الشيعةُ بمصر
ثم ما لبثتْ أن عادت إلى التفكير في المهمة التي قطعت تلك الصحراء من أجلها، فكان أول همها أن تبحث عن منزل يعقوب بن كلس، ولكنها أمرت صاحب الركب أن يسوق الأفراس إلى فندق أو خان فينزلون فيه.
فأخذهم إلى فندق قديم يعرف بفندق ابن حرمة بأول سوق العدسيين.
وكانوا وهم يمرون في الأسواق لا يلفتون الأنظار؛ لكثرة من يدخل الفسطاط يومئذٍ من القوافل القادمة من الشام والعراق والمغرب والسودان وغيرها تحمل البضائع والغلال والريش والصمغ والجواري والغلمان على البغال أو الأفراس أو الجمال غير ما ينقل بحرًا عن طريق النيل.
وما زالوا حتى أتوا الفندق فأمرت لمياء صاحب الركب أن يهتم بالأفراس وهو لا يشك في أنها غلام، وبعد الاستراحة قليلًا توجه هَمُّها إلى السؤال عن بيت يعقوب بن كلس فطلبت صاحب الخان إلى غرفتها، فجاء، فرحبت به وكانت قد بالغت في إكرامه ودفعت إليه أضعاف ما طلبه من الأثمان أو الأجور فأصبح طوع إرادتها، فلما دعته إليها وقف بين يديها وأدهشه جمال ذلك الغلام الصقلبي وما في عينيه من الذكاء.
وكان الخاناتي (صاحب الفندق) شيخًا لطيف المحضر قد عركه الدهر وشهد تقلب الدول على مصر من أواخر جولة آل طولون. وكان في جُملة مَن شاهدوا الفتك بالطولونيين وخرائب القطائع. وعاصر الإخشيد لما جاء حاكمًا ونزل الفسطاط. وكثيرًا ما مر به النزلاء من سائر الطوائف والعناصر من الأتراك والأرمن والشوام والمغاربة والفرس والشراكسة والسودانيين وغيرهم.
وأصحاب الفنادق والحانات والقهوات ونحوها من الأماكن العمومية أقربُ إلى اللطف ودماثة الخلق من سائر طبقات العامة؛ لأنهم يتعودون الصبر على الضيم وسعة الصدر باضطرارهم إلى مسايرة الناس على اختلاف أهوائهم وطبائعهم، فيأتيهم السكران والمعربد والثقيل والبارد والمتكبر والمحتال، وهم مضطرون — بحكم الارتزاق — أن يُرضوهم كما يرضون سواهم، فإذا لم يكن فيهم استعدادٌ للقيام بذلك هجروا تلك المهنة وعدلوا عنها إلى سواها.
وإذا ظلوا فيها فلا تزال الحوادثُ تعركهم والتجارب تحنكهم حتى تصير أخلاقُهُم كالعجين لينًا ودماثة.
فكان صاحبنا الخاناتي من هذا القبيل، فلما رأى لمياء وهو يعتقد أنها غلامٌ صقلبي (وأكثر ما كان يأتي الصقالبة يومئذٍ من جهات المغرب) عرف أنها قادمةٌ من بلاد المغرب فضلًا عما دله على ذلك من ملابس رفقائها وكلامهم. فقالت له: «يظهر أنك قديم في هذا البلد يا عماه.»
قال: «أنا يا سيدي قديم جدًّا.»
قالت: «وقد مر بك ألوف من الزائرين من سائر المِلل، أليس كذلك؟»
قال وهو يمشط لحيته بأنامله: «نعم يا سيدي إني أعرف من أحوال الناس أكثر من شعر هذه اللحية»، وضحك.
فارتاحت لمجونه مع شيخوخته وهمت بالسؤال عما يفيدها فقالت: «أتعرف رجلًا اسمه يعقوب بن كلس؟»
فهز رأسه هز الإعجاب وقال: «كيف لا أعرفه وهو من كبار رجال الدولة وقد رأيته أمس مارًّا على بغلته. ويندر بين اليهود من يؤذن له بركوب البغال.»
فقالت: «وكيف أذن له بذلك؟»
قال: «لأن كافورًا أميرنا فتن بذكائه ومهارته، فجعله مِن خاصته وعظمت منزلته عنده حتى أصبح لا يمضي أمرًا إلا بتوقيعه.»
