ما خطر له فبعث إليه في ذلك الصباح فأتاه في قصره وَحْده، فبالغ في إكرامه وتقديمه وهو لا يعلم سبب هذا الإكرام. ثم قال جوهر: «أتعلم لماذا دعوتك أيها الأمير؟»
قال: «كلا يا سيدي.»
قال: «أنت تعلم أننا كنا بالأمس أعداءً يستحل أحدنا دم الآخر فصرنا الآن إخوانًا نتعاون في نصرة الحق وخدمة أمير المؤمنين، وأحببت أن تزيد تلك الروابط متانة فأرجو أن توافقني على ذلك.»
فلم يفهم حمدونُ قصده، لكنه بادر إلى الثناء على هذه الرغبة فقال: «إن ذلك غاية مُناي، وفيه شرفٌ لي.»
قال: «لا شرف ولا تشريف … أتعرف ولدنا الحسين؟»
قال: «نعم أعرفه، حفظه الله.»
قال: «وأنا أعرف ابنتك لمياء، وقد شهدت منها في أثناء حربنا ما حبب إلي أن تكون زوجة لابني الحسين، وأنت تعلم مقدار حبي له، فبهذا المقدار سيكون حبي لها.»
فلما سمع حمدون ذلك الطلب أطرق هنيهة يفكر، ثم أبرقت أسرتُهُ ليس رغبة في الشرف الذي سينالُهُ من مصاهرة أكبر قُوَّاد المعز الفاطمي ولكنه توسم من ذلك عونًا على أمر قام في نفسه فقال: «إن مثلى يا مولاي لا يطمع بمثل ذلك فكيف بأكثر منه.»
فأثنى جوهرٌ على قبوله وقال له: «لكنني زيادة في رفعة قدرها أُحب أن يكون العقد عليها في منزل أم الأمراء زوج أمير المؤمنين؛ وخصوصًا لأن لمياء يتيمة الأم هل ترى بأسًا من ذلك؟»
فنهض وهو يظهر الامتنان وقال: «أي بأس أرى فيه؟ إنه شرف عظيم.»
قال: «إني مرسل الساعة غلامي إليك في الفسطاط، فترسل معه لمياء إلى دار أمير المؤمنين.»
قال: «سمعًا وطاعة.» وخرج وقد أدهشه توفيقه إلى فرصة طالما تمناها وسار توًّا إلى صديقه أبي حامد فقص عليه ما دار بينه وبين جوهر وأظهر أنه يستشيرُهُ فصاح فيه: «يعرض عليك أن تكون لك يد وعينان في قصر المعز وقائده وتستشيرني؟ اقبل …» قال ذلك وهو يحك ذقنه ليخفي ما خامره من الفرح بتلك البشارة وله في ذلك غرض يشبه غرض حمدون فقال حمدون: «لم أتردد في قبول ذلك الطلب لحظة. ولكنني توقفت أولا؛ لأن ولدنا سالمًا أولى بها و…»
فقطع أبو حامد كلامه قائلًا: «دع سالمًا الآن إنه بعيد ولا ندرى متى يعود.»
فاطمأن حمدون؛ إذ ظهر له من ذلك القول أن سالمًا لا يزال حيًّا، وكان يحسبُهُ قُتل، فقال: «وأين هو سالم الآن؟»
قال: «ليس هو قريبًا … وسأخبرك بمكانه. أما الآن فلا ترفض ما عرضه عليك القائد الفاتح …» وتنحنح.
فذهب حمدون للحال وقص الخبر على ابنته وحسَّن لها الذهاب، فامتنعت في بادئ الرأي؛ لأنها عالقةُ القلب بسالم فأكد لها أن سالمًا قتل أو هرب ولا أمل برجوعه. ونظرًا لِما يعلمُهُ مِن تَعَلُّقها بأهل البيت ضرب لها على وتر الدين فقال: «إنك تكونين هناك قرب أمير المؤمنين ابن بنت الرسول.»
فرضيت وذهبت مع الرسول إلى المنصورية حتى أتت قصر المعز.