فاستغربت ذلك وقالت: «أين يقيم الآن؟»
قال: «يقيم في منزل فخم بجانب زقاق اليهود على مقربة من هذا المكان.»
قالت: «هل ترسل معي مَن يرشدني إلى منزله؟»
فنهض الشيخ وقال: «أنا أسير في خدمتك إلى منزله.»
فقالت: «لا حاجة إلى تعب سرك يكفي أن تدلني عليه من هنا.»
فمشى — وهو يظن أنه يكرمها بهذه الخدمة — وقال: «لا … لا … بل أمشي في خدمتك يا سيدي … ولهذا المنزل طريقان أحدُهُما قصيرٌ لكنه ضيقٌ مظلمٌ، والآخر طويلٌ منيرٌ جميل … والأحسن أن نسير في الطريق الطويل.» قال ذلك ومشى وهو يتوكأ على عكازه.
فأطاعته لمياء ومشت في أثره وهي بلباسها الخاص بغلمان الصقالبة؛ وإنما اختارت ذلك اللباس لأن أصحابه أقرب بوجوههم وأصواتهم إلى النساء فلا يستغشُّها من يتوهم في صوتها غنة النساء. فمشيا بزقاق ينتهي إلى رحبة واسعة رأت لمياء فيها الجماهير يتزاحمون ويتراكضون فسألتْه عن المكان فقال: «هذا جامع عمرو بن العاص يا سيدي.»
قالت: «قد سمعت به كثيرًا، وكنت أود أن أصلي فيه لكنني سأفعل ذلك في فرصة أخرى.»
فقال: «تفضل يا سيدي لأريك الجامع ثم نسير في طريقنا.» ومشى أمامها مسرعًا وهو ممسك بطرف ثوبها كأنه يجرها إلى هناك.
ولم يكد يصل بها إلى الباب حتى سمعت صوتًا أدهشها ورأت شيخًا واقفًا بالباب ينادي: «معاوية خالي.» فيرد عليه شيخ آخر في الجانب الآخر بمثل قوله. وهم يفعلون ذلك نكاية في الشيعة؛ لأنها تحتقر معاوية.
فأحست لمياء عند سماع ذلك بغضب؛ لأنها تجل الشيعة إكرامًا للمعز وأم الأمراء وحدثتْها نفسها أن تصيح بالشيخين وتسكتهما، فتذكرت أنها غريبة وليس هذا وقت خصام. وهي تعلم تعصب حكومة مصر وأهل مصر يومئذٍ على الشيعة. لكنها كانت تسمع ذلك عن بُعد فلما رأته رأي العين استغربتْه فتحولتْ عن باب الجامع والخاناتي يتبعها ويقول: «ما بالك يا سيدي لم تدخل الجامع لتراه على الأقل؟»
فقالت: «سأرجع للصلاة في فرصة أخرى. ولكن ما بال هذين الشيخين يناديان هذا النداء.»
قال: «يناديان بذلك إغاظة للشيعة.»
قالت: «ألعلك شيعي؟»
فصاح «أستغفر الله … لماذا تقول لي ذلك يا مولاي كأنك تريد أن توقعني في مصيبة؟»
قالت: «ولماذا؟ ألعل الشيعي كافر؟»
فأشار بسبابته على شفته السفلى كأنه يطلب سكوتها أو يستمهلها في الجواب إلى فرصة أُخرى.
فسكتت حتى إذا دخلا في زقاق منفرد قال الشيخ: «احذر يا سيدي أن تجاهر بأمر الشيعة … يظهر أنك منهم …»
فقالت: «نعم إني منهم، وهل مِن بأس علي؟»
قال: «كلا … ربما هابوا لباسك وقيافتك. وأما الفقير إذا كان شيعيًّا ضربوه وأهانوه. وقد يضربون الكبراء ويسجنونهم ويهينونهم بلا شفقة.»
فلما سمعت ذلك الكلام لم تتمالك أن صاحت: «ويل لهم … ألا يخافون الله؟»
فتقدم الشيخ وقال بصوت ضعيف: «أنصح لك يا سيدي أن تغض النظر عما تراه ولا تعرض نفسك للإهانة.»
فقالت: «أليس في هذا البلد أحدٌ من أهل الشيعة ذو مقام؟»